استعراضمراكز بحثية

وقفاتٌ مع المِسِيري “نموذج الباحث المجتهد”

وَوَمَضَاتٌ في التعاملِ مع تُرَاثِهِ، ثم رسائل إلى الباحثين

 

استكمالاً لطرحِنا السابق بعنوان: “من أَزَمَات مراكزِ البحوث: عزل مصادر المعرفة والبعد الإنساني“، جاءَ هذا الموضوعُ ليُقَدِّمَ لنا مثالاً عمليًا لشخصية باحثٍ مسلم مهني، أفْرَغَ جهدًا علميًا بمعايير عالية – لا نقول مثالية – وكرَّسَ الوقتَ والتخصصَ اللازم للوصول إلى نتائج جادة.

خلال رِحْلَةِ الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المِسِيري -رحمه الله- البحثيةِ نحو النتائج، كرَّسَ استقلاليته عن شتى المؤثِّراتِ والعجلةِ واللمعان الإعلامي حتى يبقى مُنْصَبًّا على ما يخدمُ عِلْمِية وواقعية هدفه ونِتَاجه للأمَّة.

هذا النهجُ كان مألوفًا عند البحَّاثةِ والعلماءِ الجهابِذَةِ قديمًا حتى إذا ما فرغوا، أَطَلُّوا على النَّاس بكتب وعلومٍ عظيمة، كما فعل ابن خلدون ومالك بن نبي ومَنْ سَبَقَهم. مثل هذا بات نادرًا في شخصيات الباحثين المعاصرين، وفي منهجية بحوثهم التي يغلب عليها العجلَة والمؤثرات والتفاعل الإعلامي على حساب النُضْجِ وحِيادية النتائج.

إنَّ من أَهَمِّ سِمات شخصيةِ “الباحث المسيري” وطريقةِ عَمَلِهِ، هي أخلاقياته وحياده العلمي، وعدم مجاملةِ المألوفِ أو المؤثِّرات؛ فَنَجِدُهُ لا يتردَّدُ في نقض الشذوذ الجِنسِي ولا يحذفه من بحث الدكتوراه مجاملةً لعضو لجنة النقاش الشاذِّ جِنسيًّا، لِيَتَأَخَّرَ تَخَرُّجُ المسيري سنةً حتى يَرُدَّ على كلِّ تحفظاته بشجاعة علمية.

المسيري خَطَّ لنفسه منهجًا معياريًّا بحثيًا، جعلَّهُ يفارقُ المألوفَ ويَخْلُصُ إلى نتائجَ لم يهضمْها البعض، وهو ما ناقشه في طُروحاته لمفاهيم “إشكاليَّة التحيُّز”

تميَّزَ المسيري بصورة فريدة نادرةٍ باستيعابه “للبعد الإنساني” في عمق بحوثه، واعتبارها في سياق فهم وطرح الأحداث والنتائج، وهو ذات ما أشرتُ إلى مفصليته في طرحي السابق لموضوع: ” أزمة مراكز البحوث وجفاف البعد الإنساني “، وما المسيري هنا إلَّا مثالٌ ونموذجٌ عمليٌّ إيجابيٌّ غيرُ معصومٍ “للبحث العلمي الرصين”، أتشرَّف بطرحه من خلال الوقفات والومضات التالية:

1- بدايةً: لا يصِحُّ تَقْديسُ أيِّ شخصٍ مهما كانت منْزِلتُه وكلُّ باحثٍ قابلٌ للنقد، وبذاتِ الوقتِ لا بدَّ أن نستخلص أحْسنَ ما عند الناسِ كباحثين، مع فهمِ تطوُّرِ مراحلهم وملابسات ما يكتبون، ولنا في سيد قطب نموذجٌ كَثُرَ الحديثُ عنه. أَحْسْبُ أنَّ من أسباب تميزالمسيري، قابليته للتطور وعدم التشبث برأيٍ ما، وحرصه على اختبار دقة معلوماته مُرحِّبًا بالجديد. لقد تجلت هذه المرونة باتجاه الحقيقة في طبيعة مسيرته حيث ترك اليسار وبقي يطور من فهمه وطرحه حتى النهاية.   

فنجده يقول مثلا: “كانت المحاضرات التي ألقيها على الطالبات في كلية البنات في جوهرها حواراً مع ذاتي بصوت عال، ومحاولة للوصول إلى أجوبة عن الأسئلة التي تلاحقني”

 

2- جُلُّ الباحثين اهتَّموا بالمسيري كشخصيَّةٍ بحثية فتحت أبوابَ المعرفةِ من قلب الحَدَثِ العَلْماني واليهودي، في محيط نيويورك، خلال دراسته في جامعات روتجرز وكولومبيا، ثمَّ جاور جامعة برينستون العريقة.

3- الاحتفاءُ هو بشكلٍ رئيسٍ بجهود المسيري البحثيَّة خاصَّةً موسوعته التي أَبَى إلَّا أن تكونَ مستقِلةَ التمويل، وانقطع إليها حوالي العقدين على نفقته غالبًا وبعونِ أحبابه، قبْلَ أن يبدأَ مرضُ السرطان يُهاجمه. إنَّهُ لأمرٌ نادرٌ يُذكِّرُنا بالعلماء الجهابذة، وهو نموذجٌ يفتقره كُثُرٌ من الأسماء البراقَّة، والحقُّ يقال.

لقد توَجَّه بالنزول إلى الشارع مع الجماهير كمثقَّفٍ قبلَ وفاته وفي كهولته قائلاً: “المثقَّف مكانه في الشارع”. 

كان المسيري حقًا ابنًا لأمَّته ودينه، في وقت عزَّ فيه ذلك، خصوصًا ممَّن هم في طبقته!

4- لا يصِحُّ أن يُفْهَمَ تقديرُنا الكبيرُ للمسيري ولِنِتَاجِهِ البحثي في “موضوعي الصهيونية ودحض علمانية الحضارة الغربية وماديتها” ، أننا نعتبره من فقهاء الشريعة ومراجعها، أو موافقة لمطلَق ما كَتب، رغم تفاوت مراحله، وإلَّا ما احتفى النَّاس بابن خلدون ولا سيبويه!

5- حتى نستطيعَ أن نفهَمَ كتابات المسيري الأخرى المُتشابكة في العلمانية والتديُّن والفلسفات، فلا بُدَّ أن يكون لدينا مستوىً مرموقٌ في العلم وفهم المجازِ والنظر.

فهو يقول: إنَّ العلْمانية الجزئية ستصير شاملة لا محالة.. كما سيأتي معنا، فكيف يُقال مثلا: أنَّهُ يقوم بالترويج لبعض العلْمنة؟!!

 عندها فلْيُرَدَّ المتشابهُ الى المُحْكَم وإلى الكليَّات، لعلَّنا نفهم جميعًا ما له وما عليه.

6- وبالتالي سنقولُ على الأقل: إنَّ المسيري كمحمد عمارة من (أكثر من يُنْكِي ويُحْرج ويدحض العلمانية) ويكشف عوار الغرب، لأنه يعرِفُ دهاليزهم ومفاصلَ الغربِ وفلسفته، وهذا جعلَّ المسيري ومحمد عمارة يستخدمون (نقاشات ومصطلحات يتداولها المتناظرون، يصعب علينا هضمها)، وهو شبيهٌ بما حصل قديمًا من ردود بين المعتزلة وأمثالهم والملاحدة والفلاسفة اليونان، وبالتالي أوقعَ طوائفَ من المسلمين في علم الكلام والتأثُّر بالفلسفة. 

هنا، لا أستبعدُ أن يكونَ قد نالَ المسيري نصيبٌ منه حتى لو لم يشعر به.

 7- علينا ان نعيَّ أنَّ المسيري ليس شخصًا عاديًا نستطيع تطويع تراثٍ ضخم له تفاعلي مرَّ بمراحلَ، لنفهمه من خلال مقولاتٍ متشابهةٍ، خلال نقاشاتِه ومناظراته للغرب واليهود.

 لقد بدأَ المسيري طالبًا إسلاميًّا في المدرسة، ثم يساريًّا، ثم عاد إسلاميًّا، فهو ليس أسيرَ منابتٍ يسارية كما يصور البعض، فمنبتُه الأول إسلاميٌّ.

المسيري دَعَاهُ مخترع القنبلة الذرية أوبنهايمر لزيارته في بيته قرب جامعة برينستون وحاوره في الستينات.

والمسيري هو من ناظر حاييم هيرتزوغ رئيس الكيان الصهيوني، حينما كان مندوبًا ومستشارًا للجامعة العربية في الأمم المتحدة في السبعينات.

8- إنَّ القولَ: إنَّ المسيري كان ليِّنًا مع اليهود وقَزَّمَ الصهيونية، يحتاج لمن يرتقي إلى درجاته المعرفية وجهوده البحثية، ليردَّ بدلائلَ شاملةٍ مترابطةٍ.

 فبلفور وأوروبا كلُّها كانت تريد التخلُّصَ من اليهود، ولم يكن مؤسسو الكيان سوى علمانيين يهودًا قوميين كَبِنْ غوريون. وهنا يُدلِّلُ المسيري بحشدٍ من الوثائق بعضها يعود إلى 1600م. كما أنَّ رأيَهُ يشهد له كثيرٌ من طوائف اليهود المتدينة.

9- أمَّا ما يُثَار عن المسيري من كلامٍ حولَ “الحلوليةِ” أثناء محاولاته خلخلة المعتقدات الغربيةِ (وحضارتها المادية)، فيحتاج لتطبيق المعايير السابقة الذِكْرِ عليه، ناهيكَ عن محاولة بعض الصوفية واليساريين تطويع كلامه لِيوَافِقَ قناعاتِهم، كما فعلَ بعضهم من إِدخالٍ إشاراتٍ في تعريف الويكييبيديا.

لابدَّ كذلك من ملاحظة أنَّ المسيري كان (يُحاجج الغرب والفلاسفة) من خلال أقوالهم، وأنه يُعَرِّيهم مهاجمًا نظرتهم المادية إلى الله والكوْن، محاولًا إرجاع المفهوم الروحي للبشرية وحضور الله تعالى في تفاصيل الحياة والكون…

هنا قد تَلْتَبِسُ بعضُ الأفهامِ والردودِ ومن ضمنهم كاتب هذه السطور، فلا يصح أن نُسَلِّمَ للتفسير الظاهري والحرفيين.

لذا، فَفَهْمُ كلامه في هذا المضمارِ يحتاج إلى تحقيق، فهو مَضلَّة أفهام، ومَزَلَّةُ أقدامٍ. 

10- في زمن الاصطفافِ السنِّي المطلوب، والنماذج العمليَّة المفقودة، ليس من الحكمة أن نَنْجَرَّ إلى الشَّرذمة، وعلينا أن ننفخَ في الصالح المُخلِص ونُحَيِّدَ الطالحَ من النِتَاج ونُلْقِي الضوءَ على ما يخدم أولوياتنا كنماذج يُحْتَجُ بها، ونضعُ الأشخاصَ المخلِصين والمتجرِّدين في سياقهم الصحيح.

11- لا يُخْفي المسيري في مراحله الأخيرة شدَّة إعجابه بكتاب علي عزت بيكوفتش “الإسلام بين الشرق والغرب”، ويُكْثر الاقتباس من بيكوفتش والإشادة بفهمه للحضارة الأوروبية والعلمانية، إذ يعتبره أكثر مَن وصل إلى الحقيقة بصددها، حينما صرَّح علي عزت بأنَّ الرأسمالية والاشتراكية منظومتان “وَضْعيتان ماديَّتان” لا يمكن مزاوجتهما مع النظام الإسلامي كما حاول البعض.

هنا يقول “عبد الوهاب المسيري” ذات القول شارحًا: إنَّ نماذج المعرفة كالاشتراكية والرأسمالية تنبع من نموذج معرفيٍّ واحدٍ (وَضْعِي)، ونظرةٍ ماديةٍّ ولو تعددت الصور…”. أورد المسيري رأي على عزت بيغوفتش السابق مع شرحه له خلال محاضرته المسجلة – من الدقيقه  19إلى 25 – بعنوان: “اللحظات الفارقه في تاريخ بيغوفتش” وأدار اللقاء وقدمه المبدع د. سيف عبدالفتاح. 

 

عَقَدَ المسيري عدَّة محاضرات لشرح أفكار علي عزت مؤيدًا لها، وهذا ما يجعلنا نستغرب ممَّن يُصِرِّون على إطلاق صفة تأثر المسيري منهجيًا بالنكهة اليسارية، كما فعل الكاتب “محمد الشنقيطي” في إحدي ندواته، بينما كال المديح لبروفسورته Gretchen Adams ذاكراً مقولتها في مقدمة كتابه أثر الحروب الصليبية: ” لكي نصْنعَ مستقبلاً مزهرًا، لا بدَّ أن نبنيَ ماضيًّا جديدًا” ! وهو ما فعله الشنقيطي في كتابه؛ إذ حشد أقوالًا شاذَّة وتحليلية من مستشرقين ونصارى لبنان والشيعة ولو تنبه لعرف أن هذا المفهوم من تنظيرات المستشرق الصهيوني بيرنار لويس الذي حاول فرملة جهود المسيري.

بينما يعلن المسيري أنَّ الإشتراكية والرأسمالية نموذج معرفي مادي واحد!، والأصل أنَّ تحول المسيري يخدم قدرته معرفيًّا، فضلا عن أن الصحابة تحولوا من الشرك إلى الإيمان ولم يجرؤ أحدٌ على إضفاء صفة التأثر بالشرك عليهم.

 –انظر في مقال المسيري في موقع الجزيرة: “الشرق الأوسط الجديد” 2006 !!

12- لقد وَضَعَنَا المسيري أمام مسؤولياتنا كأمَّةٍ ودولٍ خصوصًا كمثقَّفين ونُخبٍ، حينما نزَعَ شمَّاعة وأسطورة تَفَوُّق اليهود وعبقريتهم وتحكُّمهم في كلِّ شيء. تلك الشمَّاعة التي علَّقْنا عليها كدولٍ وحركاتٍ وأشخاصٍ تقاعسَنا، بل أحيانًا سوَّغنا بها فشلنا وحتى ظلمنا!… على نمط أسلوب المؤامرات التسويغي.   

المسيري سيبقى شخصيَّةً فارقةً في مسيرته وعطائه واستقلاليته ومعانقته للشارع، ولعلَّ هذا من بواعث (بعض) من يكيل له اللَّمزَ والتشكيك، دون قُدرة على مجاراتِه وإثبات الانتقادات بصورة ترقى إلى مستوى البحث الذي مثَّله المسيري، وهو قابلٌ للنقد حتمًا.

13- إنَّ فهرِس منهج وتحليل بعض نتائج بحوث المسيري، يمكن فهمُه من خلال بحثه في فصلٍ بعنوان: “فقه التحيُّز ضمن كتاب إشكاليَّة التحيُّز”. ولنا أن نرى الأمثلة التطبيقية فيه على طريقة تناولنا وفهمنا لمواضيع مفصلية شتى. من هنا لم يهضم أو يفهم البعض جزءًا من نتائج المسيري البحثية.

فعلى سبيل الاختصار والمثال:

المسيري في “مفهوم التحيز“، يؤكد على أنَّ الإنسانَ المتحيِّز للحقِّ والحقيقة يمكنُ أنْ يتحمَّس لهما وينفعلَ بهما، ولكنَّه على استعدادٍ لأنْ يُخضعَ ذاته وأحكامه للمنظومةِ القيميَّة وللحقِّ الذي يقعُ خارجه، كما أَنه على استعداد لأنْ يختبرَ ثمرةَ بحثه، فهو لا يعتقد أنَّ أحكامه “المتحيِّزة” هي الحُكم النهائيُّ المُطلق إذ إنَّ أحكامه أولًا وأخيرًا اجتهاد، وهوَ يدرك ذلك تمامًا.

فكلمةُ “أسرة” مثلًا لها معنًى في إطار الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة مغايرٌ لمعناها الغربيِّ العلمانيِّ، وكذلكَ مصطلحُ التديُّن عندما نقرأ فى الصحافة الغربيَّة “زادتْ نسبة التديُّنِ بينَ يهود نيويورك” فإنَّ أذهاننا تقفزُ لمفهوم التديُّن عندنا، وهو الالتزام بالأوامرِ والنَّواهي الدينية، ولكنَّ مصطلح التديُّن هنا يُقصد به إقامة الشَّعائرِ الاحتفاليَّة والتي تُماثِلُ أكلَ “الكُنافة” وشربَ “قمر الدين” في رمضان عند مسلمي مصر، فهل أكلُ الكُنافة يعني التديُّن عِندنا ؟!

ونتيجةً لسوءِ الفهمِ هذا الذي أنتجهُ التحيُّز غير الواعي، يُسقِط القارىءُ المُسلم اعتقادته على الخبرِ ويعطيه مدلولًا مغايرًا لمدلوله الحقيقيِّ ويترتَّب عليه نتائجُ بُنيت على هذا الفِهم الخاطئِ الذي يتعاظمُ أثرهُ تدريجيًا.

فعندما نقول: “عصرُ النهضة الأوروبيُّ”، يقفزُ لأذهاننا صورُ انتعاشِ الفنونِ والأداب والعلوم، ولكنَّه في الواقعِ “عصرُ الإمبرياليَّة” والإبادة الجماعيَّة للشعوب المُستعمرة على يد المستعمرين البيض، وعصرُ ميكافيللي وهوبز وعبادة الدولةِ بالقدرِ نفسه، والثورة الفرنسيَّة لم تكن ثورة الحرية والإخاء والمساواة فحسب، بل كانت أيضًا ثورةً دمويَّة موغلةً فى العنفِ والإرهاب ولكنَّ “التحيُّز غير الواعي” يجعلُ أذهاننا تُغِفلُ جزءًا من الحقيقة وتخفيه بينما تُبرزُ أجزاءً أخرى.

 

14- يٌعْتَبَرُ المسيري رائدًا في تقديم ورسم مفهوم “العلمانية الجزئية والشاملة” فخرج بنتائج بحثية فريدة،

 إذ يقول في كتابه “العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة” :

“وعادة ما يتم الانتقال من العلمانية الجزئية إلى العلمانية الشاملة من خلال عمليات تاريخية طويلة مركبة، تأخذ شكلَ متتاليةٍ تاريخيةٍ متعددةِ الحلقات، بعضها واضح ومحدَّدٌ والبعض الآخر يصعب إدراكه وتحديده”.

  فيما يتعلَّق بالعلمنة، فإنَّ المسيري يحاول التمييز بينها على مستويين:

 الأول: مستوى صغير: وهو دائرة العلمانية الجزئية.

 والثاني: دائرة أكبر تحيط بها، وهي العلمانية الكلية أو الشاملة. 

ويرى المسيري أنَّ مجالات فصل الديني، عن السياسي والتمايز بين الاقتصاد والدِّين، يدخل في دائرة العلمنة الأولى، أي العلمانية الجزئية. 

بيد أن الوقوف عند العلمنة عند هذا الحدِّ إنما هو تسطيح للعلمنة ذاتها، إذ يتغاضى هذا المنظور عن المرجعية النهائية “لمتَتَالية العلمنة” …

 

ويقول المسيري: “فالإعلانات الإباحية وإن لم تدخل في صلب السياسة، فهي نوع من العلمنة عند المسيري، بما تنزعه من القداسة عن الإنسان، وتحوِّله إلى إنسان اقتصادي أو جسماني”.

وبذلك كما يؤكد: “فإن الرصد والتحرير لتداخلات العلمنة في المجتمع هو ما يغيب عن أذهان الإسلاميين والعلمانيين في سجالهم حول العلمنة، والذي غالبًا ما يدور حول خطر العلمنة في نطاق التشريع؛ فقد جرى حصر خطر العلمنة عند الإسلاميين في نطاق التشريع، مع إغفال ظواهر العلمنة المجتمعية، والتي تتبدَّى في أبسط أنماط المعيشة وظواهر المجتمع، التي تبدو بريئة من خلفيات معلمنة، مثل ظواهر اقتصاد السوق”

 – انظر في مقال محمد فتوح: “ليست فصل الدين عن الدولة، كيف نَظَّر المسيري للعلمانية”- موقع الجزيرة

 

15- أَثْرَى المسيري التراث المعرفي والبحثي بتعريف مفاهيم غائبة محورية منها؛ مفهوم “الإمبريالية النفسية” الغربية وكذلك ربطها بالمادية ومصطلح “قِطَاع اللَّذَّة” الذي اعتبره جوهرَ وهدفَ “المادية الغربية” ولو تعددت صورها !

 

عاين “سيد قطب حضارة الغرب الأمريكي – أثناء دراسته في ولاية كلورادو بعدما توقف في نيويورك – ولاحظ وسَجَّلَ سيدٌ بوضوح مفهوم “قِطَاع اللَّذَّة” في (مادية) الغرب وحضارته، ثم تَوَصَّلَ “عبد الوهاب المسيري” من نيويورك إلى ذات نتيجة سيد في فك شيفرة مادية الحضارة الغربية، وأَعْلَنَ الاثنان أنَّ جوهر الماديةيقومُ على قِطَاعِ اللّذّة وتعظيمها.

 

يقول لنا المسيري قبل وفاته بسنة – رحمه الله –  في مقال بعنوان ” الإمبريالية النفسية” نشره في موقع الجزيرة:

الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية تهيمن على المجتمع والإنسان الغربي حتى في علاقته مع نفسه، فهو إنسان ذو بُعد واحد دائم الترحال لتحسين مستواه المعيشي، وهو مادة استعمالية مرنة مطاطة، شيء بين الأشياء، يمكن توظيفه وهو يوظف الآخرين.

إنَّ العلمانية الشاملة هي النظرية، والإمبريالية هي التطبيق، فتمَّ تنميط الإنسان الغربي وتحويله إلى مادة استعمالية وطاقه إنتاجية وقتالية، وتمَّ تجييش الجيوش وهذه هي (الإمبريالية النفسية).

ثم أرسلت هذه الجيوش لاستعمار العالم وهذه هي (الإمبريالية العسكرية)، وهما تطبيقان لذات المفهوم. 

والإنسان من منظور الإمبريالية حيوان اقتصادي جسماني يبحث عن (منفعته ولذته)، وسلوكه لابد أن يصبح نمطيًّا حتى يستهلك السلع المتجددة، ويرى خلاصه في (قطاع اللذة) وهو جوهر المادية. 

لقد نجحت الإمبريالية النفسية في العالم، ولكن أهم ضحاياها، هو الإنسان الأميركي ذاته.

انتهى الاقتباس بتصرف يسير.

 

16- إنَّ موسوعةَ المسيري ونظرته للوظيفة الصهيونية والشخصية اليهودية، هي أقربُ تصديقًا لقوله تعالى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ).

وقوله تعالى: (لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ. بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ. تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ).

 

17- إن قيمة واحترام الباحث للحقيقة وثمنها، هي رسالة واضحة وجهها المسيري للجميع بلا مواربة قائلًا:

“الدراسة الأكاديمية هي الدراسة التي يكتبها أحد المتخصصين الأكاديميين دونما سبب واضح ولا تتسم بأي شيء سوى أنها “صالحة للنشر” لأن صاحبها اتبع مجموعة من الأعراف والآليات البحثية (من توثيق ومراجع وعنعنات علمية موضوعية). والهدف عادة من مثل هذه الكتابات (التي يُقال لها “أبحاث” مع أنها لا تنبع من أية معاناة حقيقية ولا تشكل “بحثًا” عن أي شيء) هو زيادة عدد الدراسات التي تضمها المسيرة العلمية للأكاديمي صاحب الدراسة فتتم ترقيته.

 قد تقوم الدنيا ثم تقعد وقد يُقتل الأبرياء وينتصر الظلم وينتشر الظلام، وصاحب “البحث” لا يزال يكتب ويوثق ويعنعن وينشر، ويخرج المزيد من الكتب. ثم يذهب صاحبنا إلى المؤتمرات التي تُقرأ فيها أبحاث أكاديمية، يتحرك في عالم خالٍ من أي هموم إنسانية حقيقية –عالم خالٍ من نبض الحياة: رمادية كالحة هذه المعرفة الأكاديمية” المسيري- رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر

 

ويقول في موطنٍ ثانٍ محذرًا الباحثين والأكاديميين، ومطالبًا بالعمق الإنساني الإبداعي بعيدًا عن نفش المعلومات والغرق فيها :

“إنَّ المدرسة المعلوماتية التراكمية معادية للفكر والإبداع، وتدور في إطار الموضوعية المتلقية، السلبية، العقل عندها آلة ترصد وتسجل،وليس طاقة “إنسانية” مبدعة تعيد صياغة العالم، وهي لاتكترث بالحق أو الحقيقة لأنها غرقت تمامًا في الحقائق والوقائع والأفكار المتناثرة، ترصدها من الخارج دون تعمق ودون اجتهاد ، كمُّ معلومات لاهوية له، ولذا تفقد الظواهر شخصيتها” يقصد دلالتها وإنسانية المعنى – المسيري، اليهود فى عقل هؤلاء

 

18- رسائلُ مُلِحَّةٌ من نموذج المسيري العملي العصامي إلى معاشر الباحثين: إنَّ الباحثَ في مهمته نحو الحقيقة هو مجاهدٌ في الحقيقة، يحملُ رسالةً غير مرحبٍ بها غالبًا، فطريقهُ يقومُ على التضحيات، مقاومًا للإكراهات والموانع والمؤثرات بجدٍّ وطُولِ نَفَسٍ. 

إنَّ استعجالَ الطريق وتلبية “اللمعان الإعلامي” والسعي نحو الدعم غير المستقلٍ، آفة، علينا أن نحجم عنها جميعًا، لنبقى مجاهدين، ولتبقى رسالتنا ناصعةً حرَّةً، ولنكون أوفياء لديننا وللحقيقة ولأمتنا المنكوبة، ولمروءة العلماء، وواجب الموقف، وسِجِل التاريخ.

 المسيري تلقى تهديدات كثيرة وبأشكال متنوعة منها القتل، رغم أنه لم يكن عالمًا نوويًّا أو قائدًا عسكريًّا، إنما ضغط على عصبٍ موجع للصهاينة وكَشَفَ زيفًا استعماريًّا، والأهمُّ أنه أثبت أُكْذوبة القوة اليهودية الخارقة، وأَطَاحَ بمعزوفة التفوُّق المثالي للعقل واليدِ اليهودية والصهيونية، فجُنَّ جنونهم وجُرِحَ كبرياؤهم الزائف.

 لقد وصفت وفاته حركة ناطوري كارتا اليهودية المناهضة للصهيونية بالخسارة للبشرية.

والمسيري أصيب بمرض السرطان لسنوات طويلة، ولم يجد الرعاية والنفقة اللازمة لعلاجه المبكِّر، ولم يتم ذلك إلَّا محليًّا في مرحلة محدودة. فهو وإن كان أصلاً من أسرة ميسورة، إلا أنه أنفق مالًا أكثر مما كسبَ، ولو شاء لجمع الكثير الكثير.

 

    19- كلماتٌ أخرى ماثلة ٌمن دروس مسيرة المسيري إلى مراكز البحوث والهيئات العلمية: إنَّ ما سبق من رسائل إلى الباحثين أنتم أولى بها. 

إن مسؤوليتكم مضاعفة، فعلينا أنْ نقدِّمَ الجادَّ المتقنَ الجديد والأصيل، ولا يحملنا ضيق ذات اليد إلى الاستماتة في سبيل البقاء. 

إنَّ هذه المؤسسات الإسلامية منذ زمن مطالبة بأن لا تكون أشبه بمراكز الترجمة والاقتباس والرصد وتجميع المعلومات فقط، وقد سبق أن فَصَّلْتُ القَوْلَ في هذا في بحثي السابق: ” من أزمات مراكز البحوث والتواصل: عزل مصادر المعرفة وتجفيف بعدها الإنساني”

إنَّ من أوجب واجباتِ مراكزِ البحوثِ، تأهيلَ شبابٍ من الباحثين، وتبنِّيهم، وتمكينهم، في عملية إحلالٍ وإبدالٍ مستمرةٍ، وهذا يشملُ تبني دِرَاسَتِهم في الجامعات التركيةِ وغيرها من أجل تَعَلُّمِ اللغاتِ، خصوصًا اللُغة العِبْرِيَة – هيبرو – وغيرها، في سبيل تملُّكِ أدواتِ البحثِ من خلال الباحثِ الإنساني الذي يستوعبُ اللغات وبُعْدَهَا الإنساني لينقلَ لنا معانيَ حيَّة تستهدفُ معرفة واقع الأمم الأخرى الحقيقي، وليس على طريقة الترجمةِ الإلكترونية الجافَّةِ المنقوصةِ خارج سياق البُعْدِ المَعْرِفِي والاجتماعي الذي يُغَلِّفُهَا.

 أظن ليس من العسير أن يتمَّ تأمينُ ذلك بمعونة الحكومةِ التركيةِ وغيرها، لو سعينا في ذلك جادِّين بتجرُّد.

مراكزُ البحوثِ والدراساتِ والهيئاتِ العلميةِ قادرةٌ -حتى لو شحَّت المصادر- على إِحْدَاثِ تأثيرٍ ذاتي ولو بعد حين، لكن لا بدَّ أنْ لا تُمْسِي مراكزَ تقاعدٍ وتكريمٍ للرموز الدعويةِ والعلميةِ مهما كانت.

 إنَّ كثرةَ هذه المؤسسات دونَ فاعليةِ حقيقية رغم أنَّ كثيراً منها تمثل ذات المدارس الفكرية، يُوجِبُ عليها الاندماج أو توفير المصادر والاكتفاء بالفعال منها. 

  

20- ختامًا، من مقولات المسيري المحكمةِ:

 #  “النسبية الإسلامية هي أن يؤمن الإنسان بأن هناك مطلقًا واحدًا هو كلام الله، وما عداه فاجتهادات إنسانية نسبية في علاقتها بالمطلق الذي يوجد خارجها..” 

# “قطاع اللذة يَعِدُ الإنسان بالفردوس الأرضي الذي سيريحه تمامًا من عِبْء التاريخ والالتزام الخلقي والإحساس بالمسئولية تجاه الآخرين”… 

  • أقول معلقًا: لعله من هنا اكتسبت رواجًا عقيدة خلود (الألفية السعيدة) الأرضية البروتستنتية الإنجيلية الصهيونية.

#  “ وقد أوجز جارودي إنجاز الحضارة الإمبريالية الغربية في صورة مجازية رائعة إذ وصفها بأنها: خلقت قبرًا يكفي لدفن العالم” – رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر

#  “إنَّ الطبيعة الوظيفية لإسرائيل تعني أنَّ الاستعمار اصطنعها لتقوم بوظيفة معينة؛ فهي مشروع استعماري لا علاقة له باليهودية”

#  “ لقد قررت الإمبريالية النفسية توسيع رقعة السوق لا عن طريق الانتشار الأفقي في الخارج الذي يتطلب قوة عسكرية، وإنما عن طريق الانتشار الرأسي داخل النفس البشرية ذاتها” – رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر

 

#  “أنا كمفكر إسلامي لا أرى غضاضة في قبول ما أسميه العَلمانية الجزئية، إن كان يعني بعض الإجراءات السياسية والاقتصادية ذات الطابع الفني، والتي لا تمسُّ من قريب أو من بعيد المرجعية النهائية، وهو ما أفهمه من حديثٍ لرسول صلى الله عليه وسلم: «أبِّروا أو لا تؤبروا.. أنتم أعلم بأمور دنياكم»؛ أي أن الفصل هنا بين الدِّين والدُّنيا ينصرف إلى تفصيلة مادية محددة (تأبير النخل) ولا يمس المرجعية النهائية الدينية المتجاوزة لسطح المادة” 

من حوار مع المسيري (أجراه حسام تمام، حول التدين والتفسير العَلماني)، موقع إسلام أونلاين

 

#  “شعار الإسلام هو الحل يجسِّد رؤية بعض المفكِّرين الذين يقودون تياراً سياسياً مهمًا، يؤمن بأن المرجعية الإسلامية هي المجال أو الطريق لحلِّ مشاكل هذا المجتمع، وهو ما أتفقُ عليه معه؛ لأن أيَّ مجتمع لا بد أن يكون له مرجعية نهائية واحدة، ومن لم يكن له مرجعية نابعة من تراثه، فسيستورده من الآخر” – ذات المصدر السابق.

   #  “المثقف الذي لا يترجم فكره إلى فعل لا يستحق لقب مثقف”.

   #  “المثقَّف مكانه في الشارع”.

 

في النهاية: كلٌّ يُؤْخَذُ من كلامه ويُرَدُّ.

رحمهُ اللهُ رحمةً واسعةً وجميع موتى المسلمين.

 والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ

زر الذهاب إلى الأعلى