تقدير موقفقراءة الحدث

أحداث العراق وأبعاد التغيير القادم

لم تكن الأحداث في المنطقة العربية لتمر عفوية بما تخفيه من مسوغات ومبررات آلت إليها تلكم الأحداث وحاضنتها الجغرافية، ولعل ما أصاب دول الربيع العربي من انقلابات مضادة للثورات جعلت أربابها يطمئنون إلى حالة من السكينة بأن ما وصلوا إليه لا يمكن أن تمسه يد ثورية جديدة مهما كانت مقوماتها وآلياتها، خاصة وأن صانعي هذه الانقلابات قد ركنوا -في ظنهم – إلى من يحفظ منظومتهم وكيانهم عبر تحالفات وائتلافات شيطانية يقودها كبيرهم الذي علمهم الشر، ولكن ما كانت هذه المنظومة لتنعم في ظل هذه السياسات الجائرة التي سامت الشعوب سوء العذاب وأوصلتها إلى حالة أفقدتها مقومات الحياة الفطرية في أدنى درجاتها، على وفق ما كفله الله للخلق من قوام المعاش أمناً وطعاماً.

وما أشد جهل هؤلاء الساسة بتلكم السنن التي جعلها الله سارية في الخلق ما بقيت الحياة، أو أنهم علموها ولكن جعلوها وراء ظهورهم ونسوا الله فنسيهم، فأتاهم من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب بشباب آلى على نفسه أن يعيش حياة كريمة عزيزة تتجاوز حالة الظلم والاستبداد التي جثمت فوق صدورهم، لقد نسي هؤلاء المستبدون والفاسدون أو تناسوا تلكم القاعدة الخلدونية التي تقول: “الظلم مؤذن بخراب العمران”، فظنوا أنهم بشعاراتهم الجوفاء وظهيرهم الديني الذي سوغ لهم باطلهم قد جعلوا الشعوب المغلوبة على أمرها عاجزة عن التغيير ورغبوهم بفتات من العيش لا يحقق أدنى درجات الكرامة الإنسانية.

لقد كانت تلكم الحراكات الثورية التي شهدتها منطقتنا العربية بالجزائر والسودان ملهمة لأخواتها وقسيماتها في لبنان والعراق والأردن، ليس في إطار عدوى كما يظن البعض، بل هي دلالة على وحدة في التغيير سرت في نفوس الأحرار من أبناء هذه الأمة، فأبوا الضيم والاستبداد والظلم، ولقد كانت أحداث العراق التي نحن بصدد الوقوف عندها قراءة وبياناً معبرة أشد تعبير عن الغضبة الشعبية التي سادت هذه المنطقة، وكما أن لهذه الغضبات مسوغاتها ومبرراتها، فإن لها مؤثراتها في الواقع السياسي والمجتمعي.

ومن هنا فإن ما شهده العراق من أحداث على مستوى الحراك الشعبي يعد حالة فارقة يلزم الوقوف عندها والنظر في أبعادها على مستوى التغيير السياسي وما يلحقه في البنية المجتمعية، وينبغي للمتأمل في هذه الأحداث على الرغم من قربها وتناغمها مع ما يحدث في بقاع عربية أخرى ألا يقف عند ظواهر الأمور والأحداث، فإن للعراق خصوصية تجعله مبايناً لغيره؛ لما له من وضعية خاصة شهدها على مدى عقود طويلة عانى منها شدة استطالت به جعلت هذا الحراك متنفساً له منها، وماذا ينتظر من شعب فقد أمنه وطعامه؟!! وفي هذه السطور نحاول أن نرسم خريطة نقف معها على ذاكرة هذه الأحداث وما تثيره من أبعاد على مستوى مسارها في التأثير والتغيير وما يمكن أن تتعرض له من عوارض زمانية ومكانية قد تأخذ بيدها إلى تحقيق هدفها في التغيير أو تئدها في مهدها خاصة مع المكر الكُبَّار الذي تصنعه منظومة الاستبداد والفساد.

ذاكرة الأحداث:
كان شهر أكتوبر مغايراً لسابقيه من حيث مشاهده وأحداثه، إذ شهد مظاهرات واحتجاجات شعبية منذ يومه الأول في بغداد ومدن أخرى في جنوب العراق، وكانت وتيرة هذه الاحتجاجات تتصاعد مع استخدام العنف ضد المتظاهرين، وهو ما جعل حالة الغضب تزداد في الشارع العراقي، وقد دارت مطالب المتظاهرين حول هدف مركزي وهو إسقاط النظام وبنيته السياسية الحاكمة منذ عام 2003م، ومرجع هذا المطلب لدى المتظاهرين جملة من العوامل والمسببات، أبرزها: استشراء الفساد في مختلف أركان الدولة ومؤسساتها، استنزاف خزينتها بالرغم من كثرة مواردها، تغلغل الطائفية السياسية وهو ما أبرز محاصصة سياسية لم تستطع أن تلامس حاجة المواطن العراقي في العيش الكريم وما يرتبط به من خدمات أساسية وإنما كان جل همها تحقيق مصالح حزبية وفئوية، ولذلك ينبغي ونحن نستعيد ذاكرة الأحداث هذه ألا نقف عند حدودها القريبة من حيث زمنها بل هي ممتدة بأثر رجعي إلى ستة عشر عاماً من التراكمات التي أضعفت كل مقومات الدولة وبنيتها مما أفقد الشعب بمختلف مكوناته وطوائفه الثقة بالحكومات المتعاقبة، ولا شك أن كثيراً من الشعارات واللافتات التي رفعها المحتجون معبرة بصدق عما تعتري نفوسهم من هموم وآلام وآمال.

لقد كان اليوم الأول من الحراك الشعبي بما انطوى عليه من أحداث شرارة أثارت كوامن هذا الشعب في وسط البلاد وجنوبها خاصة مع الرد العنيف الذي ووجهوا به من قبل القوات الأمنية، فاستطال هذا الحراك في زمانه ليأخذ مساراً متصاعداً على مدار هذا الشهر، وكانت سياسة تقطيع الأوصال التي اتبعتها الحكومة العراقية أسوة بأختها المصرية سبباً للمحتجين في الثبات على مطالبهم وعدم الاكتراث بكل ما تعد به الرئاسات الثلاث التي جاءت استجابتهم لمطالب المتظاهرين تمسكاً بالسلطة وبث وعود ببعض التغييرات الشكلية في شكل الحكومة، دون أن يمس جوهر النظام وبنيته، وهذا ما تضمنته كلمات رئيس الجمهورية برهم صالح أول الشهر وآخره، وكلمة رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي، دون أن تمس المطالب الحقيقة للجماهير الغاضبة.

ولو تأملنا الإجراءات التي أقدمت عليها الحكومة تجاه الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية، لأدركنا أن هناك حيدة واضحة عن مطالبها وغاياتها، وبالرغم من تأكيدهم الأجوف بأن من حق المواطن التظاهر السلمي وإبداء الرأي بحرية، إلا أن هذه الإجراءات دالة بشكل سافر على خلاف ذلك، وأبرز هذه الإجراءات التي هي تعبير عن التخبط والاضطراب الذي يستحكم بالمنظومة

السياسية في العراق:
-استخدام العنف في تفريق المتظاهرين باستخدام خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي ثم أعقبه الرصاص الحي، وقد شمل هذا جميع المناطق التي حدثت فيها المظاهرات، واللافت للنظر أن ردود الأفعال العنيفة من قبل القوات الأمنية قد طال بشكل كبير محافظات النجف وكربلاء والديوانية والناصرية فضلاً عن بغداد، فكانت نتائجها سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى في أوساط المتظاهرين.

-حظر التجوال في جميع المحافظات التي شهدت الحراك الشعبي.
-قطع خطوط الانترنت عن المواطنين بشكل متعمد لمنع التغطية الإعلامية للأحداث.
-وعود بتحسين الأوضاع المعيشية وضمان فرص عمل للعاطلين، وهي في نظر المراقب جرعات تخديرية تقصد الحكومة امتصاص غضب الشارع وتهدئته دون أن يكون لها تحقق في واقع الناس.
-اجتماعات عديدة بين الرئاسات الثلاث والقوى السياسية المشاركة في العملية السياسية بقصد -فيما يظهر- محاولة تهوين وتوهين حجم هذه الاحتجاجات وإرسال رسائل تطمين للشعب بأن الحكومة تستجيب لمطالبهم. وليس أدل على ذلك من خطاب رئيس الجمهورية الأخير الذي يعبر عن مدى تمسك الساسة بالسلطة خشية التفريط بمصالحهم، وأيضاً انسياقهم مع أجندات خارجية يدورون في فلكها، ولا يشكلون إزائها سوى أنهم وكلاء حماية وحفاظ على مصالح الخارج في الداخل، وإلا فما قيمة التأكيد في هذا الخطاب على المباشرة في إحالة ملفات الفساد إلى القضاء، والبدء بالعمل على إصدار قانون جديد للانتخابات أكثر عدلاً، وإبدال المفوضية الحالية بمفوضية جديدة أخرى من القضاة والخبراء، وهل يسع الفاسد القيام بالإصلاح لفساده هو قبل غيره؟!!! والله لا يصلح عمل الفاسدين، فكان الخطاب -كما قال بعض المراقبين- في ذاته بياناً أملته القوى السياسية ومن وراءها على رئيس الجمهورية ليبثه في وسائل الإعلام، وتجاوز به كل مطالب المتظاهرين بإسقاط المنظومة كلها.

التعاطي مع الأحداث:
شهد الحراك الشعبي في العراق وأحداثه ردود أفعال متفاوتة من حيث التعاطي معه على مستوى المواقف السياسية والتغطية الإعلامية، فإذا استثنينا المواقف الحكومية بمؤسساتها الثلاث بما ظهر لنا، فإن القوى السياسية ومواقفها لم تصل إلى مستوى الحدث من حيث الدعم والمساندة والمساعدة، وبالرغم من بعض التصريحات التي عبر عنها بعض الساسة وضمنوها دعماً للمحتجين ومطالبهم وخاصة من رئيس التيار الصدري مقتدى الصدر، فإن الأخير لم يكن ليخرج عن نظام سياسي يستحكم فيه وبه الخارج وخاصة إيران، ولذلك كان تصريحه الأخير معبراً عن هذا، حيث صرح بأن التغيير لا يمكن أن يتحقق إلا بأطر دستورية، وهو ما يتعارض مع مطالب الجماهر التي تتبنى تغييراً جذرياً للمنظومة كلها، ولم تكن دعوات المرجعية الشيعية الداعمة في ظاهرها للحراك الشعبي وتصريحاتها بضرورة استجابة الساسة لمطالب الجماهير بتحسين الأوضاع المعيشية، لم تسهم في التأثير على السلطة الحاكمة؛ لأن الأخيرة ما هي إلا تجليات لهذه المرجعية، وكل طرف في هذه المنظومة

-أعني المرجعية والقوى السياسية

– يوظف الآخر في تحقيق مصالحه ومصالح من يوكله في الداخل والخارج.
وأما التعاطي الدولي مع الأحداث، فكان رقمه الرئيس هو الموقف الإيراني الصريح بأن الحراك الشعبي ما هو إلا شغب ينبغي وأده في مهده، ومرجع ذلك كما لا يخفى تلكم الشعارات التي رفعها المتظاهرون (إيران بره بره، بغداد تبقى حره)، وهو شعار يقضي على مشروعها في العراق بالإبطال فيما لو حقق الحراك مقصوده، ويكفي في توصيف الموقف الإيراني بأنه متجاوز للحدود أنه تباين حتى مع الموقف الحكومي في العراق؛ ليدلك على أن إيران حريصة كل الحرص على الحفاظ على مكتسباتها ومنجزاتها طيلة ستة عشر عاماً.

وأما المواقف الأخرى، فقد كانت في الواقع باهتة جداً، وجاء الموقف الأمريكي على لسان وزير الخارجية بومبيو بالتحذير من العنف والقمع والتقييد من الحريات الإعلامية، إلا أن هذا الموقف يبقى متناغماً مع السلطة الحاكمة؛ لأن أمريكا تعي جيداً أن التغيير سيكون على حساب مصالحها في المنطقة وهي لا تريد أن تضيف ملفاً ساخناً آخر يقض مضجعها ويضعف من هيبتها العالمية، بل جاء متزامناً مع التعاون المخابراتي بين الطرفين في مقتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبي بكر البغدادي، وأما الموقف الأممي، فقد جاءت زيارة ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة جنين هينيس إلى العراق وزيارتها للمتظاهرين، لتعبر عن مبادرة وإن كانت ضعيفة منها المفوضة الأممية، إلا أن لم ترق إلى الحد الأدنى الذي يمكن أن يعول عليه المحتجون، إذ أعقب الزيارة بيان يصطف مع الحكومة العراقية في القول بأن سنة واحدة من عمرها لم تكن كافية لمعالجة تركة الماضي، دون أن تعي المفوضة الأممية بأن هذه الحكومة وأمثالها لا يمكن لها أن تخرج العراق من بؤرة الفساد التي استشرت في كل مفاصله وأركانه، والمحتجون يطالبون بالبتر وليس بالضماد، وأما المواقف الأخرى من الخارج، فيغني تجاهلها عن ذكرها؛ لأن البعد الخارجي -إقليمياً ودولياً- كما أشار إلى ذلك بعض المفكرين ينظر إلى الطبخات الجاهزة وفقاً للانتقال الديمقراطي الزائف والمزور؛ لأنه يبقي على الاستقطابات والانقسامات ما يزيد في دائرة التفكك التي تجعل الخارج يتحكم في الداخل على وفق مراده، ولذلك هو في الغالب يخشى من انتشار الحراك، والحالة المصرية والليبية واليمنية ليست عنا ببعيد

أبعاد التغيير القادم:
دلالات عدة توقف الناظر في المشهد العراقي وغيره على أبعاد كثيرة توحي بأن هناك تغييراً قادماً قد يأتي على البنية السياسية العراقية ذاتها، أو على أقل تقدير في طريقة الوعي بضرورة التغيير القادم، وهذه الدلالات التي أفرزها الحراك الشعبي الأخير هي:

-شهدت الاحتجاجات والمظاهرات شعارات عبرت عن حقيقة المعاناة التي يعيشها المواطن العراقي بحيث تجاوز بها كل ما هو طائفي أو حزبي أو قومي أو مناطقي، وانصرف همه إلى تحقيق الأمن وطلب المعاش، فلم يهتم بأي لافتة سياسية أو فكرية أو دينية؛ ليرفع المتظاهرون رسالة هامة مضمونها أن السياسة هي معاش الناس.

-حضور البعد الإنساني والبعد الوطني في أثناء المظاهرات تجاوز به المتظاهرون كل أبعاد أخرى خارجهما؛ ليدلل على سقوط مدوٍ للنخب السياسية في العراق، وقد راهنت على البعد الطائفي في إدارة البلاد.

-كان الحراك الشعبي عفوياً لم تكون له قيادة موجهة، وهذا أفضل خصائصه وأوصافه في هذه المرحلة؛ لأنه لو كانت له قيادة موجهة لاستطاع النظام السياسي والقوى السياسية الأخرى تجيير هذا الحراك باتجاه أهداف السلطة وغاياتها.
-أثبت الحراك أن الشعوب تبقى حية تبحث عن معاشها وكرامتها الإنسانية، وهي بهذا تبعث رسالة مهمة قوامها أن الشعوب وزنها ثقيل في معادلة التغيير القادم.

-من أبرز الملامح التي اتسمت بها الاحتجاجات قوامها على المكون الشبابي بمختلف أطيافه وأشكاله، وهذا دليل على أن هذا الشباب الذي بلغ في عهد الاحتلال وما بعده وعى أهمية تماسكه والحفاظ على بنيته الوطنية.

-وهذا البعد يتصل بسابقه، إذ أظهرت الاحتجاجات تلكم اللحمة الاجتماعية التي جعلت المحتجين عائلة واحدة من الإيثار بالجهد والمال على خصاصة بهم، جسدوا بها أمثلة ونماذج دالة على أن معادن الناس الخيرة تظهر في وقت الأزمات، وما حالة الفتاة الصماء، أو بائعة العصير في الشارع، أو عربات التكتك إلا صور ومشاهد من هذه اللحمة.

 

الحراك ومسار التثبيت:
لكي يحقق الحراك الشعبي في العراق أهدافه وغاياته بحيث يقف على أرض صلبة لا تأتي عليها عوادي السلطة وأَرَضَتها، بحاجة إلى روافد من الوعي يستطيع بها أن يحقق مراميه ومراده، حتى وإن أفضى حاله إلى انفضاض بالقوة كما هو قائم ومتوقع، فإنه يسجل بها وعيه بضرورة بناء التغيير الاستراتيجي القادم، وهذه الروافد هي:
-لا بد من الوعي بضرورة إقامة مشروع للمصالحة الوطنية يتجاوز كل دائرة من دوائر التفكيك والتفتيت (طائفية، حزبية، قومية …)، وهذا يعد في حقيقته واجب الوقت.

-يلزم أن يعقب الحراك الشعبي تكوين نخب جديدة تحمل مطالبه وتثبت أهدافه وغاياته بعيداً عن رغبات السلطة والقوى السياسية؛ لأن هذا الحراك الطليق إن لم يوحد جهوده بنخب منه قد ينتهي مع الوقت دون أن يحقق ما يصبو إليه.

-التأكيد على أن يستهدف التغيير بناء الإنسان والكيان والبنيان، ومبدؤه ساقان: مطالب وضرورات الأمن، ومعاش الناس.

-أهمية وجود كيان رصدي يأخذ بالاعتبار متابعة الأخبار والأحداث، ويسوقها بمهنية وتجرد بعيداً عن وسائل الإعلام المسيسة والمؤدلجة.

زر الذهاب إلى الأعلى