قراءة سريعة حول سحب ترامب لقواته من سوريا
أعلن المندوب الأمريكي للأزمة السورية جيم حيفري منذ خمسة أيام فقط أن بلاده لن تنسحب من سوريا إلا بعد تحقيق تسوية سلمية تراعي المصالح الأمريكية. ومنذ أسبوع فقط أعلن بريت ماكجورك المسئول الأمريكي عن الحرب على تنظيم الدولة أن التنظيم في حالة تراجع إلا أن خطورته ما زالت قائمة وتحتاج مواجهة طويلة، ومنذ شهرين فقط أكد جون بولتون مستشار الأمن القومي أن بلاده لن تغادر سوريا طالما بقيت قوات إيرانية أو ميليشيات تابعة لها على الأرض السورية. برغم ذلك فاجأ ترامب كبار مساعديه – قبل بقية العالم – وقرر سحب قواته من سوريا…
أثار قرار ترامب غضبا عارما داخل الدوائر العسكرية والسياسية والتشريعية داخل الولايات المتحدة، وسارع وزير الدفاع جيمس ماتيس – أحد أهم أركان إدارة ترامب – بتقديم استقالته، وكتب في خطاب استقالته لترامب “لأنه من حقك أن يكون لديك وزير دفاع وجهات نظره تتوافق بشكل أفضل مع وجهات نظرك بشأن هذه القضايا وغيرها أعتقد أنه من الصواب بالنسبة إليّ أن أتنحى عن منصبي”. لا ينتظر أن يغير ترامب موقفه أمام موجة الانتقادات الشديدة، لكنه ربما يبطئ من عملية الانسحاب من باب المواءمة السياسية، وعلى كل الأحوال فلا شك أن كثيرا من قرارات ترامب تهز البنية المؤسسية الأمريكية، بحيث أصبحت هذه الخلافات العلنية بين أركان النظام الأمريكي حدثا عاديا متكررا.
برر ترامب قراره بثلاثة أسباب:
- الانتصار على تنظيم الدولة، فلا داعي إذن للبقاء في سوريا
- أن إيران وتركيا والسعودية كلها معادية لتنظيم الدولة وينبغي أن تتكفل هي بالقضاء على بقاياه
- أن أمريكا تكبدت مليارات الدولار في الدفاع عن بلدان الشرق الأوسط ولم تستفد شيئا، وقد آن الأوان لتلك البلاد أن تتولى الدفاع عن نفسها
لا تبدو هذه الأسباب مقنعة لتبرير هذا الانسحاب المفاجئ الذي يتوقع أن تكون له عواقب مهمة ومؤثرة. القرار ستكون له آثار متباينة على الأطراف المختلفة، على النحو التالي:
- بالنسبة للقوات الكردية في شمال وشرق سوريا، يمثل هذا الانسحاب صدمة لها ورفعا لغطاء الحماية عنها، ولا يتوقع أن تستطيع وحدها البقاء بالمناطق التي تسيطر عليها حاليا. هذا الموقف الأمريكي الجديد سيُفقد الولايات المتحدة مصداقيتها لدى حلفائها، وهم يرونها تتخلى عن حليف لها باستخفاف ولا مبالاة. وبالفعل صدرت بعد ساعات من القرار تصريحات كردية غاضبة ومنددة، بل ومتوعدة، ووصفوا الانسحاب بأنه “طعنة في الظهر، وخيانة لدماء آلاف المقاتلين“. القرار ستكون له أصداء عند حلفاء الولايات المتحدة الآخرين في المنطقة وسيناريو التخلي المفاجئ عنهم أصبح ماثلا أمامهم. القرار يمثل نذيرا قويا للجماعات والدول الوظيفية التي تركن إلى حليف خارجي.
- القرار يصب في صالح الأتراك وهم يريدون بسط سيطرتهم شرق الفرات وعلى امتداد الحدود السورية الشمالية، وقد كان الوجود الأمريكي يمثل عائقا عسكريا وسياسيا. سارعت تركيا للإعلان أن دخولها منبج وما وراءها أصبح وشيكا. ربما تغير تركيا أيضا الآن من استراتيجيتها بحيث تقرر التوغل أكثر وأعمق في الأراضي السورية.
- روسيا أيضا مستفيدة من سحب أميركا لقواتها من سوريا، فقد أصبح لها مطلق الحرية للتحرك بالأراضي السورية، ولم تعد تخشى حدوث صدام مع القوات الأميركية، وهو هاجس كان يثير قلق واشطن أيضا والعديد من الدول، وكان يهدد بتوسيع الحرب خارج الأراضي السورية. وفي المقابل ستقع على روسيا أعباء سياسية إضافية مثل الوساطة بين الأكراد وتركيا، ومثل تحاشي التصعيد بين إسرائيل وإيران على الأرض السورية.
- بالنسبة للسوريين فإنها أخبار جيدة. رحيل أي قوات احتلال عن أراضيها تمثل انفراجة – ولو قليلة – للمشهد المعقد للمحنة السورية. أما النظام السوري، فستزداد القبضة الروسية عليه، وستصبح مظاهر الاحتلال الروسي أكبر وأوضح. وأما المعارضة السورية، ففي حالة وقوع توغل تركي في الشمال السوري، فمن المتوقع أن تلعب المعارضة دورا مهما في هذا الصدد.
- وأخيرا بالنسبة للأمة العربية، فإن القرار الأمريكي يعكس حالة الغيبوبة العربية عن الفعل في مشاهد الأزمات في النطاق العربي، فالعرب بلا قيادة ولا مؤسسة فاعلة لجمع كلمتهم ورص مواقفهم، فترى الأحداث الكبيرة تقع ولا ناقة لهم فيها ولا جمل.
من سيملأ الفراغ الذي ستتركه الولايات المتحدة؟
هذا هو السؤال الحيوي بعد القرار الأمريكي بالانسحاب. لن تقبل الولايات المتحدة أن تملأ روسيا هذا الفراغ، ولا ينتظر أن تتمكن بقايا تنظيم الدولة من إعادة التجمع والسيطرة، ويعتقد أن الأتراك لن يتوغلوا جنوبا حتى لو سيطروا على طول الشريط الحدودي. هناك احتمالان لملأ هذا الفراغ: بتمدد الميليشيات التابعة لإيران، أو المعارضة السورية في أماكن النفوذ الكردي الحالية. وعلى كلا الاحتمالين سيصبح الشرق السوري منطقة على قدر كبير من السيولة والاضطراب.
ما هي الأسباب الحقيقية للانسحاب الأمريكي؟
بعيدا عن الارتباك والتخبط القائم في الإدارة الأمريكية، فلابد من وجود أسباب غير معلنة لهذا الانسحاب لأن ما قالته الإدارة لم يقنع أحدا، فالمنتصر عادة ما يتمكن ولا ينسحب. ربما تكون سوريا مقبلة على حل سياسي يريح كل الأطراف الدولية، ولو على حساب السوريين. هناك قناعات متنامية بأن الحل العسكري قد أتى على أقصى ما يمكن أن يحققه، وأنه لا مفر الآن من تسوية سياسية ما. ربما تكون هناك بالفعل تفاهمات أمريكية روسية عريضة على العناوين الرئيسية لهذه التسوية. إذا صح هذا التقدير، وتزامن أيضا مع الضغوط الداخلية الكبيرة على إدارة ترامب، فإن وفاءه بوعود قطعها على نفسه بسحب قواته من سوريا سيزيد من شعبيته لدى قاعدته الصلبة بأنه الزعيم الذي يفي بوعوده مهما كانت التحديات. قد تكون هناك أيضا دوافع لدى ترامب لصرف انتباه الإعلام عن الاحتمالات المتزايدة لاتهامات تطول ترامب من تحقيقات لجنة موللر.
إذا كانت الهموم الداخلية لترامب هي السبب الرئيسي وراء قرار سحب قواته من سوريا، فمن المتوقع أن يتبع هذا قرار مماثل بسحب قواته من أفغانستان.