انتخابات مايو 2018 في العراق, وآفاق التغيير
مع ما قدْ أُصيبَ به العراقيونَ, من خيبةِ أملٍ في فشل محاولات الإصلاح, أو في أقلِّ تقديرٍ “وقف التدهور”, الذي يشهده عراقُ ما بعدَ الاحتلال سنة 2003, من جهةٍ, وإجراء الانتخاباتِ الأخيرةِ, في أجواءٍ ضبابيَّةٍ, تُعزى لتدَنِّي مستوى المشاركةِ في الانتخاب, نتيجةَ التهجيرِ, الذي كانتْ قدْ عانتْ منهُ ستُّ محافظاتٍ, ذاتِ غالبيَّةٍ مذهبيَّةٍ, وما تعانيهِ من آثارِ تهجيرهَا عَقِبَ عودتها, التي لمْ يصاحبْهَا الاستقرارُ, ولا حتَّى التقاط الأنفاس, ومن ثمَّ الاستعداد للمشاركة في الانتخابات, وتجهيز لوازمها من تحديث”بيانات الناخب”, ضمن “سجلَّاتِ الناخبين”, وما رافق عملَ المفوَّضيَّةِ, وفروعِها من صعوباتٍ وتعثُّرٍ, في استخراج بطاقات الناخبين.
ومع رفضِ رغبةِ تأجيلِ الانتخابات, والتصدِّي لدعواتِها, بحجَجٍ لا تتجاوزُ رغبةَ الأحزابِ الفاعلة, في جني ثمراتِ مظاهر عدم الاستقرار, لزيادةِ ما تحصِدُهُ من الأصوات, على حسابِ ممثِّلي المناطق المهجَّرة؛ ومن تلكَ الأحزاب الكوردستانيةُ الكبرى, التي كانَ متوقَّعاً انخفاض تأييدها وعددِ أصواتها في الانتخابات لو أنَّها تأجَّلتْ, بسببِ تحمُّلها مسؤوليَّةَ فشلِ الاستفتاء على استقلالِ الإقليم, وعلى ما ترتَّبَ عليه من تبعاتٍ, تهدِّدُ مصالِحَ الكوردِ, وأوضاعَهم الاقتصاديَّةَ, وحتَّى مرتَّباتِ موظفيها الشريَّةِ, بل تمتدُّ آثارُها إلى تهديدِ وجود الإقليمِ.
بلغت نسبةُ المشاركةِ في الانتخابات الجارية في 12/5/2018, وفقَ إحصاءاتٍ صدرتْ عن جهاتٍ مؤّيِّدةٍ لإجرائها في موعدها, في إطار المفوضية العامة للانتخابات, تبلغ 45% في أعلى التقديرات, في حين شكَّكَ بها مراقبون, أكَّدوا أنَّها لم تبلغ 25%؛ بل اتُّهِمَتْ بالتزوير, والتلاعبِ بالأجهزة الإلكترونيةِ, وبنتائج الفرز والعدِّ؛ حتَّى صرنا على أعتابِ أزمةٍ دستوريَّةٍ تكادُ تعصفُ بمستقبل البلاد السياسيِّ.[1]
وقد حقَّقت فيها الكتل الأبرزُ نتاجَ, يمكن إدراجُ أبرزها في:
أولاً: كتلةُ سائرون, بزعامة الصدرِ, وهي ائتلافٌ بين الصدريين, والشيوعيين؛ فيما يعكسُ موقفهما من التغيير وضرورته, والدعوةِ إلى إقامةِ دولةٍ مدنيَّةٍ وطنيَّةٍ, لاتتأثَّرُ بإملاءات القوى الدولية ولا الإقليميةِ, ولا تستجيبُ للخطابات الطائفية في العراق؛ وتمثِّلُ التطلُّعات الشعبية, التي عانتْ من الفسادِ, وخرجت مرَّاتٍ ضدَّه في تظاهراتٍ واعتصاماتٍ؛ وقد حصلت على المركز الأول.
ثانياً: تليها في المركز الثاني كتلةُ “تحالف الفتح”, الذي يضمُّ قياداتٍ بارزةً في الحشدِ الشعبيِّ, المدعوم من إيران, بزعامة هادي العامري, وقيس الخزعلي قائد عصائب أهل الحقّ, مستثمرينَ دور الحشد الشعبيِّ, في “مقالتلة داعش”.
ثالثاً: وفي المركز الثالث تأتي كتلةُ “ائتلاف النصر”, بقيادةِ رئيس الوزراء حيدر العبادي, وضمَّت عناصرَ من حزب الدعوة, وشخصياتٍ بارزةً من أغلب المكوِّناتِ, ذات الانتماء الوطنيِّ العام؛ بما يحقِّق تجاوزَ الاعتبارات الطائفيةِ, ويسعى إلى ترسيخ ملامح الدولة المدنية, وحكم القانون, وقد تحقَّقت في فترة العبادي بوادرُ مقدَّرةٌ, هي وراءَ ما تحقَّقَ لكتلته من اصواتٍ في الانتخابات.
رابعاً: وتأتي كتلةُ دولة القانون, في المركز الرابع, بقيادة نوري المالكي رئيس الوزراء لفترتين, والذي تدعمه إيران, وفي عهده حصلت خروقات الإرهاب, لمحافظاتِ: الأنبار, والموصل, وصلاح الدين, وديالى, وكركوك؛ وتقترب هذه الكتلة مع الفتح, لما لهما من علاقات مميزةٍ بإيران, تصل مستوى التحالف.
خامساً: عقب تلك الكتل تأتي: كتلة الوطنية, بزعامة إياد علاوي, ومع أنَّها كتلةٌ عُرِفَتْ بوطنيتها, بعبورها الاعتبارات الطائفية, وبنزعة قياداتها المدنية, إلاَّ أنَّها أخفقت في نتائجها.
سادساً: تأتي بعدها كتلةُ تيار الحكمةِ بقيادة عمار الحكيم, الذي يميلُ إلى المرجعيةِ الشيعية العراقيةِ, مع ما كان له من علاقات بإيران, بحكم نشأته فيها, ولجوء أسرة آل الحكيم إليها منذ عقود, لكنّه أقرب إلى الائتلاف مع الصدر, لفتور علاقتهم بإيران سياسياً.
سابعاً:الكتلتان الكورديتان: الديمقراطي الكوردستاني, والاتحاد الوطني الكوردستاني, ثمَّ تحالف القرار العراقي, بقيادة أسامة النجيفي, وشخصياتٍ سياسيةٍ معروفةٍ, وبعض ممثلي المشروع العربي.
إلاَّ أنَّ نتائجَ الانتخابات حملَتْ بوادِرَ تغيير ملحوظ, ترصُدُهَا الجوانب الآتية:
الجانب الأوَّل: من الملفتِ للنظر: أنَّ الانتخابات قد سبقتها دعواتٌ للمقاطعة, بحجَّةِ كونها مفرَّغةً من إمكانيَّةِ إحداثٍ تغيير, أو إصلاح؛ لكنَّ الأهمَّ من ذلك, ما صرَّحت به المرجعيَّةُ الشيعيَّةُ في النجف الأشرف؛ والذي شكَّلَ إيذاناً بقبولها التغيير المأمول, من خلال التأكيد على:
- فشل التيارات الدينية في قيادة العراق, ولثلاث دوراتٍ سبقتْ, بتصريحها”أنَّ المُجَرَّبَ لا يُجَرَّبُ”, وهو بمثابَةِ سحبٍ لدعم المرجعيَّةِ, عن أيٍّ من تلكم التيارات والأحزاب, مع كونها تنتمي إلى ذات المذهب, ومن ناحيةٍ أخرى مثَّلت بادرة المرجعيَّةِ المعتبرة, استجابةً للمناشداتِ الشعبيَّةِ, من أداءِ دورها الشرعيِّ, في تعريةِ المفسدين.
- ومنه كذلك فتوى المرجعيَّةِ, بتغيير حُكْمِ الانتخابِ من كونِهِ “واجباً شرعيَّاً” يكرِّسُ الاستقلالَ للعراق, ويبعدَ عنه آثارَ احتلالِهِ, وخشيةَ أن يتعرَّضَ العراق لنكوصٍ, في حالِ تفلُّتِ زمام السلطة من التيارات المذهبيَّةِ؛ إلاَّ أنَّ المرجعيَّةَ قد أدركتْ أنَّها كانتْ تُستَغَلُّ من بعض الأحزابِ المذهبيَّةِ؛ التي لمْ تُعِرِ المرجعيَّةَ-وقد كانتْ الأحزابُ في السلطةٍ-آذاناً صاغيةً, بل توغَّلت في الفسادِ وسوء الإدارةِ, بما عرَّضَ العراق للخطر, فجعلتْ المرجعيَّةُ التصويتَ”حقّاً شخصيَّاً”, يخضعُ لميول الأفرادِ, وتقديرهم مصالحِهِم, ومدى معرفتهم بمنْ هو أصلحُ من المرشحينَ, بعدَ أن صارتْ المرجعيةُ في موضع اللوم, على دعم من أفسد وأساء من قبل وهو في سُدَّة الحكم.
- تأكيدُ المرجعيَّةِ أَنَّهَا قدْ شخَّصتْ, أَثَرَ التدخُّلات الإقليمية في العملية السياسية, من قبلُ, وفي ثلاث دورات متعاقبةٍ سبقَتْ, ما يعني انفكاكَ المرجعية العراقية في النجف الأشرف, عن توجُّهاتِ المرجعية الإيرانيةِ, التي تراعي الغايات الاستراتيجيَّةَ الإيرانيَّةَ تحديداً, وقبلَ أيِّ شيء آخر؛ في حين تراعي المرجعيَّةُ العراقيَّةُ في العراقِ, مصالِحَ الشعبِ العراقيِّ, ومقلِّديها فيه.
- وبالنتيجة أدَّى موقف مرجعيَّةِ النجف الأشرف إلى”عدم شرعنة أنموذج ولاية الفقيه”في العراقِ؛ فالمرجعيَّةُ بالنجفِ الأشرفِ, لا تنادي بحقِّها في قيادة العراق, ولا أن تكونَ قيادتُهُ متَّصلةً بالنظريَّةِ الإماميِّة ولا تطوُّرها في شيء, سوى الرعايةِ والتوجيه, والنصح والإرشاد, وفق بعض المراقبين؛[2]وهذا الأمرُ يفسِّرُ تَجَذُّرَ انحسارِ العلاقة بين: المرجعية في النجف, والمرجعية الإيرانية.
الجانب الثاني: اللافت للنظر كذلك: ما شهدته التكتلاتُ الانتخابية:
- فالتيارُ الصدريُّ, كوَّنَ كتلةً عابرةً للإسلام السياسيِّ؛ وما يحمله من الانتماءات الطائفيَّةِ, والعابرة للقوميَّةِ, بل عابرٌة حتَّى للمرجععيَّات الفكريَّةِ, والاعتقاديَّةِ؛ لهذا ائتلف في “كتلة سائرون”, التي ضمَّت التيار الصدري, ذي المرجعية الدينية, مع الشيوعيينَ, تحتَ خيمةِ المشاركة في تأييد التغيير, في الاعتصامات والتظاهرات التي شهدتها بغداد, ومدنٌ رئيسةٌ أخرى من قبل؛ وأنَّهما يسعيانِ جاهدين للتغيير, ولبناءِ الدولة المدنية, القادرةِ على الإصلاح, بعد مكافحة الفسادِ, ومحاسبة المفسدين.
- ومع أنَّ كتلة الفتح, وما تمثِّلُه من صبغةٍ دينيَّةٍ قتاليةٍ, بما قامت به من قبلُ في إطارِ الحشد الشعبي, وفاعليته في مكافحة الإرهاب, إلاَّ أنَّ موقعه القريب من إيران, أعطى فسحةً لكتلةِ النصر بقيادة حيدر العبادي, لتبوُّءِ المكانة الثالثة بفارق محدود؛ ما يعني أنَّ ثمَّةَ صدًى شعبيَّاً انتخابياً, مؤيِّداً للكتل التي ضمَّتْ أطيافاً متعدِّدةً, انخرطت في إطارٍ وطنيٍّ عابرٍ للطائفيَّةِ السياسيَّةِ, والقوميةِ؛ لما “لحكومةِ حيدر العباديّ” من تأييدٍ معتبرٍ, وتقديرٍ لمنجزاتها, مقارنةً بما سبقتها, من حكوماتٍ, يَجمعُهَا بالحكومة الأخيرة الانتماءُ إلى نفس الحزب ذي الصبغة الدينية.
الجانب الثالثُ: ومن الملفتِ للنظر: ما دفعَ بهِ هذا الأمر كلُّه, بتفصيلاته أعلاه؛ إلى ما شهدته الانتخبات-حسب ما ذكرهُ مراقبونَ كثيرون- وما تبعها:
- فلأول مرة توجد ثلاثُ كتل كبيرة عابرة للطائفية, هي: سائرون, النصر, الوطنية.
- لأول مرة تأتي الانتخابات بعد معركة وطنية ضد داعش, ضحَّت لأجلها جميع مكوِّناتُ الشعبِ بالدماءِ, وانتصرَ بها العراقُ كُلُّهُ.
- معركة الموصل كانت اختباراً-حسب مراقبين- للجميع, دفعت بالعراقيين, نحو بناءِ علاقاتٍ متوازنة مع إيران, والأمريكان, والسعودية, وتركيا؛ إذْ أعادَتْ الثقةَ بالقوَّات المسلَّحة, وبوطنيَّتِهَا, وكانَ لقياداتها أثرٌ بارزٌ في تحقيق النصر الاستراتيجيِّيِّ, والنصرِ الوطنيِّ معاً.
الجانب الرابع: وممّا أفرزَتْهُ نتائج انتخابات 2018, ولهُ دلالاتُهُ الملفتةُ, ما يُؤكِّدُ نموَّ الإرادةِ الحرَّةِ لدى كثيرٍ من الناخبين, حتَّى من جماهير الأحزاب الكبيرة والحاكمة, ويشيرُ إلى أنَّ التغييرَ ماضٍ, وسيكونُ أعمقَ مستقبلاً وأوضَحَ, وفقَ الملاحظ أدناه:
- خسارة عدد كبيرٍ من الرموز السياسية التقليديَّةِ, للرغبة الجماهيرية في التغيير, ولاسيَّما لمن ليست لهم قواعد جماهيرية, أو أحزاب تسندهم, أو ممن لم يكن أداؤهُ بمستوًى مقبولٍ.
- خسارة عددٍ من شيوخ العشائر وهي ذات أعداد كبيرةٍ, لما شهدته الترشيحاتِ من شخصيات, ذوي الكفاءات, وأعضاء مجالس المحافظات, وشخصيات عامة أخرى, أشعلتْ المنافسةَ, زيادةً على انحسار سطوة العشائر في أفرادها.
- خسارة أحزاب نافذة كانت تمسك بالسلطة؛ خابتْ بها آمالُ جماهيرها؛ فلمْ تتوقَّف معاناتُهم, جرَّاءَ تعاقبِ حكومات ما بعد الاحتلال الأمريكي؛ إن لمْ تكن قد تفاقمَتْ؛ ومنها كان تراجُع “كتلة دولة القانون”, التي تحمَّلت مسؤوليَّة الفشل في التصدِّي للهجمات الإرهابية على المحافظات, والفشل في الأداء الحكوميِّ, ووجود منافسين لها: كالفتح, والنصر, وقياداتهما من نفس المذهب.
- وتيارات أخرى خسرت ثُلُثَي تأييدِ الجماهير لها, قياساً بالانتخابات السابقة؛ بعدَ أن كانَ تأييدها مبنيَّاً على آمال الجماهير, في قدرتها على إِحداثِ التغيير,وإشاعةِ روح المواطنة؛ ممثَّلةً بالوطنية, بزعامة إياد علاوي, الذي انحسرتْ فاعليَّتُهُ في المشهد العراقيِّ, ولم يكد يظهر سوى في المواسم الانتخابية, وفق ما يراه مراقبون.
الجانبُ الخامسُ: المهمُّ: أن تكون فترةُ ما بعد الانتخابات, التي أجريتْ في مايو 2018:
- أنَّها فترةُ التوافق على ملامحِ مشروع الإصلاح القادم, وأن تكونَ خارطةُ الإصلاحِ, وبرامجُه في كلِّ وزارةٍ موصوفةً, ومتَّفقاً عليها من الكتل المؤتلفة مع”سائرون”, التي تحدِّدُ القضايا الأبرز, كالقضايا المتَّصلةِ ببناء علاقاتٍ متوازنةٍ مع الدول, وَصفَهَا “الصدرُ”, بموقفه المعلن, من كونِهِ:
أ. ضدَّ الخضوعِ للمحتلِّ, ويعني الأمريكانَ.
ب.ضدَّ الهيمنةِ, يعني بها تدخُّلاتِ إيرانَ.
- نادى مقتدى الصدر “بالحكومة الأبوية”, وتعني وفق فهمه الذي قدَّمه أمام وسائل الإعلام, وهو يلتقي بزعماء الكتل, التي ترغب بالائتلاف مع “سائرون” أن تُلَامِسَ الحكومةُ القادمةُ, همومَ الناسِ, وترعى حاجاتِهم, وتُحقِّقُ مصالحَهم؛ فيكونُ العراقيونَ أسرةً يرعاها الحاكمُ.
ولا تَقِفُ أهميَّةُ الانتخابات, ولاسيَّما نتائجِها, وما تُفرزه من تحديدِ شكلِ الحكومةِ القادمةِ, عند حدودِ العراق وحسب, بل تمتدُّ لتبلغَ قوًى إقليميةً, وأخرى دوليةً, ومِنْ أعلاها اهتماماً:
أولاً: الولايات المتحدةُ: بوصفها دولةَ احتلال العراق, وما دفعها لاحتلالِهِ, يجعلها معنيَّةً بمستقبله؛ لما له من أثرٍ بارزٍ في تحقيقِ مصالحها الاستراتيجية, بشكلٍ مباشر؛ وغير مباشرٍ كذلك؛ يبرِّرها الآتي:
- أنَّ العراق بلدٌ احتلَّته الولايات المتحدة, وهي لم تزل معنيَّةً كثيراً بواقِعِه, وبمستقبلِه, المَروسمِ بآثار احتلالِها لَهُ, وبإرادَتِهَا, ووفق رؤيتها؛ ويدلُّ على ذلك:
أ. تصريحاتُها السريعةُ, التي أعقبتْ الانتخاباتِ, التي نفتْ أن تكون الانتخابات مزوَّرةً, ودَفَعَتْ بالترويج لها, وبأنَّها حظيتْ بمشاركةٍ مقبولة.
ب.التقاءُ مبعوثها”مكغورت”علناً, بالكتل العراقيةِ ببغدادَ يوم 22/5/2018, وكوردستان, لترتيب أَمرِ ائتلاف الكتلة الأكبر, وتأهيلها لتشكيل حكومةٍ وطنيةٍ.
- أنَّ الولايات المتحدة حريصةٌ-في ظلٍّ تركيزهَا على جبايةِ أموال دول المنطقة الغنية-على ضمان تدفُّق النفط العراقيِّ, ومردوداته, ولا سيَّما في ظلِّ تصريحات”ترامب”, حولَ حقوق الولايات المتحدةِ بمشاركةِ العراقِ ثرواتِه, وفاءً بما قد بذلَتْهُ لأجل “تحريره”وفقَ رؤيتها.
- الأمريكانُ معنيُّونَ بالحفاظ على العلاقات الاستراتيجية المتينة بالعراق, بل وبزيادتها عمقاً, في ظلِّ قتال الإرهاب, وتأمين حدودِ إسرائيل, والحدِّ من ضغطِ إيران على السعودية, والبحرين, والإمارات؛ فكلُّها أطرافٌ يعنيها الضغط على إيران سياسياً, واستراتيجياً, واقتصادياً؛ ومنه الحدُّ من دعمها الحوثيين في اليمن, وقد فاقَت مخاطر فاعليتهم العسكريةَ ما يتوقَّعُ, مع إطلاق يد التحالف العربي, بقيادة السعودية في اليمن, وشرعنةِ تدخُّلها فيه, وقد طالتْ صواريخُ إيرانَ, التي تطلق من اليمنِ مطاراتِ ومدنَ السعوديةِ بكثافةٍ, غير مسبوقة.
ثانياً: إيران: التي تعاني من آثار انسحابِ الولايات المتحدة من الاتفاق النووي, وتعاني تضخُّماً مركَّباً, بما كان عليه حال الاقتصاد الإيراني من تدنِّي, لمشكلاته الداخلية, وانخفاظ أسعار البترول, وإمكانية نضوب نفطها, وأثر ما تموِّلُ به تدخُّلاتها في المنطقة, زيادةً على ما تسبَّبَ به الانسحاب الأمريكي من الاتفاق, والذي امتدَّت آثاره لشركاتٍ أوربية عديدةٍ, وكذلك الاقتصاد الإيراني بصورةٍ مباشرةٍ؛ كلُّ ذلكَ, وسياستها في التأثير على عواصم الدول, التي يمكن التأثيرُ فيها: عقائديَّاً, واستراتيجياً, تدفعُ بإيرانَ, إلى التشبُّثِ بذلكم التمدُّد, ليكونَ متنفَّساً لها حالَ ضرب حصارٍ أمريكيٍّ عليها, مع أنَّ هذا التَمدُّدَ كان من أسبابِ الانسحابِ الأمريكي من الاتفاق النووي, ومسوِّغُ تشديدِ الخناق عليها.
من هنا بدأت إيران, بالدفع قُدُمَاً بإسنادِ الكتل الانتخابية العراقية, التي لها معها علاقات تعاون, لتجعلهم في صدارة المعنيين بتشكيل الحكومة القادمة, بتحقيقِ الكتلةِ الأكبر, المؤهلةِ لقيادة عراق ما بعد 2018, الذي يحقِّقُ لإيرانَ:
- عمقاً استراتيجياً في حالِ تعرُّضها لضربات عسكرية أمريكيةٍ في أرضها, وإسرائيلية في سوريا.
- أن يكون العراق رئةً تتنفَّسُ من خلاله إيرانَ, ما يديمُ مقاومتها لأي حصارٍ محتمل.
- أن يكونَ العراقُ, سوقاً يُتيحُ لإيرانَ عمليةَ التبادل السلعي, وتمرير شحناتِ نفطها عبر العراق وباسمه, في ظلِّ عمليات تهريب, شهدها تاريخ البلدين, في أمدٍ غير بعيد.
وممَّا يؤكِّدُ هذا الأمر, دفع إيران بالكتلتين الكورديَّتين الكبيرتين, للائتلافِ, مع الكتل العراقية الشيعيةِ, التي توالي إيران, وأبرزها: كتلةُ الفتحِ بقيادة رئيسها هادي العامري, وكتلةِ دولة القانون, بقيادة نوري المالكي؛ فكوردستانَ قدْ اكتسبَ في ظلِّ انسحابِ الأمريكان من الاتفاق النووي, مكانةً مكينةً لدى إيران, ولنفس الأسبابِ, التي ميَّزت مكانةَ العراقَ في المستقبل, والمستقبل القريب لديها؛ فقد كانَ العراق, وكوردستانَ, وتركيا كذلك, متنفَّساً لإيرانَ, حالَ خضوعها للحصار الاقتصاديِّ, الذي سبقَ عقدَ الاتفاق النووي مع إيران؛ ولهذا تجدُ إيرانَ نفسهَا أمام ضرورة فتح قنوات التعاون مع الكتل الكوردية, ولاسيما التي تُمسك بالسلطةِ, الحزب الوطني الكوردستاني”البارتي”, والاتحاد الوطني الكوردستاني “اليكيتي”؛ لتكون كوردستانُ رئةً تتنفَّسُ عبرها إيرانُ, في حالِ تأزُّم علاقاتها بالأمريكان, أو أخفق الأوربيون في مساعيهم لإنقاذ الاتفاق النووي, والحدِّ من التصعيد الأمريكي إزاء إيران.
ثالثاً: دولُ الخليجِ العربيِّ: ومن أبرزها اهتماماً, السعوديَّةُ والكويتُ, بحكمِ الجوارِ, وما بينهما من علاقاتٍ ومصالحَ, وقضايا مشتركةٍ, لا يمكن بحالٍ إغفالُ اهتمامها بالانتخابات العراقية, وبما تفرزه من شكل الحكومة القادمة, وتبعيَّتُها وتفضيلاتُها, بشأن مستقبل العراق, وبشأن علاقاته الخارجية ودول الجوار, لاسيَّما العربيَّةَ منها؛ ومن بينِ أبرز مسوِّغات الاهتمام السعوديّ تحديداً والخليجي تعميماً, أنَّ السعوديَّةَ وجدتْ نفسها في مواجهة القوة الإيرانيةِ وتناميها, وامتداداتها خارجَ حدودها, التي تؤثِّرُ كلُّها على مصالح السعودية بدرجاتٍ متفاوتةِ الأهميَّةِ, يأتي العراق في مقدِّمتها بعدَ اليمن.
وقدْ بدا اهتمام دول الخليجِ, بإعادة دبلوماسييها إلى العراق, قبل غيرهم, ولاسيَّما السعوديَّةَ, التي أبدى دبلوماسيّوها نشاطاً ملحوظاً, اثارَ تساؤلاتٍ كثيرةً, من المرحبين بدورها في العراق, وما له من أثر في إعادته إلى الحاضنة العربيةِ, وقد أكَّد دستور العراق 2005 عليه, أو أنَّ تلكم النشاطات أَثارتْ حفيظةِ الراغبينَ في تقديم إيران في علاقات العراق الخارجية من بين دول الجوار, لما يراه من مواقفها ودورها في تحقيق استقراره, ولاسيما السياسي الداعمِ لأحزابٍ مذهبيةٍ بعينها.
وقد تكرَّرت زيارات السيد مقتدى الصدر, إلى السعودية والإمارات قبل الانتخابات, وإلى الكويت عقِبَها, وهو أمرٌ يظهرُ حرصَ دول الخليجِ, على أن تقفَ أمامَ الهيمنة الإيرانية في العراق, ولاسيَّما أنَّها قد وجدتْ-في تصريحاتِ مقتدى الصدر, ومواقفه السابقة,[3] وحتى في ائتلافاته, وجهودِه بشأن تشكيل الحكومة القادمة-صدىً لرغبتها بإعادة العراق إلى الحاضنة العربيةِ, بل وحاجتها لذلك؛ وأن تعملَ دول الخليجِ مع العراق, وفقَ ما تشتهيه الولايات المتحدة الأمريكية, بدعمها الرموز السياسيةَ لا على أساسٍ مذهبيٍّ, بل على أساسِ الانتماءِ العربي من جهةٍ, وما يعزِّزُ الروح الوطنيَّةَ العراقيَّةَ, وما يعينُ الصدرَ, وكلَّ من يأتي برنامجه الانتخابيٌّ بوصفه مقدمةً لمشروع ما بعد الانتخابات, في إطار البرلمان والحكومة, من جهةٍ أخرى.
أمَّا السيناريوهات المحتملة, فيمكن إجمالُ أبرزها, فيما يأتي:
- أن تمضي كتلةُ سائرون, قُدُماً في تشكيل الحكومة القادمة, وهو ما يحقق الإصلاحَ المنشودَ, ويمكن أن يكون متوازناً, فيكونُ أرجح السيناريوهات المذكورة, لأنَّهُ يحقِّقُ ما يأتي:
أ. رغبةَ التيارات الوطنية, وعلى رأسها “سائرون” في تنفيذ مشروع إصلاحيٍّ, يحمل برامج مكافحة الفسادِ, وتكريس البعد الوطني, بديلاً عن: العرقي, والطائفي, وحتَّى الحزبي.
ب.رغبةَ إيران في الإبقاء على حدٍّ مقبولٍ, من العلاقات الودِّيَّةِ, مع حكومة الإصلاح الوطنية-إذا كُتِبَ لها النجاحُ في مساعيها-مضافاً عليه ما لها من علاقات متينةٍ, بالكتل التي تدعمها إيران من قبل, ولها معها علاقات تعاون, أعني: كتلةَ “الفتح”, “وكتلةَ دولة القانون”, فحصيلةُ العلاقات الإيرانية بهما تلبِّي ما تطمح به إيران دون أن تستفزَّ الأمريكانَ, في تدخُّلها في توجيه بوصلةِ الائتلافات, ومن ثمة تشكيل الحكومة بشكلٍ سافرٍ مرفوض أمريكياً.
ت.تُحَقِّقُ رغبةَ الأمريكان, في إحداثِ تغييرٍ ملموسٍ, في تشكيل حكومة ما بعد انتخابات 2018, كونها تحدُّ من توجيه إيران المباشر, والأعلى تأثيراً, كما حصل في دعمها كتلةَ دولة القانون, ولم تكن يومها الكتلةَ الأكبر؛ ومن ناحيةٍ أخرى, فأيُّ خطوةٍ تحملُ معها تغييراً, نحو الديمقراطية, وإحداث التوافقِ الوطني, يسهِّلُ للأمريكان التأثيرَ في العملية السياسية, بما يحقِّقُ مصالحها الاستراتيجية والنفطية, ويحفظُ أمنَ حلفائِها, إسرائيل, والخليج كذلك.
- أن تَحْدُثَ تصدُّعاتٌ غيرُ محسوبةٍ, بتأثير إيرانيٍّ على الكتل, التي تحقِّقُ للكتلة الأكبرِ”سائرون”إمكانيةَ مضيِّها قُدماً في تشكيل الحكومة, واستمالتهم إلى الائتلاف المحتمل بين: كتلة الفتح, التي تحظى بثاني نسبة أصوات في الانتخابات, مع كتلة دولة القانون, التي جاءت رابعةً؛ يضافُ إليهما: كتلةُ الحزب الديمقراطي الكوردستاني, وكتلة الاتحاد الوطني الكوردستاني, زيادةً على ما يحقِّقُ الأغلبيةَ للائتلاف المحتمل, من القوى الصغيرة, التي تمثِّلً “حَجَرَ القبَّان”؛ إلاَّ أنَّ هذا الاحتمال-مع كونِه ممكنَ التحقيق,بلا صعوباتٍ كبيرةٍ تعترضُهُ- إلاَّ أنَّه أمامَ عَقَبَتينِ:
أ. عَقَبَةِ تجاوز الكتلة الأكبر, إذْ لا يَحِقُّ للكتلة الثانية حجماً الشروعُ بمهامِّ تشكيل الكتلةِ الأكبر, المؤهِّلة لتشكيل الحكومة, ما لمْ يتحقَّقْ إخفاقُ الكتلةِ الأكبرِ”سائرون”: في تشكيل الكتلة, المؤهَّلة لتشكيل الحكومة.
ب.وثمَّةَ عقبةٌ, تتَّصِلُ بضعفِ موقف إيران, في ظروفِ الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي, وانشغالها في شأن ترتيبات أوضاعها, لإنعاش الاتفاق النووي, ومحاولة الإبقاء على المصالح الغربية داخل إيران, لتكونَ صمَّام أمانٍ, من أيِّ ضربةٍ محتملةٍ أمريكية قادمةٍ, أو أن تكونَ بمثابةِ مؤشِّر, تَعرِفُ من خلالِهِ إيرانُ, ساعةَ الصفرِ, لما قد يكون من ضربها داخل أراضيها.
- وثمَّة احتمالٌ, يُرَجَّحُ وفقَهُ اشتراكُ أبرز الأحزاب, والكتلِ الممَثِّلَةِ لها, وشرطُ تكوينِهَا: “التوافُقُ على ما يدعمُ تكريسَ الروح الوطنيَّةِ؛ التي تُذَوِّبُ-إلى حدٍّ معقولٍ-الاعتبارات الطائفيَّةِ, وقبولِ مكافحةِ الفسادِ؛ والاتفاق على ما يضمنُ التوازُن في العلاقات الخارجية؛ وبهذا يكونُ من غيرِ الوارِدِ تكوينُ “حكومةِ أغلبيَّةٍ, تقابِلُهَا معارضةٌ برلمانية”؛ وهو ما تروِّجُ لهُ الكتلُ التي فقدَتْ تصدُّرَهَا.[4]
- السيناريو المحتمل, الذي يمكن وصفه بالأضعفِ, أن تستأثرَ الولايات المتحدة بالتأثير في تشيكل الكتلةِ الأكبر, بدعمها ”سائرون”, وتحديداً إذا سبقت ذلك محاولةٌ إيرانيةٌ, لقلب الموازين, ووضع العثرات أمام “كتلة سائرون”, ومحاولة ترجيح كفَّةِ الكتل الأقرب لإيران.
فلدى إيران ما يكفيها من محاولاتها الضغط على الأوربيين بما يحدُّ من وطأةِ الانسحاب الأمريكيِّ من الاتفاق النوويِّ,من جهة؛ وما يقنعُ الأمريكانَ بعدمِ الذهابِ بعيداً في تضييق الخناقِ على إيرانَ,من جهةٍ أخرى, وكلاهُما يُحَتِّمُ على إيرانَ تقديمَ مزيدٍ من التنازلاتِ, وقد فعلتْ-كما يلوحُ في الأفقِ, ممَّا يطبَخُ في أوربَّا بشأن إنقاذ الاتفاق النووي, وما يرتبطُ بهِ, وما يؤثِّرُ عليه-ومن آثار ذلكَ, انسحاب قوات “حزب الله” إلى مشارف الحدود السورية اللبنانية, واستبدال قواتِ إيرانَ والفصائلَ الشيعيَّةِ العراقيةِ والأفغانيةِ والباكستانيةِ, التي تسير وفق إرادتها هي, ولاسيما المناطق القريبة من الجولان وحدود إسرائيل بقوَّاتِ النظامِ السوريِّ-وما يَلوحُ من وجودِ قبولٍ إيرانيٍّ على وقفِ دعمها للحوثيين, وانسحابهم من الحديدةِ ومن تعز, وسواهما, وفق ترجيحات ورقتنا وبعض المراقبين؛ يؤكِّدُ ذلك كلُّهُ عدم قدرة إيران, على المجازفة في قلب الموازين في الانتخابات العراقية, ما يجعل هذا السيناريو ضعيفاً.
وعندَ إقدام إيرانَ على ذلك, ستُجابُهُ بالدور السعودي-مع ضعفه-قياساً بتأثيرات القوى الأخرى, إلاَّ أنَّه يتقوَّى بكونه مدفوعاً بإرادةٍ أمريكيةٍ, ومشفوعاً بتدخُّلٍ أمريكيٍّ مباشرٍ؛ قد يتبعُهُ بناء علاقات إستراتيجية متقدِّمة مع عراق ما بعد انتخابات مايو 2018؛ تتيحُ للولايات المتحدة, أدواتٍ إستراتيجيةٍ, تضيِّقُ الخناقَ على إيرانَ؛ فيكونُ العراقُ عند ذاك, ضدَّ ما تشتهيه إيرانُ, وجنرالاتُهَا المعنيُّونَ بمتابعَةِ شؤونها الخارجيَّةِ: السياسيَّةِ, والاستراتيجيَّةِ.