كتبمراجعات

الخرافات الصهيونية ومنهجية التوظيف السياسي

المقدمة:

المراجعة التي نقف عندها قد تكون لها من الخصوصية التي تجعلها مفارقة لقسيماتها اللاتي تجمعها بها وحدتها الموضوعية، ووجه المفارقة  متأتية من جهة المؤلَّف والمؤلِّف على حد سواء.

فكتاب الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية لم يكن ليحدث هذا القدر من ردود الأفعال لو قدر له النشر في الدائرة العربية، خاصة وأن هناك كتباً قد سبقته في هذا السياق لها وزنها وقيمتها المعرفية والعلمية من أمثال كتب جمال حمدان وحامد ربيع وعبدالوهاب المسيري .. في غيرها، كلها في بيان الظاهرة الصهيونية وغاياتها العدوانية والتوسعية.

أما أن يكون الكتاب خارج الدائرة العربية، وتحديداً في دائرته الأوربية التي عرفت واشتهرت بتبنيها للصهيونية السياسية والدفاع عنها في المحافل الدولية ووسائل الإعلام، وأن يكون من مؤلِّف من مثل روجيه جارودي (أو رجاء جارودي) كان إلى قبل إصدار الكتاب ملء السمع والبصر، وتتنافس دور النشر ووسائل الإعلام على نشر نتاجه المعرفي وأفكاره الفلسفية، فهذا يعطيه بلا ريب الخصوصية التي عنيناها ابتداءً، ويضاف إليها القيمة المعلوماتية التي زخر بها الكتاب؛ لكونها بهذا العرض الذي قدمه جارودي اخترقت الحجب التي تعد حمىً للصهيونية السياسية يحرم الاقتراب منها فضلاً عن تجاوزها.

والمراجعة لهذا الكتاب تأتي في سياق التنبيه والتذكير بالحقوق المغتصبة للأمة المسلمة على يد الكيان الصهيوني، ورسم حدود التحديات التي تواجهها الأمة في مواجهة هذا الكيان، والوقوف عند مقومات الاستجابة تأصيلاً وتفعيلاً وتشغيلاً في بنية هذه المواجهة وحركتها بعيداً عن ردود الأفعال والعواطف التي لا تعدو كونها هبات وقتية تتلاشى وتخبو بمرور الوقت، فإزاءها لا يثبت حق ولا يُرد باطل.

    قيمة الكتاب في مضمونه وموضوعه مرجعها قدرة المؤلف على توظيف الكم الهائل من الوقائع والمعلومات التي ساقها أثناء الكتاب في بيان البعد الخرافي والأسطوري الذي تقوم عليه الصهيونية السياسية ورموزها ومساراتها السياسية، بالقدر الذي جعل الوقائع تحدث عن نفسها دون أن يتدخل بتحيزاته المعرفية في توجيهها وتفسيرها خارج سياقها الداخلي الذي سيقت فيه.

ولذلك سلك في الكتاب أسلوباً سردياً للوقائع مشفوعاً بمصدره ومرجعه؛ فضلاً عن كونه جامعاً للأساطير والخرافات التي تأسست عليها الدعاية الصهيونية وكيانها في سياقاتهما الزمنية المختلفة حتى اللحظة الراهنة، وهذا أضفى عليه مصداقية أغضبت الكثيرين منه، فشنوا عليه حملة شعواء وحرباً إعلامية وقضائية نالت من شهرته على مدار الأعوام التي أعقبت صدور هذا الكتاب، وقد أشار جارودي نفسه إلى هذا في أكثر من موضع في كتابه.

والكتاب ذاته في سياق منظومته الفكرية المعرفية ذات البعد الغربي لم يكن شاذاً في مسيرته، إذ جاء متناغماً مع كتب أخرى خصصها أربابها لفضح الأساطير والخرافات الصهيونية، وأبرزها ما يأتي:

الأول: كتاب (الخداع) لبول فندلي: وقد جاء استكمالًا لكتاب (من يجرؤ على الكلام) لفضح أساطير اليهود والصهاينة ودعاياتهم، كما يلقي الضوء على مختلف جوانب العلاقة الأميركية الإسرائيلية والأضرار التي تلحق الولايات المتحدة من جرائها، بل يظهر بالوثائق تواطؤ الولايات المتحدة بالسكوت عن احتلال الكيان الصهيوني للأراضي العربية وانتهاكها البشع لحقوق الإنسان وفرضها حكمًا عسكريًّا صارمًا ووحشيًّا على الشعب الفلسطيني[1].

الثاني: كتاب (أساطير الصهيونية) لجون روز: ينقض فيه المؤلف الدعامات والأسس التاريخية والسياسية التي بنى عليها المشروع الصهيوني أساطيره وخرافاته، ويقدم للقارئ نقداً تحليلياً لجذور الصهيونية، ويكشف عوارها وكذبها وتحريفها وتشويهها للحقائق، والأساطير التي يتناولها جون روز بالنقد والتحليل قسمان أساطير قديمة تتعلق باليهود فيما خلا من الزمان، وأساطير جديدة تتعلق بيهود العالم المعاصر[2].

الثالث: كتاب (اختلاق إسرائيل القديمة .. إسكات التاريخ الفلسطيني) لكيث وايتلام، وفيه اعتبر الباحث البريطاني أن الدراسات التوراتية حاولت تجريد تعبير فلسطين من معناه الأصلي، وتجاهلت تاريخ السكان الأصليين للمنطقة، على الرغم من أن التنقيبات الأثرية تثبت وجود السكان الكنعانيين الأصليين قبل ظهور إسرائيل بألف عام، ويشير وايتلام إلى أن تاريخ إسرائيل القديم يبدو كلحظة قصيرة من التاريخ الفلسطيني الطويل، وإن إسرائيل ليست سوى كينونة في الزمن الفلسطيني[3].

الأساطير المؤسسة ومحاكمة جارودي:

بسبب الكتاب الذي ضمنه جارودي الأساطير والخرافات التي اتبعتها ولا زالت الصهيونية السياسية، وخاصة حديثه عن محكمة نورمبرج، وتشكيكه برقم الهولوكوست البالغ ستة ملايين يهودي، قدم اللوبي الصهيوني في فرنسا جارودي إلى المحاكمة، وكانت تهمته فيها المعاداة للسامية، ولكن السبب الحقيقي للمحاكمة يكمن في انتقاد جارودي للسياسة الإسرائيلية.

والمشكلة الأساسية التي أشار إليها جارودي في خارج سياق كتابه هي المتعلقة بقانون (فابيوس – جيسو) الذي تبناه البرلمان الفرنسي في مايو عام 1990، وقد جعل هذا القانون من محكمة نورمبرج المرجع النهائي المطلق للحقيقة التاريخية.

وفي كتابه الأساطير المؤسسة قام جارودي بمراجعة هذه المحكمة ووضعها على طاولة البحث العلمي وتحليل مجرياتها وما قدم فيها من شهادات ووسائل إثبات، وتوصل فيها إلى النتائج التي ساقها في كتابه، ولكن لم يرتض الصهاينة وأتباعهم ووسائلهم بما ساقه من حقائق، ولذلك يقول جارودي: “لم يتحملوا أقوالي المدعمة بالإثباتات، وبما أنهم لا يملكون حجة لنقد الكتاب، فقد استعانوا بالشرطة والقضاء في الهجوم الجديد، وأعطاهم قانون (فابيوس – جيسو) الحجة”.

وبالفعل فقد تمت محاكمته، وغرمه القاضي 20 ألف دولار، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد تلقى جارودي عدة مكالمات هاتفية تهدده بالقتل، وتم الاعتداء على المكتبات التي تبيع كتبه في فرنسا وسويسرا واليونان، حتى امتنعت عن ذلك[4]، وبالرغم من القوة التي واجهها جارودي إلا أنه أصر على مواجهة القانون، وقد أرجع ثباته في مواجهة هذا القانون إلى سببين: الأول: أنه يمنع المؤرخين من مراجعة التاريخ، فكأنما أضحت محاكمة نورمبرج مقدسات لا يجوز المساس بها. والثاني: منع القضاة من ممارسة مهنتهم ومهتمهم[5].

ممهدات منبهات:

كتاب (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) من حيث بناؤه -وفقاً لطبعته العربية- مقسم بعد مقدماته على ثلاثة أبواب: الباب الأول: الأساطير/الخرافات اللاهوتية، والثاني: أساطير/خرافات القرن العشرين، والثالث: التوظيف السياسي للأسطورة/الخرافة، أما في مقدمات الكتاب، فقد وقف جارودي عند ثلاث قضايا:

الأولى: مقصوده من وضع الكتاب: بيان بدعة الصهيونية السياسية التي تقوم على إحلال دولة الكيان الصهيوني محل ما أسماه “إله إسرائيل” بالتبرير اللاهوتي وفقاً لقراءة متزمتة لنصوص التوراة لإثبات خرافة تاريخية تتحول إلى حقيقة، وإدانة التعمية الفكرية في الممارسات التي تتستر بها السياسات الصهيونية باستغلال خرافة محدثة وهي المذابح النازية لليهود؛ لتكون دولة الكيان الصهيوني الملاذ الوحيد لضحايا النازية اليهود.

الثانية: تعريفه للظاهرة الصهيونية وبيان خصائصها وإدانته لها دون المساس بالعقيدة اليهودية، وفي هذا يرى جارودي أن الصهيونية هي مذهب سياسي وقومي لم يولد من رحم الديانة اليهودية بل من النزعة القومية الأوربية في القرن التاسع عشر، وهي ثالثاً مذهب توسعي استعماري سعى إلى تأسيس الدولة اليهودية.

الثالثة: المعارضة اليهودية للصهيونية السياسية ومشروعها السياسي، وتمثلت في مواقف بعض المفكرين اليهود والمنظمات اليهودية التي ترى أن هذا المشروع الصهيوني يعد انحرافاً عن الروحانية اليهودية، مبيناً استمرار هذه المعارضة إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد ساق جارودي جملة منهم، أبرزهم: المفكر اليهودي مارتن بوبر، يهودا ماجنيس رئيس الجامعة العبرية في القدس، ألبرت آينشتاين عالم الفيزياء .. في غيرهم.

الخرافات اللاهوتية:

   في الباب الأول من الكتاب يسوق جارودي تحت عنوان: (الأساطير اللاهوتية) ثلاث خرافات لاهوتية؛ قصدت بها الصهيونية السياسية استحضار البعد التاريخي التوراتي في حركتها وممارستها، وبها تشرعن سياسات الاحتلال الصهيوني:

وأولى الخرافات خرافة الوعد الإلهي التي تنطلق من وعد توراتي يحق بموجبه للكيان الصهيوني إقامة دولته في فلسطين، فقد جاء في سفر التكوين: “سأعطي نسلك هذه الأرض من وادي العريش إلى النهر الكبير، نهر الفرات”، وقد قُرأ هذا النص قراءة متزمتة من أرباب الصهيونية السياسية، حيث جاء على لسان موشي دايان عام 1967م: “إذا كنا نملك التوراة ونعتبر أنفسنا شعب التوراة، فمن الواجب علينا أن نمتلك جميع الأراضي المنصوص عليها في التوراة”.

ولأجل نقض هذه الخرافة ناقش جارودي مضمون هذا الوعد في سياق استدعائه لطائفة من أقوال وآراء المتخصصين بالعهد القديم، ووقف عند البعد التاريخي لهذا المضمون وكيفية تفسيره، فقد استعرض رواة التوراة تاريخ أصول إسرائيل كسلسلة من العصور المحددة تحديداً دقيقاً، إلا أنهم في حقيقة الأمر يدرجون في استعراضهم التاريخي كل الذكريات والقصص والخرافات والحكايات والأشعار التي انتقلت إليهم عبر التراث الشفهي ضمن إطار محدد للأنساب والتاريخ.

ويتفق معظم الشراح المحدثين على أن هذه الصورة التاريخية لا تعدو أن تكون صورة وهمية إلى حد كبير، ولقد خلصت البحوث التاريخية التي أجريت مؤخراً إلى أن الروايات التقليدية عن الخروج من مصر، وغزو كنعان، والوحدة القومية الإسرائيلية قبل النفي، لا تعدو أن تكون قصصاً خيالية، وبغض النظر عن قيمة هذا الوعد في سياقها التاريخي إلا أنه لا يمكن إضفاء طابع معاصر عليه؛ لأنه يعني استخدام الوعد كصك للملكية أو استخدامه لتسويغ أي ادعاءات سياسية، فليس لأي نهج سياسي الحق في أن يدعي لنفسه أنه جدير بضمان هذا الوعد.

والخرافة الثانية: خرافة الشعب المختار، وتنطلق من سفر الخروج: “ثم قل لفرعون: هذا ما يقوله الرب: إسرائيل هو ابني البكر. قلت لك: أطلق ابني ليعبدني، ولكنك رفضت إطلاقه، لذلك سأهلك ابنك البكر”، والقراءة المتزمتة لهذا النص: “يمكن تقسيم العالم إلى قسمين، إسرائيل من جهة، والأمم الأخرى مجتمعة من جهة أخرى. فإسرائيل هي الشعب المختار: وهذه عقيدة أساسية”.

وتتمثل هذه الخرافة في الإيمان بدون أي سند تاريخي بأن عقيدة التوحيد ولدت مع العهد القديم، إلا أنه يُستدل من العهد القديم نفسه أن صاحبي المصدرين الرئيسيين لنص العهد القديم، وهما المصدر اليهوي والمصدر الإلوهيمي لم يكونا من الموحدين، فهما لا يتحدثان إلا عن تفوق الإله العبراني على الآلهة الأخرى، بل وغيرته منهم، وهذا فيه إشارة واضحة إلى اختلال عقيدة التوحيد في السياق اليهودي نفسه.

ولذلك ينقض جارودي هذه الخرافة بأمرين، الأول: أن هناك اعترافاً بآلهة أخرى، كما نقل ذلك عن نسخة الترجمة المسكونية للكتاب المقدس في إحدى الحواشي إلى أنه “لفترة طويلة سادة الاعتقاد يسرائيل بوجود آلهة أخرى ذوي قوة وبأس”، والأمر الثاني: تقريره أن عقيدة التوحيد ليست خاصة باليهود باعتبارهم شعب الله المختار بل وسعت ديانات أخرى في الشرق الأوسط وغيرها من بقاع المعمورة.

والخرافة الثالثة: خرافة يشوع والتطهير والعرقي، وتنطلق هذه الخرافة من سفر يشوع: “ثم تحرك يشوع وجيش إسرائيل من لخيش نحو عجلون فحاصروها وحاربوها، واستولوا عليها في ذلك اليوم ودمروها، وقضوا على كل نفس فيها بحد السيف، على غرار ما صنعوا بلخيش ثم اتجه يشوع بقواته من عجلون إلى حبرون وهاجموها، واستولوا عليها ودمروها مع بقية ضواحيها التابعة لها، وقتلوا ملكها وكل نفس فيها بحد السيف فلم يفلت منها ناج، على غرار ما صنعوا بعجلون، وهكذا قضوا على كل نفس فيها ..”.

والقراءة المتزمتة لهذا النص من قبل الصهيونية السياسية: في 9 أبريل/ نيسان 1948 أقدم مناحيم ومعه قوات منظمة آرجون على قتل 254 من الرجال والنساء والأطفال من أهالي قرية دير ياسين.

وفي سياق نقضه لهذه الخرافة يشير جارودي إلى أن عملية إقحام الأسطورة في التاريخ، والادعاءات المرتبطة بهذا الترقيع التاريخي ما هي إلا أداة لتبرير عمليات الاغتصاب التي يمارسها الكيان الصهيوني ليس فقط من خلال سياستها التوسعية في الشرق الأوسط بل أيضاً من خلال نفوذ جماعات الضغط الموالية لها.  

ولذلك يؤكد على كارثية وعواقب المحاكاة الحرفية لتمجيد سياسة الإبادة، فما صنعه موسى ويشوع من الإبادة -بحسب ما تدعيه الخرافة- ما الذي يمنع يهودياً متزمتاً من أن يحذو ما فعله موسى ويشوع؟ وقد كان هذا هو النهج الذي اتبعه الصهاينة في التعامل مع الفلسطينيين من شارون إلى الحاخام مائير كاهانا على مدى تاريخهم المعاصر.

خرافات القرن العشرين:

وفي الباب الثاني من كتابه يسوق جارودي تحت عنوان: (أساطير القرن العشرين) أربع خرافات، شأنها شأن قسيماتها من أخواتها التاريخية في استثمار التوظيف السياسي لها لتبرير السياسات الصهيونية:

أولى هذه الخرافات خرافة الصهيونية المعادية للفاشية، فصنيع الصهاينة مع أرباب النازية والفاشية لا يتوافق مطلقاً مع ادعاءاتهم العداء معهم، فقد أبدى القادة الصهاينة خلال عصر الفاشية تحت حكم هتلر وموسوليني سلوكاً مبهماً -كما لاحظ جارودي من خلال الوقائع – تراوح ما بين عرقلة الكفاح ضد النازية والفاشية والسعي للتعاون معها، ففي عام 1941 فقد أقدم إسحاق شامير على الدعوة إلى التحالف مع هتلر ومع ألمانيا النازية في مواجهة بريطانيا العظمى، وهي جريمة لا تغتفر في الميزان اليهودي.

ذلك أن الهدف الرئيس للصهاينة لم يكن إنقاذ اليهود، بل إنشاء دولة يهودية في فلسطين، وتعكس هذه الأعمال نهجاً ثابتاً منذ أن استبعد ثيودور هرتزل تعريف اليهودي القائم على الانتماء الديني ليحل محله التعريف القائم على أساس عرقي.

وفي سياق تعاملهم مع اليهود ميز النازيون بين نوعين من اليهود، وهما الصهاينة وأنصار الاندماج، ويعد النوع الثاني العدو الرئيس للقادة الصهاينة فضلاً عن النازيين، ولذلك لا يتوانى الصهاينة عن التضحية بأتباعهم لتمرير مخططاتهم التوسعية.

ويدلل على هذا مثال صارخ يغني عن غيره، وقد ساقه جارودي في أمثلة غيره، ففي 2 مايو/أيار 1948 قدم الحاخام كلوزنر الذي كان يتولى مسؤولية النازحين من ديارهم تقريراً أمام المؤتمر اليهودي الأمريكي، ومما جاء فيه: “إنني مقتنع بأنه ينبغي إرغام الناس على الذهاب إلى فلسطين .. وحينما أقول كلمة إرغام، فإنني أعني طرح برنامج محدد .. وقد يتطلب الأمر في مرحلة تالية استدعاء قوات الهاجانا للتحرش باليهود”.

ومن صور هذا التحرش: تفجير الباخرة التي تقل يهوداً عند توقفها في ميناء حيفا في طريقها إلى مدغشقر عام 1940 على يد هذه المنظمة الصهيونية ، وأيضاً أحداث العراق حيث بدأت الأعمال الإجرامية الصهيونية ضد الجالية اليهودية في العراق بعد رفضهم تسجيل أسمائهم في قوائم الراغبين في الهجرة إلى فلسطين عام 1950.

    فكل ما كان يشغل فكر القادة الصهاينة من البدء حتى المنتهى هو إقامة دولة قوية في فلسطين، ونقل مادة بشرية نافعة إليها بدلاً من اليهود الأقل كفاءة، ولم يردعهم كونهم من أتباعهم في اتباع سياسات التصفية والتضحية بهم لأجل تحقيق هذه السياسات.

والخرافة الثانية: خرافة عدالة محاكمات نورمبرج، فبعد مقدمة طويلة عرض فيها جارودي الكيفية التي تأسست بها هذه المحاكمات وما جرى قبلها، يقف بالبحث والنظر عند الأكاذيب الصارخة التي ألحقت ولا تزال، وتلحق أكبر الضرر بمنطقة الشرق الأوسط -كما أسماه- بل في العالم بأسره، ألا وهو خرافة إبادة ستة ملايين يهودي، والتي أصبحت عقيدة راسخة تبرر بل وتقدس كل صور الابتزاز التي يمارسها الكيان الصهيوني في فلسطين وفي غيرها، بوضع هذه الممارسات فوق القانون الدولي.

فقد صدقت محكمة نورمبرج على هذا الرقم رسمياً، ومنذ ذلك الوقت لم يتوقف استخدامه للتأثير على الرأي العام وتوجيهه من خلال وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة، ومن خلال الأعمال الأدبية والسينمائية، وحتى الكتب المدرسية، بيد أن هذا الرقم لم يكن مستنداً على حقائق؛ فالمحكمة افتقرت إلى وسائل المعلومات التي تتوافر عادة في أي محاكمة جنائية عادية حتى يتسنى تكوين صورة وافية دقيقة عن الوقائع مثلما حدثت لحظة الجريمة.

ولذلك اعترفت المحكمة نفسها بأنها لم تكن بحوزتها سوى أسانيد واهية لتأييد حكمها، وقد ساق جارودي من الوقائع المتعلقة بالشهادات وتحليل قيمتها، والنصوص التي استندت عليها المحكمة في عبارات وألفاظ القادة النازيين لأجل تسويغ الحكم، وكذلك ما يتعلق بالفحص العلمي لأداة الجريمة للتثبت من طريقة استخدامها والآثار المترتبة عليها، كلها لم تسعف المحكمة في إصدار حكم يتناسب مع الجريمة المدعاة.

ولولا سياق المراجعة الذي قصدناه لسقنا الدلائل والوقائع التي ذكرها جارودي في هذا المجال، ويكفي أن نحيل القارئ إلى الكتاب الأصل؛ لأن المراجعة لا تغني قطعاً عن مضمونه.

والخرافة الثالثة: خرافة الملايين الستة (الهولوكوست)، وقد اقترنت بها ثلاثة مسوغات:

الأول: البعد العالمي في تسويق عملية الإبادة الجماعية، فقد أضحى ضرورياً؛ لأجل نسيان جرائم الإبادة التي اقترفها الاستعماريون أنفسهم، كما هو الحال بصنيع الأمريكان مع الهنود الحمر، وصنيع البريطانيين والأمريكان أواخر الحرب العالمية الثانية وخاصة مذبحة دريسدن في ألمانيا في فبراير عام 1945.

الثاني: الطبيعة المصطلحية التي وظفت بها عملية الإبادة، فقد استخدمت ثلاثة مصطلحات في توصيفها: الإبادة الجماعية، والهولوكوست، وشواه، فالأول مقصود به إبادة عرق أو جنس وهم اليهود، والثاني مقصود به إضفاء الطابع المقدس على معاناة اليهود وموتهم، والثالث مقصود به الحرق.

الثالث: هو إضفاء ما يسمى بالحل النهائي على المسألة اليهودية من خلال تصور إبادة جماعية بإعدام ثم بحرق، ومقتنصين ذلك الحل من عبارات النازيين ورسائلهم البينية، ولكن عملية الحل النهائي لم تعن مطلقاً عند النازيين إبادة اليهود، بل مقصود بها تنظيم عملية هجرة لليهود وطردهم من ألمانيا.

    وبشأن أعداد الضحايا وقف جارودي متأملاً التقديرات المختلفة لها في أشهر أماكن الإبادة المدعاة، وهو معسكر أوشفيتز – بيركناو، وهي تقديرات واضح فيها الاختلاق، فقد قدرت الأعداد على الوجه الآتي: تسعة ملايين، ثمانية ملايين، أربعة ملايين، مليونان، مليون ومائتين وخمسين ألفاً، واختلافها دليل اختلاقها.

والخرافة الرابعة: خرافة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وتستند هذه الخرافة بموجب ما يدعيه الصهاينة على مسلمة ومثال، فأما المسلمة، فما جاء في سفر التكوين: “سأعطي نسلك هذه الأرض من وادي العريش إلى النهر الكبير في نهر الفرات”، وانطلاقاً من هذا الوعد يذهب القادة الصهاينة وحتى الملحدين منهم إلى القول: إن الرب وهبنا أرض فلسطين، وذلك دون التساؤل عن طبيعة هذا الوعد، أو ما ينطوي عليه الميثاق المعقود مع الرب، أو ما إذا كانت هناك شروط لذلك الاختيار الإلهي.

ولتفكيك هذه الخرافة وقف جارودي أولاً مع مسألة التدين عند الصهاينة، ويشير إلى أن نسبة المتدينين بينهم لا تزيد على 15%، ومع ذلك لا يتورع 90% منهم عن القول بأن تلك الأرض هبة من الرب الذي لا يؤمنون به، ولذلك يرى البعض بإنه إذا قدر لرؤية الحاخامات الظلامية أن تنتصر فسيكون السبب في ذلك أن النزعة الصهيونية الدينية لا تتسق إلا بالعودة إلى عقيدة موسى، فلو استبعدت مفاهيم (الشعب المختار) و(الأرض الموعودة) لانهارت أسس الصهيونية.

وأما المثال، فهو الأنموذج الأمريكي باعتباره سابقة تحتذى في مسألة الوعد، وقد استشهد بهذا بن جوريون نفسه، فعلى مدى قرن كامل لم يضع المستوطنون هناك حدوداً ثابتة لتوسعهم الذي امتد إلى المحيط الهادي، ومن ثم جاءت الممارسات السياسية متطابقة مع تلك الرؤية الغريبة التي تقول: استولوا على الأرض، واطردوا السكان، مثلما فعل يشوع خليفة موسى.

ولأجل تنفيذ سياساتهم هذه كانت لهم ممارسات على الأرض وبدعم من الحكومة الأمريكية، كلها تصب في النهج الصهيوني الذي سعى إلى إيجاد أغلبية يهودية في بلد تسكنه أغلبية من السكان الأصليين العرب الفلسطينيين، وقد ساقت الصهيونية السياسية حلاً وحيداً لهذه المشكلة ينبع من برنامجها الاستعماري ويتمثل في إيجاد تجمع استيطاني في فلسطين وتشجيع الهجرة وطرد الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم كجزء من مشروع واع ومنظم ودؤوب، وكانت المحصلة النهائية لهذه السياسات تشريد مليون ونصف المليون فلسطيني من ديارهم.

التوظيف السياسي للخرافة:

وفي الباب الثالث يقف جارودي تحت عنوان: (التوظيف السياسي للأسطورة) عند الوسائل التي اتبعتها الصهيونية السياسية في تسويق أساطيرها وخرافاتها في دائرتين مكانيتين، وهما الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، من خلال جماعات الضغط الصهيونية فيهما، ثم يستعرض مسألة التمويل الخارجي والوسائل غير الأخلاقية في تحقيق أهداف الصهيونية السياسية.

يستهل جارودي هذا الباب بالدور الكبير الذي لعبته قوى الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة، منطلقاً من تساؤل: كيف استطاعت مثل هذه الخرافات أن تبعث في نفوس ملايين الناس عقائد يصعب اقتلاعها؟ فيقول جواباً: عن طريق تشكيل جماعات ضغط بالغة القوة بوسعها تغيير مجرى نشاط الساسة وأن تتحكم في الرأي العام، أما وسائل العمل لتحقيق هذا الهدف، فتختلف باختلاف البلدان”، ولذلك قال بول فندلي: إن تأثير رئيس وزراء إسرائيل على السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط يفوق تأثيره في بلاده ذاتها”.

وقد ساق جارودي تفاصيل تأثير اللوبي الصهيوني في السياسة الأمريكية الخارجية والحملات الانتخابية للمرشحين إلى الرئاسة الأمريكية، وهكذا أصبح النفوذ المالي ومن ثم السياسي يلعب دوراً حاسماً في عالم يباع ويشترى فيه كل شيء، وما أكثر الأمثلة التي تؤكد على أن قوى الضغط الصهيونية قد نجحت في دفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ مواقف لا تتفق تماماً مع المصالح الأمريكية وإن كانت عظيمة الفائدة للكيان الصهيوني، بل لم تتورع قوى الضغط الصهيونية عن استخدام أي وسيلة لبلوغ أهدافها، من الضغط المالي إلى الابتزاز، ومن مقاطعة وسائل الإعلام إلى التهديد بالقتل، ولهذا يقول بول فندلي: “إن كل من يقدم على انتقاد سياسة إسرائيل يجد نفسه عرضة لأعمال انتقامية شديدة ودائمة، بل وقد يفقد مصدر عيشه نتيجة ضغوط قوى النفوذ الإسرائيلية”.

وأما دور قوى الضغط الصهيونية في فرنسا، فلم يجرؤ أحد فيها غير الجنرال ديغول على أن يقول صراحة: “في فرنسا جماعة ضغط قوية موالية لإسرائيل، وهي تمارس نفوذها في وسائل الإعلام على وجه الخصوص”، وقد كان هذا التأكيد في حينه فضيحة، ولكنه ينطوي -في ظن جارودي- على قدر من الحقيقة لا يزال صائباً حتى اليوم.

ومن ذلك الحين ما من مرشح للرئاسة الفرنسية أياً كان الحزب الذي ينتمي إليه إلا وذهب إلى الكيان الصهيوني ملتمساً الدعم الإعلامي، وتعد (الرابطة الدولية لمناهضة العنصرية ومعاداة السامية) مركز قيادة جماعة الضغط هذه، والتي بلغ نفوذها الإعلامي حداً يتيح لها أن تتلاعب بالرأي العام كيفما شاءت، وبالرغم من أن اليهود لا يمثلون سوى 2% من سكان فرنسا، إلا أن الصهيونية تسيطر على معظم صانعي القرار السياسي في وسائل الإعلام.

وقد كانت لجارودي تجربة عملية في هذا المجال ساقها تفصيلاً في كتابه منذ انتقاده للعدوان الصهيوني على لبنان عام 1982، فضلاً عن مسار محاكمته بسبب كتابه المتعلق بالأساطير والخرافات الصهيونية، وما تلاه من محاربة في وسائل الإعلام ودور النشر.

وفيما يتعلق بخرافة المعجزة الإسرائيلية: التمويل الخارجي، استهلها جارودي بما قاله يشياهو ليبوفيتز الأستاذ في الجامعة العبرية في القدس: “إن قوة القبضة اليهودية تأتي من القفاز الأمريكي الفولاذي الذي يغطيها، ومن الدولارات التي تبطنه”.

وفي اقتباسين مهمين يدلان على حقيقة التمويل الخارجي الذي ساعد في اختلاق هذه المعجزة وكيفيتها اللاأخلاقية ينقل جارودي عن ناحوم جولدمان في سيرته الذاتية أن إسرائيل أرسلت مذكرتين إلى الحلفاء الأربعة في مستهل عام 1951 ذكرت فيهما المطالب اليهودية المتعلقة بالتعويضات والتي بلغت ملياراً ونصف مليار دولار تدفعها مناصفة كل من ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية.

وقد شكلت المبالغ التي دفعتها ألمانياً عاملاً أساسياً في نمو الكيان الصهيوني الاقتصادي، وينقل عن جولدمان أيضاً في كتابه (المفارقة اليهودية) حديثه عن الوسيلة التي انتزع بها الصهاينة التعويضات من النمسا ومستشارها آنذلك، وذلك عن طريق التهديد والوعيد بالتهمة النازية.

بالإضافة إلى ذلك كان هناك مصدران للتمويل: الأول على الصعيد الاقتصادي، والآخر على صعيد تسليح الكيان الصهيوني بإمكانات عسكرية هائلة، وكان مرجعهما في هذه الحالة الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن الكيان الصهيوني فيما يتعلق بأساليب التمويل لا يريد أن يقف عند دائرة المعونات، بل كان يطمح إلى أكثر من ذلك، وهو إنشاء شبكة مالية عالمية تعمل لصالح الدولة، وبهذا تزايد الاعتماد على الحكومة الأمريكية منذ السبعينات على وجه الخصوص.

وفي خاتمته للأساطير والخرافات الصهيونية، نبه جارودي على جملة من القضايا يلزم في اعتقاده استحضارها عند تناول هذه الخرافات، وأبرز ما فيها في ظننا ما يأتي:

أولاً: رفض القراءة الصهيونية القبلية ذات النزعة القومية لنصوص التوراة، ولذلك يرى أن قراءة هذا الكتاب ينبغي ألا تفضي إلى الالتباس الديني والسياسي بشأن الموقف من التوراة أو الموقف من اليهود أنفسهم، فهنا يميز جارودي بين الظاهرة الصهيونية وبين اليهودية.

ثانياً: الأرض التي قامت عليها دولة الكيان الصهيوني ليست أرضاً موعودة، بل هي أرض مغتصبة تم الاستيلاء عليها.

ثالثاً: نقد مقولة الإبادة النازية لليهود لا يعني بأي حال من الأحوال التهوين من شأن الجريمة، ولكن النقد هنا ينصب على ذلك الاستغلال السياسي للمقولة نفسها، والذي تقوم به دولة لم تكون موجودة أصلاً عندما وقعت هذه الجرائم عن طريق المبالغة في أرقام الضحايا دون سند أو دليل.

رابعاً: تأكيده على الأمانة العلمية في كتابه، فقد حرص كما ذكر على توثيق أي معلومة من خلال إثبات مصادرها والتدليل عليها، وعلى تجنب أي نوع من التزوير أو التحريف للوقائع.

[1] عوض سيد أحمد، قراءة في كتاب الخداع، جريدة حريات السودانية: https://goo.gl/vW4TgM، 5/ديسمبر/2015م.

[2] بشار بكور، قراءة في كتاب أساطير الصهيونية، شبكة الألوكة:  https://goo.gl/nRzyUg، 20/أبريل/2011م.

[3] الصغير شامخ، أسطورة زائفة، ستة مفكرين نسفوا الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل، موقع ميم: https://goo.gl/PpSzAw، 10/ديسمبر/2017م.

[4] ينظر كتاب: محاكمة جارودي، القاهرة، دار الشروق، ط2، 2002م.

[5] روجيه جارودي والحركة الصهيونية، لقاء مع روجيه جارودي في برنامج الشريعة والحياة، الجزيرة: https://goo.gl/6X4PyG، 8/2/1998.

زر الذهاب إلى الأعلى