قراءة فاحصة في مقترحات تقنين المساواة في الميراث في تونس
أثار تقرير (لجنة الحريات الفردية والمساواة) الذي وافق مجلس الوزراء التونسي في نوفمبر ٢٠١٨ على عرضه على البرلمان، أثار جدلاً واسعاً، تخطى المشهد التونسي إلى أرجاء العالم الإسلامي. والتقرير يقدم مقترحات بقوانين تشمل المساواة في الميراث بين الذكر والأنثى في جميع الحالات، وعدم تجريم اللواط والشذوذ الجنسي، وإلغاء عدة المرأة المطلقة والمتوفى عنها زوجها، ومواد أخرى تتعلق بأحكام الولاية والحضانة وصداق المرأة وغيرها. ولقد أحدث التقرير حالة من الاستقطاب الشديد، إذ تعالت فيه أصوات يغلب عليها التشنج والمكايدة السياسية، أو الجهل الصارخ بالشريعة الإسلامية.
وفي هذا السياق نقدم هنا هذه القراءة الفاحصة لهذا التقرير، من خلال جوانبه الشرعية والفكرية والسياسية.
مدخل
لكل إنسان الحق في التفكير الحر وأن يبحث عن الحق والصواب. هذا الحق كفله الإسلام، ورفعه من مرتبة الحق إلى مرتبة الواجب، وجعله فريضة دينية كما هو ضرورة عقلية، وتوجه بشرعه لأولي الألباب وأولي النُهى (أي العقول) وأولي الأبصار وأثنى القرآن دائما على الذين يتفكرون ويعقلون ويتدبرون، بل إن القرآن خاطب المعاندين من المشركين فقال لهم:
﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾[سبأ: آية 46]، فحتى مع هؤلاء المتكبرين المعاندين وجههم وأرشدهم إلى طريقة عملية يتخلصون بها من لججهم وعنادهم وعدم الإنصاف في حوارهم، فنصحهم بألا تأخذهم العزة بالإثم بحيث تثنيهم الجماهير من أتباعهم عن قبول الحق المعروض عليهم، حرجاً من سقوط هيبتهم أمامهم، فدلهم على أن يتدبروا مسائل الخلاف (مثنى وفرادى) لأن الإنسان إذا خلا بنفسه عند التأمل لم يقبل لها إلا ما يصلحها وينفعها، وكذلك إذا كان معه صاحب مقرب له فإن كلاً منهما لن يغش الآخر أو يحابيه على حساب الحق. وقوله لهم (ثم تتفكروا) فيه (ثم) للتراخي والتمهل والتأني في تقليب المسألة المعروضة، والتفكر: تكلف الفكر وهو العلم.
وبطبيعة الحال فإن التفكير الحر سيثير مسائل ويعرض شبهات، ولا سبيل للتوافق عليها إلا بالحوار، وخاصة في أمور الدين، إذ لا معنى لدين بغير اقتناع، فالدين لا يكون بالعصا ولا يكون قهراً أو قسراً. وما أحوج أمتنا العربية الآن وهي تعاني من ويلات التخلف والتراجع والتقسيم من أن تؤكد على أن الإقناع والاقتناع لا يكون إلا بحوار، وأن أبناء أمتنا – شاؤوا أم أبوا – في سفينة واحدة إما أن ينجوا فيها جميعاً أو يهلكوا جميعاً.
وحتى ينجح أي حوار فلا بد من استيفاء شروطه، وهي عديدة منها: تحرير محل النزاع (= تحديد نقطة – أو نقاط – الخلاف)، حتى لا يكون الحوار عشوائياً أو عدوانياً. ومنها حسن الاستماع للطرف الآخر، والإصغاء لما يقدمه، وليس مجرد الانتظار من دوره في الكلام لأبدأ، وقد روي أن الوليد بن المغيرة جاء يحاور النبي صلى الله عليه وسلم في أصل الدين وصدقه فيما يبلغ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (قل يا أبا الوليد أسمع) ولم يقاطعه حتى انتهى تماماً من كلامه، وتأكد من هذا نبينا صلى الله عليه وسلم فقال له (أو قد فرغت يا أبا الوليد؟) فلما رد بالإيجاب بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عليه ما عنده وقرأ عليه فواتح سورة فصلت.
كما أن من شروط الحوار اللازمة عدم التكبر في قبول الحق من الخصم إذا ظهرت دلائله وبراهينه، فإن من علامات الكبر بطر الحق، أي رده ودفعه، وهذا عادة ما يكون بسبب التعصب الأعمى أو الاستخفاف بعقول الغير.
وعودة إلى تقنين المساواة بين الذكر والأنثى في الميراث في تونس الشقيقة وغيرها من المسائل التي تناولها تقرير (لجنة الحريات الفردية والمساواة)، فإن هنا عشر مسائل كلها مهمة:
مناقشة التقرير
المسألة الأولى: القوانين لا تصدر في تونس بمرسوم رئاسي من قائد السبسي وإنما من برلمان تونس، وهذا بالتأكيد لم يتم (على الأقل حتى الآن). إن بعض العناوين التي طيرتها الصحف ومنصات التواصل الاجتماعي توحي بأن هذا أصبح أمراً واقعاً وقانوناً نافذاً، وهذا غير صحيح. فالقصة أن الرئيس السبسي من صلاحياته تقديم مقترحات بقوانين للبرلمان التونسي، وقد أراد أن يقدم مقترحاً بقانون يغير به بعض مواد الأحوال الشخصية القائمة وليس فقط مسألة المساواة في الميراث، فشكل لذلك لجنة بنفسه سماها (لجنة الحريات الفردية والمساواة) وعهد إليها بتنفيذ رغبته التي أعلنها في أغسطس ٢٠١٧، فهرعت هذه اللجنة لتنفيذ ما طلب منها وانتهت منه في يونيو ٢٠١٨، حيث أصدرت تقريراً من ٢٣٣ صفحة (يتكون من جزأين إضافة إلى مقدمة عبارة عن مقاربة اجتماعية ودينية) يشرح خلفية ما عكفت عليه وما توصلت إليه. ووافق مجلس الوزراء في نوفمبر ٢٠١٨ على التقرير وسيقوم برفعه للبرلمان التونسي لمناقشته.
التقرير منشور على موقع اللجنة المذكورة[i]، ويمكن بسهولة ملاحظة التالي عليه:
- اللجنة التي أصدرت التقرير ليس لها أي صفة قانونية أو شرعية، وإنما هي لجنة شكلها السبسي لتساعده في صياغة رغباته التي أعلن عنها. اللجنة تتكون من تسعة أعضاء وهم:
- بشرى بلحاج حميدة – رئيسة اللجنة: محامية، عضوة بالبرلمان ورئيسة الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، وهي مؤسسة الفرع التونسي لمنظمة العفو الدولية.
- درة بوشوشة: منتجة ومخرجة أفلام. كانت بوشوشة مديرة مهرجان أيام قرطاج السينمائية في سنوات 2008 و 2010 و 2014. وفي نفس الوقت، ترأست في فرنسا بين عامي 2010 و 2013 لجان دعم الإنتاج السينمائي.
- عبد المجيد شرفى: أستاذ جامعي مختص في اللغة العربية وتاريخ الفكر الإسلامي وحائز على كرسي اليونسكو في الأديان المقارنة 1999-2003.
- سليم لغماني: أستاذ في جامعة قرطاج. يدرس القانون الدولي، وفلسفة القانون، وحقوق الإنسان والقانون الدستوري المقارن. في الفترة الممتدة بين 2001 و 2013، ترأس مختبر البحوث “قانون الاتحاد الأوروبي والمغرب العربي – العلاقات الأوروبية”.
- كريم بوزيتة: دكتور في علم الإنسان، جامعي وخبير دولي في الاستراتيجية مع الأمم المتحدة.
- صلاح الدين الجورشي: كاتب تونسي، متخصص في الحركات الأصولية والظواهر السياسية والدينية في العالم العربي المتوسطي. صحفي سابق، وناشط في مجال حقوق الإنسان. كان نائباً لرئيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، مؤسس منتدى الجاحظ في عام 1990، جمعية تعمل على الترويج لفكر عربي إسلامي مبتكر وتعزيز الهوية الوطنية.
- سلوى الحمروني: أستاذة في القانون العام في جامعة قرطاج وتدرس أيضاً في كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية في تونس. مستشارة في مجال حقوق الإنسان مع العديد من المنظمات الوطنية والدولية، بما في ذلك اليونسكو، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
- إقبال الغربي: حاصلة على درجة الدكتوراة في علم الإنسان، من جامعة رينيه ديكارت، باريس. رئيسة قسم الحضارة الإسلامية بالمعهد العالي للاهوت من 2008 الى 2011.
- مالك الغزواني: قاضي ونائب رئيس المحكمة الابتدائية بتونس.
- اللجنة ليس لها رصيد يذكر من العلم الشرعي لتتصدى لمهمة الاجتهاد – زعموا – في الأحكام الفقهية، بل إن المنشور من تصريحات وتاريخ أعضائها يكشف اعوجاجاً وانحرافاً كبيراً في فهم أصول الإسلام. الشخصية الوحيدة التي لها نصيب من العلم الشرعي هي الدكتور عبد المجيد شرفى، وله عدة مؤلفات يبرز فيها قناعاته بضرورة توفيق – أو تلفيق – الإسلام ليناسب الفكر الحداثي!
- من تصريحات الدكتور شرفي المنشورة:
- المساواة التي أتت بها الحداثة توجب السماح للمرأة بإمامة الرجال في الصلاة[ii].
- أنا لدي مشكلة أصلاً مع الحديث النبوي، وأتعامل فقط مع النص القرآني[iii].
- لابد من إعادة القراءة ليس فقط للأحكام الفقهية ولكن أيضاً للنص القرآني ككل، كل ما يتعلق بالنص القرآني يحتاج إلى إعادة النظر حسب المعرفة الحديثة. قصة موسى وفرعون وشق البحر مثلاً، كل البحوث التاريخية تثبت أن ذلك أسطورة. على المؤمن أن يتخلص من الكثير مما لم يعد صالحاً اليوم.
- إذا المسلم يرتاح لما استقر عليه عبر التاريخ كالصلاة مثلاً فهو حر، لكن إذا أراد أن يصلي بطريقة أخرى فهو حر أيضاً. الرابطة الروحية أهم من الرابطة الشكلية، الرابطة الشكلية أن يؤدي الصلاة مع مليار من البشر بالطريقة نفسها[iv].
- الوقوف على عرفات في الحج ليس ضرورياً أن يكون في اليوم نفسه، مئات الملايين لا يمكن أن تحتفظ بالطريقة نفسها.
- لو أخذنا حالة الدكتور شرفي وحده، لتصورنا بسهولة الحالة العلمية للتقرير الذي صدر، فإذا أضفنا إليه باقي أعضاء اللجنة، فيمكن القول باطمئنان إن التقرير هدمٌ لبعض ثوابت الشريعة، وجرأة وتهور على اقتحام حرماتها. ومع ذلك فمن الإنصاف مناقشة ما جاء في التقرير.
- فكرة “الحرية” تبدو مشوشة عند كتبة التقرير من بدايته، فيعلق التقرير على قول الله تعالى ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾[البقرة: آية 30]، فيقول “.. وذلك في سياق الرواية الدينية لبداية الخلق، والخليفة المقصود هو الإنسان الذي يعد وجوده تحمل مسئولية التصرف في الكون الذي سبقه في الخلق، وهو حر في هذا التصرف بما في ذلك إفساده أو إصلاحه!
- يصف التقرير “انتكاسة المجتمع الإسلامي الأول”، لأنه “تمت فيه التضحية بالفرد لصالح الجماعة والأمة والخلافة كمنظومة حكم”.
- يبين التقرير في ديباجته التمهيدية أن مسألة الميراث مسألة اجتماعية بحتة لا علاقة لها بالعقيدة، وأنها مجرد أسلوب توزيع للثروة داخل العائلة ومن الضروري أن يرتبط هذا بالظروف الاجتماعية والاقتصادية، وهذه تختلف بطبيعة الحال لكل عصر ولكل حقبة تاريخية، وإن العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي تمر بتونس اليوم ودخول المرأة لسوق العمل تدعم فكرة المساواة في الميراث، وهذا يقتضي الاجتهاد في تفسير الأحكام القرآنية في اتجاه صيغ أكثر ملاءمة مع الوضع الحالي للمرأة وإلا وقع عليها ظلم وحيف كبيران، وذلك لأن القانون التونسي يجبر النساء على المشاركة في تحمل أعباء أسرهن في حين أنهن معفيات من هذا الواجب في الفقه الإسلامي (التقرير ص ١٤). وهو كما ترى منطق مقلوب، فبدلاً من تغيير القانون الوضعي الظالم للمرأة التونسية، يسعون لتغيير الحكم الشرعي، أو تغييره بحيث يتكيف مع هذا الظلم والحيف الذي يشتكون منه!
- ثم يصرح التقرير أكثر بقناعات من ألفوه فيقول: (إن مسألة التمييز بين الذكر والأنثى في الميراث وآلية التعصيب هي في الحقيقة انعكاس للنظم الاجتماعية ولبنية القبائل السائدة في التجربة التاريخية)، فهم يرون أن أحكام القرآن – أو بعضها على الأقل- أحكام وقتية نزلت لبيئات معينة، وقد آن الأوان لمراجعتها، وهم بذلك لا يتوارون في المقولة التي تسود بين شرائح منهم (أي مقولة التفريق بين الشريعة والفقه، وأن الفقه كله اجتهادات قابلة للمراجعة) بل إنهم في حقيقة الأمر يتعدون الأمر للدين كله.
- وبرغم أن التقرير يدعي وجود أدلة “شرعية” على اختياراته، ويقول (إن الاجتهاد في هذه القضية يعتمد على قراءة تجديدية وتأصيلية في نفس الوقت وهو يعتمد على البراهين التالية:) فمهما قرأت التالي فلن تجد ثمة براهين، وإنما لف ودوران للتملص من الآيات القرآنية المحكمة التي حددت الأنصبة. والعجيب أن التقرير يقر في أكثر من موضع أن “منطق القسمة في الإسلام اعتمد اساساً على العدل لا على منطق تفضيل الرجولة على الأنوثة” (كما في ص ١٦)، إلا أنهم يعودون في كل مرة للعنوان الذي يلهثون خلفه وهو (المساواة المطلقة) بصرف النظر عن تحقيق العدل.
- ويبدو أن مؤلفي التقرير لم يجدوا كذلك تلك “البراهين” التي وعدوا بها، فتركوا هذه المداراة المخادعة التي لا طائل من ورائها، واستقروا في نهاية الأمر على الحجة الأساسية عندهم، وصاغوها (في ص ١٧٦) كالتالي:
“قواعد المواريث قواعد وضعية وضعها المشرع عند إصدار مجلة الأحوال الشخصية في ١٩٥٦ فهي بالتالي قواعد مدنية قابلة للتطوير بطبيعتها ويجب تطويرها لضمان انسجامها مع ما يقرره الدستور والمواثيق الدولية من ضرورة المساواة بين الجنسين.
إن الحجة الأساسية التي يُعارَض بها تطوير قواعد الميراث هي حجة دينية تقول إنها قواعد دينية، منها ما نزل بالقرآن ومنها ما ورد بالحديث، ومنها ما أجمع عليه فقهاء الدين. فهي بالتالي قواعد لا يمكن المساس بها ومخالفتها. لا يمكن لهذه الحجة أن تصلح في النظام القانوني التونسي لأنه نظام مدني وضعي وليس بنظام ديني. فقد أكد الفصل الأول من الدستور أن “تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة”، ومن أهم معاني الاستقلال والسيادة قدرة الدولة وسلطتها في سن قوانينها بكل حرية، وتطويرها بما تراه صالحاً لمواطنيها. بذلك فإن القول بأنه توجد قوانين تخرج عن سلطة الدولة وإرادتها هو إنكار لسيادتها، لا أكثر ولا أقل. صحيح أن الفصل الأول المذكور أكد على أن تونس دولة “الإسلام دينها” لكن هذا لا يعني مطلقاً أن بلادنا هي دولة دينية خاضعة في إرادتها – التي تعبر عنها بقوانينها – لتعاليم الدين”ا.هـ..
- وفي حقيقة الأمر نرى هذه الصراحة والوضوح أفضل في الحوار من كل المماحكة التي جاءت في صدر التقرير والادعاء بأن ما توصلوا إليه منسجم مع الإسلام. هذه هي الخلاصة، مؤلفو التقرير يعلنون بوضوح شديد في تلك الفقرة الأخيرة ودون مواربة أن تعاليم الدين لا تعنيهم وأن ما يرونه صالحاً لمواطنيهم هو الأصل سواء اتفق أو اختلف مع الدين. وبالتالي فمناقشة ما توصلوا إليه من وجهة نظر شرعية أو بحجج شرعية لا يعنيهم البتة.
المسألة الثانية: إن التقرير المقترح يشمل طامات أخرى كثيرة غير مسألة المساواة في الميراث، وبعضها أشد خطراً، ويبدو أن التغطية الإعلامية لمسألة الميراث هي التي حجبت – عن قصد أو غفلة – المفخخات الأخرى في التعديلات القانونية المقترحة ومنها:
- السماح بالمثلية الجنسية (= الشذوذ) وعدم تجريمه.
- إلغاء عقوبة الإعدام أو تحديد حالاتها القصوى.
- إلغاء الرقابة على الأعمال الفنية.
- التوصية بإلغاء المنشور المتعلق بغلق المقاهي خلال شهر رمضان.
- تخليص المهر مما يخل بكرامة المرأة إما بإلغائه تماماً أو بإلغاء جعله شرطاً لصحة عقد الزواج.
- التخلي عن مفهوم الولاية في الزواج أو جعل الولاية للأب والأم معاً عن الأولاد القصر !
- إلغاء العدة للمطلقة والمتوفى عنها زوجها؛ لأنه تقييد غير دستوري لحرية زواج المرأة (= للزوجة المطلقة أو الأرملة أن تتزوج في اليوم التالي لطلاقها أو وفاة زوجها، وما يستتبعه هذا من فوضى محتملة لاختلاط الأنساب).
- مقترح إلغاء رئاسة العائلة، وبدلاً عنه إذا اختلف الزوجان في أمر يهم العائلة فيرفعا الأمر إلى القضاء!
- النفقة على الزوجة: مقترح بإلغائه إذا كانت الزوجة غير محتاجة له، والإبقاء عليها واجبة على الزوج إذا كانت الزوجة بلا عمل! حتى لا ترتبط النفقة بسلطة علوية للرجل.
- الولاية (الحضانة) للأطفال بعد الطلاق لا تكون للأم لأن في ذلك تمييزاً ضدها، ولكن تكون الولاية للأب والأم معاً!
- السماح للصغار والراشدين بإلحاق لقب الأم مع لقب الأب لأسمائهم.
ولنا أن نتصور هذا العدد الكبير من القضايا التي تحتوي داخلها على عشرات – أو مئات – المسائل الفرعية التي تحتاج لمجامع فقهية متخصصة تستغرق شهوراً أو سنوات، ثم تأتي هذه اللجنة المتواضعة علمياً فتبت فيها بهذه الجرأة والتهور.
المسألة الثالثة: إن النظام السياسي في تونس منذ أيام الرئيس بورقيبة لا يعترف أصلاً بإسلامية الدولة، أو بهويتها ومرجعيتها الإسلامية، ولذلك يستقي لقوانينه – مثله مثل أي نظام علماني آخر – مفاهيم وأفكار لا علاقة لها بالإسلام. وقد سبق لبورقيبة أن أصدر قوانين منذ عقود تحرم تعدد الزوجات، وتبيح الزنا بالتراضي ولا تجرمه. وعليه فهذا المقترح الرئاسي لا علاقة له أصلاً بالإسلام، ولا يقدمه متماشياً مع شريعة الإسلام ولا حتى يدعي هذا. وقال الرئيس السبسي: “ليس لنا علاقة بالدين أو القرآن أو الآيات القرآنية، ولكننا نتعامل مع دستور الدولة، ونحن في دولة مدنية، والقول بأن مرجعية الدولة التونسية مرجعية دينية خطأ فاحش”.
يبدو هنا كذلك أن السبسي له أغراض سياسية بلفت الانتباه عما يعانيه من فشل سياسي، وانقلاب رئيسيْ الحكومتين اللذين اختارهما شخصيّاً (الحبيب الصيد ويوسف الشاهد)، وتردي الأحوال الاقتصادية والمعيشية، والعجز عن الإيفاء بتعهداته الانتخابية، كما أن إثارة هذا الجدل المجتمعي يضع حركة النهضة (حليف التوافق) أي حركة النهضة بين كماشتيّ الضغوطات الدولية وتوجهات أنصارها.
وعلى كل حال، فإن الجهود السياسية الحثيثة التي بذلها النظام العلماني في تونس منذ استقلالها، وقمعه للدعوة الإسلامية ولحرية التعبير، لم يؤت ثماره. وقد زرت تونس منذ حوالي أربعين سنة، وفجعني ما رأيت وقتها من مظاهر مؤسفة، وقد صليت في مسجد الزيتونة العريق فكنا أقل من صف واحد في صلاة العصر. وانظر الآن وبعد كل هذه السنين، ومدى إقبال الشعب التونسي بكل طوائفه على الإسلام، لتوقن أن الزبد يذهب جفاء وأن ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. لقد خرجت تظاهرات شعبية كبيرة تندد بمقترحات القوانين، كانت أضخم بشكل صارخ من تلك التي خرجت تأييداً وحفاوة بها.
يلاحظ أيضاً أن كل علماء ومشايخ تونس – فيما رصدناه – قد توحدت كلمتهم في رفض هذه القوانين المقترحة، واعتبروها طعناً صريحاً في ثوابت الدين وأن الإرث في الاسلام حكم من الأحكام الشرعية، وهو حكم قطعي لا يجوز المساس به أو الاجتهاد فيه، كما أعلنت عبر عدة هيئات ومؤسسات تعليمية وشرعية عن استعدادها “للتصدّي بكلّ الطرق السلميّة والقانونيّة، وبأسلوب الحوار العلمي لكلّ المخطّطات الرامية إلى ضرب الدين وإبعاده تماماً عن الحياة، وتفتيت وحدة المجتمع التونسي”.
المسألة الرابعة: أما فرح رموز العلمانيين من المثقفين والفنانين بهذه الأخبار فيرجع – في غالب الأحوال – لجهلهم بشريعة الإسلام وليس لإنكارهم لأحكامه أو جحوداً لثوابته، وجزء من تبعة مواقفهم تقع على إهمال العلماء والدعاة لهم وعدم الاهتمام بالحوار معهم وبسط حكمة ومحاسن الشريعة لهم. إن هؤلاء الرموز أولى من غيرهم بالصبر عليهم والحرص على دعوتهم وهم من النخب المؤثرة التي تتأثر بها جماهير الناس، لا يشك في هذا إلا غافل بالواقع. إن عبارات بعض هؤلاء وتأكيدهم أنهم أصلاً يساوون في الميراث حتى قبل مثل هذه القوانين المقترحة، إنما تعكس حالة محزنة من فقدان الحد الأدنى من العلم الشرعي أو مما لا يسع المسلم جهله. وإن “الحفاوة” التي تقابل بها تصريحات وتغريدات هؤلاء من عامة الناس يؤكد أهمية الانتباه لوضع هؤلاء وقناعاتهم الدينية والفكرية ووضع آليات ومعايير ومواصفات عملية لخطابهم ودعوتهم.
وكما ترى في كلام بعضهم، فهناك خلط بين تصرف الإنسان في حياته بتوزيع ماله أو بعض ماله على أولاده بالسوية، وبين الميراث. الميراث لا يكون إلا بعد موت صاحب المال، أما تصرفه في حياته فلا علاقة له بالميراث (إلا لو أراد ونوى بذلك حرمان الورثة الشرعيين). والنفقة على الأولاد في حياة أبيهم (أو أمهم) إنما تكون بحسب احتياجاتهم وضروراتهم ذكوراً كانوا أم إناثاً.
وجدير بالذكر أن هناك مظالم بالفعل تقع ضد النساء في بعض مناطق عالمنا العربي حيث يتم حرمانهن من الميراث أو منحهن النزر اليسير منه، لكن هذه المظالم وقعت وتقع أصلاً بسبب البعد عن تطبيق شرع الله.
الخلفية العقدية والفكرية لتقرير الحريات الفردية
المسألة الخامسة:
المطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة في الميراث ليست مطلبا جديداً، بل لها جذور استشراقية قديمة، ثم التقطها بعض الرموز العلمانية بدءاً بسلامة موسى ومحمود عزمي ووصولاً إلى نصر حامد أبو زيد وحسن حنفي ودعواهم واحدة ومكررة، وهي زعمهم أن الأحكام الشرعية مرتبطة بالسياق التاريخي والاجتماعي، وأن الأحكام التي ناسبت القرنين الأول والثاني الهجريين ليست بالضرورة تناسب عصرنا الحالي. وهي نفس الدعوى التي وردت في التقرير التونسي. هذه الدعوى – وحول أحكام المواريث تحديداً – تعتبر التفافاً على القرآن الكريم، بحيث تحول منطوقه الصريح إلى مجرد تأويل ومفهوم قد يصيب أو يخطئ! إنهم يعتبرون النص العام الصريح في القرآن قد تحول بمجرد أن يتعامل معه البشر (بما فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم!) تحول إلى مجرد مفهوم مستفاد من الآيات، وهذا المفهوم حكم بشري لا حرمة له ولا قداسة، وبهذا الالتفاف تنتقل كل أحكام الإسلام وشرائعه من دائرة الأحكام الإلهية إلى دائرة الاجتهادات البشرية، ومن دائرة الأحكام القطعية إلى دائرة الأحكام المختلف فيها والقابلة للتغيير والتطوير، وبذلك يسقط الفقه، وتسقط حجية السنة والقرآن، ويصبح دين الإسلام بلا ثوابت ولا أصول فيسهل هدمه من قواعده عياذاً بالله. ولا أعرف كيداً يكيده أعداء الإسلام ضد هذا الدين أشد من هذا نكاية وهدماً. إن هذا الالتفاف يعني أننا عندما نقرأ مثلاً قوله تعالى ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾[يوسف: آية 40]، أو نقرأ قوله تعالى ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾[الأحزاب: آية 36]، أن مثل هذه الآيات تحيلنا إلى معان خيالية لا علاقة لها بواقعنا، وأنها تدلنا على شيء معدوم، وأن قصارى الأمر هو مفاهيم للناس مختلفة حول تلك الآيات (= أن الآيات زادتنا اختلافاً بدلاً من أن تزيدنا هدى) وهذا هو الضلال بعينه.
إن إيمان المسلم بقدسية نصوص الوحي، يترافق مع إيمانه بالحكمة الكاملة لربه تبارك وتعالى، سواء وقف عليها أم لم يقف. وقد تولى الله تعالى بنفسه وضع فرائض الميراث وفصلها تفصيلاً، وعقب عليها بقوله تعالى ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾[النساء: آية 11] وهم أقرب الناس لكل أحد، ومع ذلك قد يتفاوتون في هذا النفع تفاوت الشفقة الجبلية في الناس ومقدار تفاوت الحاجات، ثم ختم الكلام بقوله ﴿فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾، فالاعتراض على هذه الأحكام الثابتة بنصوص قطعية الدلالة هو في واقع الأمر اعتراض على حكمة الله تعالى وعلمه.
المسألة السادسة: إن لغة التقرير التونسي التي تعلي من شأن القانون والدستور وتنحي أو تهمل أو تقصي الأحكام الدينية تعكس صورة واضحة عن حقيقة تطبيق الشريعة الإسلامية في بلاد المسلمين – بعيداً عن التصريحات المخادعة – فهؤلاء يعظمون القوانين التي وضعها الناس، ويضيقون ذرعاً بالأحكام الإلهية، ولا يرونها مناسبة لمصالح البلاد والعباد، هذه قناعة واضحة للغاية في فقرات كثيرة مثل التي أوردناها سابقاً من ذلك التقرير. إن بعض الأقوال الشائعة من أن القوانين الحالية في الدول العربية، ٩٩٪ منها موافق للشريعة، هي عبارات غير مسئولة وغير صحيحة، القصد منها تخدير مشاعر الجماهير حتى يرضى الجسم الاجتماعي والعقل الجمعي عن هذه المنظومة القائمة.
إننا نوصي في هذا الصدد بضرورة تكرار التذكرة بأن الشريعة الإسلامية فيها من السعة والشمول ما يلبي كل ما يستجد في حياة الناس من مشكلات وعلاقات وقضايا، وأن كل دعوة لإغفال النصوص الشرعية الواردة في القرآن والسنة، أو تأويلها بالأهواء الشخصية، يمثل نزعات معادية للإسلام. وهذا يستلزم من أهل الاختصاص نشر الكتابات والمؤلفات المبسطة التي تشيع مفاهيم الشريعة على نطاق واسع، حتى يتهيأ المناخ العام في التربية والتعليم والإعلام والثقافة لاستيعاب أهمية الشريعة وضرورتها لتحقيق المصالح ودرء المفاسد. لقد كان لافتاً في مسألة المساواة التونسية للمواريث أن نجد تسجيلاً عمره أكثر من عشرين سنة لفضيلة الدكتور محمد عمارة ينتشر على وسائل الإعلام المختلفة تفنيداً لهذه الدعوى المنحرفة، وكان المفترض أن نجد في جعبتنا مئات المواد المقروءة والمرئية حول هذه الشبهات.
المسألة السابعة: يتكرر سؤال بصيغ مختلفة في التقرير وفي كتابات المؤيدين له يقول (لماذا كل هذا الإصرار على تطبيق الشريعة؟). هذا السؤال يحمل في طياته نزعة متعالية ومغالطة، وكأن الأصل هو إقصاء الشريعة عن الحياة وإقصاء الدين عن الدولة، بحيث يصبح واجباً على المستمسكين بتطبيق الشريعة أن يقدموا أدلة نفي هذه “الاتهامات” عنهم. كان الأولى أن يكون السؤال: لماذا العلمانية؟ لماذا تشذ عن الأصل الذي استمسكت به الأمة قروناً طوالاً، ولم ترغم على تركه إلا مع ضربات وقوافل المستعمرين؟
المسألة الثامنة: إن تقرير اللجنة يمثل محاولة جديدة لتحويل الأسرة من منظومة اجتماعية الى شركة تجارية يسودها منطق الربح والمال والعلاقات المادية البحتة. إن تصوير علاقة الزوجين على أنها صراع يجب التدخل بسيف القانون حتى في الخلافات الأسرية المعتادة (كما يقترح التقرير)، بدلاً من أن تكون علاقة تراحم ومودة وتكامل للأدوار، يمثل فهماً قاصراً لطبيعة هذه العلاقة وتهدد بانهيار منظومة القيم بالكامل بضرب النواة الأولى في المجتمع وهي الأسرة وذلك تحت عنوان الحداثة احياناً وتحت تضخيم هالة حول الاتفاقات الدولية التي هي في الحقيقة إملاءات خارجية على مجتمعنا، وهي أشد من الإملاءات الاقتصادية والسياسية التي تمارس على بلادنا. إن إثارة الجدل في مسائل اجتماعية دينية معناه المزيد من إرباك المجتمع والتفرقة بين أفراده وضرب للسلم الاجتماعي.
لقد أورد التقرير جدولاً بيانياً طويلاً فيه مقارنة بين فصول الدستور والقانون التونسي وأمامها بنود الاتفاقات الدولية وملاحظات ومقترحات اللجنة بشأن تطبيق هذه الاتفاقيات على حساب إلغاء أحكام الإسلام أو الالتفاف عليها. وحجة التقرير أن تونس سحبت الاحتراز حول اتفاقية سيداو، مع أن ذلك الإجراء المشبوه كان على يد قايد السبسي نفسه عندما كان رئيساً للحكومة، فقام – في جنح الظلام – باستصدار مرسوم بهذا يوم 24 أكتوبر2011 أي بعد يوم واحد من أول انتخابات ديموقراطية وقبل تسليم السلطة للأحزاب الفائزة في الانتخابات.
المسألة التاسعة: بعد حوالي ثمان سنوات من الثورة التونسية لا زال اهتمام الثورة والثوار ضعيفاً ببناء الكوادر اللازمة لإدارة الدولة. إن كيان الدولة القومية الحديثة – مع كل ما يحتف به من عوار – له من الصلاحيات والقوة ما لا يمكن تفعيله إلا بكوادر بيروقراطية تستطيع القيام بوظائف الدولة وتسيير أمور شعبها. ونظرة على أعضاء اللجنة التي أعدت تقرير الحريات الفردية، تكشف أن أكثر من نصفهم كانوا من النظام الذي قامت عليه الثورة، وأن لهم اعتباراً في هيئات ومؤسسات دولية. إن مقترحات تلك القوانين ستعرض على برلمان تونس ويعتقد على نطاق واسع أنها سيتم رفضها، لكن تسلسل الأحداث يبين أهمية هذه المؤسسات وضرورة العناية بدخولها والمنافسة عليها وألا تترك مفاصل الدولة بيد الثورة المضادة.
الشريعة والميراث
المسألة العاشرة: إن المقصود بالشريعة معنيان عام وخاص. فالمعنى العام أنها كل ما شرعه الله تبارك وتعالى من العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق، ومعنى خاص: وهي الأحكام العملية من العبادات والمعاملات، وهي التي تختلف من رسالة إلى رسالة بحسب ما اقتضته الحكمة الإلهية ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾[المائدة: آية 48]، حتى أنزلت الشريعة الخاتمة المهيمنة على ما سبقها ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾[الجاثية: آية 18].
إن ما يرجف به البعض من التفريق الحدي بين الشريعة والفقه ويقول إن الشريعة معصومة ولكن الفقه آراء واجتهادات غير ملزمة، لهو كلام فيه تلبيس شديد، وبعض ألفاظه قد يكون حقاً يراد به باطل. وتفصيل هذا أن الفرق بين الشرع المحكم والمؤول هو الفرق بين مواضع الأدلة القاطعة من القرآن والسنة والإجماع وبين مواضع الاجتهاد التي يخرج فيها العلماء على الأدلة ورد النظير إلى نظيره والقياس وغيرها. فالشرع المحكم هو ما لا يحل لمسلم أن يخالفه وهو كل ما كان بدليل قاطع من نص صحيح أو إجماع صريح. وأما الشرع المؤول (= اجتهادات الفقهاء) فيتسع لكل مخالف أن يناقشه ويعرض حجته ودليله دون تثريب عليه أو اتهامه بشيء.
إن التعلل بأن تغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية يقضي بالبحث عن تأويلات جديدة للنصوص الدينية القاطعة هو تلاعب بالدين ولهثاً وراء الأهواء، فالشرع هو مستقر المصالح، وكل ما شرعه الله لعباده فيه أعلى مصالحهم، وإن افتراض تطبيق نصوص الدين – بعد التأكد من مناطها وشروطها – قد يفضي إلى مفسدة، هو افتراض قادح في الشارع وعلمه وحكمته، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. أما المصالح المسكوت عنها ولم يدل عليها نص جزئي بعينه (= المصالح المرسلة) فقد اشترط أهل العلم للعمل بها أن تكون حقيقية لا متوهمة، عامة لا خاصة وألا تعارض حكماً ثبت بالنص أو بالإجماع.
لا يقبل إسلام من أحد حتى يرضى بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، والرضا بالإسلام أي بالدين كله عقيدة وشريعة. ويحتاج كل مسلم أن يثق في شريعة الله وأن تطبيقها فيه صلاح الدنيا وسعادة الآخرة، وأن المتأمل في أي تشريع إسلامي سيرى إعجازاً مبهراً، وتوازناً دقيقاً لمصالح العباد لا ميل فيه لغني على حساب الفقير ولا لفقير على حساب الغني، ولا لرجل على حساب امرأة ولا لامرأة على حساب رجل. شريعة منزهة، رحمة كلها وعدل كلها ومصالح كلها وحكمة كلها. ومن عنده ولو دراية محدودة بتفاصيل أحكام المواريث سينبهر بإحكامها ودقتها وتوازنها وعدلها ورحمتها، وسيرى معايير عميقة تحكمها وتضبطها، منها:
- أن الأقرب مقدم على الأبعد في منظومة تجعل التماسك داخل الأسرة أوثق وأقوى.
- وأن من يستقبل الحياة نصيبه أكبر ممن يستدبرها، لأن مظنة الحاجة أكبر، حتى لو أن رجلاً توفي عن رضيعة، فإنها ترث أكثر من أمه وأبيه.
- وأن الأعباء المالية لها اعتبارها، فالمنظومة المالية الإسلامية متكاملة لا ينبغي اقتطاع جزء منها منفرداً والحكم عليه. فالرجل مكلف بالإنفاق على أسرته حتى لو كان فقيراً وزوجه ثرية، فالإسلام يُلزِم الرجل بأعباء ونفقات مالية لا تُلزَم بمثلها المرأة كالمهر، والسكن، والنفقات على الزوجة والأولاد، وغيرها. أما المرأة فليس عليها شيء من ذلك، لا النفقة على نفسها، ولا النفقة على زوجها، ولا النفقة على أولادها. وبذلك أكرمها الإسلام حين طرح عنها تلك الأعباء، وألقاها على الرجل. ثم أعطاها نصف ما يأخذ الرجل، فمالها يزداد، ومال الرجل ينقص بالنفقة عليه وعلى زوجته وأولاده. لذلك يزاد نصيبه في بعض الحالات مقابل أعبائه الزائدة، بينما المرأة – في الغالب – مكرمة محمولة في هذه المنظومة الأسرية الإسلامية. فللمرأة حق في مال زوجها وليس للرجل هذا الحق في مال زوجته، فإن هي تساوت مع شقيقها مثلاً في الميراث مع هذه الميزة التي انفردت بها انعدمت المساواة في حقيقة الأمر، فتزيد هي وينقص هو، إذ لها حق الميراث وحق النفقة وليس له إلا مثل حقها في الميراث إذا تساويا. فهذا هو العدل والإنصاف بين الجنسين، وما ربك بظلام للعبيد، والله عليم حكيم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
[i] http://www.akherkhabaronline.com/uploads/FCK_files/Rapport-COLIBE.pdf
[ii] https://www.youtube.com/watch?v=xmh45lzuemg
[iii] https://www.alaraby.co.uk/supplements/2015/3/9/%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%81%D9%8A-1
[iv] المصدر السابق