سياسيةندوات

تقرير الندوة الشهرية (حول مستجدات المشهد الليبي: قراءة في مسارات الصراع)

عقد مركز رؤيا للبحوث والدراسات ندوته الشهرية عبر تطبيق الزوم تحت عنوان: (حول مستجدات المشهد الليبي: قراءة في مسارات الصراع)، يوم السبت 28/شوال/1441ه الموافق 20/يونيو/2020م، وتعد هذه الندوة ضمن سلسلة من الندوات عزم المركز على عقدها خلال المرحلة الراهنة التي تمر بها أمتنا المسلمة والعالم، وقد كان للمشهد الليبي أحداث ووقائع استوجبت الوقوف عندها؛ مواكبة لتطوراته وتحولاته على المستوى العسكري والسياسي فهماً وتحليلاً ووعياً، وقد شارك فيها عدد من الأساتذة والمفكرين والمهتمين بالشأن الليبي، وتضمن برنامج الندوة مداخلة رئيسة من الأستاذ الدكتور خيري عمر المتخصص بالشأن الليبي وأستاذ العلوم السياسية في جامعة سكاريا، ومداخلتين: الأولى للأستاذ الدكتور سيف الدين عبدالفتاح أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، والثانية للأستاذ هشام السنوسي بو نواره الباحث الليبي.

أولاً: المداخلة الرئيسة للندوة للأستاذ الدكتور خيري عمر:
كانت المداخلة الرئيسة للأستاذ الدكتور خيري عمر، واستوعب فيها تطورات المشهد الليبي والمواقف الدولية المرتبطة به والرؤية الاستشرافية حوله، وأبرز ما تضمنته المداخلة في الآتي:

(1) انطلق الدكتور خيري مداخلته من سؤال مركزي، هو: ماذا يحدث الآن؟ كيف تتشكل المعادلات السياسية؟ وكيف تتبلور المواقف بين الليبيين وبين الدول ذات العلاقة؟
(2) يرى عمر أن الهجوم على طرابلس كان عاملاً مهماً في تشكيل ديناميكية مواقف الأطراف السياسية فيما بعد، منبهاً إلى تقرير شخصي قد ذكره في مناسبة سابقاً مفاده أن الهجوم على طرابلس يعد الحرب الأخيرة عليها، بحيث إن فكرة الهجوم كانت تحمل كماً كبيراً من سوء التقدير السياسي أو السذاجة السياسية، وهو الذي جعل أمام الطرفين المهاجم والمدافع أمام خيارات حدية، والخيارات الحدية معناها أن من ينتصر في هذه الحرب سوف يؤثر كثيراً في السياسة الليبية، ومن يخسرها سوف يخرج من المعادلة السياسية.

(3) على مدى عام كامل من الحرب حول طرابلس، كانت المنطقة الغربية أكثر من غيرها شعوراً بالتهديد بسبب استمرار الحرب عليها، والتهديد يكمن في أن فكرة انهيار العاصمة سوف تعيد تعريف الدولة الليبية مرة أخرى، ومن هنا كانت هناك تحديات كبيرة تواجه حكومة الوفاق، بل وتواجه غيره كذلك في حال وصول حفرة إلى سدة الحكم.

(4) على المستوى المناظر كان معيار الفاعلية والحسم لقوات حفتر قد بني على فرضية سرعة الحسم، بحيث يكون في اثنتين وسبعين ساعة، وعدم قدرة هذه القوات على الحسم خلال هذه المدة جعل الصراع مسألة تقليدية بين الطرفين، وبالتالي تكون قوات حفتر قد فقدت عنصر المبادرة بما أعطى وعياً مختلفاً مضمونه أن حفتر منذ عام 2015م كان يرمي إلى دولة مركزية على غرار دولة القذافي، وبالتالي سيتجاهل قضايا الدولة المدنية وتداول السلطة واللامركزية وتوزيع العائدات النفطية، وهذا يفضي بالضرورة لو تم إلى مرحلة جديدة من التهميش، وهذا المعطى هو الذي دفع سكان شرق ليبيا إلى الاهتمام بالشؤون المحلية أكثر من اندفاعهم وراء خليفة حفتر.
ومن هنا لم يكن أمام خليفة حفتر إلا أن يتوسع إلى حد كبير في الاستعانة بغير الليبيين في هذه الحرب سواء من الروس أو السودانيين أو من غيره، وهذه هي نقطة الضعف في عملية الهجوم على طرابلس من جهة التنسيق العسكري، وكذلك من جهة احترام القانون، فإن القصف العشوائي على المدنيين قد جعل الناس يدركون أن حفتر ليس مقصوده تخليص المدنيين من الإرهاب، بل هدفه المباشر فقط القضاء على حكومة الوفاق، وانتزاع السلطة منها.

(5) النقطة الأساسية التي ظهرت في مرحلة الصراع المسلح على طرابلس تكمن في إعادة الخلاف حول اتفاق الصخيرات: هل يمثل المرجعية أم لا؟ فحكومة الوفاق تراه هو المرجعية الوحيدة، وهي مستندة في ذلك إلى الاعتراف الدولي بهذا الاتفاق، في الوقت الذي لا يعترف به حفتر ومن معه، وهي في حقيقتها نقطة ضعف تحسب على حفتر؛ لأن إهدار اتفاق الصخيرات لم يكن في صالحه؛ فقد أفقده دعم المنظمة الدولية ومجلس الأمن وكثير من الدول الخارجية، سوى الدول الداعمة له، وللتعويض عن هذا النقص السياسي انتقل إلى فكرة ساعات الصفر أو ساعات الحسم المتوالية، ثم إعلان نفسه قائداً ورئيساً أوحد لليبيا وإنهاء اتفاق الصخيرات.

وفيما يتعلق بعواقب الهجوم على ومآلاته، فإن حفتر فيما يظهر من مسلكه وإعلانه أن اتخذ موقفاً باتجاه الانسحاب من غرب ليبيا، وفي هذا الموقف جانبان لم يكونا في صفه، الأول خروجه من عملية الأمم المتحدة بشكل صريح وعلني، والثاني أن رجوعه من المنطقة الغربية يعني فقدان الثقة بها؛ لعدم وجود من يدعمه فيها في الغالب، والمحصلة التي يمكن الإشارة إليها في هذا الإطار، أن الهجوم على طرابلس كانت له جوانب إيجابية، من أهمها إحباط المشروع العسكري لحفتر والقوى الداعمة له.

(6) وفي شأن التعامل الدولي مع المشهد الليبي اتضح خلال هذا العام أن الأمم المتحدة والبعثة الدولية لم يكونا على مستوى التعامل الإيجابي مع التطورات، ففي شهر إبريل ومايو وحتى يونيو من عام 2019م لم تكن هناك سوى التصريحات والبيانات من قبل البعثة الدولية، مع سكوت تام لمجلس الأمن، وظل هذا الوضع حتى نهاية العام حيث أصدر مجلس الأمن بياناً بالتهدئة ووقف القتال، فضلاً عن أن أكثر القرارات الصادرة لم تطبق سوى القرار 2009 الخاص بإنشاء البعثة الدولية، ولذلك محاولة إعادة الوضع في ليبيا إلى مجلس الأمن سيعطل كثيراً من الأمور، وسيدخلها في حلقة مفرغة مرة أخرى، فضلاً عن أن إعادة الملف الليبي إلى مجلس الأمن سيؤدي إلى استثناء دول مؤثرة في هذا الملف وعدم مشاركتها في اجتماعات المجلس، وهذا ينطبق على تركيا وألمانيا وإيطاليا، وكلها خارج مجلس الأمن.

وفي سياق متصل بالنسق الدولي تجدر الإشارة إلى كيفية تشكل الوضع الدولي في عام الهجوم على طرابلس، ومن المهم أن يكون نمط التحليل في دائرة الأبعاد المتعددة والمحددة بنطاق زمني؛ لأن القضية الليبية قد شهدت تطورات كثيرة، ويمكن بيان ذلك فيما يأتي:
-الموقف الدولي في بداية الهجوم على طرابلس كان متوافقاً إلى حد كبير مع عملية الهجوم، وهذا يتضح من بيانات الدول المشاركة في اجتماعات أوربا، وخصوصاً هناك خمس دول أصدرت بيانا في 8/4، وهي الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا والإمارات وإيطاليا، وطالب البيان بالتهدئة ووقف القتال، وهذا البيان كان يهدف إلى تحقيق أمرين: تثبيت وضع قوات حفتر في غريان، وتثبيت وضع القوات المحيطة بطرابلس، وبهذا يضغطون على حكومة الوفاق؛ لإرغامها على التفاوض وفقاً لهذا الوضع العسكري.

-تكررت هذه البيانات مرة أخرى بنفس الصيغة تقريباً حتى يوليو بحيث كانت تعمل بالأساس على تسهيل وجود حفتر في المنطقة الغربية وجعله قانونياً، ومضى الوضع على هذه الوتيرة، بحيث كانت بعض الدول كالولايات المتحدة تتواصل مع السراج وحفتر في ذات الوقت، ومثلها بريطانيا، وكانت فرنسا أكثر وضوحاً، إذ كانت تدعم حفتر لوجستياً وعسكرياً.

-نقطة التحول كانت في دخول تركيا المباشر على الخط من خلال الاتفاق الرسمي بمذكرة تفاهم بحرية وأمنية بينها وبين حكومة الوفاق، وانعكس هذا سريعاً على الموقف الدولي، فقد كانت لفتته الأولى الاستعجال بانعقاد مؤتمر برلين، وقد سبقه مفاوضات في موسكو لم يحترمها حفتر، ويقال إن موقفه الرافض للمشاركة فيها بسبب ضغط الإمارات عليه في اتخاذ الموقف، ويرى الدكتور خير عمر أن الإمارات العربية المتحدة ليس لها نفوذ قوي في ليبيا، إنما هي تعمل ضمن شبكة من الحلفاء الدوليين، إما في إطار وكالة أو تعاون.

-لقد أسهم التدخل التركي في إعادة هيكلة الصراع مرة أخرى، سواء من جهة إضعاف الحصار العسكري حول طرابلس، أو من جهة تحييد الهجوم الجوي، وكان للموقف التركي أثره في الموقف الدولي، فقد أضحى أحد اللاعبين المؤثرين في هذا المسار، فالتدخل التركي لم يكن فقط مؤثراً في الساحة الليبية، بل كان مؤثراً كذلك في مواقف بعض الدول الأوربية، بحيث أضحى لها موقف مقارب من الموقف التركي، والإشارة هنا إلى إيطاليا وألمانيا.

-من الأخطاء التي ارتكبها حفتر وعقيلة صالح رئيس برلمان طبرق الداعم له إدخالهم روسيا إلى ليبيا من خلال شركة فاغنر، وهذا ما جعل الولايات المتحدة في حالة حدية؛ لأنها ترى أن التدخل الروسي يشكل خطراً على مصالحها في البحر المتوسط، وبالتالي هي انحازت إلى الموقف التركي، ولذلك التطورات الأخيرة في المشهد الليبي توحي بأن هناك محوراً دولياً يتشكل من الولايات المتحدة وإيطاليا وتركيا، وهو محور مرجعه تلاقي المصالح، وليس في حد ذاته محوراً سياسياً يحكم سياسات هذه الدول في النطاق الدولي، وإنما على نطاق محدود متعلق بليبيا، وهو دعم الحكومة المعترف بها من قبل الأمم المتحدة.

وقد أشار الدكتور خيري إلى مسألة مهمة في قراءة المواقف الدولية، فعند فحصها يقف الناظر على مواقف دولية متباينة ومتعارضة ومتغايرة، ويمكن جعلها في دائرة من الأضواء والألوان (اللون الأحمر واللون الأصفر واللون الأخضر)، وبها يمكن قراءة المواقف بشكل مختلف، وهذا تراه ظاهراً في تغير المواقف الدولية بشأن المشهد الليبي من خلال تطوراته الأخيرة، فقد كان التغير الأمريكي عقب الموقف التركي، وأتى بعده التغير في الموقف الإيطالي، علماً بأن هذه المواقف لا تأخذ مساراً ملازماً للون معين، بل ذلك محكوم بالتحولات والتطورات في شأن سياسي معين.

-على المستوى المناظر وهو جبهة حفتر يرى عمر أن الأطراف الدولية الأخرى صارت الفروقات فيما بينها تتضح أكثر، في الوقت الذي لم تكن ظاهرة قبل هذه المرحلة، فالموقف المصري اختلف عن الموقف الفرنسي والموقف الإماراتي؛ باعتبار اختلاف المصالح، وواضح أن هذه الأطراف واستناداً إلى التطورات العسكرية الجديدة سوف تغلب مصالحها الخاصة بمعزل عن كونها في تحالف داعم لحفتر.

-الوضع الدولي في التحليل الأخير ينقصه طرح تصور سياسي لتسوية الصراع بالكامل في ليبيا، والحوارات التركية والإيطالية والجزائرية، ومحاولات تلمس الحوار مع مصر، هذا التحرك لو أمكن معه صياغة إطار يمكن أن يقطع شوطاً مهماً في ظل الوصول إلى وقف العمليات العسكرية مع ضمانات سيطرة الحكومة، ويمكن أيضاً يسهم في طرح مسار سياسي يقود الدولة إلى مرحلة دستور جامع لها تعقبه انتخابات شرعية تضمن مشاركة الجميع فيها.

(7) التحدي الأساسي في ختام كلمة الدكتور خيري مرتبط في نظره بكيفية قراءة القوى السياسية في ليبيا للوضع السياسي وتطوراته الأخيرة إذا ما سنحت فرصة لطرح حل سياسي للأزمة في ليبيا، والمشكل أن هناك ميراثاً تراكم عبر السنوات الماضية هو بحد ذاته ميراث استبعادي، وهذا ينطبق في نظره على الجميع من الإسلاميين وغيرهم، وهذا هو التحدي الرئيس الذي يواجه الليبيين في المرحلة القادمة، فلو طرح تصور سياسي يضمن قدراً من اللامركزية السياسية، ويمهد لانتخابات شرعية يترتب عليها شروط، من أهمها: شرعنة حمل السلاح، وضبط العلاقات المدنية العسكرية، وضبط موضوع توزيع الثروة ولو بالحد الممكن الذي تسمح به الظروف. ويمكن إجراء تعديلات على الدستور الحالي في إطار استفتاء عام.
ومن المهم في نظر الدكتور خيري تقديم نخبة جديدة ليست متأثرة بآثار الانقسام والاستبعاد، والفرصة الحالية هي أن التدخل الدولي وصل إلى حالة الإعياء، فلا يمكنه المضي في مزيد من التدخل؛ لأن ذلك تكاليفه باهضة، وكذلك الحال على المستوى المحلي، فكثير من الشخصيات والنخب السياسية لم تقدم حلولاً كافية؛ لأنها كانت أقرب إلى فكرة الصراع منها إلى فكرة البناء السياسي أو البناء السلمي، وإذا ما أعاد الليبيون قراءة التجربة السياسية مرة أخرى يمكنهم أن يصلوا إلى نتائج يستطيعون بها تجاوز كثير من نقاط الاختلاف بشرط أن يكونوا بعقل مفتوح؛ ذلك أن قضية الخلاف بين الشرق الليبي والغرب الليبي ليست عميقة الجذور، فالشرق ليس كله مع حفتر، ومما يساعد على تجاوز هذه الأزمات في الداخل الليبي أن الخلاف العقائدي ليس عميقاً، وهذا يسهم في تقريب وجهات النظر.

ثانياً: مداخلة الأستاذ الدكتور سيف الدين عبد الفتاح:
المداخلة الثانية في الندوة للأستاذ الدكتور سيف الدين عبدالفتاح، وقد تركزت في جملة من القواعد والرؤى والقراءات الكلية التي يمكن تنزيلها على الواقع الليبي وتسع غيره، ويمكن بيانها في الآتي:
(1) المرجعية: واضح أن التدخلات الخارجية تحرص دائماً على أن يكون هناك تعدد في المرجعيات وتعدد في الاتفاقات؛ حتى يكون لها مدخل في عملية التدويل، وهذه قضية خطيرة، حين تتعدد المرجعيات وتصنع وتتقاطع المصالح فإنها تؤدي إلى ما يمكن تسميته فوضى المرجعيات وتنازعها، هذه الفوضى غالباً ما تنعكس على الوضع وعلى الحال في هذا المجتمع الذي نحن بصدده وهو المجتمع الليبي الذي يظهر أن كثيراً من عناصر فرقته وخلافاته هي مسألة تتعلق بالصناعة والاصطناع.

(2) مداخل الاستبداد وطبائع المجتمع: كان القذافي يشكل طبعة خاصة لمثل هذا الاستبداد في إطار إدارته للشأن الليبي، فليس هناك نظام سوى الفوضى، هذه الفوضى شديدة الخطورة بحيث يبقى أثرها حتى بعد قيام الثورات والمطالبة بالتغيير، ومن المهم الإشارة إلى أن المستبد يخلف تركة ثقيلة تتعلق بإمساكه بخيوط اللعبة داخل المجتمع خاصة مع طول فترة حكمه، ويحولها من خيوط لعبة إلى خيوط فوضى.

(3) المدخل المؤسسي: المستبد يمكن أن يؤسس، ولكن يؤسس بنيانه على شفا جرف هار، يؤدي إلى انهيارات داخل المجتمع حتى يتمكن هو من ترسيخ إدارته للمسألة، ومن هنا فإن المدخل المؤسسي يفيدنا في تقييم الحالة القذافية من جهة أنها كانت تدير منظومة فوضى وليست منظومة مؤسسات.

(4) إدارة الصراع وإدارة الأزمة: يجب التفريق بين إدارات ثلاث، وهي: إدارة التدافع، وإدارة الصراع الممتد، وإدارة الأزمة المؤقتة، قد ينجح البعض في إدارة أزمة مؤقتة، ولكن لا بد من إدراك أن إدارة الأزمة المؤقتة ينبغي أن تسكن في سياق كلي، وتسكينها في سياق كلي مسألة مهمة، وما يحدث من أحداث متتالية في المشهد الليبي من حيث التعامل معه يترك أثره على الناظر والمتابع بحيث يضطر إلى متابعته في سياق جزئي، والنظر في سياق جزئي لهذا المشهد وأمثاله يمنعنا من إعمال مزيد من الجهد لتكوين ما يمكن تسميته بالمدخل الكلي الاستراتيجي، وفي إطار يسكن الجزئي على وفق القاعدة الذهبية التي أوردها الشاطبي في مقدمات الموافقات حين تكلم عن فن تسكين الجزئي في الكلي، وهذه مسألة مهة، فإدارة الأزمة المؤقتة ليس فقط من أجل الخروج منها، ولكن أيضاً من أجل تسكينها في إطار رؤية كلية استراتيجية.

(5) معمل لإدارة التدافع: المشهد الليبي يمثل في حد ذاته معملاً شديد الأهمية وشديد الخطورة في ذات الوقت، هو معمل لإدارة التدافع بين الثورة وقواها وأهلها وبين الثورات المضادة ومراداتها في حصار هذه الثورات وإفشالها وإجهاضها، فنحن إذاً أمام مشهد شديد الخطورة يدفعنا لملاحظة الفواعل وقدراتهم المالية وتدخلاتهم العسكرية والسياسية، أو التلويح بالتدخل تحت لافتات مختلفة من مثل: مقاومة الإرهاب، أو الحديث عن الأمن القومي ومتطلباته.

(6) مدخل الاستعانة والاستنصار: الإشارة هنا إلى التدخل التركي، ولا يخفى أن الدول تحكمها مصالحها، والأطراف المختلفة داخل ليبيا قد أفضت حالة الصراع فيما بينها إلى تدخلات دولية، وهذه التدخلات عقدت العلاقة بين الداخل والخارج، وعقدت العلاقة أيضاً بين الداخلي والإقليمي والدولي، وصارت المسألة الليبية منذ البداية بسبب ذلك في إطار عملية التدويل، وهذه مشكلة كبيرة، فالتدويل يعني أن أوراق المسألة الأساسية ليست في أيدي من هو في الداخل، بل في أيدي من هو خارج في إطار من تقاطع المصالح، وقد أشار الدكتور خيري إلى قراءة الأضواء، فكل دولة تحدد أضواءها بمزاجها، وهنا تتعارض الأمزجة، فالطرف الذي عنده ضوء أحمر يراه غيره بلون مغاير .. وهكذا. فتداخل الأضواء صار أمراً يجلب الضوضاء إلى حد التشويش حول المواقف المختلفة، وهنا بسبب تدخل أطراف كثيرة بل صناعة تدخل أطراف كثيرة كالمثال الروسي أفضى إلى تعقيد المشهد وتأزيمه، وبالنسبة لفرنسا فبالرغم من كونها عضواً في الحلف الأطلنطي إلا أنها تتخذ مواقف مغايرة لموقف الحلف بحيث تغلب مصالحها الفردية، وهذا واضح في المشهد الليبي، والدور الفرنسي يعطي شكلاً مختلفاً من صناعة السياسات عن الدور الأوربي، وكذلك الأمر ينصرف إلى اختلاف الدول المجاورة واختلاف مواقفها، فهي جديرة بالدراسة والتأمل ورصد مواقفها، والإشارة هنا إلى مصر والجزائر والسودان وتونس.

(7) الخيارات بين الحرب والتفاوض: السياسة هي فن صناعة البدائل، وهي أيضاً فن تكامل البدائل والخيارات، ومدخل الساقين في السياسة يعد مدخلاً مهماً، فالربط بين الساق الثورية، والساق السياسية ربط في غاية الأهمية، ذلك أن عناصر التدخلات الدولية تفرض علينا الاهتمام بالشأن السياسي والتعرف على خرائط تعقيداته ومفاصل التأثير فيه، فالإعداد لمسألة التفاوض أو النقطة والتحديد الذي تتحول فيه نتائج الحرب إلى مائدة التفاوض مسألة مهمة، وهذه الإشارة المهمة كانت إحدى الرؤى السديدة للأستاذ الدكتور حامد ربيع رحمه الله، إذ كان يقرر أهمية الربط بين الحرب والتفاوض، فكان يقول: “خذوا الحرب من أجل المفاوضة والسلام، وخذوا التفاوض بوصفه قتالاً”، وهذه الرؤية هي بحد ذاتها تكامل للخيارات، وخيار التفاوض يمكن أن يكون مؤثراً ونافعاً إذا كان في وقته المحدد بحيث يمكن جني الثمار منه.

(8) إدارة المرحلة الانتقالية: القضية الأساسية التي تتعلق بتبديد المخاوف خاصة الجغرافيا التي أفرزتها الحالة الليبية شيء مهم جداً، والحلقة المفقودة في هذا المشهد هي أننا نتحدث عن انتصارات عسكرية على الأرض نتيجة الاستعانة بالفاعل التركي، من دون أن نربط ذلك بمشروع سياسي متكامل، فهذا المشروع السياسي المتكامل هو الذي سينقذ معنى الدولة الليبية، وهو الذي سيواجه ميراث الاستبداد القائم على صناعة الفرقة والفوضى، الحركة المستقبلية وتصور المشروع المتعلق بالدولة والمجتمع إنما يشكل قاعدة من الانطلاق من إدارة مراحل الانتقال، وهذا يتطلب وفق الرؤية الاستراتيجية الكلية وضع مشروع سياسي متكامل للدولة الليبية، وهذا أضحى أمراً محورياً، ويلزم بإزائه التحذير من الخطاب الطائفي أو المناطقي أو المصلحي أو أي خطاب يفضي إلى تقسيم الشعب الليبي إلى شعوب، مثل هذا الخطاب يعد خطاباً شديدة الخطورة، والملاحظ في الآونة الأخيرة ما يسمى خطاب صناعة الكراهية وعولمتها، سواء داخل الأسر الواحدة أو المجتمعات الواحدة أو بين الدول.

ثالثاً: مداخلة الأستاذ هشام السنوسي بو نواره:
المداخلة الثالثة للأستاذ هشام السنوسي بونوارة، وقد تركزت حول الخريطة الميدانية للصراع المسلح داخل ليبيا والقوى الفاعلة فيه وسيناريوهات المشهد:
(1) تتكون قوات حفتر من خليط هجين داخلي وخارجي من المرتزقة، وهي:
-قوات الفاغنر الروسية، وينبغي التنبيه إلى أن قوات فاغنر ليست حديثة المشاركة في الحرب داخل ليبيا كما اشتهر عنها أنها دخلت في معركة طرابلس، بل كانت كذلك مشاركة في حرب بنغازي عام 2014، وكذلك في حرب مدينة درنة، ولكن لم يكن هناك توثيق لجرائم هذه القوات بعد، وبالنسبة لأعداد هذه القوات وحجم الذخائر فهي الأقوى على الإطلاق مقارنة بالقوات الأخرى، تشير بعض تقارير الصحف الغربية كـ the sunأن تعداد هذه القوات ما بين 800 إلى 1200 مقاتل، ولكن مراكز بحثية أخرى تشير إلى أن العدد وصل إلى 3000 مقاتل، وهو عدد ليس بقليل، ولذلك كانت هذه القوات ركيزة في الهجوم على طرابلس سواء من جهة الكفاءة القتالية أو عدد المقاتلين، وبعد انسحابهم من المنطقة الغربية تمركزوا في قاعدة القرضابية بمدينة سرت وكذلك في قاعدة الجفرة والتي تبعد عن مدينة مصراته حوالي 513كم جنوبا، وقاعدة تمنهنت والتي تبعد عن مدينة مصراته حوالي 754كم جنوباً، وتواجدهم وصل إلى حد التمركز بالحقول النفطية مثل حقل الشرارة النفطي بمدينة أوباري، وهذا يعطي مؤشراً بأن تمسك الروس بشريط يمتد من الساحل إلى الجنوب الليبي بهذا الشكل ليس عشوائياً، بل هو محدد الأهداف يراد به الارتكاز على نقاط قوة تنفع الروس في تفاوضهم مع الأتراك وغيرهم، مما يعني انعكاس ذلك على موقف حكومة الوفاق المتحالفة مع الأتراك أصلاً.
-قوات النظام السابق، وهم اتباع القذافي، وهؤلاء تبرز لديهم روح الانتقام والرغبة في العودة إلى الحكم ولهذا السبب يتمسكون بوجودهم في هذه الكتائب العسكرية لتحقيق هذه الغاية، وأشهرها لواء 32 ولواء 12 وكتيبة محمد المقريف وكتيبة خميس ولواء 26 مشاة، وفي مدينة ترهونة كان هناك لواء 22، وفيما بعد هذا اللواء انضم إلى اللواء السابع الذي يسمى لواء الكانيات، ولواء الكانيات إنما يجمع أفراداً مقاتلين جمعتهم المصالح وأصبح فيما بعد يسمى اللواء التاسع.
-قوات الصحوات، وهي عبارة عن لجان شعبية استعملها حفتر سنة 2014م للسيطرة على الأحياء داخل المدن وتفكيك حواضن الثوار، وكانت تستخدم أشد أساليب الانتقام والتنكيل ضد الثوار، ثم انتقلت هذه القوات إلى المشاركة في حرب المدن كما هو الحال في حرب مدينة درنة وحرب مدينة طرابلس.
-قوات قبلية، فقد استطاع حفتر التنسيق مع شيوخ القبائل في المنقطة الشرقية، وقتالهم كان ذا نزعة قبلية تسيدت فيه روح العداء ضد الغرب الليبي.

-قوات المداخلة، وهي معروفة من حيث تأويلها للنصوص الشرعية وتنزيلها على الواقع لتبرير القتل للمخالفين.
-قوات عربية، وهي في الأغلب من السودان، وهي تقريباً 1400 مقاتل، ثم زادت هذه القوات بقوات الدعم السريع المسماة الجنجويد وقوات جيش تحرير السودان سواء جناح عبدالواحد نور أو جناح مناوي، وكذلك تجمع تحرير السودان بقيادة طاهر حجر، وهذه القوات أغلبها قوات مرتزقة.

(2) قوات حكومة الوفاق، وتتكون من:
-قوات غرفة عمليات فجر ليبيا، وهي القوات التي تشكلت بعد الانقلاب عام 2014م، وهي مكونة من الدروع وكتائب ثوار مصراته والزاوية.
-قوات حماية طرابلس، وتتكون من: كتيبة ثوار طرابلس، ولواء النواصي، وقوة الردع والتدخل المشتركة، وفيها بعض المداخلة وهي متهمة بعدة قضايا، كتائب تاجوراء، كتيبة 92 مشاة، كتيبة 155 مشاة، كتيبة يوسف البوني، وبعض الشخصيات العسكرية مثل اللواء أسامة الجويلي قائد المجلس العسكري لمدينة الزنتان واللواء إبراهيم بيت المال مدير غرفة المنطقة الوسطى، وغيرهم.

(3) من جهة النظر في الخريطة الجغرافية للصراع المسلح بين حكومة الوفاق وقوات حفتر لا بد من التنبيه إلى مسألة التوزيع السكاني، فإن هناك أطرافاً سياسية وإعلامية تحاول تجاهل هذه الحقيقة بشكل يُظهر وكأن هناك سيطرة لقوات حفتر على ثلثي البلاد، وهذا غير صحيح؛ لأنه من حيث التواجد السكاني والمدن وأهميتها نجد أن ما يقارب ثلثي السكان هم يتبعون مناطق نفوذ حكومة الوفاق، وبحكم أن العاصمة فيها مليونان من السكان، والجنوب والوسط فيه مليونان، والشرق فيه مليونان، وبحكم تبعية الجنوب والوسط للعاصمة طرابلس فإن ثلثي السكان يكونون مع حكومة الوفاق، وهذا يتوافق مع الخريطة الجغرافية المرفقة حيث يشير اللون الأحمر إلى قوات الوفاق الوطني ونسبته 65%، بينما قوات حفتر لها 35% من الانتشار الجغرافي وفقاً للمعطيات السكانية.

(4) تشير الخريطة إلى انتشار حفتر في مدينة سرت في قاعدة القرضابية، وإلى الجنوب من سرت تقع الجفرة وكذلك قاعدة تمنهنت شمال شرقي مدينة سبها، وسيطرة الروس على هذا الخط يتماشى مع السياسة الفرنسية وطموحهم بعودة مصالحهم الاستعمارية، فبحسب إرثها التاريخي فالجنوب من نصيبها، ومما يخشى منه هو التنسيق الروسي الفرنسي والوصولُ إلى تفاهمات بينهم يجعل للجنوب مسار بحري نحو الشمال، مما يمهد إلى سيناريو التقسيم في ليبيا.

(5) يشير اللون الأخضر إلى مناطق سيطرة حفتر، واللون الأخضر الغامق في بنغازي هو مناطق إدارة عملياته، والخريطة تشير أيضاً من خلال الدوائر الصغيرة باللون الرمادي في سرت والجفرة وأجدابيا إلى تواجد الدواعش، والخطوط الرمادية والمنقطة فهي تشير إلى تواجد أقليات التبو والطوارق فيها، أما المنطقة الصفراء، فهي صحراء خالية، فلا تحسب لأحد من حيث النفوذ والامتداد.

(6) حالياً لا يوجد اشتباك مسلح بين الجيش الليبي بحكومة الوفاق الليبية وقوات حفتر؛ لحين تفاوض الروس مع الأتراك للوصول إلى تفاهمات معينة يحقق بها كل طرف مصالحه.

(7) التحديات التي تواجه حكومة الوفاق:
-سرعة الأحداث والوقائع في المشهد الليبي انعكست على سرعة اتخاذ القرارات، وقد لُمس ذلك في استعادة غريان ثم ترهونة ثم محاور جنوب طرابلس.
-انتشار الألغام المزروعة في المناطق التي استعادتها قوات الوفاق ومدى إمكانية تخفيف أضرارها.
-كسر جبهة العدو في مدينة سرت-قاعدة القرضابية-والجفرة وقاعدة تمنهنت والحقول النفطية.
-التحدي السياسي الذي يواجه حكومة الوفاق وكيفية إدارة العلاقة مع الحليف التركي في الوقت الراهن والمستقبل.
-التحدي المتعلق بفاعلية حكومة الوفاق وإعادة تنظيمها وتجاوز حالة الشلل والارتجالية في عملها، فحكومة الوفاق لا يوجد فيها وزير دفاع ولا رئيس مخابرات، وبالتالي تعاني من قصور في جوانب متعددة يظهر جليا في صناعة القرار.
-التحدي المتعلق بالثوار واستيعابهم ودمجهم في المؤسسات السياسية والعسكرية.

(8) المشهد الليبي وُضعت له أربعة سيناريوهات محتملة:
الأول: في حال استمرار وجود قوات حفتر في المنطقة الوسطى وسيطرته على جزء من منطقة الجنوب بالإضافة إلى تمركزه في الشرق الليبي، هذا يعطيه احتمال استمرارية مسار برلين بأن حفتر شريك قوي في المعادلة السياسية، وبالتالي ما لم يستطع تحقيقه في الحرب العسكرية يحققه في السياسة.
الثاني: في ظل استمرار حفتر بالتواجد في المنطقة الوسطى وتحميله الإخفاقات المستمرة كما ظهر ذلك في تصريحات وزير الدولة للشؤون الخارجية للإمارات أنور قرقاش-أن حفتر ارتكب أخطاء واتخذ قرارات أحادية دون التنسيق مع حلفائه-، ومصر من جانبها دعمت مبادرة عقيلة صالح رئيس مجلس نواب طبرق، والمبادرة ترمي إلى إنهاء حالة الحرب على العاصمة طرابلس، وبالتالي يمكن تصور استبعاد حفتر من المشهد، ويكون الشريك السياسي والبديل عنه هو عقيلة صالح.
الثالث: في ظل استمرار حفتر في المنطقة الوسطى التي انسحب إليها الروس، وتكوين خط دفاع جديد مع استمرار السيطرة على الجنوب وإمكانية إحداث مناوشات بين الفينة والأخرى مع المنطقة الغربية والاستماتة في هذه التمركزات، قد يكون هناك سيناريو تقسيم للبلاد، وبذلك تكون المنقطة الشرقية لحفتر وكذلك المنطقة الجنوبية.
الرابع: أن تتوجه حكومة الوفاق نحو حسم المعركة عسكرياً في المنطقة الوسطى، وبذلك تكون مسيطرة على موانئ النفط، مما يمكنها من الاستمرار بإضعاف حفتر وإخراجه من المشهد بالكامل، فضلاً عن أن إخراج حفتر من المشهد يمهد لحوار بين حكومة الوفاق ورئيس برلمان طبرق، ويعزز ذلك عدة قضايا، أهمها: وحدة الوطن، ومعالجات سياسية أوسع في النطاق القريب، وإضعاف الدول الداعمة له، تحقيق حكومة الوفاق لانتصارات عسكرية على الأرض يسهم في إنجاح حوار وطني بين الأطراف الليبية، تجاوز مدينة سرت حتى الوصول إلى أجدابيا يقلل المخاطر على مدن الغرب الليبي.

(9) هذه السيناريوهات مرتبطة: بالنتائج والتطورات على الأرض، ومدى تفاعل الدول الإقليمية والدولية الداعمة للأطراف الليبية، وإحداث تغيير حقيقي في حكومة الوفاق وهيكلتها وتعزيز صناعة القرار فيها يسهم في تحقيق الاستقرار في ليبيا ويجذب الدعم لها في الداخل والخارج.

رابعاً: في ختام الندوة علق أحد المتابعين لها ﺑﺎلتعليق الآتي:

أرى – من وجهة نظري – أن على الإخوة الليبين في هذه الفترة العصيبة والتاريخية -وقد مضى على محاصرتهم لمدينة سرت فترة من الوقت- أرى أن عليهم القيام بمجموعة من الواجبات ذات الأهمية البالغة والعاجلة- فالوقت ليس وقت دراسات مستفيضة الآن- إنما وقت عمل على أرض المعركة بالدرجة الأولى ويرافقه عمل سياسي محكم دولي وداخلي..؛ ومن أبرز هذه الواجبات المهمة الآتي:

(1) الاستمرار في تحرير المدن الشرقية والجنوبية ﺑﺎلقوة العسكرية مهما كانت التضحيات؛ إذ قد فرضت القوة على الأرض لهم واقعاً جديداً؛ فيجب عدم التوقف عن الاستمرار في ذلك إلا لمخاطر محدقة ومحققة ولا يمكن تداركها، لأن من أبرز الأهداف العالمية للحرب في ليبيا تقسيمها ولو بإطالة مدتها وذلك سبيل تحويلها إلى ما يشبه الحال في سوريا أو الصومال لا قدّر الله إلا الخير؛ فالأمل أن لا تشغلهم كثيراً المناورات السياسية على أهميتها؛ كونها تعطي وقتاً كافياً للعدو للاستعداد في كل المجالات العسكرية والسياسية والاجتماعية؛ وخاصة معاودة الهجوم العسكري، وإعطاء فرصة أكبر للتدخلات الخارجية ولو عن طريق بعض القوى المدعومة إقليمياً ودولياً وخاصة المتورطة في الحرب من بدايتها كالنظام المصري تحديداً؛ فهو خطر داهم وكبير لا مجال للتعامي عنه أبداً لكونه الوحيد الآن الذي يمكن البحث له عن غطاء شرعي ولو مكذوب..!؛ فضلاً عن مفاجآت قد تكون غير محسوبة كتدخل مجلس الأمن باستغلال الفصل السابع منه وهو أمر غير مستبعد تماماً ..!

على أن الحرص على عدم إراقة الدماء هدف شرعي نبيل ولكن يقابله في الكفة الأخرى من ميزان المعادلة دماء أكبر وفوات مصالح شرعية كبرى لا تخفى عليكم؛ فيبقى للمحافظة عليه مقداره مع عدم تفويت المقاصد الشرعية الكبرى؛ وكل الحكمة في فعل خير الخيرين وتوقي شر الشرين وتفويت أعظم الضررين بارتكاب أخفهما.

(2) التدخل التركي متغير في غاية الأهمية لإحداث ثقل تركي إقليمي في منطقة الشرق الأوسط ثم عالمي يستفيد من إحداث التوازن بين قوى الشرق والغرب ولا سيما في هذه المرحلة التاريخية الفاصلة؛ ومع ذلك فقد تحتاج السياسة الليبية حالياً أن لا يغيبهم هذا التدخل عن الظهور القوي في الساحة العسكرية والسياسية؛ ولإبراز الدور التركي وكأنه مساند لا قائد وإن لم يكن واقعه كذلك..؛ وهذه المسألة تعود لنظر الحكومة الليبية وما يترتب عليها من مصالح.

(3) لابد من دراسة عاجلة يتبعها فعل في الميدان لتحجيم خيارات السيناريوهات المحتملة وحصرها فيما يصب في صالح السيطرة على كل المناطق، واستثمار موقف أمريكا الحالي مع “ليبيا موحدة” ضد التوجه الأوروبي بالتقسيم؛ إذ يجب عدم السماح بالتقسيم ولا العودة لاتفاق برلين سواء بحفتر -المتزايد عليه الغضب العالمي والأمريكي خصوصاً- أو حتى عقيلة صالح ..، ولا العودة كذلك لمخرجات مؤتمر غدامس بحكومة وطنية بين الوفاق وحكومة البيضاء المؤقتة ..! إذ جميعها تصب في إطالة أمد الحرب واقعياً.

(4) لابد من الشروع في بناء مؤسسات الدولة عاجلاً؛ إذ هو نقص مخل لا بد من إكماله على خطورة بعض مجالاته كالمخابرات ونحوها، ولكنه أيضاً سيسهم في بناء القدرات في هذه المرحلة أكثر من غيرها؛ لذلك فلا بد من مجلس مختص واعي جداً يتولى تحقيق هذا الهدف بشمولية أوسع للمشاركة وبخاصة في غير المسؤليات الحساسة جداً؛ ولا شك أن لدى تركيا تجارب عميقة في هذا الباب.

(5) العناية التامة بالإصلاح في الصف الداخلي يبدأ من الآن؛ إذ هو أهم بكثير من ﺗﺄجيله؛ وفيه مجال واسع لإشراك الآخرين من عامة المناصرين وبخاصة في القضايا التي تشعرهم بوجودهم؛ فاستمرار النظرة لديهم بوجود “لوبي” يتحكم فيهم سيفتح أبواباً مشرعة يمكن استغلالها من قبل المتربصين.

ولا بد كذلك من الاهتمام ﺑﺎلبناء الإيماني والتربوي وليكن من خلال الأحداث والمواقف في ميادين القتال، فهذه الميادين هي المواطن المثلى لغرس الإيمان وتثبيت العقيدة وبناء مكارم الأخلاق وقيم الرجولة والشجاعة والشهامة والوفاء والتضحية… إلخ، وهذه قضايا ذات أولوية؛ إذ هي أساس النصر وقوامه؛ فتحتاج إلى تخصيص لجنة علمية تربوية ممن يصلح لهذا العمل وإدارته، وخاصة ممن عنده إلمام ﺑﺎلسيرة النبوية ويتصف بالعقل وسماحة الخلق وبالشجاعة والوعي ويصلح لذلك، ويفضل من هو مشارك معهم وقريب منهم على من هو بعيد عن أجواء المعارك ..، وقد يستفاد من وسائل التواصل الاجتماعي -كقروﺑﺎت الواتس خصوصاً كونها تناسب المجموعات المحدودة أو التليجرام للأعداد الكبيرة- التي قد يتابعها الجميع في الميدان.

(6) الإصلاح القبلي والعائلي بفتح مسار التفاهمات المناطقية مهم للغاية وبخاصة في هذا الوقت؛ إذ العمل على تضييق سبل الخلافات الآن هو صمام أمان استقرار مؤسسة الحكم وعدم التنازع بعد النصر، فلابد من تحريك منهجي واعي هدفه جمع الكلمة وتسوية النزاعات ولم الشمل، والاستفادة من عامة الموجودين في طرابلس ومدن الغرب وعامة المناطق المحررة ليتواصلوا مع أهالي الشرق والجنوب وعامة المناطق غير المحررة ممن تجمعهم بهم علاقات القربى والمصاهرة والصداقات والمصالح وغيرها، ولا مانع من تأليفهم بالإكرام والعطاء كما فعل صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة.

(7) فيما يخص المداخلة يحتاج الليبيون إلى الحكمة في التعامل معهم، خاصة وأن الكثير منهم يغلب عليه الجهل وضحالة الوعي بمكر أعدائهم فضلاً عن الارتهان بالخارج؛ فهؤلاء يجب شرعاً تحييدهم عن المشاركة في الحرب وعن مواقع التوجيه للناس كالخطابة والإمامة ونحوها، كما يجب تحييدهم عن الإدارات الحساسة التي يعملون فيها ويعدونها إرثهم القديم كالأوقاف خصوصاً، وليتم ذلك بوعي وحكمة وبطرق غير مباشرة ووفق خطة مدروسة تراعي أولويات المرحلة؛ ولو تيسر بث خطاب فكري وعلمي متوازن يعمل على تفكيك شبهاتهم والرد على أباطيلهم، والتمييز بين القادة والأتباع، والعمل على إضعاف شوكتهم، فإنه سيكون متعيناً عمله على النخبة السياسية والفكرية في ليبيا.

زر الذهاب إلى الأعلى