المقدمة:
“يا بنتي، قالت، واضعة يدها بنفاد صبر على مذكراتي الموضوعة على ركبتي، ما الفائدة من الخربشة عن أكواخ محروقة وأُناس ذبحوا في السابق؟ إنهم لقوا حتفهم. أيطعمنا هذا، أو يغطينا أو يجعلنا نعيش؟ كان في القرية ثلاثة آلاف من الماشية والغنم … ليس هناك الآن دجاجة تستطيع أن تضع بيضاً. كيف أستطيع أن أطعم ابنتي ورجلي العجوز، الذي أصابه اليونانيون بجراح؟ ليس هناك حتى الملح مع أوراق النبات التي نغليها لتسكت هذا الجوع الملتهب في بطوننا … ثمة شيء خاطئ، ثمة شيء خاطئ، يا بنتي.
كنا نعتقد أن الدرك كانوا الكارثة الوحيدة التي أرسلها الله في الماضي. كنا نقول آنئذ إن السلطان لا يعلم بأننا مضطَهَدُون، مضطَهَدُون؟ كان ذلك فردوساً مقارنة بهذا. يا إلهي، كم توسلت إلى اليونانيين كي يتركوا بعض الأغطية للذين بقوا على قيد الحياة! ضحكوا وقالوا لي إن أوربا أرسلتهم ليفعلوا كل ذلك، وإنهم لن يتركونا في سلام قط”(فاطمة نينة من قرية ملك mulk إلى خالدة أديب).
كم توسلت إلى اليونانيين كي يتركوا بعض الأغطية للذين بقوا على قيد الحياة! ضحكوا وقالوا لي إن أوربا أرسلتهم ليفعلوا كل ذلك، وإنهم لن يتركونا في سلام قط
صورة لا تعد في حقيقتها غريبة عن كثير من مثيلاتها وقسيماتها التي شهدها العالم الإسلامي في جميع بقاعه، إلا أن ما يميزها عن غيرها، أنها جاءت مذَكِّرة لحوادث لم يقف عندها المؤرخون تدويناً ورسماً ورقماً، ولم يأت على ذكرها السياسيون والمفكرون، بل قد نسيها المسلمون أنفسهم؛ ذلك أن الذي طغى عليها وعلى أخواتها حملاتُ التشويه التي لحقت التاريخ العثماني المسلم بالإبادة العثمانية للأرمن -زعموا-، حتى جعلوها مادة دسمة في الضغط على تركيا المسلمة اليوم في محافلهم الخارجية والداخلية، ولئن كانت هناك بضعة حوادث جعلوها دلائل لهم في إدعاءاتهم، فإن ما أصاب المسلمين آنئذ شرق الدولة العثمانية وغربها لم يكن محل بحث ونظر، حتى نسيته الأجيال التركية نفسها، فضلاً عن غيرها.
إن هذا المشهد ليؤكد بما لا مجال للشك فيه حجم المأساة التي لحقت الأمة المسلمة من أعدائها الذين تداعوا عليها كتداعي الأكلة على قصعتها، بما أصابهم من الهوان والضعف والتشرذم، فأضحوا لا بواكي لهم، وصدق محاضير محمد حين قال: “يبدو أن الرد العالمي على العنف والوحشية يعتمد على هوية الضحايا”، في إشارة منه ظاهرة إلى أن ما يصيب العالم الإسلامي من قتل وتدمير وإبادة لا تعد في ميزان الغرب جرائم وجنايات على البشرية والإنسانية، وإنما هي محاربة للإرهاب، ودفاع عن حقوق الجناة، ولا يمكن أن تتضح الصورة إلا بإبراز الوقائع والأحداث وسردها ونشرها؛ ليُعلم المحقُ من المبطل.
ولئن كانت هذه الصورة وهذا المشهد قد طواه النسيان وأصابه البلى بالتقادم، فإن من جميل الموافقات القدرية، أن يظهر على يد أهل الإنصاف والعدل من غير المسلمين؛ ليكون شاهد عدل بوثائق وأدلة وبراهين أتى عليها غبار الزمان، فكان كتاب: “الطرد والإبادة: مصير المسلمين العثمانيين (1821-1922م)“، لمؤلفه جستن مكارثي، الذي صدر بطبعته الإنكليزية عام 1995م.
صدور الكتاب بموضوعه الذي أثاره كان خارج سياق ما هو مثار بشأن الإبادة العثمانية للأرمن، ويصف الأستاذ محمد يوسف عدس رحمه الله الكتاب ومؤلفه بقوله: “أما الكتاب الذى تخصص فى دراسة القضية الأرمنية، وأكّد زيف المزاعم المثارة حول مذبحة الأرمن، فهو (الطرد والإبادة.. مصير المسلمين العثمانيين) لمؤلفه جستن مكارثي، وجستن مكارثي أستاذ التاريخ فى جامعة أمريكية ليس غريبًا عني.
فقد كنت مقيماً فى أستراليا عندما دعاه البرلمان الفدرالي بكانبرا لإلقاء محاضرة (خلال أكتوبر ٢٠١٣م)؛ وذلك لتعريف النواب الأستراليين عن حقيقة (المذبحة الأرمنية المزعومة) ففوجئوا بأنه يتحدث عن مذبحة المسلمين الحقيقية على يد الأرمن والروس والتى راح ضحيتها عشرة ملايين مسلم :خمسة ملايين قتلى وخمسة ملايين آخرين مصابين ومهجّرين من ديارهم تهجيرًا قسريًّا.
أذهلهم الرجل بحقيقة أخرى أشد وقعًا عندما قال: (لم أجد وثيقة واحدة فى تركيا وبريطانيا وروسيا وأمريكا تثبت شيئًا عن تورط الدولة العثمانية فى مذبحة للأرمن).. وتهكّم على آلاف الكتب التى كُتبت لتروج لهذه الفرية بدون دليل حقيقي .. وقال: (لقد بحثوا خلال مئة عام كاملة على دليل أو وثيقة تثبت مزاعمهم ولكنهم لم يجدوا شيئًا مما يحلمون به)”[1].
لم يكن اختيار هذه المرحلة الزمنية التي قام الكتاب بتغطيتها عبثاً، لكونها مجالاً زمنياً لحالة الصدام المستمرة بين الأرمن باعتبارهم رعايا وبين الأتراك العثمانيين باعتبارهم حكاماً، كما شهدت على إثرها توقيع اتفاقيات دولية لا زال تأثيرها حاضراً حتى اللحظة، وبها يلوح الغرب دائماً بأن الدولة العثمانية ارتكبت مجازر ضد الأرمن، وأهمها بطبيعة الحال اتفاقية سان ستيفانو عام 1878م عقب انتهاء الحرب الروسية التركية، حيث مهد البند رقم 16 والبند رقم 61 بتدويل المسألة الأرمنية.
وعليه كان لا بد من دراسة هذه الحقبة التاريخية التي يزعم الأرمن أنهم قد تعرضوا فيها للإبادة وهي الحقبة ما بين (1821م إلى 1922م).. مع دراسة منطقة جغرافية كبرى كانت خاضعة للدولة العثمانية من القوقاز إلى الأناضول والبلقان بما في ذلك بلغاريا واليونان حيث كان معظم سكان هذه الأراضي الشاسعة يدينون بالإسلام.
وهو ما سلط عليه الضوء جستن مكارثي في كتابه، الذي قامت بدعمه وتمويله هيئة وقف الولايات المتحدة الأمريكية القومي للدراسات الثقافية للبحث في الحرب العالمية الأولى وآثارها، ومؤسسة الدراسات التركية للبحث في وفيات وهجرات الأتراك بالاشتراك مع بعض الجامعات الأمريكية والبريطانية.
وبالطبع فإن دراسة هذه المنطقة جغرافياً وتاريخياً وطبيعة الصراع القائم في تلكم الحقبة يحتاج إلى العديد من الأبحاث والدراسات الوثائقية ليستبين للمنصفين من ذوي العقول عظم الفرية التي يرددها الغرب حول ما يسمى (بإبادة الأرمن)، في الوقت الذي يتجاهل فيه الكتاب الغربيون مصير ملايين المسلمين الذي شردوا من أوطانهم وقتلوا على أيدي الروس والأرمن والبلغار واليونان والصرب في نفس الحقبة المذكورة حتى عام 1922م[2].
مؤلف الكتاب:
هو جستن مكارثي الأستاذ المتخصص في الديمغرافيا والتاريخ في جامعة لوزفيل/ولاية كنتكي بالولايات المتحدة، تحصل على الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا عام 1978م، ومُنح الدكتوراه الفخرية من جامعة بوغازجي بتركيا، مجال تخصصه تاريخ الدولة العثمانية في أواخرها، له عدة مؤلفات في هذا الشأن، أهمها بالإضافة إلى كتابه هذا:
-العالم العربي وتركيا ودول البلقان (1878-1914)، نشر عام 1982م.
-المسلمون والأقليات: سكان الأناضول العثمانية ونهاية الإمبراطورية، نشر عام 1983م.
-الأتراك العثمانيون: تاريخ تمهيدي إلى عام 1923م، نشر عام 1997م.
شهادات على جرائم النصارى ضد الأتراك:
أ.أرنولد توينبي: جاء أرنولد توينبي إلى الأناضول مراسلاً ومحللاً لصحيفة مانشستر جارديان، وكان متوقعاً أن يرى أعمالاً دنيئة من الأتراك، ونبيلة من اليونانيين، ولكنه أدرك حقيقة أعمال اليونانيين ونياتهم بعد أن اطلع على مجازر يلوه وكمليك، وحقق في التدمير المتواصل حول إزمير، واستنتج مثل لجنة تحقيق التحالف أن الحكومة اليونانية هي التي خططت مجازر الأتراك وطردهم[3].
وفيما يتعلق بمزاعم الإبادة ضد الأرمن، كان توينبي أول أمره مندداً بالسياسة العثمانية؛ لتسببها في الإبادة في أحداث سنة 1915م، إلا أنه اعترف أخيراً في كتابه (المسألة الغربية في اليونان وتركيا) الذي صدر في لندن سنة 1932م بأن ما كتبه عن التنديد إنما هو دعاية حرب تشوبها المبالغة، بل ذكر في مذكراته الصادرة بالإنجليزية في لندن سنة 1967م تحت عنوان (معارفي) أن ما سبق أن كتبه ووصف فيه أحوال الأرمن كان دعاية حرب؛ لأن السلطات العثمانية قد وجدت الأرمن العثمانيين يمثلون الطابور الخامس لقوات الحلفاء فقررت ترحيلهم بعيداً عن مناطق القتال، وأن هذا الإجراء هو إجراء أمني مشروع تتخذه غيرها من الدول في مثل هذه الظروف[4].
ب.صامويل ويمز: قال واصفاً المشهد وصنيع الأرمن بالأتراك: “آلاف من الأرمن قد ماتوا أثناء الحرب، كما قد حدث أيضاً للأتراك بشكل أكثر. الإمبراطورية العثمانية كانت في مرحلتها الأخيرة من الحياة، الآلاف من الناس الأبرياء قد فقدوا حياتهم بسبب جشع وأنانية الأرمن الذين أرادوا أن يقيموا مملكتهم الخاصة الصغيرة. الحقيقة الخالصة في القضية هي أن عدة آلاف من الأتراك كانوا معرضين لمذابح رهيبة في الأماكن حيث كان الأرمن قد انضموا إلى القوات الروسية”[5].
ج.إموري نايلز وآرثر سذرلاند: كلفت الحكومة الأمريكية كلاً من إموري نايلز وآرثر سذرلاند بالتجول في شرقي الأناضول بعد الحرب العالمية الأولى وتقديم تقرير حول الأوضاع هناك، وقدما صورة حقيقية للوضع بعيداً عن أي أحكام مسبقة أو عداوة دينية، إذ كشفا الأوضاع المأساوية للمسلمين هناك، ولكن لم ينل تقريرهما الاهتمام المطلوب، فكان مصيره متاهة الأرشيفات.
وجاء في التقرير: “(المنطقة الممتدة من بتليس عبر وان إلى بايزيد) أُخبرنا بأن الضرر والتدمير في كل هذه المنطقة كانا من فعل الأرمن الذين استمروا في احتلال البلد بعد أن انسحب الروس، والذين دمروا كل شيء يخص المسلمين مع تقدم الجيش التركي، علاوة على ذلك اتهم الأرمن بارتكاب أعمال قتل واغتصاب وإحراق عمد للممتلكات وأعمال وحشية رهيبة من كل وصف ضد السكان المسلمين”[6].
كتابات على المسار:
بالرغم من الخصوصية التي يتمتع بها كتاب الطرد والإبادة الذي نخصص له هذه الورقة؛ بحكم كونه شهادة غربية على الجرائم ضد المسلمين في أواخر العهد العثماني، إلا أن هناك كتباً جاءت في ذات المسار الذي دار حوله كتابنا هذا:
الأول: تهجير الأرمن: 1914-1918م (الوثائق والحقيقة)، ليوسف حلاج أوغلو: والكتاب صدر باللغة التركية، وترجمه إلى اللغة العربية الأستاذ أورخان محمد علي رحمه الله، نشر عام 2010م، والكتاب تعرض لثمانية وعشرين وثيقة مما تضمنها الإرشيف العثماني حول ادعاءات القضية الأرمنية في تلك الحقبة، مثبتاً بموجب ما تضمنته هذه الوثائق من مضامين الحقائق التي تغاير سياق هذه القضية في دائرته الغربية.
الثاني: مذابح الأرمن ضد الأتراك في الوثائق العثمانية والروسية والأمريكية، لأحمد عبدالوهاب الشرقاوي، نشر عام 2016م: واستعرض المؤلف بعد مقدمته القيمة تسعة وثمانين وثيقة عثمانية، وأصول الوثائق الروسية، وتقرير نايلز وسذرلاند الأمريكيين.
أولاً: الأرض المقبلة على الضياع:
مرجع الكتاب بحث المؤلف في عدد سكان الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى، إذ لفت نظره تغير عددهم ونقصانه بمقدار الربع، وذكر المؤلف أن كتابه ليس تاريخاً للشعوب العثمانية، ولا تاريخ الوفيات لزمن الحروب كلها في منطقة واحدة، بل هو تاريخ معاناة المسلمين، ليس لأن المسلمين عانوا وحدهم، بل هو تصحيح ضروري للرؤية التقليدية الأحادية الجانب لتاريخ أتراك هذه المناطق ومسلميها، هي قصة وفيات هائلة وواحدة من هجرات التاريخ الضخمة.
لا يمكن فهم كثير من تاريخ البلقان والأناضول والقوقاز جيداً من دون اعتبار ما لحق بالمسلمين في هذه الأراضي من قتل وتهجير
لا يمكن فهم كثير من تاريخ البلقان والأناضول والقوقاز جيداً من دون اعتبار ما لحق بالمسلمين في هذه الأراضي من قتل وتهجير، وعند تأمل المؤرخ المعاصر لبلدان البلقان وجنوب القوقاز تظهر عند الوهلة الأولى أنها بلدان متجانسة من حيث السكان ملة وعرقاً، وحقيقة الأمر أن هذه البلدان بصورتها الحالية استحدثت إبان الحروب وفصلتها الثورات عن الدولة العثمانية، وإنما تحققت وحدة السكان بعد طرد سكانها المسلمين منها.
ومع الأهمية التاريخية لخسائر المسلمين، فإنها غير موجودة في الكتب المدرسية والتاريخية التي وصفت مذابح البلغار والأرمن واليونانيين، ولم تذكر المذابح المماثلة للأتراك، إن عدد المنفيين والقتلى من المسلمين غير معروف.
لم تجر في الغرب كتابة أو فهم تاريخ معاناة مسلمي البلقان والقوقاز والأناضول قط، إذ جرت كتابة تاريخ البلقان والقوقاز والأناضول من دون ذكر أبطاله الرئيسيين وهم السكان المسلمون.
وبالرغم من التصنيف الذي عومل به العثمانيون وهو الإسلام، إلا أن الأصل العرقي في التصنيف لم يكن منسياً، فالأتراك المسلمون والألبان المسلمون لهم تجارب مختلفة في حروبهم مع اليونانيين والصرب، وكان البوماك وهم المسلمون الذين يتكلمون اللغة البلغارية عرضة لمعاملة خاصة من البلغار المسيحيين.
وقد ساعدت العوامل السياسية بالإضافة إلى العوامل التاريخية في إحداث تغيير رئيسي في تقرير مصير مسلمي أوربا العثمانية والقرم والأناضول، وهي:
-ضعف الإمبراطورية العثمانية العسكري والاقتصادي: إذ لو استطاع العثمانيون أن يدافعوا عن دولتهم كما ينبغي، لما حدثت وفيات المسلمين وهجرتهم بالتأكيد، وليس هناك إجماع بين المؤرخين بخصوص أسباب الضعف العثماني، ولكن ساهم ضعف نظام الإدارة العثماني وانخفاض مستويات أدائه في الضعف الداخلي، كما أثرت تغيرات السوق تأثيراً كبيراً في الاقتصاد العثماني، وحتى بعد إدراك الإدارة العثمانية لأهمية الثورات الفكرية والعلمية والصناعية التي حدثت في العالم الغربي إلا أن الأزمة كمنت في عدم الكفاية المالية لإحداث التغيير والتطور، هذا فضلاً عن الضغط العسكري المتواصل التي تواجهه الإدارة العثمانية من أعدائها في الخارج.
-الوعي القومي بين الشعوب المسيحية العثمانية، استغلالاً لسياسة التسامح العثماني: فمنذ بداية دولتهم سمح العثمانيون بوجود طوائف نصرانية، ولم يقف الأمر عند دائرة التسامح في وجود الأقليات الدينية، بل كذلك تبنوا نظام حكم ذاتي لا محدود للملل الدينية المخالفة للإسلام، حيث كانت محاكمهم ومدارسهم وأنظمة الخدمات الاجتماعية بيد مسؤوليهم الدينيين، فاحتفظت الأقليات بإزاء هذه السياسة بخصوصياتها الدينية، ولم تُجبر طيلة حكم العثمانيين على الاندماج والانصهار في دين الدولة الرئيس وهو الإسلام، وهذا بلا شك ساعد إلى حد بعيد في إذكاء الروح الانفصالية عند كيان الدولة، خاصة بعد الدفق المعنوي الذي تلقته هذه الأقليات من الدول الغربية.
-التوسع الاستعماري الروسي: لم يكن الضعف العثماني في سياقه الداخلي مهما كانت درجته سبباً في انهيار الدولة العثمانية حتى وإن كان مساهماً في ذلك، ولكن الحقيقة أن الدولة دُمرت في حروب عالمية مع خصوم متفوقين عسكرياً، وكانت روسيا في المقام الأول، ولم يكن التوسع الروسي على حساب الدولة العثمانية قريباً من حيث زمنه، بل كانت أهدافه التوسعية قد بدأت من القرن الرابع عشر الميلادي مستمراً إلى أواخر عهد العثمانيين في أوائل القرن العشرين.
وقد عزا كثير من المؤرخين إلى أن التحقيق في أسباب التوسع الروسي لا يمكن وقفها على عامل واحد، بل مرجعها عوامل متعددة، منها الدافع الروسي لضم كل شيء باعتبارها دولة كبرى، والرغبة في مرافئ المياه الدافئة، ومهما كان السبب الحقيقي في التوسع، فإن أكثر هذا التوسع كان على حساب الشعوب المسلمة.
ولهذا نظر إلى المسلمين على أنهم أعداء قوميون، فكان يجب عدم التسامح معهم؛ لأنهم لم يكونوا إخواناً بالعرق، هذا فضلاً عن كونهم كفاراً، كان ذلك سبباً جوهرياً للترحيل القسري للمسلمين الذي صاحب ثورة قومية.
إن عمليات القتل التي حدثت على الأتراك في اليونان إبان ثورة المسيحيين عام 1821 كانت أعمالاً سياسية مدروسة، وليس دفقاً من الكراهية فقط، بل هي عمليات إبادة
إن عمليات القتل التي حدثت على الأتراك في اليونان إبان ثورة المسيحيين عام 1821 كانت أعمالاً سياسية مدروسة، وليس دفقاً من الكراهية فقط، بل هي عمليات إبادة، إذ يقدر عدد القتلى من الأتراك أكثر من 25 ألفاً قتلوا على أيدي اليونانيين، وقد قدمت الثورة اليونانية نموذجاً للثورات المستقبلية في البلقان.
كانت كراهية الأتراك عاملاً حقيقياً في عمليات القتل، لكنها كانت عاملاً جرى تسويقه في سياق أهداف الاستقلال والقومية، كما كانت الرغبة في الاستيلاء على ممتلكات الأتراك عاملاً لا يمكن تجاهله.
إن إيجاد أمة من خلال طرد الأتراك ومسلمين آخرين كان مبدأ اتبعه بعد ذلك البلغار والروس والأرمن، وقد كانت المجتمعات المسلمة في البلقان والأناضول والقوقاز حجر عثرة في طريق القوميات الجديدة، استوجب من النصارى القيام بعمليات تطهير شاملة.
ثانياً: شرقي الأناضول والقوقاز:
يعد التوسع الروسي ظاهرة تاريخية عند الحديث عن علاقته بالدولة العثمانية، فقد كان إخضاع الروس للمسلمين سياسة جرى تطبيقها على نحو ثابت وفعال مدة مائة وخمسين عاماً.
فبالنسبة لمسلمي القرم من التتار، جرى تهجيرهم بسياسات إدارية تضغط عليهم باتجاه ترك أراضيهم من قبل الروس، وبالفعل هاجر ثلاثمائة ألف تتري على الأقل منها إلى الأراضي العثمانية، ولكن لم تكن الإمبراطورية مهيأة لاستقبالهم، فقد كانت أوضاعهم الصحية يرثى لها بين اللاجئين المحشورين في مخيماتهم، وكانت نسبة الوفيات في مخيم المجيدية على سبيل المثال من خمسين إلى ستين يومياً.
في كل حرب من حروب القرنين التاسع عشر والعشرين جرى قتل المسلمين وطردهم، وبالرغم من اختلاف وتغاير الحروب بعضها عن بعض، إلا أن تأثيرها على المسلمين كان متساوياً، من حيث كثرة القتل والطرد من الديار.
في كل حرب من حروب القرنين التاسع عشر والعشرين جرى قتل المسلمين وطردهم، وبالرغم من اختلاف وتغاير الحروب بعضها عن بعض، إلا أن تأثيرها على المسلمين كان متساوياً، من حيث كثرة القتل والطرد من الديار.
إن الوصف الانتقائي لمعاناة المسلمين يعد مناسباً؛ لأن انحسار الأرض الإسلامية والإبعادات كانت أحداثاً تاريخية متواصلة، تقدم صورة تاريخية مترابطة، علاوة على ذلك، إن عدم فهم مصير المسلمين يجعل فهم التاريخ الكلي للإمبراطورية العثمانية وروسيا وكذلك تاريخ الشعوب غير المسلمة للإمبراطوريتين أمراً مستحيلاً.
بطرق عديدة شكل التوسع الروسي في القوقاز أساساً للعداوة بين الأرمن والمسلمين، وكانت منطقتا القوقاز وشرقي الأناضول مرتبطتين معاً؛ لأن الاثنتين كانتا مراحل في توسع الإمبراطورية الروسية من أجل مصادرة الأراضي المسلمة.
يمكن للمرء بالإدراك المؤخر أن يركب نموذجاً عن الاحتلال الروسي للقوقاز، حيث كان الهدف الظاهري استبدال رجحان سكاني نصراني وسياسي روسي بهيمنة المسلمين السكانية والسياسية في القوقاز كما في القرم، وقد كان لسياستهم دعامتان: خروج المسلمين الجماعي ونزوح عناصر نصارى السلاف شمال القوقاز والأرمن إلى جنوب القوقاز ومن ثم إلى الأناضول، ولا شك في أن طرد المسلمين أصبح في النهاية سمة للتوسع الروسي في القوقاز.
وعند الحديث عن الحرب العشرينية في القرن التاسع عشر بين روسيا والدولة العثمانية في الأعوام ما بين 1827-1829م كان لها معالم رئيسة، إذ شكلت نتائجها وآثارها المرحلة اللاحقة من حيث الوضع الديمغرافي وتركيبته: غزو روسي للأراضي العثمانية، الأرمن يقفون إلى جانب الغزاة، وفيات كبيرة بين المسلمين، نزوح قسري للمسلمين، واستبدال سكاني فعلي للمسلمين والأرمن.
قدر جورج بورنوتيان من المصادر الفارسية والروسية التغير السكاني نتيجة الاحتلال الروسي، أن قرابة ستة وعشرين ألفاً -نسبة 3%- من مسلمي الحاكميات لقوا حتفهم أو هاجروا بناء على التقرير السكاني الروسي.
كانت أروان -منطقة الجمهورية الأرمينية الحالية- تقريباً حتى عام 1827م إقليماً بأكثرية مسلمة (أتراك في المقام الأول)، وأتاحت إبادة السكان المسلمين أو نزوحهم القسري للروس أن يؤهلوا المنطقة من جديد بأرمن من إيران والإمبراطورية العثمانية، وبحلول شهر أيار من عام 1864م كانت السيطرة الروسية على القوقاز تامة، جاء مع النصر الروسي تنفيذ سياسة النزوح القسري الروسية أكثر ضراوة بكثير من أي شيء رأته العين في القرم.
وفيما يتعلق بأبخازيا كانت طرائق النزوح القسري التي فرضت على الأبخاز في عام 1867م هي ذاتها تقريباً التي استخدمت سابقاً، وكما كتب بالغريف القنصل البريطاني تعليقاً على ما لحق الأمة الأبخازية من أحداث: “من المؤلم جداً مشاهدة الانقراض في ذاته لأمة كانت جريمتها الوحيدة أنها ليست روسية”.
لا يستطيع المرء معرفة عدد الذين رحلوا من أراضيهم في القوقاز، وبتحليل تقديرات مختلفة من المعقول القول إن ما يقرب من مليون ومائتي ألف قوقازي هجروا الأراضي التي فتحها الروس، عاش منهم ثمانمائة ألف ليستقروا في مقاطعات عثمانية، وقد سجل الإحصاء الروسي الرسمي الأول الذي أجري في عام 1897م التحول الذي حدث بعد عملية التطهير والإبادة والتهجير، إذ أظهر أن النصارى يفوقون المسلمين عدداً بمقدار أكثر من عشرة إلى واحد.
وكما كان تأثير القتل والتهجير كبيراً، كان للأمراض والأوبئة دورها في القضاء على المسلمين كذلك، فعند أول مرفأ عثماني في طرابزون، لقي عدد كبير منهم حتفه بسبب الجدري والتيفو والأسقربوط، وتقدر الوفيات في طرابزون وحدها بما يقرب من ثلاثين ألفاً، ولا يختلف الحال عن أولئك الذين هبطوا في موانئ أخرى كسامسون وسينوب.
وخلاصة القول فيما تعلق بالشأن الروسي والمسألة العثمانية في جانبها الشرقي، نجد أن الاجتياحات الروسية في القرن التاسع عشر والنفي القسري لمسلمي القوقاز أفسدت التوازن في منطقة القوقاز والشرق العثماني، حيث طرد شعب كامل إلى مخيمات اللجوء، وأفضى بهم سوء حال المخيمات إلى الموت بأعداد كبيرة، ومن نجا منهم قدم إلى أراضي لم تكن مستعدة لاستقبالهم.
وهذا كان له تأثيره السلبي الكبير على طبيعة النظام العثماني نفسه في كيفية تعامله مع الأقليات العثمانية وخاصة الأرمنية، وحسب رأي مكارثي كان أسوأ تأثير للاجتياحات الروسية إحداث قطبية مسلمة – أرمنية، سببت عداوة مستديمة متبادلة أدت إلى هلاك الجماعتين.
وإن كان هذا المستوى من التحليل -برأي المراجع- ينقصه شيء من الدقة، حين النظر إلى مجرد العداوة المشتركة بين الطرفين، إذ بالنظر إلى الوقائع التاريخية أثبت المنصفون حجم التسامح الذي عومل به الأرمن وبقية الأقليات داخل الدولة العثمانية بخلاف العكس، وإنما كان مرجع هذه العداوة هو عدم قدرة هذه الأقليات على استيعاب كونهم أتباعاً لدولة مسلمة.
ثالثاً: بلغاريا:
كان العمل الثوري للبلغار منذ البداية ذبحاً للمسلمين في المقام الأول، فقد استغل النصارى البلغار الضعف العسكري العثماني وانشغال العثمانيين بإخماد العصيان المسلح في البوسنة ليحدثوا عملاً وعصياناً مسلحاً ضد الدولة العثمانية في شهر عام 1876م، وكانت مشكلة العثمانيين الأساس في بلغاريا ومناطق أخرى ببساطة: أنه لم يكن لديهم الطاقة البشرية العسكرية ليحموا بلادهم أو مواطنيهم.
لقد كانت الطرق التي استعملت لإنهاء وجود المسلمين في بلغاريا قد خطط لها منذ قرون قبل الحرب الروسية التركية في عامي 1877-1878م، وما كان مطلوباً باستخدام هذه الطرق هو الجمع بين القتل والخوف، حيث يؤدي ذلك إما إلى قتل المسلمين صراحة وإما إلى هروبهم من القتل الوشيك
لقد كانت الطرق التي استعملت لإنهاء وجود المسلمين في بلغاريا قد خطط لها منذ قرون قبل الحرب الروسية التركية في عامي 1877-1878م، وما كان مطلوباً باستخدام هذه الطرق هو الجمع بين القتل والخوف، حيث يؤدي ذلك إما إلى قتل المسلمين صراحة وإما إلى هروبهم من القتل الوشيك.
ولكي يتحقق هذا الهدف كانت القوة الأكثر ملاءمة في الجيش الروسي هي القوزاق، حيث كانت أساليبهم قد استكملت في حروب القوقاز، وعهد عنهم استخدام الوسائل القذرة في الحروب، وجعل هذا منهم أداة فعالة في تنفيذ الأهداف الروسية في البلقان.
وعند النظر إلى آثار الحرب الروسية التركية ما بين 1877-1878م فقد كانت شديدة على المسلمين المدنيين في بلغاريا، ويمكن تصنيف وفيات المسلمين البلغار في أربع فئات:
–إصابات ساحة المعركة.
–القتل العمد من البلغار والقوات الروسية والقوزاق.
–إنكار ضروريات الحياة الذي أدى إلى الموت جوعاً والموت من المرض.
–وفيات بسبب الأوضاع السيئة لمخيمات اللجوء الإنساني.
ومن الصعب فصل سياسة متعمدة عن غياب للانضباط العسكري فقط، فإن نشاطات الجند الروس تبدو أنها كانت جزءاً من السياسة الروسية في محو الوجود التركي والإسلامي في بلغاريا، حيث استولى الجنود الروس وحلفاؤهم البلغار على جميع الممتلكات التركية المنقولة وأتلفوا في كثير من الأحيان ما تبقى باستثناء الممتلكات التي استولى عليها البلغار، فقد أحرق الروس والبلغار القرى التركية، ولم يكن للإحراق المتعمد لها أي مغزى من الناحية العسكرية أو الاقتصادية إلا ضماناً لعدم عودة هؤلاء المسلمين.
بلغة الخسائر في الأرواح والمعاناة العامة كان نزوح اللاجئين المسلمين من بلغاريا واحداً من أفظع الأحداث في التاريخ، وما واجهوه من أوضاع مرعبة في طريقهم لا يمكن وصفه، فقد كان الجوع والمرض والبرد بالإضافة إلى القتل من قبل الروس والبلغار والقوزاق، كلها عوامل دعت الممثل البريطاني كَلِن يقول: “إن الروايات المتواصلة التي أتلقاها عن وحشية الروس والبلغار كانت تفوق تقريباً أي شيء سمعت عنه أو رأيته في أي وقت في هذه الحرب المروعة .. لا أستطيع أن أصل إلى أي استنتاج آخر إلا أن الروس ينفذون سياسة ثابتة لإبادة الجنس المسلم”.
لقد كان عدد المفقودين كبيراً، فبحلول عام 1879م كان 17% من مسلمي بلغاريا لقوا حتفهم -نحو 260ألفاً-، و34% كانوا لاجئين دائمين، وهذا معناه أن أكثر من نصف المسلمين غادروا بلغاريا، وقد وصف القنصل البريطاني كلفرت هذه المأساة التي أصابت المسلمين البلغار بعد مشاهدته لها وصفاً دقيقاً، وذكر أن النصارى البلغار بمعونة من الروس وغيرهم كانوا يقومون بالهجوم على الأحياء التركية ويُقدمون على القتل والسلب والنهب والاغتصاب للنساء المسلمات، واصفاً أفعالهم بالخسة والوحشية.
رابعاً: الشرق من عام 1878م حتى 1914م:
كانت المرحلة الزمنية التي مهدت السبيل للحرب العالمية الأولى مرحلة استقطاب متزايد في الشرق، حيث أدت الحرب الروسية التركية عامي 1877-1878م إلى استبدالات حقيقية للسكان، فانتقل المسلمون إلى الأناضول، وانتقل الأرمن إلى القوقاز، وساهم التوتر بين المسلمين والأرمن إلى حد كبير في تأجيج الكراهية والانقسام الذي أفضى إلى تعزيز أولوية الانتماء العرقي والديني على حساب الولاء للحكومات.
–الحرب الروسية التركية عامي 1877- 1878م: لم تكن المعلومات عن المسرح الشرقي لعمليات هذه الحرب مماثلة لقسيمته الغربية في بلغاريا، بسبب النقص المتفاوت في المراقبين في الشرق، ولم يكن العثمانيون في وضع يسمح لهم بستجيل كل شيء، خاصة -وهو الأهم- فيما يتعلق بنزوح اللاجئين، لكن كان اهتمامهم منصباً لمذابح الروس وحلفائهم للمسلمين، ومع ذلك فقد اضطروا حتى في هذه الحالة إلى الاعتماد على معلومات قام بجمعها مراسلون ومراقبون أوربيون.
–الأفعال الروسية والأرمنية في هذه الحرب: أفضل مثال على أعمال الروس الوحشية كانت في حملتهم العسكرية في القوقاز للاستيلاء على أردخان، وهي المدينة التي استسلمت لهم بسلام، ومع ذلك فإن القوات الروسية -التي كانت تتكون أكثرها من القوزاق والكاراباباك- قتلت ما يقدر بثلاثمائة من الحماية العثمانية وعدداً أكبر بكثير من المدنيين، وقد نهبت المدينة بالكامل، كما عوملت مدينة أردميش بطريقة مماثلة من القتل والنهب، وحين استولى الروس على أرضروم، استغل أرمن المدينة الحكم المسيحي للإساءة إلى المسلمين.
–نزح عشرات الآلاف من المسلمين نحو الإمبراطورية العثمانية بسبب الحرب الروسية وخوفاً من بطشهم، وكانت وجهتهم إلى الشرق العثماني، ولكن كانت الإشكالية الكبرى التي واجهتهم وواجهت الإدارة العثمانية كذلك هي مجيئهم إلى دولة منهكة من الحرب وحتى أقل قدرة من ستينات القرن التاسع عشر في تقديم المساعدة للمهاجرين.
وقدر عدد المهاجرين بحلول عام 1881م بأكثر من سبعين ألفاً، وكان بالإضافة إلى الأتراك المرحلين، كان هناك عدد كبير من لاجئي المناطق التي احتلها الروس حديثاً من الكرد، وعدد آخر كان من سكان جبال القوقاز الذين أعيد توطينهم في الدولة العثمانية.
–بعد مشاركة اللاز الفاعلة والباسلة في صد الاجتياح الروسي لمنطقتهم في باتوم -اليوم جزء من جورجيا- أعوام (1828م) و(1853م) و(1877م) ألجؤوا بعد منح معاهدة برلين الروس مناطق باتوم وقارص وأردخان إلى الهجرة الجماعية، وتعد هجرتهم هجرة شعب كامل تقريباً، مستقرين أخيراً باختيارهم في منطقة البحر الأسود بسبب شبهها بموطنهم الأصلي لازستان وقربها منه، وبحلول عام 1882م استقر بعد النزوح نحو 40 ألف لازي في الإمبراطورية العثمانية.
–شرقي الأناضول أعوام 1878-1914م: كان من آثار الحرب الروسية التركية عامي 1877-1878م تعميق الانقسام بين المسلمين والأرمن في شرق الأناضول؛ بسبب مشاركة الأرمن للروس في مقاتلة الأتراك ابتغاء تحقيق أهدافهم في الانفصال عنهم، وكانت قوة الإمبراطورية الروسية كما جسدتها هزيمة العثمانيين في الحرب دافعاً آخر لانفصالية الأرمن.
وبحلول عام 1879م كان من الواضح أن هناك تنام في المشاعر القومية الأرمينية، وقد أتاح النظام العثماني التقليدي -الذي يسمح بإدارة شؤونهم- للأرمن تنمية هذه المشاعر المناهضة للعثمانيين، وكان من نتائجها التمردات التي شهدتها أعوام 1894م في صاسون، و1895م في زيتون ومرعش واستغل الأرمن إسقاط جمعية الاتحاد والترقي للسلطان عبدالحميد ليحدثوا تمرداً في أدنة عام 1909م، وكانت محصلة هذه التمردات كلها آلاف القتلى من الطرفين.
خامساً: حروب البلقان:
عند دراسة خسائر المسلمين في حروب البلقان يجب أولاً إدراك أنهم كانوا أكثرية سكانية في البلقان العثمانية قبل اندلاع الحرب، ومع أن السكان كانوا مختلطين عرقياً ودينياً، إلا أن المسلمين كانوا يشكلون أكبر جماعة دينية منفردة، بل شكل المسلمون أكثرية مطلقة في ثلاثة أقاليم، وهي أدرنة وشقودرة وكوسوفو.
وبالحساب المئوي شكل المسلمون النسبة الأكثر في سكان أوربا العثمانية في عام 1911م، وبهذا كانت نسبتهم أكبر من نسبتهم قبل عام 1877م في المنطقة نفسها، وقد ساهمت في ذلك عمليات الاستبدال السكاني التي أقدم عليها العثمانيون والبلغار والصرب وغيرهم.
ولكن هذه النسب كانت محل نظر من قبل الروس والبلغار والصرب واليونان، فقصدوا تفكيك القسم الأوربي من الدولة العثمانية، ورأوا أن حسم هذه المسألة لا يكون إلا بقوة السلاح، لكن لا يتحقق التقسيم إلا بعد طرد العثمانيين منها، فكانت حرب البلقان عام 1912-1913م بين الدولة العثمانية من جهة واليونان وبلغاريا والجبل الأسود من جهة أخرى، وكان أبرز ما شهدته هذه الحرب هو الهزيمة السريعة التي لقيها العثمانيون، وسبب ذلك تفوق العدو في العدد والعدة، فضلاً عن حرب العثمانيين المستمرة في ليبيا مع الإيطاليين.
لقد كانت حروب البلقان في تأثيرها على المسلمين مشابهة لقسيمتها الحرب الروسية التركية، من حيث مجرياتهما من قتل ونهب واغتصاب وفرار وتهجير، وكانت الحصيلة النهائية نقصاً كبيراً في عدد السكان المسلمين
لقد كانت حروب البلقان في تأثيرها على المسلمين مشابهة لقسيمتها الحرب الروسية التركية، من حيث مجرياتهما من قتل ونهب واغتصاب وفرار وتهجير، وكانت الحصيلة النهائية نقصاً كبيراً في عدد السكان المسلمين، ولكن الفارق بين الحربين، أن الحرب الروسية التركية كانت تقودها جهة واحدة وهي وهي الروس، أما حروب البلقان فكانت تقودها جهات متعددة وهي اليونان وصربيا والجبل الأسود وبلغاريا، هذا فضلاً عن كون الوفيات في هذه الحرب كان أعلى من معدل الوفيات في الحرب الروسية التركية عامي 1877-1878م.
كان طليعة المحاربين في حروب البلقان مجموعات الكوميتاجي، وهي عصابات قومية كانت تقاتل في مقدونيا العثمانية منذ أمد بعيد، وكانت أخطر هذه العصابات وأكثرها عدداً الكوميتاجي البلغارية، ثم الصربية، وتمثلت هذه العصابات مهاجمة القرى والمدن وفرض هيمنتها العرقية خلف الخطوط، ولقد شارك الحلفاء النصارى جميعهم في أعمال قتل واسعة النطاق لمسلمي القرى:
مثلاً:
*في منطقة عورة حصار ودويران نفذ البلغار مذابح واسعة.
*قتلت القوات الصربية أكثر من ألفي مسلم في منطقة الجمعة ودبرة.
*قتل نحو خمسة آلاف مسلم ألباني بين قومانوة وأسكوب، وخمسة آلاف في منطقة برشتينا.
*قُتل أتراك مسلمون بأعداد كبيرة في منطقة تراقيا قدرت بأكثر من مائتي ألف.
عانت مدينة أدرنة حصاراً وقصفاً بلغارياً عنيفاً، وقد شكلت المجاعة الخطر الأكبر على المواطنين، وزاد من المعاناة وصول عشرين ألف لاجئ إليها، وهذه العوامل كلها أفضت إلى سقوط المدينة بيد البلغار في 26 آذار عام 1913م، استبيحت المدينة بأجمعها، وقد رافق النهب اغتصاب وقتل، وقد وقع في أيدي الغزاة ما بين 40-50 ألف أسير، وعوملوا معاملة وحشية بحيث لم يتبق منهم على قيد الحياة إلا نصف الأسرى تقريباً. وفي قوالة قدر العثمانيون أن ما يقرب من سبعة آلاف لاجئ مسلم قتلوا، فضلاً عن القتل والتهجير في مدينة إسترومجة وسريس وددة أغاج.
وقد كان الهدف الواضح للذين قتلوا المسلمين وأجبروهم على الهجرة الجماعية نزع الطابع التركي عن البلقان مدفوعين بأفكار قومية مستوعبة جزئية من ناحية، وبالرغبة في الاستيلاء على أراضي المسلمين وممتلكاتهم من ناحية أخرى.
مع نهاية عام 1913م ومن خلال عملية موت ونزوح قسري، بات المسلمون أقلية في كل أنحاء البلقان، ولكن كان المسلمون قبل اندلاع حروب البلقان أكثرية مطلقة في المناطق التي جرى الاستيلاء عليها.
من أصل (2.315.293) مسلماً عاشوا في المناطق التي انتزعت من الامبراطورية العثمانية في أوربا (باستثناء ألبانيا) اختفى (1.445.179) مسلماً، أي 62% منهم، من هؤلاء كان (413.922) مهاجراً إلى تركيا في أثناء وبعد حروب البلقان (1920-1912م)، وجاء (398.849) مسلماً إلى تركيا بين عامي (1921م) و(1926م) أكثرهم جزء من التبادل السكاني اليوناني-التركي، عاش (812.771) مسلماً من أوربا العثمانية لاجئين، ولقي البقية (632.408) حتفهم، كان مقدار السكان المسلمين لأوربا العثمانية المستولى عليها الذين لقوا حتفهم (27%).
سادساً: الحرب النهائية في الشرق:
وصل الصراع بين المسلمين والأرمن في الشرق العثماني الذي كان يتطور على مدى مائة عام إلى ذروته في الحرب العالمية الأولى، كانت هناك حربان قائمتان في الشرق في آن واحد: حرب بين الجيوش العثمانية والروسية، وحرب بين الطوائف الأرمنية والمسلمة شرقي الأناضول وجنوبي القوقاز.
وبلغة الخسائر المدنية والعسكرية كانت الحروب التي جرت في الشرق بين عامي 1914م و1920م من أسوأ الحروب في تاريخ البشرية حتى تلكم اللحظة، فقد أدى الضعف العثماني والاستعمار الروسي والتطفل الأوربي والعصبية الثورية الأرمينية إلى تدمير شامل، باتت بعد الحروب مدن: وان وبتليس وبايزيد وأرزنجان أكواماً من الحجارة، ودمرت آلاف القرى، وقتل ملايين على الجانبين.
كان اندلاع الحرب العالمية الأولى إيذاناً بالمرحلة الأخيرة للحرب بين الطوائف التي بدأت في عشرينات القرن التاسع عشر، انخرط الأرمن والمسلمون في أعمال وحشية في القوقاز وشرقي الأناضول مائة عام، لكن عمليات القتل التي جرت في الحرب العالمية الأولى كانت مختلفة كماً ونوعاً، إذ تركزت هجمات الأرمن على مسلمي الشرق في أثناء الحرب العالمية الأولى قاصدة القتل بدلاً من الدفع إلى الفرار.
*وان: اندلعت ثورة في إقليم وان في آذار عام 1915م، وقدر الأرمن الثائرون أربعة آلاف مقاتل، وبمساعدة الجيش الروسي دمرت قرى: زفة – وملا قسيم – وشيخ قرة – وشيخ عينة – وزورياد باكس – وخضر – وعمق – وآيانس – وورندز – وحرويل – ودير – وزيوانا – وقرقر، وقرى كثيرة أخرى لم تحدد بالاسم.
وأبيد مسلمو وان على نحو كبير، ودمر كل شيء إسلامي باستثناء ثلاثة مبان أثرية، إذ جرى إحراق أو هدم جميع المساجد، ولم يكتف الأرمن بذلك بل هاجموا الفارين وقتلوا منهم نحو أربعمائة، وكانت جميع روايات القرويين المسلمين متشابهة تقريباً حين هاجم الأرمن قرى المسلمين أنفسهم أو القرى المجاورة.
*بتليس: ثار الأرمن في بتليس ضد العثمانيين في شباط من عام 1916م مباشرة قبل الزحف الروسي إلى المدينة، بدأت المجازر ضد المسلمين منذ ذلك الوقت وتواصلت حتى الاحتلال الروسي الأول، وفي المدينة نفسها طورد الرجال والنساء والأطفال المسلمون وقتلوا في الشوارع، دمر رجال العصابات الأرمن الذين يعملون خلف الخطوط العثمانية القرى وقتلوا سكانها، وقد دمر كل شيء ذي أهمية دينية أو مدنية أو عسكرية مع أكثر بيوت المسلمين الخاصة.
*أرزنجان: بدأت الأحداث في أرزنجان في أواخر كانون الثاني عام 1918م، كان الجنود الأرمن الذين يسيطرون على أرزنجان أعضاء في الجيش الروسي، وخلال عشرة أيام قبل دخول القوات العثمانية حدث قتل وتدمير وتخريب، فقد عثر الجنود على (312) جثة غير مدفونة، و(606) جثة مدفونة في الآبار والخنادق، ولم يعرف مصير (650) مسلماً أخذوا من المدينة بزعم تشغيلهم في إنشاء الطرق، وقدرت البيوت المدمرة بأكثر من ألف.
*بايبورد: وجرى فيها ما جرى في أرزنجان، إذ قتل الأرمن (250) مسلماً، وأحرق نحو (400) مبنى في المدينة، كما عثر على مائتي جثة مدفونة على عجل أو ملقاة في الشوارع، وقدر القتلى بالإجمال بأكثر من 600 مسلماً.
*ترجان: دمر الأرمن المنسحبون مدينة ترجان كاملة، حيث نسفت مبانيها بالديناميت، وتركت مليئة بالجثث المسلمين، وعثرت القوات العثمانية على (700) جثة طفل في تلك الخرائب.
*أرضروم: مجزرة أرضروم بدأت في 10 شباط عام 1918م، جرى اقتحام البيوت ونهبها وإحراقها وقتل الآلاف، وقدر السلطات العثمانية مقتل (8000) مسلم في المدينة وحولها، ووصفت المدينة بأنها مدينة خرائب.
عدد وفيات المسلمين في الشرق:
لم يقم أحد بإحصاء عدد قتلى الحروب في القوقاز وشرقي الأناضول، ولتقدير عددهم لا يستطيع المرء إلا أن يدرج الفوارق بين عدد سكان الشرق قبل الحروب وبعدها:
سابعاً: الحرب الأخيرة في الغرب:
كانت الحرب بين الأتراك واليونانيين (الحرب الأناضولية وحرب الاستقلال التركية) أعوام 1919-1922 ذروة عملية التخلص من الأتراك التي بدأها اليونانيون في حرب استقلالهم، وكانت نية الجيش اليوناني في الأناضول مماثلة لنية حلفاء البلقان في عام 1912م، وهي إحداث أرض نصرانية.
لهذا الغرض كان يجب طرد المسلمين في أكبر أهدافهم، وهذه مهمة عسيرة أن تقوم بطرد أعداد كبيرة من الأتراك الذين عاشوا في غربي الأناضول، ففي حروب البلقان استولى اليونانيون على أراضي كان عدد سكانها قبل الحرب 750 ألف مسلم، بينما كان عدد سكان غربي الأناضول قبل الحرب أربعة ملايين مسلم تقريباً:
نتائج الحرب وآثارها المدمرة:
أولاً: سرقة وتدمير ممتلكات المسلمين:
أ.سرقة الحيوانات: تدل الإحصائيات النهائية على فظائع أصابت الفلاحين في أكثر من اثنتي عشرة مدينة من الأراضي التي احتلها اليونانيون، حيث سرق أكثر من ثلاثة ملايين رأس من الحيوانات سواء كانت منتجة أو عاملة:
عدد الحيوانات المفقودة في الأراضي المحتلة
جياد | حمير وبغال | أبقار | جواميس | جمال | ماعز | غنم | |
إزمير | 40.774 | 13.962 | 24.105 | 32.971 | 5464 | 192.739 | 156.031 |
صاروخان | 24.502 | 13.170 | 12.997 | 20.254 | 1988 | 44.034 | 86.137 |
آيدين | 7126 | 4830 | 7543 | 11.115 | 30 | 25.471 | 29.581 |
دكزلي | 1832 | 3314 | 3061 | 1759 | 38 | 34.321 | 28.249 |
بروسة | 3730 | 630 | 38.820 | 29.058 | – | 1251 | 39.916 |
أرتورول | 504 | 258 | 36.364 | 27.181 | – | 403 | 29.640 |
إزميد | 5702 | 2790 | 28.437 | 34.113 | – | 12.100 | 161.109 |
أسكيشهر | 28.202 | 15.796 | 82.347 | 34.374 | 748 | 297.614 | 1.120.009 |
قرقسي | 4862 | 1122 | 4281 | 6973 | 164 | 6066 | 40.203 |
أفيون | 528 | 954 | 1860 | 2859 | – | 4164 | 28.260 |
كوتاهية | 13.222 | 2850 | 17.500 | 18.618 | – | 99.922 | 33.752 |
إقليم هيمنة | 3086 | 3710 | 7665 | 8955 | 72 | 103.254 | 17.370 |
المجموع | 134.040 | 63.926 | 264,980 | 228.320 | 8504 | 821.339 | 1.770.316 |
ب.سرقة القوات اليونانية ممتلكات وأموال الحكومة العثمانية والمسؤولين: فقد صودرت في إزمير وبورصا وباندرمة وأدرميد وقره سي وغيرها الموارد المالية الحكومية، وحتى كل مخزون الطوابع البريدية، ففي إزمير فقدت الحكومة العثمانية وفقاً لحساباتها أكثر من سبعة عشر مليوناً من قروش الذهب والفضة والأوراق النقدية، وأكثر من ذلك في الممتلكات الشخصية المنقولة.
ج.تدمير المباني في المدن المحتلة: أصاب الدمار كثيراً من المباني في أكثر من ست وعشرين مدينة تركية، وقدرت المباني التي أصابها الدمار سواء كان دماراً كلياً أو جزئياً: 54,305 آلاف:
المباني التي دمرت في مدن غربي الأناضول
المدن | المباني المدمرة | المباني القائمة قبل الحرب |
مانيسا | 13.633 | 14.773 |
الأشهر | 4350 | 4500 |
صالحلو | 2000 | 2200 |
قصبة | 6126 | 6326 |
كمدنس | 431 | دمرت كلياً |
آيدين | 6243 | دمرت كلياً |
نازللي | 2121 | دمرت كلياً |
سنخي | 1731 | دمر أكثرها |
ميخاليججق | 1965 | دمرت كلياً |
بازو | 408 | دمرت كلياً |
بلجك | 2245 | دمرت كلياً |
سكود | 948 | دمرت كلياً |
ينيشهر | 1187 | دمر نصفها |
بوزويك | 748 | دمرت كلياً |
بازارجق | 644 | دمرت كلياً |
إزنيق | 615 | 648 |
قرة مرسل | 830 | 847 |
يالوة | 232 | 286 |
أسكيشهر | 1867 | دمرت جزئياً |
ميخاليج | 905 | دمرت كلياً |
سوشاك | 1971 | دمر أكثرها |
كدوس | 694 | دمرت كلياً |
جوريل | 405 | دمرت كلياً |
أشمة | 307 | دمرت كلياً |
باندرمة | 1305 | دمر أكثرها |
أفيون | 394 | دمرت جزئياً |
المجموع | 54.305 |
د.اللاجئون المسلمون: لا يمكن معرفة أعداد اللاجئين من الاجتياح اليوناني بدقة، مع أن الانهيار الفعلي للحكومة العثمانية أوقف الوكالة الوحيدة التي ساعدت اللاجئين المسلمين بفعالية، وأحصتهم وكالة اللاجئين العثمانية، ومن بين جميع التقديرات لعدد اللاجئين المسلمين تبدو الأرقام التي قدمت في مؤتمر لوزان للسلام من قبل الوفد التركي الأكثر دقة، حيث قدر ما يقرب من مليون ونصف مليون تركي أناضولي أبعدوا أو ماتوا في منطقة الاحتلال اليوناني.
وبمراجعة هذا الرقم بموجب الوقائع، ونظراً إلى أن نحو 640 ألف مسلم ماتوا في منطقة الاحتلال في أثناء الحرب، يمكن أن يقدر أن نحو 860 ألفاً كانوا لاجئين ناجين من الحرب، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن أكثر الذين ماتوا كانوا لاجئين أيضاً، فإذا قدر المرء أن نصف المسلمين الذين ماتوا كانوا لاجئين، فإن القول بأن مليوناً ومائتي ألف لاجئ مسلم أناضولي فروا من اليونانيين، وأن ثلث هؤلاء لقوا حتفهم يكون أقرب إلى الدقة.
ه.وفيات المسلمين: بسبب النزوح بعد الحرب يكون من الصعوبة جعل التقدير دقيقاً لعدد المسلمين الذين ماتوا أثناء الحرب العالمية الأولى والحرب الأناضولية، والطريقة الوحيدة لإحصاء الوفيات هي طرح عدد السكان بعد الحرب من عددهم قبل الحرب:
ويستنتج من ذلك كله أنه مع نهاية الحرب اليونانية التركية كان أكثر غربي الأناضول عبارة عن خرائب ومبان مدمرة وخسائر هائلة في الأفراد والأموال، وبلغة التاريخ الطويل لوفيات المسلمين والهجرة القسرية من غربي الدولة العثمانية كانت الحرب في غربي الأناضول كما تدل عليه نتائجها هي الذروة في ذلك.
هناك مجتمعات مسلمة في منطقة بحجم أوربا الغربية كاملة قلصت أو أبيدت، تقلصت مجتمعات البلقان التركية العظيمة إلى جزء من أعدادها السابقة التي ذكرت في بعض الجداول، وفي القوقاز طرد الجركس واللاز والأبخاز والأتراك وآخرون من الجماعات المسلمة، وتغيرت الأناضول كلياً، وهي المنطقة الوحيدة التي انتصر فيها الأتراك، وغربي الأناضول وشرقيها أقرب إلى الخرائب، لقد أنجزت إحدى أكبر مآسي التاريخ
ثامناً: نهاية أرض المسلمين:
لقد انتهى مكارثي في بحثه إلى جملة من النتائج، أهمها ما يأتي:
1.هناك مجتمعات مسلمة في منطقة بحجم أوربا الغربية كاملة قلصت أو أبيدت، تقلصت مجتمعات البلقان التركية العظيمة إلى جزء من أعدادها السابقة التي ذكرت في بعض الجداول، وفي القوقاز طرد الجركس واللاز والأبخاز والأتراك وآخرون من الجماعات المسلمة، وتغيرت الأناضول كلياً، وهي المنطقة الوحيدة التي انتصر فيها الأتراك، وغربي الأناضول وشرقيها أقرب إلى الخرائب، لقد أنجزت إحدى أكبر مآسي التاريخ.
2.أثرت وفيات وهجرة ملايين المسلمين في الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة العثمانية في أواخر أيامها وما أعقبها من حقب زمنية.
3.كان التجانس العرقي والديني في المناطق من صربيا إلى القوقاز ناجماً من طرد المسلمين من بلادهم.
4.كانت مسألة الشرق جزءاً من التاريخ الدبلوماسي الأوربي أجيالاً متعددة، لكن لم تذكر الخسائر في الأرواح التي صاحبت حل مسألة الشرق، وبشأن الأتراك والمسلمين الآخرين، كانت مسألة الشرق أكثر من خسارة أرض، وأكثر من إصابة الهيبة والمكانة الامبراطورية لرجل أوربا المريض بالأذى، كانت تمثل خسارة فادحة في الأرواح البشرية؛ نظراً إلى عدد الوفيات واللاجئين مقارنة بإجمالي عدد السكان، بحيث لم تتجشم أي دولة أوربية أخرى خسائر بهذا الحجم منذ حرب الثلاثين عاماً، وهذا يدل بظهور إلى أن هذه الخسائر التي أصابت الدولة العثمانية لم تتكبدها أوربا من قرون متعددة.
5.كان حجم التعتيم التاريخي كبيراً عند تعامل الأوربيين مع الشرق العثماني، إذ لا يذكر أكثر التاريخ إلا ترحيل العثمانيين للأرمن، وعند تجريده من سياقه التاريخي يبدو القرار العثماني بترحيل الأرمن غير منطقي ومدفوعاً بكراهية لأقلية على نحو رئيس، ولكن إذا تفحص المرء تاريخ الهجرة القسرية والوفيات التي قاسها الأتراك والمسلمون الآخرون، فإنه سيجد تعليل ترحيل الأرمن جزءاً من عملية تاريخية، إذ قصد الأتراك عند محاولتهم التمسك بمقدونيا وشرقي الأناضول حماية شعبهم مما لا يمكن أن يكون إلا نفياً أو قتلاً، وهذا الذي حدث بالفعل.
6.الأعداد التي سيقت حول الوفيات تعد تقديرات دنيا لوفيات المسلمين، إذ لم يجر تسجيل أو حتى تقدير كثير من القتلى المسلمين، ولم يجر إدراج الذين ماتوا من الجنود المسلمين والمدنيين ولم يكونوا في المناطق العسكرية جراء المجاعة التي سببتها الحرب والمرض ونحوهما.
وبعد:
كتب جستن مكارثي قارئاً للتاريخ ومحللاً لمجرياته: “الدرس واضح .. الصمت لا يعمل .. الأكاذيب التاريخية ما لم يتم محاربتها فسوف تخلد في نفسها وتترسخ”، وإنما يدون التاريخُ ذاكرةَ من يقول ويعمل وإن كان يسوق أكاذيب وأراجيف، وشهود الوقائع يقضون وتقضي الحقائق معهم، ويأتي خَلْفٌ يقتفي خُطى من امتلك ناصية التاريخ ودونه، فتموت معها تلكم الحقائق، ولئن كان التاريخ لا يزيد -كما قال ابن خلدون- عن كونه إخباراً، فإنه في حقيقته من حيث باطنه نظر وتحقيق، ولا تكون الأمة حرة وهي تجهل واقعها وتاريخها.
إن النسق الذي جرت عليه جرائم الإبادة الجماعية في تاريخ البشرية على الرغم من تجسيدها صورة واحدة، إلا أنها لم تكن على وتيرة واحدة وهدف واحد حال تعلقه بالمسلمين، ولو تأملنا بعض نماذج هذه الإبادات خارج السياق الإسلامي، لظهرت لنا أهداف وغايات تدور أغلبها حول الجانب المادي وغنائمه أو حول الاستيطان والإحلال.
ولكن في صورته الإسلامية يأخذ بعداً واحداً على مر العصور والأزمان، إنه البعد الديني الذي يسوغ لأصحابه الإبادة الجماعية للمسلمين تحت شعار: “احتلال أرض الغير واستبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة وتاريخ بتاريخ عمل مقدس أمر به الله”، ومن هنا كان من الأهمية بمكان إعادة قراءة تاريخ أمتنا وفقاً لما تمليه شواهده ووقائعه والنظر فيه والتحقيق بعيداً عن التعسف والتمحل في تفسير مجرياته، وضرورة تشكيل العقل المسلم في دائرة الوعي السنني، فإن مراعاة السنن بنوعيها الكوني والاجتماعي في قراءة التاريخ تبعث على تأسيس حالة وعي كلي بمساره، تمكن في ضوئه إحسان إدارة الحاضر ومآلاته.
إننا لا نملك من أدوات يمكن أن توظف لتحقيق ذلك سوى أداة ووظيفة البيان بالوقائع والشواهد بمختلف أنواعها وصورها، وما علينا إزاءها إلا أن نراكم في استثمارها بحوثاً ودراسات ونشر وثائق على شاكلة ما رُقم ونُوه به في سياق هذه المراجعة، ويكون ذلك كذلك بتوظيف الوسائل المتاحة من مقروء أو منظور أو مسموع، ولا شك أن من ضمانات النجاح استثمار الأقلام الحرة خارج السياق الإسلامي، التي يحرص أصحابها على إظهار الحقائق ودفع الأكاذيب ولو كانت على حساب بني جلدتهم، وما أكثرهم لو أن قومي يعلمون.
[1] محمد عدس، خرافة مذبحة الأرمن، موقع الإسلاميون: https://goo.gl/jwjQKN، 26/4/2015م.
[2] د.هاني السباعي، إبادة الأرمن على أيدي العثمانيين: الأكذوبة الكبرى، مركز المقريزي للدراسات التاريخية: https://goo.gl/VdyNQB، 19/10/2007م.
[3] معاذ السراج، الطرد والنفي: مصير ملايين العثمانيين 1821-1922، ترك برس: https://goo.gl/2hWpbx، 31/يناير/2018م.
[4] د.أحمد الشرقاوي، دور المفكرين في إسقاط الأنظمة: أرنولد توينبي نموذجاً، مجلة كلمة حق، مجلة ألكترونية، أغسطس، 2017م، العدد الأول، ص39.
[5] د.أحمد الشرقاوي، مذابح الأرمن ضد الأتراك في الوثائق العثمانية والروسية والأمريكية، القاهرة، دار البشير للثقافة والعلوم، ط1، 1437ه/2016م، ص13.
[6] المرجع السابق، ص14.