“شذوذ” الغرب المعرفي والأخلاقي إلى أين… هل من رد حضاري؟
كيف تحول الشذوذ إلى مثلية معقولة عند الغرب كما تحولت قيم كثيرة قبلها؟
ولِمَ يُصرُّ الغرب على تصدير الشذوذ وتطبيعه مثلما فعل بمفاهيم النسوية؟
النموذج المعرفي الغربي القائم على “نسبية الحقيقة” سيبقى ينحدر بتسارع زمني مغذيًا روافدَ الإلحاد والصدام النكدَ مع الفطرة والعقل، وسيأتي بالمزيد من آفاته المتدحرجة ليلقي بها في وجه البشرية كلما استعصت عليه.
فالقبح والجمال، والذكورة والأنوثة، والصواب والخطأ، وكل شيء نسبي إلى درجة الدوران 180 درجة.
الإنسان الغربي الميكانيكي في عالم التجريبيين الحسِّيين والوضعية المنطقية والحتمية المادية، تم تنميطه وتحويله لوحش استهلاكي كقطعة مطاطة قابلة للطرق والسحب والتشكيل على حساب الفطرة والمكنونات الإنسانية، ليصبح “شيئًا بين الأشياء”، حسب تعبير الفهامة (عبدالوهاب المسيري).
هذا هو المذهب الاسمي المادي الذي تبناه وصدع به فريدرك نيتشه مُعلنًا الفضيحة التي تواصى بتركيب حيثياتها (مختلف فلاسفة أوروبا)، فنفى الكليات، وأعلن أنّ الأخلاق مصطنعة ونسبية وهو ما وافقه عليه ماركس لكن بقالب الفقراء، فكلاهما نهل من الشيطان (هيغل)!
وما (اسبينوزا) وأستاذه (ديكارت) ببعيد عن ذلك، فقد اعتبروا القيم والإنسانيات خاضعة لمعادلات مادية فمسخوها بالفيزياء، وجعلوا لمختلف الشخوص 4 أشكال هندسية تصفها ثم شعبوها زيادة!
بينما النموذج المعرفي الإسلامي يقوم بإعادة صياغة الشخصية ويردها إلى الفطرة، وينحو بها بعيدًا عن القوالب المادية والرياضية…
كل هذا من نتاج تقديس العقل والمادة والقوة وغرور (الاستغناء) “بالعلموية” التي ظنوا أنّ فيها الإجابة عن أسئلة الحياة الكبرى والصغرى!! بينما في الحقيقة انتهوا إلى “عدميات” متناقضة.
بالمختصر؛ غالب فلاسفة أوروبا ومدارسها تصدر عن نموذج معرفي مادي واحد، وإن تعددت الوجوه… يسجل لنا مثل هذا الراحل الكبير علي عزت بيغوفيتش مثبتًا أنّ الرأسمالية والاشتراكية هما وجهان لنموذج معرفي واحد!
من هنا نفهم ترحيب ماركس ونيتشه بنظرية دارون واعتبارها داعمة لتصوراتهما كما ظهر في مراسلات ماركس وإنجلز ونيتشه.
لا تتفاجئوا، (فنيتشه) كان بحرًا للغرب غرف منه معظم فلاسفته، كما غرف هو بدوره ممن سبقوه، وبقي هتلر يحمل عصا نيتشه متفاخرًا، ولم ينسَ نيكسون أن يُثْني عليه، فالإمبريالية والمادية والحداثة وجدت ضالتها في (دارون ونيتشه) اللذين اعتبرا أنّ الأخلاق عائق أمام التطور، وأنها سبب التخلف وبضاعة الضعفاء…
من هنا قال تشيرشل: “لقد حلّ الجنس الأبيض الأصلح للبشرية مكان الهنود الحمر، ولم يكن الأمر بمثابة تطهير عرقي”!
وهكذا الحداثة وما بعد الحداثة ثم (ما بعد بعدها) ستبقى تهرب من إنسانية الإنسان حتى (تنفجر بالإنسان الغربي) بعدما أتخمته بتعظيم “قطاع اللذة” على حد وصف “سيد” و”المسيري” بعد معاينتهما لدنيا “النيويوركرز” والعالم الجديد أثناء بعثتهما في حقبتي الأربعينات والستينات.
تبقى مسألة خطيرة، وهي إنّ الغرب كلما وقع في شرّ ما يقترف، قرر ضرورة جرّ البشرية إلى درْكه حتى لا يكون للآخرين (مزية) اجتماعية وقوة كينونةٍ على الغرب!!
(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً).
من هنا نلاحظ أنّ الغرب المفجوع باضمحلاله الديمغرافي بسبب انهيار منظومة الأسرة ونمطه المادي، حينما عجز عن السيطرة على انفلات مجتمعاته منذ الثورة الجنسية في الستينات، صار يرى أنه لا بدّ من إدخال سائر البشرية في (عقمه)، وتعميم وتصدير قيمه القاتلة إلى الآخرين، حتى يصبحوا في جانب تهلهل التماسك الإنساني والاجتماعي سواء بسواء، فيبقى بالتالي الغرب متفوقًا بالمال والحديد والحريات غير القابلة للتصدير على باقي الحضارات والشعوب، خصوصًا (المسلمين) بعد سلب عوامل التفوق القيمي والإنساني منهم.
إنّ انحدار الغرب هو أشبه بتساقط أحجار الدينمو، ومساره كمسار القطار الذي يتسارع نحو الهاوية، إذ مرّ مندفعًا بمحطات الثورة الصناعية، وتحرير المرأة، فالثورة الجنسية والتكنولوجية، فالمساواة، فالشذوذ والإلحاد…
كم كان الطبيب الفيلسوف “أليكسس كارل” محقًّا في كتابه “الإنسان ذلك المجهول” حينما نعى على الغرب جهله بحقيقة الإنسان!
وكما قال جارودي واصفًا المشهد: “لقد نجحت الحداثة الغربية في أن تجعل العالم قبرًا يتسع للجميع“
ما الممكن والمطلوب من طرفنا كأمة مسلمة؟
هذا النطاق يحتاج لعمل (تكاملي ونهضوي) أوسع رقعة وجهدًا وهدفًا من مجرَّد الوقوف بوجه ما سبق حصرًا… إذ يستدعي حلولاً شاملة ذاتية طويلة الأمد، تصحح (سُنَنِيًّا وتدريجيًّا) كثيرًا من تصدعاتنا الاجتماعية والذهنية المتراكمة، ثمَّ تنهض لمقارعة تلك العوادي…
لكن من الممكن هنا أن نشير على عجالة إلى بعض ما يمكن أن يسهم في الممانعة والمشاغلة:
ضرورة تفعيل خطابنا الحضاري الذاتي إلى الجيل بما فيه من مكنونات وقيم تفارق (النموذج المعرفي الغربي) المادي المختل، مع تسليط الضوء على شواهد نتاجه وعواقبه، وإبراز أسس التباين المعرفي ونقض قيم “نسبية الحقيقة” والمادية، و”قطاع اللذة”، والاستهلاكية.
لا يمكن الوصول إلى مثل هذا الاهتداء والتباين فضلًا عن الصمود والممانعة والتقدم، ما لم يكن كلُّ ذلك مُؤسَّسًا على منطلقات (الخطاب القرآني الشامل)، والذي يباشر جذور الأمم ونفوس البشر وحركة الحياة والكون ضمن القوانين والسنن الثابتة التي خضعت لها البشرية – على سبيل الإجمال والتفصيل – كما يؤكد عليها الخطاب القرآني بنسق (تحليلي وتركيبي مضطرد).
عدم التردد في الصدع أمام شذَّاذ الدعوات المنحرفة بحقيقة ثبورهم وعوار منطقهم ودلالة عجزهم وشهادة أحوالهم، بل والاستعلاء على سقوطهم الأخلاقي وغيره بالحجج البينة، مخاطبين عاقلهم، ومستميلين مستمعهم، ومراغمين معاندهم.
لن يستقيم لنا ساق في كل ذلك، ما لم نعدْ إلى حَصاتنا لننتبه من تسلل خيوط الغرب المادية إلى تصوراتنا ونمط حياتنا واستهلاكنا…
ولا يمكن التيقظ لكلِّ ذلك ما لم يكن للقرآن نصيبه اليومي تخليةً وتحليةً في قلوب الناشئة.
ملحوظة:
لسنا هنا في معرض تناول تقدُّم الغرب في مجالات تنظيم شؤونه المدنية وخدماته للمواطنين، وكذلك ميزات عقده الاجتماعي – على ما فيه – وحرصه على البحث العلمي، ووجود مساحات مُعيَّنة فيه للحرية وتعبير العقلاء في ظل كوابح قوىً مسيطرة، ومنظومة رأسمالية معقدة تراكمية منذ قرون.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم