العقل اليهوديملفـات

نتنياهو المُحرض على حرب إقليمية منذ ربع قرن

ضمن هذا المشروع وفي القلب منه ما يؤمن به نتنياهو من سياسة التعامل مع ما يسميهم “أعداء إسرائيل” وعلى رأسهم الشعب الفلسطيني. إنه يؤمن بشكل مطلق بسياسة الردع

إن فهم المشهد السياسي والاجتماعي المعاصر في إسرائيل يساعد في فهم “العقل اليهودي”. بنيامين نتنياهو شخصية أساسية محورية ومؤثرة في الحياة الإسرائيلية لأكثر من ربع قرن، وهو أطول من ترأس حكومة الكيان منذ إنشائه. إن فهم السياسة الإسرائيلية ودوافعها ومنطلقاتها يرتبط إلى حد بعيد بشخصية هذا الرجل ومعتقداته وما يمكن تسميته بـ “مشروعه الفكري والسياسي”.

ضمن هذا المشروع وفي القلب منه ما يؤمن به نتنياهو من سياسة التعامل مع ما يسميهم “أعداء إسرائيل” وعلى رأسهم الشعب الفلسطيني. إنه يؤمن بشكل مطلق بسياسة الردع، إلى الدرجة التي يرى فيها ياسر عرفات – بعد اتفاق أوسلو – مخربًا ومحرضًا على الإرهاب، وأن اتفاق السلام معه كان خطأ تاريخيًّا، وأن الردع – والردع وحده – هو السبيل للتعامل مع “مشكلة الفلسطينيين”. هذا ما يؤمن به نتنياهو ولا يخفيه.

يتبنى نتنياهو مجموعة مركبة من المعتقدات الدينية والأيديولوجية التي تشكلت من خلال تجاربه السياسية، وانتمائه لحزب الليكود، وآرائه حول الهوية اليهودية والأمن. تتشكل معتقدات نتنياهو من مزيج من القومية اليهودية، والمخاوف الأمنية، والسياسات الاقتصادية اليمينية، والنهج العملي للدبلوماسية الدولية. يمكن وصف هويته الدينية بأنها ثقافية وسياسية أكثر من كونها شخصية، ويستخدم الموضوعات الدينية لتعزيز دعمه بين القطاعات الدينية والقومية من السكان الإسرائيليين. هذه المعتقدات توجِّه قراراته السياسية، وخاصة في مجالات مثل الدفاع، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والإصلاح الاقتصادي.

 

المعتقدات الأساسية لنتنياهو:

  1. الصهيونية والقومية اليهودية:

    نتنياهو صهيوني متشدِّد، ملتزم بقوة بفكرة أن إسرائيل هي الوطن الأم للشعب اليهودي. وهذا الاعتقاد يشكل جوهر أيديولوجيته السياسية، التي تسعى إلى ضمان أمن الدولة اليهودية وبقائها. زعم نتنياهو باستمرار في عشرات أو مئات التصريحات العلنية أن الشعب اليهودي له حقٌّ تاريخي وتوراتي في أرض إسرائيل، ويعتقد نتنياهو ويؤكد دائمًا أن إسرائيل هي المكان الوحيد الذي يمكن لليهود أن يعيشوا فيه بحرية ويدافعوا عن أنفسهم. ترتبط “نسخة” نتنياهو من الصهيونية ارتباطًا وثيقًا بمبدأي: حماية سيادة إسرائيل والحفاظ على الأغلبية اليهودية في إسرائيل.

  2. الأمن والدفاع: أحد المعتقدات الأيديولوجية الأساسية لنتنياهو هو أمن إسرائيل. فهو يعتقد أن إسرائيل لابد وأن تظل قوية، عسكريًّا ودبلوماسيًّا، لحماية مواطنيها. وموقفُه المتشدِّد في الدفاع، وخاصة ضد التهديدات الخارجية مثل إيران والمقاومة الفلسطينية، يشكِّل حجر الزاوية في برنامجه السياسي.
  3. الموقف من إيران: لطالما نظر نتنياهو إلى الطموحات النووية الإيرانية باعتبارها تهديدًا وجوديًّا لإسرائيل وكان من أشدِّ المنتقدين الدوليين للبرنامج النووي الإيراني، حيث دعا إلى اتخاذ تدابير صارمة، بما في ذلك الخيارات العسكرية المباشرة، لمنع إيران من الحصول على الأسلحة النووية.
  4. الهوية الدينية: يتماهى نتنياهو مع القيم اليهودية التقليدية وحتى الأرثوذكسية، ويؤكد على أهمية الحفاظ على إسرائيل كـ دولة يهودية. وبطبيعة الحال يستغرب المسلمون والعرب كون نتنياهو ليس متدينًا في ممارسته الشخصية من عبادات وسلوك، إلا أن نتنياهو كثيرًا ما يستحضر الرمزية الدينية والخطاب الديني لاستمالة القطاعات الدينية والقومية في المجتمع الإسرائيلي، وهو يفعل هذا إما من باب الانتهازية السياسية، أو متبعًا لتيار ليبرالي غربي محافظ لا يرى غضاضة في الإيمان الديني، مع ممارسة الحياة كما يحلو لهم.
  5. وحدة الشعب اليهودي: يدافع نتنياهو عن هذه الوحدة في جميع أنحاء العالم، ويربط بين الأهمية التاريخية والدينية والثقافية لإسرائيل واليهودية العالمية. غالبًا ما تؤثر هذه النظرة على سياسته الخارجية، بما في ذلك تواصله مع المجتمعات اليهودية في الخارج، خاصة في الولايات المتحدة. ويعتبر نتنياهو من أكثر السياسيين الإسرائيليين تواصلًا وتأثيرًا على اليهود خارج إسرائيل.
  6. المعارضة العنيفة لفكرة الدولة الفلسطينية: تطور موقف نتنياهو بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بمرور الوقت، لكنه لا يزال يعارض مجرَّد فكرة قيام دولة فلسطينية، ويزعم دائمًا أن إنشاء دولة فلسطينية سيؤدي إلى زيادة عدم الاستقرار والتهديدات لأمن إسرائيل. يدعم نتنياهو بكل قوة المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، ويرى الضفة جزءًا من الوطن اليهودي التاريخي، وجزءًا لا يتجزأ من مستقبل إسرائيل وأمنها، ويعارض مرارًا وتكرارًا الضغوط الدولية لتجميد النشاط الاستيطاني. نجح نتنياهو إلى حد بعيد في تحجيم المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، لكن طوفان الأقصى أعاد الفاعلية تدريجيًّا لهذه المقاومة بالضفة، وبالتالي أخر آمال نتنياهو بالانتقال إلى فلسطينيي الداخل للخلاص منهم بشكل أو بآخر.
  7. الليبرالية الاقتصادية وسياسات السوق الحرة: نتنياهو مؤيد قوي لـ اقتصاد السوق الحرة. وعندما كان وزيرًا للمالية (في حكومة شارون) في أوائل الألفية، نفذ سلسلة متسارعة من الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية التي تهدف إلى تقليص حجم القطاع العام وخفض الضرائب وتشجيع المشاريع الخاصة. كان إيمانه بالرأسمالية والحد من تدخل الحكومة في الاقتصاد من السمات المميزة لمسيرته السياسية.
  8. البراجماتية في العلاقات الدولية: على الرغم من سياساته الداخلية اليمينية، فقد أظهر نتنياهو مستوى من البراجماتية في العلاقات الدولية. لقد بنى علاقات مع دول لم يكن لها تاريخيًّا علاقة كبيرة بإسرائيل، مثل اتفاقيات إبراهيم مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب، والتي طبّعت العلاقات بين إسرائيل وهذه الدول العربية. تمزج سياسة نتنياهو الخارجية بين السياسة الواقعية والالتزامات الأيديولوجية بالأمن، وغالبًا ما تعمل على محاذاة إسرائيل مع القوى العالمية مثل الولايات المتحدة بينما تسعى في الوقت نفسه إلى حلفاء جدد. لقد مثلت حرب أوكرانيا تحديًّا كبيرًا لنتنياهو، وحشرت برجماتيته في الزاوية بين ولائه للولايات المتحدة وتطلعه للحفاظ على علاقته المتنامية مع روسيا والصين.
  9. الأيديولوجية اليمينية: بصفته زعيم حزب الليكود، يتماشى نتنياهو مع اليمين في السياسة الإسرائيلية، وهذا يشمل الالتزام بالقوة الوطنية، ومعارضة حركات السلام اليسارية التي تدعو إلى تقديم تنازلات أكبر للفلسطينيين، ومقاومة الضغوط الدولية التي تتحدى “السيادة” الإسرائيلية. لقد ضمت حكومته عادة ائتلافًا من الأحزاب اليمينية والدينية، الأمر الذي جعل سياساته تناسب وتروق للعناصر القومية والدينية المتطرفة في المجتمع الإسرائيلي.
  10. اليهودية والعلمانية: تحالَف نتنياهو مع اليمين الديني في إسرائيل للحفاظ على السلطة السياسية (رغم أنه ليس معروفًا بكونه متدينًا شخصيًّا كما سبق معنا). وهو يدعم السياسات التي تفضل المؤسسات الدينية اليهودية ودمجها في المجتمع الإسرائيلي، بما في ذلك الجهود الرامية إلى تحديد الطابع اليهودي لإسرائيل في قوانينها، مثل قانون الدولة القومية المثير للجدل الذي صدر في عام 2018، والذي يحدد إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي. وبرغم ذلك، استطاع نتنياهو أن يحافظ على التوازن بين القطاعات العلمانية والدينية في المجتمع الإسرائيلي إلى حد بعيد، حيث تضم إسرائيل غالبية من العلمانيين، إلا أنه فشل في حفظ هذا التوازن بعد سعيه لتغييرات قضائية كبرى أحدثت شرخًا كبيرًا في المجتمع الإسرائيلي عام ٢٠٢٢.

 

شهادة كاشفة بلا رتوش:

لا شك أن نتنياهو في سياساته ومعتقداته محكوم بحدود ما تسمح به العلاقات الأمريكية الإسرائيلية التي تحافظ على علاقة استراتيجية يتوقف دوامها على الثقة الأمريكية في الأداء الإسرائيلي ومحافظته على المصالح الأمريكية في المنطقة. نتنياهو يفهم حدود هذه العلاقة المصيرية وأظهر براعة في الاستفادة من بعض تناقضاتها، ومن التأثير الشخصي الذي يمكنه القيام به في الضغط على خطوط التماس أو المساحات الرمادية التي أمكنه توجيهها بأقصى ما يمكن لصالح إسرائيل.

من هذا ما قام به من الظهور أمام إحدى لجان الكونجرس بعد أيام قليلة من أحداث ١١ سبتمبر ٢٠0١ ليعلن أمامهم “كلنا أمريكا”، ولتوافق نفس اللجنة على استضافته بعد عام من ١١ سبتمبر – ولم يكن مسئولًا حكوميًّا آنذاك – ليدلي برأيه وشهادته في فكرة شنِّ حرب على العراق!

في جلسة استماع للجنة الإصلاح الحكومي بمجلس النواب الأمريكي في ١٢ سبتمبر ٢٠٠٢، استمعت اللجنة لشهادة ونصائح نتنياهو – كمواطن إسرائيلي! – حول اقتراح شنِّ حرب على العراق للإطاحة بنظام صدام حسين، وإزالة تهديده باستخدام أسلحة الدمار الشامل البيولوجية والكيميائية ضد المصالح الأمريكية وإسرائيل. الجلسة التي استمرت لأكثر من ساعتين شرح فيها نتنياهو بصراحة وفصاحة معتقداته الفاشية المدمرة لحلِّ مشاكل الشرق الأوسط.

تناول نتنياهو وجهة نظر إسرائيل حول الصراع مع العراق، حيث أكد على ضرورة اتخاذ إجراءات ضد صدام حسين بسبب تهديده بامتلاك أسلحة دمار شامل. كما ناقش أهمية التعاون بين الولايات المتحدة وإسرائيل لضمان الأمن، مشددًا على أن الحلول الدبلوماسية لم تكن كافية، وأن انتظار موافقة المجتمع الدولي على شنِّ الحرب ليس له معنى، وسيفوت الفرصة للقضاء على الخطر النووي المحتمل للعراق قبل وقوعه.

معتقدات نتنياهو الاستراتيجية باستخدام القوة القاهرة للقضاء على كل معارضي المشروع الصهيوني، هي بالضبط معتقداته في حرب غزة ولبنان الحالية، وليس بسبب ٧ أكتوبر كما يروج وتروج معه الولايات المتحدة. إن السردية المخادعة بأن أهوال المنطقة بدأت في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، تدحضها شهادة نتنياهو بنفسه وبالوضوح الكامل عام ٢٠٠٢، وهو ما تحقَّق بالفعل في أفغانستان ثم العراق ثمَّ إلى حدٍّ بعيد في سوريا، وكان الدور التالي هو تصفية القضية الفلسطينية تمامًا.

نستعرض هنا شهادة نتنياهو، ودلالاتها لفهم الأهداف الحقيقية للنظام الحاكم في إسرائيل من حربي غزة ولبنان. الفيديو كاملًا[1]، والتفريغ النصي[2] في الهوامش.

 

سياق الشهادة عام ٢٠٠2:

  • في عام 2002، كان السياق السياسي لجلسة استماع نتنياهو أمام الكونجرس الأمريكي مرتبطًا بشكل كبير بالوضع في الشرق الأوسط، وخاصة فيما يتعلَّق بالعراق. في ذلك الوقت، كانت الولايات المتحدة تدرس اتخاذ إجراءات عسكرية ضد نظام صدام حسين في العراق، متَّهمة إياه بامتلاك أسلحة دمار شامل وتهديد الأمن الإقليمي والدولي.
  • كانت هناك مخاوف إسرائيلية متزايدة بشأن برامج الأسلحة العراقية، وخاصة الأسلحة الكيميائية والبيولوجية. كانت الولايات المتحدة تسعى للحصول على دعم دولي لعمل عسكري محتمل ضد العراق.
  • اعتبرت إسرائيل العراق تهديدًا أمنيًّا كبيرًا، خاصة بعد حرب الخليج الأولى في عام 1991، حيث أطلق العراق بعض صواريخ سكود على إسرائيل.
  • كانت إدارة بوش الابن تسعى للحصول على دعم من حلفائها، بما في ذلك إسرائيل، لتسويغ أي عمل عسكري ضد العراق.
  • نتنياهو بصفته رئيس وزراء إسرائيل السابق آنذاك وعضوًا مبرَّزًا في السياسة الإسرائيلية، كان يُعتبر صوتًا مؤثرًا في القضايا الأمنية الإقليمية. شهادته كانت تهدف إلى تسليط الضوء على المخاطر التي يشكلها العراق من وجهة نظر إسرائيلية، وبالتالي تشجيع الإدارة الأمريكية على شنِّ حربها ضد العراق، أمام بعض المعارضة الداخلية.
  • كانت جلسة الاستماع بعد عام واحد من أحداث ١١ سبتمبر، وبعد احتلال أفغانستان، وبعد ساعات فقط من خطاب للرئيس بوش الابن أمام الأمم المتحدة أعلن فيه تصميمه على المضي قدمًا في حربه على الإرهاب بلا هوادة، وأن بلاده لن تتسامح مع الدول التي تدعم أو تأوي الإرهابيين. وأشار بوش إلى العراق كتهديد محتمل، متحدثًا عن أسلحة الدمار الشامل التي يُزعم أن النظام العراقي يمتلكها، دعا إلى اتخاذ إجراءات ضد العراق إذا لم يمتثل لقرارات الأمم المتحدة.
  • كانت تقارير متتابعة للجان الأمم المتحدة للتفتيش على أسلحة دمار شامل بالعراق، قد أكدت عدم عثورها على أي أدلة لوجود مثل تلك الأسلحة.

 

شهادة نتنياهو:

قدم نتنياهو، الذي كان آنذاك زعيم المعارضة الإسرائيلية، تحذيرات قوية بشأن العراق. أبرز النقاط التي تناولها نتنياهو شملت:

  • قوله في مستهل شهادته: أعتقد أنني لو أتيحت لي الفرصة للتحدث قبل أحداث ١١ سبتمبر، لتقدمت بنفس الاقتراحات تقريبًا بشأن الكيفية التي ينبغي أن نخوض بها الحرب ضد الإرهاب وكيف يمكن أن ننتصر فيها. ولكنني كنت لأشير إلى أن مفتاح هزيمة الإرهاب يكمن في ردع وتدمير الأنظمة التي تؤوي الإرهاب وتشجعه وتساعده. وكنت لأزعم أن استئصال الإرهاب، وشبكة الإرهاب بأكملها ـ أي الشبكة التي تتألف من نحو ستة أنظمة حكم إرهابية وعشرين منظمة إرهابية تابعة لها ـ يتطلب القضاء على هذه الشبكة الإرهابية بالكامل. والأمر الأكثر أهمية هو أنني كنت لأحذر من أن الخطر الأعظم الذي يواجه عالمنا يتمثل في الاحتمال المشؤوم المتمثل في أن أي عضو من هذه الشبكة الإرهابية قد يحصل على الأسلحة النووية. حتى لو عرضت آرائي بأكثر الطرق تماسكًا وإقناعًا، فلا شك لدي في أن بعضكم، وربما أغلبكم، كان ليعتبرها مبالغًا فيها وحتى مثيرة للذعر. ولكن بعد ذلك جاء ١١ سبتمبر، فتحول الخيال إلى حقيقة وأصبح ما لا يمكن تصوره حقيقة.
  • كرر تذكير الأميركيين إلى المخاطر الجسيمة التي تواجههم، وأنه لو امتلك تنظيم القاعدة الأسلحة النووية في أحداث ١١ سبتمبر، لما كانت مدينة نيويورك موجودة اليوم، وأن الأمريكيين كانوا ليقضوا أمس في الحزن ليس على آلاف، بل على ملايين القتلى.
  • وصف نتنياهو العراق تحت حكم صدام حسين بأنه يشكل تهديدًا ليس فقط لإسرائيل ولكن أيضًا للولايات المتحدة وحلفائها.
  • أكد على أن العراق يمتلك بالفعل أسلحة دمار شامل بيولوجية وكيميائية، ويعمل بنشاط على تطوير برامج نووية. وقال إن صدام الذي سبق واستخدم أسلحة كيميائية ضد شعبه وجيرانه، لديه الرغبة والاستعداد الكامل لاستخدام ما يملكه من أسلحة دمار شامل.
  • أكد نتنياهو على وجود روابط بين نظام صدام حسين وشبكة كبيرة من الجماعات الإرهابية، بما في ذلك تنظيم القاعدة، محذرًا من أن العراق قد يزود هذه الجماعات بأسلحة دمار شامل.
  • دعا نتنياهو الولايات المتحدة إلى أهمية التحرك بسرعة قبل فوات الأوان، واتخاذ إجراءات عسكرية ضد العراق، مشددًا على أن الإطاحة بصدام حسين ستسهم في تعزيز الأمن في المنطقة.
  • هاجم الحُجة القائلة بأن أمريكا لا تستطيع الإطاحة بصدام دون موافقة مسبقة من المجتمع الدولي، وقال إن مثل هذه الموافقة غير ضرورية وغير ممكنة أصلًا، لأن صدام يُوسع ترسانته من الأسلحة البيولوجية والكيميائية بسرعة، وأنه طاغية يحاول جاهدًا الحصول على الأسلحة النووية.
  • للتدليل على وجاهة رفضه للانتظار لأي موافقة دولية، قال: إن بلادي تدرك المخاطر التي يفرضها صدام حسين المسلح نوويًّا. فقبل ٢٠ سنة من أحداث ١١ سبتمبر، أي في عام 1981، أرسل مناحيم بيجين سلاح الجو الإسرائيلي في غارة قبل الفجر دمرت المفاعل النووي العراقي. وربما حدث هذا قبل أشهر قليلة من قدرة صدام حسين على تجميع الكتلة الحرجة من البلوتونيوم اللازمة لصنع أول قنبلة ذرية، أو أكثر من قنبلة. في ذلك الوقت، أدانت كل حكومات العالم، حتى حكومة أقرب صديق لنا، الولايات المتحدة، إسرائيل. ولكنني أعتقد أن التاريخ قد أصدر حكمًا أكثر لطفًا على هذا العمل الذي يتسم بالحكمة التي لا تقبل الشكَّ، والشجاعة التي لا تخطئها العين. وأعتقد أن حكم التاريخ هو الذي ينبغي أن يوجِّه حكمنا اليوم. فهل شنت إسرائيل تلك الضربة الاستباقية لأن صدام ارتكب عملًا إرهابيًّا محددًا ضدنا؟ وهل وافقنا على تصرفاتنا على المستوى الدولي؟ وهل اشترطنا موافقة الأمم المتحدة على هذه العملية؟ كلا، بالطبع لا. لقد تصرفت إسرائيل لأنها أدركت أن امتلاك صدام للسلاح النووي من شأنه أن يعرض بقاءنا للخطر.
  • وضرب نتنياهو مثلًا عجيبًا لاعتقاده المدمر، ولكنه مثل يناسب العقل والمزاج والتاريخ الأمريكي، فقال: إذا حاولت إلحاق الهزيمة بالمافيا، فلا تكتف بملاحقة الجنود المشاة الذين نفذوا الهجوم الأخير، أو حتى تتوقف عند إلقاء القبض على “الدون” الذي أرسلهم؛ بل عليك بملاحقة شبكة الجريمة المنظمة بأكملها، وكل الأسر، وكل المنظمات، كلها.
  • وعلى نحو مماثل، قدم نتنياهو نصيحته: إذا كنت تنوي إلحاق الهزيمة بالإرهاب، فلا تكتف بملاحقة الإرهابيين الذين نفذوا الهجوم الأخير (في ١١ سبتمبر) أو حتى النظام الذي أرسلهم؛ بل عليك بملاحقة شبكة الإرهاب بأكملها، وكل أنظمة الحكم التي تدعم الإرهاب، وكل المنظمات التي تؤويها. كلها.
  • إن القيام بذلك يستلزم دائمًا الحاجة إلى التحرُّك قبل شنِّ هجمات إضافية. فعندما يتعرَّض أمن دولة ما للخطر، يتعيَّن على الحكومة المسؤولة أن تتخذ الإجراءات اللازمة لحماية مواطنيها والقضاء على التهديد الذي يواجههم. وفي بعض الأحيان يتطلب هذا اتخاذ إجراءات استباقية.
  • قطع نتنياهو الطريق على منتقدي فكرة الحرب الاستباقية، ورأى أنها كانت في تاريخ الديمقراطيات، الخيار الأصعب الذي كان يتعين على القادة اتخاذه، وذلك لأنه في وقت اتخاذ القرار، لا يمكنك أبدًا إثبات خطأ المنتقدين. ولا يمكنك أبدًا أن تثبت لهم الكارثة العظمى التي تم تجنُّبها من خلال اتخاذ إجراءات استباقية. وادعى أنه لو اتخذت الديمقراطيات إجراءات استباقية لإسقاط هتلر في ثلاثينيات القرن العشرين، لكان من الممكن تجنب أسوأ الفظائع في التاريخ.
  • وهكذا زعم نتنياهو أنه يعلم – من المنشقين العراقيين ومن مصادر استخباراتية أخرى – أنه لو لم تشنَّ إسرائيل هجومها الاستباقي على مصنع صدام للقنبلة الذرية، لكان التاريخ الحديث قد تحول إلى كارثة!
  • أشار إلى أن الإطاحة بنظام صدام حسين قد تؤدي إلى تغيير إيجابي في الشرق الأوسط، مما يساعد على تحقيق السلام والاستقرار، وذلك بإحلال أنظمة ديمقراطية مع حزمة مساعدات اقتصادية بدلًا من الأنظمة القمعية في العراق وأفغانستان وسوريا، وهذا سيغري باقي دول الشرق الأوسط باتباع هذه النماذج من التحول بالقوة.
  • أكد نتنياهو على أن التاريخ سيشهد على نجاح وفاعلية ما ينادي به، عندما تثبت السنوات القادمة كيف تحولت أفغانستان والعراق إلى بلدان ديمقراطية مزدهرة، وأنه لا ينبغي الانتظار لظهور بن لادن وملا عمر وصدام جديد في الشرق الأوسط.
  • ختم نتنياهو شهادته بهذه العبارة الدرامية، التي تؤثر عادة في الجمهور الأمريكي: “لابد من إسقاط هذه الأنظمة قبل أن تمتلك القوة التي تُمكنها من إسقاطنا جميعًا”.

 

بعد شرح اعتقاده الراسخ في كيفية التعامل مع خصومه، قدَّم النصائح المباشرة التالية للجنة الاستماع:

  1. إن الغرب قادر على الفوز في الحرب ضد الإرهاب. ويمكنه أن يفضح ازدواجيته ويعاقب مرتكبيه ورعاته. ولكن يجب عليه أولًا أن يفوز في الحرب ضد ضعفه الداخلي، وهذا يتطلب الشجاعة. وسوف نحتاج إلى ثلاثة أنواع على الأقل من الشجاعة.
  2. يجب أن يتمتع رجال الدولة بالشجاعة السياسية لتقديم الحقيقة، مهما كانت غير سارة، لشعوبهم. ويجب أن يكونوا مستعدِّين لاتخاذ قرارات صعبة، واتخاذ تدابير قد تنطوي على مخاطر كبيرة وتخضعهم للنقد العام.
  3. سوف يحتاج الجنود الذين سوف يتم استدعاؤهم لمحاربة الإرهابيين إلى إظهار الشجاعة العسكرية. وثالثًا، سوف يتعين على الناس أن يظهروا شجاعة مدنية. ويتعين على مواطني الديمقراطية التي يهددها الإرهابيون أن ينظروا إلى أنفسهم بمعنى ما باعتبارهم جنودًا في معركة مشتركة. ولا ينبغي لهم أن يضغطوا على حكومتهم لحملها على الاستسلام أو الاستسلام للإرهاب. وإذا كنا نريد حقًّا أن نفوز في الحرب ضد الإرهاب، فلابد وأن يكون الناس على استعداد لتحمُّل التضحيات ـ وحتى في حالة فقدان الأحباء ـ فإنهم سوف يتحملون آلامًا لا يمكن قياسها. والإرهاب ظاهرة تحاول استحضار شعور واحد وهو: الخوف. ومن المفهوم إذن أن الفضيلة الوحيدة ـ الضرورية لهزيمة الإرهاب ـ هي نقيض الخوف: الشجاعة. فقد قال الرومان: إن الشجاعة ليست الفضيلة الوحيدة، ولكنها الفضيلة الوحيدة التي بدونها تصبح كل الفضائل الأخرى بلا معنى. ولابد من الردِّ على التحدي الإرهابي. إن الاختيار بين مجتمع حرٍّ قائم على القانون والرحمة وبين الهمجية في خدمة القوة الغاشمة والطغيان.
  4. لقد سهَّل الارتباك والتردُّد صعود الإرهاب، وإن الوضوح والشجاعة سيضمنان هزيمته.

 

وخلاصة شهادة نتنياهو:

في كلمات قليلة، أراد نتنياهو أن يثبت نظرية “الحرب الاستباقية“، وأن يسوِّغ للولايات المتحدة أن تكون مثل إسرائيل: الخصم والحكم في آن واحد، تدعي أن صدام له علاقة خفية بتنظيم القاعدة، وأنه يمتلك أسلحة دمار شامل، ومن ثمَّ تصدر الحكم بشنِّ الحرب عليه واستئصال نظامه، حتى لو لم يقتنع العالم بأسره!

شهادة نتنياهو أمام الكونجرس في عام 2002 كان لها تأثيرات ملحوظة على العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، ومن أبرز هذه التأثيرات:

  1. قدم نتنياهو حججًا قوية حول التهديدات التي تواجهها إسرائيل من العراق ودول أخرى في المنطقة، مما ساعد في تعزيز الدعم الأمريكي لإسرائيل في سياق ما يعرف بالحرب على الإرهاب.
  2. شهادته أسهمت في تشكيل رأي أغلبية في الكونجرس، وكذلك بنسبة ما في الرأي العام الأمريكي حول ضرورة اتخاذ “إجراءات” ضد العراق، مما أدى إلى دعم أكبر للحرب على العراق في عام 2003.
  3. بعد الشهادة، زادت الولايات المتحدة من تعاونها الأمني مع إسرائيل، بما في ذلك المساعدات العسكرية والتكنولوجيا الدفاعية.
  4. بينما عززت الشهادة العلاقات مع الولايات المتحدة، أدت أيضًا إلى توتُّر العلاقات مع بعض الدول العربية التي اعتبرت ذلك تدخلًا في شؤونها.
  5. ساعدت الشهادة في تعزيز موقف نتنياهو كزعيم قوي في إسرائيل، مما أثر على السياسة الداخلية والانتخابات اللاحقة.
  6. بشكل عام، كانت شهادة نتنياهو نقطة تحول في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، حيث أسهمت في تعزيز التعاون بين البلدين في مجالات متعددة.

أسئلة أعضاء اللجنة بعد إدلاء نتنياهو ببيانه، قدمت تأكيدًا وشرحًا أوسع لعقيدة نتنياهو، وكانت أهم هذه الإضافات:

  1. إن إسقاط نظام صدام حسين سيؤثِّر على الأنظمة المجاورة مثل إيران وليبيا، وهذا هو المطلوب للاستقرار الإقليمي.
  2. لقد تغيرت آراء الناس في إسرائيل بشكل كبير خلال العامين الماضيين، حيث أدركوا أن الحلول التقليدية لا تؤدي إلى السلام. هناك حاجة لفهم طبيعة العنف والعلاقات في المنطقة.
  3. في الماضي، كانت هناك وحدة جماعية في إسرائيل للسعي نحو السلام، لكن الأفكار حول كيفية تحقيقه كانت متنوعة. العملية السلمية مع الفلسطينيين التي بدأت في أوسلو اعتمدت على بناء الثقة بدلًا من الردع التقليدي، مما أظهر عواقب وخيمة. هذا النهج أدى إلى انتكاسات كبيرة في السلام.
  4. الحملة الإرهابية التي أطلقها ياسر عرفات كانت من أسوأ الحملات في التاريخ، مما جعل الكثير من الناس في إسرائيل يدركون خطأهم. هذا أدى إلى تغيير كبير في الرأي العام الإسرائيلي.
  5. تغيير النظام في العراق يمكن أن يؤدي إلى تأثيرات إيجابية كبيرة في المنطقة، خاصةً في إيران، حيث يتطلع الشباب الإيراني إلى نمط حياة أكثر ليبرالية وانفتاحًا وتحضُّرًا، مما يعزز فرص التغيير.
  6. تنتشر الأفكار المتطرفة بسبب الأحداث التاريخية التي تُعزِّز شعور الانتصار. أما الشعور بالهزيمة، فإنه يؤدي إلى تقليص قدرة الجماعات الإرهابية على تجنيد الأتباع. إن أحداثًا تاريخية مثل انتصار المجاهدين في أفغانستان أدت إلى انتشار الفكر المتطرف. هذه الأحداث أعطت الأمل للعناصر المتطرفة في إمكانية تحقيق أهدافهم.
  7. الولايات المتحدة اعتمدت على القوة العسكرية للحدِّ من الإرهاب. هذه الإجراءات أثبتت فاعليتها في تقليل الأنشطة الإرهابية في مناطق معينة، وبالمثل فإن تغيير الأنظمة السياسية في الدول التي تسبب الكراهية – مثل العراق – يمكن أن يُسهم في تقليل التطرف. التحولات السياسية والاجتماعية قد تفتح المجال لتخفيف مشاعر الكراهية.
  8. لا شك أن صدام حسين يسعى بشكل جاد لتطوير أسلحة نووية، وهذا يمثل تهديدًا كبيرًا للسلام العالمي. تاريخيًّا، يمكن أن يؤدي امتلاكه لهذه الأسلحة إلى تغيرات جذرية في التوازنات السياسية.
  9. وجود أسلحة نووية في يد الجماعات المتطرفة مثل طالبان أو القذافي يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة على الأمن الدولي.
  10. المملكة العربية السعودية هي واحدة من تلك الحالات التي يغذي فيها النظام الإرهاب من جهة، ومن جهة أخرى يؤيد إقامة علاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة. لقد غذت السعودية الإرهاب من خلال تمويل الإرهابيين، بما في ذلك تنظيم القاعدة الذي تلقى الكثير من الأموال السعودية في أوائل التسعينيات، ولكنها الآن تغذي الإرهاب الفلسطيني من خلال تقديم نظام مكافآت متدرج للمفجرين الانتحاريين، من خلال تقديم دعم مالي سعودي لأسر الانتحاريين، وهذا أكبر حافز يمكن أن تقدمه للتفجير الانتحاري.

أما الحافز السلبي فهو أن الأسرة أصبحت في الواقع أسوأ حالًا. وإذا كان لديك حافز يتمثل في استفادة الأسرة من الأموال السعودية، فإنك في الواقع تحفز الإرهاب. إن السعودية كانت تفعل ذلك، كما أنها كانت للأسف تعمل على تعزيز العقيدة الوهابية داخل المملكة وخارجها، والتي هي شكل خبيث من الإسلام المتشدد. وفي الوقت نفسه، تزعم السعودية، على الأقل على المستوى الدبلوماسي، أنها صديقة للولايات المتحدة. وأعتقد أن الطريقة للتعامل مع هذا الأمر هي أن نقول للسعوديين شيئًا حدَّده الرئيس بوش في أحد خطاباته. فقد قال: “إن كل الأمم لابد وأن تختار: إما أن تكون معنا أو ضدنا في هذه المعركة”. إن السعوديين لابد وأن يتحملوا المسؤولية عن ذلك، وأن يُـضطَر إلى الضغط عليهم بكل ما أوتينا من قوة لوقف تلك الأمور التي تشجِّع على التشدُّد والإرهاب، وأن تحاسبهم الولايات المتحدة على ذلك.

  1. يجب دائمًا اتخاذ إجراءات استباقية للتخلُّص من الأنظمة التي تهدد السلام.
  2. الأنظمة التي لا تتأثر بالردع تشكل تهديدًا دائمًا، مما يستلزم استئصالها وإزالتها بشكل جذري. هذه الأنظمة قد تستخدم أساليب غير تقليدية مثل الهجمات الانتحارية.
  3. تعتبر العراق من الدول الرئيسة في شبكة الإرهاب وتطوير الأسلحة النووية، وبالتالي فإن انهيار نظام صدام حسين سيؤثر بشكل كبير على هذه الشبكة.
  4. إن هناك تباينًا كبيرًا بين آراء القادة العرب الخاصة والعلنية بشأن الضغوط العسكرية على العراق، ويتحدثون في الجلسات الخاصة عن دعمهم التام للتخلص من صدام حسين.
  5. توجد آراء متباينة في العالم العربي تجاه الثقافة الأمريكية، حيث تخشى الأنظمة من الديناميكية المرتبطة بالحريات العامة، ومع ذلك، هناك بعض الأنظمة التي تسعى إلى التحرُّر الاجتماعي.

 

هذه الإضافات التي ظهرت مع أسئلة وتعليقات النواب أعضاء الكونجرس، في جملتها مجرَّد تأكيد بشكل ملح على أفكار ومعتقدات نتنياهو، ومع ذلك أظهرت على السطح بعض الجوانب التي تزيد معتقده وضوحًا وحِدة.

 

تحالف نتنياهو مع الأحزاب الدينية:

من أهم سياسات نتنياهو التي أثرت وتؤثِّر بعمق في الحياة السياسية والاجتماعية لليهود عامة، وللإسرائيليين خاصة، تحالفه القوي مع الأحزاب الدينية. هذا التحالف له جوانب وزوايا عديدة تكشف ملامح بارزة في العقل اليهودي.

نجح نتنياهو في إدارة تحالفاته مع الأحزاب الدينية المتشدِّدة في إسرائيل، على الرغم من كونه شخصية علمانية إلى حدٍّ كبير، وذلك من خلال التركيز على المصالح السياسية المشتركة، وبناء التحالفات البراجماتية، والاتفاقيات ذات المنفعة المتبادلة، وهكذا تمكن من إدارة هذا التحالف بهذه الثلاثية.

 

المصالح السياسية المتبادلة: حيث في النظام البرلماني الإسرائيلي، يتطلب تشكيل الحكومة بناء ائتلاف لأن أي حزب واحد لا يفوز عادة بأغلبية المقاعد الـ 120 في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي). لقد تعلَّم نتنياهو بعد عودته السياسية ورئاسة الليكود في ٢٠٠٥، أنه سيحتاج باستمرار إلى دعم الأحزاب الدينية الأصغر، مثل شاس ويهودية التوراة المتحدة، لتشكيل ائتلاف حاكم مستقر، وتعلَّم في المقابل، أن هذه الأحزاب ستحصل على نفوذ سياسي وضمانات لقضاياها الأساسية، وهو الشيء الذي غامر به نتنياهو لإحكام قبضته على السلطة. صحيح أن حزب الليكود والأحزاب الدينية تقاسموا أيديولوجية يمينية أوسع نطاقًا، وخاصة فيما يتعلق بقضايا مثل الأمن والسيادة الإقليمية ومعارضة أي تنازلات للفلسطينيين، إلا أن نتنياهو أدرك أن هذه الأحزاب لن تتوقف عند هذا الحدِّ، وإنما ستسعى من هذا التداخل الأيديولوجي ليكون مفتاحًا لإحداث تغييرات كبرى في الحياة العامة الإسرائيلية.

براجمتية الأحزاب الدينية: لا تولي هذه الأحزاب اهتمامًا بوضع التدين الشخصي لنتنياهو، بل تركز على مدى استعداده للتقدم في قضاياهم الرئيسة. وتعطي هذه الأحزاب الأولوية للحفاظ على التعليم الديني والتمويل الحكومي للمدارس الدينية والإعفاءات القانونية من الخدمة العسكرية للمتدينين والحفاظ على الوضع الديني الراهن في أمور الأحوال الشخصية مثل الزواج ومراعاة السبت وقوانين الأطعمة اليهودية الحلال (الكوشر)، وقد أظهر نتنياهو مرونة في هذه القضايا الدينية المحلية، مما سمح للأحزاب الدينية بتأمين انتصارات كبيرة في هذه المجالات في مقابل تأمين دعمها السياسي.

موازنة المصالح العلمانية والدينية: نجح نتنياهو – حتى الآن – في المحافظة على توازن معقول بين السكان العلمانيين في إسرائيل والفصائل الدينية. وعلى الرغم من علمانيته الشخصية، فقد دعم باستمرار السياسات التي تحترم الحساسيات الدينية، مثل حماية قوانين السبت أو دعم سلطة المؤسسة الدينية (الحاخامية الكبرى) فيما يتعلق بالزواج والتحوُّل الديني وتعريف اليهودي. ومع ذلك، تظل سياساته عملية؛ فهو لا يدفع باتجاه دولة دينية (ثيوقراطية) تمامًا، وهو ما يجعله مقبولًا لدى قاعدة الناخبين العلمانيين والقوميين الأوسع.

القواسم المشتركة بين نتنياهو والمتطرفين اليهود: يتحالف المتشددون الدينيون، وخاصة الأحزاب الدينية القومية، مع نتنياهو في القضايا المتعلقة بـ الأمن وتوسيع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية والسيادة الإقليمية. وتؤمن هذه الأحزاب، مثل الصهيونية الدينية، بإسرائيل قوية وذات سيادة تستند إلى المطالبات التوراتية والتاريخية بالأرض.

يتردَّد في الخطاب الديني المتطرِّف – مثلًا لبن غفير وسموتريتش – صدى موقف نتنياهو المتشدد بشأن الأمن والدفاع، حيث تتشارك في وجهة نظره حول حاجة إسرائيل للدفاع عن نفسها ضد التهديدات الخارجية ومعارضة أي تنازلات مع الفلسطينيين.

 

التنازلات الاستراتيجية من الطرفين: تنازل نتنياهو استراتيجيًّا – على مرِّ السنين – عن سياسات كان يتمسَّك بها، ورضخ للعديد من المطالب الدينية للحفاظ على هذه الأحزاب في ائتلافه. على سبيل المثال، تحت قيادته، حصلت الأحزاب الحريدية (الأرثوذكسية المتطرفة) على تمويل حكومي للمؤسسات الدينية وإعفاءات من الخدمة العسكرية الإلزامية للرجال الأرثوذكس المتطرفين. من جانب تُظهر تلك التنازلات قدرة نتنياهو ونهجه البراجماتي للبقاء في السلطة، على التعامل مع هذه الصفقات، حتى لو كان ذلك يعني دعم سياسات لا تتوافق مع موقفه العلماني الشخصي. إن قدرته على التكيف مع الحقائق السياسية المتغيرة مكنته من الحفاظ على شراكات سياسية طويلة الأمد مع هذه الأحزاب.

قبول الأحزاب الدينية لنتنياهو: على الرغم من أسلوب حياة نتنياهو العلماني، فإن الأحزاب الدينية تراه غنيمة وشريكًا موثوقًا به سيدافع عن الهوية اليهودية لإسرائيل ويحمي الوضع الديني الراهن في القضايا الحساسة، وهم يُشبهون في هذا موقف الإنجليكيين الأمريكيين من دونالد ترامب. إنهم يعطون الأولوية للنتائج السياسية على المعتقدات الشخصية، مع التركيز على سجل نتنياهو في الوفاء بأولوياتهم. يمكن أن نضيف إلى ذلك، أن فترة ولاية نتنياهو الطويلة ونجاحه الانتخابي المستمر يجعلانه زعيمًا موثوقًا به قادرًا على الحفاظ على أجندات اليمين والدينية سليمة.

 

والخلاصة هنا: أن نجاح نتنياهو في الحفاظ على التحالفات مع الأحزاب الدينية المتشددة، على الرغم من كونه شخصية علمانية، يرجع إلى قدرته على التوافق مع مصالحها الأيديولوجية، وتقديم التنازلات السياسية الاستراتيجية، والتركيز على الأولويات المشتركة مثل الأمن القومي والطابع اليهودي للدولة. والأحزاب الدينية، بدورها، تعطي الأولوية لهذه النتائج العملية على معتقدات نتنياهو الشخصية، مما يجعل التحالف عمليًّا ودائمًا.

 

تأثير تحالفات نتنياهو على الحياة اليهودية:

أدت تحالفات نتنياهو السياسية مع الأحزاب الدينية، إلى جانب الأجندة القومية الدينية لتلك الأحزاب، إلى مخاوف متزايدة من أن المجتمع الإسرائيلي يتجه نحو حياة عامة دينية أكثر صرامة وتشددًا، مما يعزز حالة الاستقطاب والانقسام المجتمعي. لهذه الحالة مظاهر واضحة، أهمها:

التشريعات الدينية: تحت قيادة نتنياهو، دفعت الأحزاب الدينية نحو سياسات تتوافق مع رؤيتها لدولة يهودية يحكمها القانون اليهودي (الهالاخا) في جوانب معينة من الحياة العامة. وتشمل الأمثلة تطبيق قوانين السبت، التي تقيد وسائل النقل العام والنشاط التجاري في يوم السبت، وإعلان قوائم الطعام الكوشر في المؤسسات العامة.

الحاخامية الكبرى: نمت قوة الحاخامية الكبرى في إسرائيل في مجالات مثل الزواج والطلاق والتحوُّل، والحفاظ على السيطرة على القضايا التي تؤثِّر على اليهود المتدينين والعلمانيين. وقد أدت هذه السيطرة الدينية إلى توترات داخل المجتمعات العلمانية التي ترغب في المزيد من المرونة والحرية من الرقابة الدينية.

الإعفاءات العسكرية والسياسات الاقتصادية: حافظت تحالفات نتنياهو مع الأحزاب المتشددة (الحريديم) على السياسة القديمة المتمثلة في إعفاء الرجال الحريديم من الخدمة العسكرية الإلزامية، والسماح لهم بمتابعة الدراسات الدينية بدلًا من ذلك. وقد أثارت هذه السياسة استياء الإسرائيليين العلمانيين الذين يرون أنها غير متكافئة، وهي تديم الانقسام الثقافي بين السكان المتدينين والعلمانيين.

التأثير الاقتصادي: غالبًا ما تؤمن الأحزاب الدينية تمويلًا حكوميًّا كبيرًا لمدارسها الدينية، وأنظمة الرعاية الاجتماعية، والمجتمعات المحلية، ويقول المنتقدون إنها تحوِّل الموارد عن الخدمات العامة الأوسع وتعزز أسلوب حياة يعتمد على الدعم الحكومي دون المساهمة في الجيش أو القوى العاملة.

 

 

التوترات بين القطاعات العلمانية والدينية:

الانقسام المجتمعي: ينقسم سكان إسرائيل بشدة بين اليهود العلمانيين والمتدينين، وقد تفاقم هذا الانقسام بسبب اعتماد نتنياهو على الأحزاب الدينية. غالبًا ما يشعر الإسرائيليون العلمانيون، وخاصة في المناطق الحضرية مثل تل أبيب، بالغربة بسبب السياسات الدينية التي تؤثر على حياتهم اليومية، مثل القيود المفروضة على وسائل النقل العام في يوم السبت أو المناقشات حول الزواج المدني (الذي لا يسمح به القانون الإسرائيلي). أدت هذه الممارسات إلى ردود فعل وتحدٍّ من الإسرائيليين العلمانيين، وخاصة الأجيال الأصغر سنًا، بشكل متزايد لتأثير الأحزاب الدينية، وأخذوا يطالبون بسياسات أكثر ليبرالية بشأن قضايا مثل حقوق الشواذ ومزدوجي الميل الجنسي والمتحولين جنسيًّا والزواج المدني وفصل الدين عن الدولة. وتنمو الحركات التي تدعو إلى التعددية الدينية والحقوق المدنية، على الرغم من أنها تواجه مقاومة من حلفاء نتنياهو المتدينين.

التأثير على الهوية الوطنية والسياسة: تدافع الأحزاب القومية الدينية، مثل الصهيونية الدينية، عن رؤية أكثر ثيوقراطية لإسرائيل، ودمج القانون الديني بشكل أكثر تغلغلًا في حوكمة الدولة. إنهم يدفعون نحو سياسات تعكس تفسيرًا أكثر صرامة للقانون اليهودي، وخاصة في مسائل الحياة الأسرية والتعليم والأخلاق العامة. لا يُستبعد إذا استمرت الأحزاب الدينية في اكتساب النفوذ في السياسة الإسرائيلية، أن يحدث تحول تدريجي نحو مجتمع يحكمه دينيون أكثر. المتطرفون حاليًّا يتحكمون في وزارتي المالية والأمن الداخلي، ولهما نفوذ واسع بطبيعة الحال في مجريات الحياة العامة اليومية للإسرائيليين. ومع ذلك، فإن هذا التحول يواجه معارضة كبيرة من السكان العلمانيين والليبراليين في إسرائيل، بل ومن داخل حزب الليكود الذي ينتمي إليه نتنياهو.

كوابح التأثير الديني: في حين أن النفوذ الديني قوي في مناطق معينة، فإن العلمانية متأصلة بعمق أيضًا، وخاصة في المراكز الحضرية. هذا التباين والتوتر بين الإسرائيليين العلمانيين والمتدينين يعمل بمثابة كبح جماح النفوذ الديني المتطرف، مما يمنع إسرائيل – حاليًّا – من أن تصبح كيانًا ثيوقراطيًّا بالكامل، ومع ذلك فإن بذرة الانقسام المجتمعي بين الفئتين قد تم غرسها وأصبحت مسألة وقت قبل أن تتحول لمواجهة لا يُستبعد أن تكون مسلحة.

 

الصورة من زاوية الأحزاب الدينية: تواجه الأحزاب الدينية في إسرائيل، وخاصة تلك التي شكلت تحالفات مع بنيامين نتنياهو، معضلة معقدة فيما يتعلق باتهامات الفساد الموجهة إليه. فمن ناحية، تحظر القيم الدينية بشدة الفساد والخداع، وهو ما يعتبر – نظريًّا – خطيئة جسيمة في الشريعة اليهودية. ومن ناحية أخرى، فإن الدوافع السياسية والبراجماتية لهذه الأحزاب دفعتها إلى الدفاع عن – أو على الأقل التغاضي عن – اتهامات الفساد الرسمية الموجهة إلى نتنياهو من أجل مصالحها السياسية المشتركة، واستمرت أحزاب دينية مثل شاس ويهود التوراة الموحدة في دعم نتنياهو إلى حدٍّ كبير على الرغم من الإجراءات القانونية الجارية ضده، وذلك بسبب استعداده لحماية مصالحها. إن هذا التناقض الصارخ يضرب المصداقية الأخلاقية لهذه الأحزاب، لأنه ورغم أن الفساد يتعارض مع قيمهم الدينية، فإن هذه الأحزاب تعطي الأولوية للفوائد العملية للتحالف، حيث إن نتنياهو هو أفضل فرصة لهم لتأمين وتوسيع نفوذهم في الحكومة. هذا من شأنه أن يزيد من حدَّة النزاع بينهم وبين العلمانيين الذين سيرون أن دوافع خصومهم المتدينين ليست دينية وإنما سياسية بحتة.

إن ردود أفعال بعض الزعماء الدينيين العلنية تجاه فساد نتنياهو، جعلت من الصعب على تلك الأحزاب تمرير أو تسويغ مواقفها دينيًّا أو أخلاقيًّا. إن بعض زعماء الحريدية عبروا علانية عن انزعاجهم أو خيبة أملهم بشأن مزاعم الفساد، ويسلطون الضوء على أهمية الولاء لنتنياهو كزعيم يدافع عن مصالح المجتمع الديني.

وقد تبنى بعض هؤلاء الزعماء الدينيين وأتباعهم وجهة النظر القائلة بأن “إنقاذ حياة” أو “الطوارئ” لها الأولوية على الالتزام الصارم بالمحظورات الدينية المتعلقة بالفساد. وفي نظرهم، فإن دعم نتنياهو، على الرغم من مشاكله القانونية، ضروري للحفاظ على الطابع اليهودي للدولة، وحماية أمن إسرائيل، والحفاظ على الوضع الديني الراهن في المجتمع الإسرائيلي. وأكثر من هذا أن شرائح من المتدينين تنظر إلى النظام القانوني كله بتشكُّك وتصفه بالقانون العلماني، ولا تأبه باحترامه.

وتشير العديد من استطلاعات الرأي إلى أنه على الرغم من تهم الفساد، لا يزال نتنياهو يتمتع بدعم كبير بين الناخبين المتدينين. ويتجذر هذا الدعم في دفاعه الطويل الأمد عن الهوية اليهودية والتقاليد الدينية في إسرائيل، وأن العديد من الإسرائيليين المتدينين على استعداد لفصل الإجراءات القانونية عن الإنجازات السياسية لنتنياهو، حيث يرون فيه زعيمًا قويًّا يقف في وجه الضغوط الخارجية وببساطة يضمن لهم أسلوب حياتهم.

 

خاتمة:

نتنياهو شخصية محورية مؤثرة في الواقع الاجتماعي والسياسي الإسرائيلي، ومعروفة بدفاعها القوي عن إسرائيل والإصلاحات الاقتصادية والنجاحات الدبلوماسية مثل اتفاقيات إبراهيم مع ثلاث دول عربية، ومع ذلك، شابت فترة ولايته توجيه اتهامات إليه بتهم الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، مما يشكل وصمة عار كبيرة على إرثه السياسي. أدت معتقدات نتنياهو إلى حالة من الاستقطاب المجتمعي الحاد، الذي قد ينزلق إلى احتراب داخلي بين العلمانيين والمتدينين. أفكار نتنياهو المتطرفة أدت إلى دفع المنطقة إلى حافة الهاوية، وقد يؤدي إيمانه العميق باستراتيجية الردع والضربات الاستباقية، إلى تدحرج المنطقة لحرب واسعة.

إن فهم معتقدات نتنياهو يساعد في فهم العقل اليهودي، كما يساعد في استشراف مآلات الحرب الحالية، إذ ظهرت بوضوح شخصية نتنياهو ومعتقداته منذ انطلاق طوفان الأقصى، ومثلت الحرب حالة كاشفة لمكونات شخصيته، ومن ذلك:

  • استهانة نتنياهو بالمنظومة الدولية كلها، فلا قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة ألقى لها بالا، ولا حتى قرارات محكمة العدل الدولية (أعلى هيئة قضائية عالمية) التزم بها، ولا طلب الجنائية الدولية إصدار مذكرات توقيف بحقه هو ووزير حربه، ضغطت عليه. إنه يؤمن أن من حقه تجاوز كل ذلك، ضامنا الغطاء السياسي من الولايات المتحدة.
  • لا يفهم نتنياهو إلا لغة الردع منذ بداية الحرب، وكل حديث عن مفاوضات وقف إطلاق النهار لم ينخرط فيها نتنياهو بجدية مطلقا، بل شارك فيها بالقدر الذي يسمح له بكسب الوقت، والتخلص من مزايدة خصومه عليه في مسألة الرهائن. لقد استطاع التلاعب بكل القوى السياسية حوله، إما ليرضخوا له أو ليبتعدوا، واستخدم في هذا عدة مؤسسات وهيئات (مجلس الحرب، المجلس الوزاري المصغر، مجلس الأمن القومي، ..) ليتلاعب بالجميع وينفذ أجندته رغم كل الضغوط.
  • استفاد نتنياهو من جهود سنوات لإحداث مزيد من الاختراق في العالم العربي، ثم جنى ثماره في تخاذل وصمت عربي يصل إلى حدود التواطؤ، مما طمأنه على سكون المحيط العربي مهما بلغت استباحته للفلسطينيين.
  • صحيح أن الصورة الدولية للكيان ولشخص نتنياهو تأثرت بشكل غير مسبوق، ولكنه يرى إصراره على إذكاء الروح الدينية القومية (الحق التاريخي والوعد الإلهي) يستحق هذه التضحية، وهذا يجعل ولاء الأحزاب الدينية له مضمونا، وظهره في الداخل الإسرائيلي محميًا.

 

د. محمد هشام راغب

[1] https://www.youtube.com/watch?v=4AkcI-ncUpE

[2] https://www.govinfo.gov/content/pkg/CHRG-107hhrg83514/html/CHRG-107hhrg83514.htm

زر الذهاب إلى الأعلى