لموسيس هيس (1862)
يُعتبر هذا الكتاب بحد ذاته وثيقةً داخليةً وشهادةً تؤرخ لحقبةٍ مفصليةٍ من حقب تشكّل المشروع الصهيوني وملابساته ونقاشاته في الوسط اليهودي والأوروبي، فيُجلِّي أبعادًا ويحسم نقاشاتٍ أخرى حول ماهية المشروع ودور العلمانية والإمبريالية والوظيفية وبعض الفلسفات فيه كالداروينية وغيرها. كما تأتي أهميته من كونه كتابًا رائدًا ومؤسسًا للمشروع الصهيوني، وهو أول كتاب صهيوني يضع مسألة القومية اليهودية في سياق القومية الأوروبية. كما أن مؤلفه هيس موريتز هو واحدٌ من رواد الصهيونية.
سيرة المؤلف[1]:
وُلد موسى (موشى) هيس موريتز هيس في بون عام 1812 حيث تلقى تعليمًا دينيًا من جده، لا سيما أن والديه توفيا مبكرًا، ثم درس الفلسفة لاحقًا في جامعة بون. عاش في باريس بصفته مراسلًا لصحيفة اشتراكية ساعد في تأسيسها، ثم فرّ إلى بلجيكا وسويسرا مؤقتًا بمساعدة فريدريك إنجلز بعد قمع كومونة عام 1848، ومرة أخرى خلال الحرب الفرنسية البروسية. كان هيس في الأصل يهوديًا استيعابيا – أي من اليهود الإندماجيين في المجتمع الغربي لا سيما الألماني – لكنه تحول إلى الاشتراكية الطوباوية ثم إلى الاشتراكية العلمية. وكان صديقًا ومتعاونًا مع كارل ماركس وإنجلز، وقدم ماركس إلى المشاكل الاجتماعية والاقتصادية. وقد لعب دورًا مهمًا في تحويل النظرية المثالية الديالكتيكية الهيغلية إلى المادية الديالكتيكية الماركسية.
يعتبر هيس من رواد الصهيونية العمالية. وربما كان هيس مسؤولاً عن العديد من الشعارات والأفكار “الماركسية” بما في ذلك “الدين أفيون الشعب”، وهو ما يفسر حرصه على الديباجات الديبنية في المشروع الصهيوني. كما يُنسب إليه الفضل في فكرة ماركس بأن اليهود كانوا يحبون المال. ومع ذلك، أصبح هيس مترددًا في إسناد التاريخ كله إلى هذا الأساس؛ أي: الأسباب الاقتصادية والصراع الطبقي. وأصبح يرى صراع الأجناس أو القوميات كعامل رئيسٍ في مسار التاريخ على طريقة هيجل خدمةً للنظرة العرقية اليهودية ومشروع الصهيونية لاحقا. وبالتالي أدت نظرياته لاحقا إلى خلافات مع كارل ماركس وفريدريك إنجلز وفقًا لجورج ليشثيم.
عاد هيس إلى ألمانيا بين عامي 1861 إلى 1863، فكتب رسائله حيث أصبح على دراية بالمد الألماني المتصاعد في معاداة اليهود وكذلك محاولات (حركة الاستيعاب اليهودية) الإندماج في المجتمعات التي انتقدها، فيما كان هيس في الأساس يمهد بذلك ويعبِّر أكثر عن رؤيةٍ ونقاشٍ يهوديٍ أعم حول مسألة العودة من أرض الشتات ومرحلة الدياسبورا. كما غيّر هيس اسمه إلى (موسى) احتجاجًا على حركة اليهود الاستيعابية التي رأت الخلاص في الاندماج في المجتمع الألماني والأوروبي والتشبه بهم. في هذه الفترة عاد إلى الدين في شكل وحدة الوجود لسبينوزا – وإن كنت أرجح أنه كان حلوليا أكثر أسوة بعموم اليهود – والتي وجدها تتماهى مع العقيدة اليهودية . وبالتالي نشر موسيس هيس رسائل كتابه “روما والقدس” في عام 1862. وقد فكر فيه هيس في صعود القومية الإيطالية ودولتها (التي تمركزت حول روما فتأسست وتوحدت دولة إيطاليا بناءً على ذلك ) ورد الفعل الألماني عليها، وبالتالي وجدها مناسبةً وفرصةً بالمثل للترويج إلى فكرة الإحياء القومي اليهودي حول مركز القدس. ومن هنا جاء عنوان كتابه “روما والقدس” وقد كان سمّاه في البداية “حياة إسرائيل”.
لقد مرت رسائل “روما والقدس” لموسيس هيس بصمت في عصره دون أن تثير انتباهًا كبيرًا، فيما كان اليهود الألمان عازمين على الاندماج ولم يستجيبوا لتحذيرات هيس. أصبحت مساهمة هيس فيما يسمى بالتحرر الذاتي، مهمةً لاحقًا عندما بدأت الحركة الصهيونية في التبلور وتكوين جمهور.
ينتمي موسيس هيس إلى ما يسمى بأسلاف الصهيونية أو الصهاينة الأوائل الذين ظهروا في منتصف القرن التارسع عشر، وتشمل هذه المجموعة الحاخام يهوذا بيباس (1789-1852)، والحاخام يهوذا بن سليمان هاي القلعي (1798-1878)، والحاخام تسفي هيرش كاليشر (1795-1874).
توفي هيس في باريس عام 1875. وبناءً على طلبه، تم دفنه في المقبرة اليهودية في كولونيا. وفي عام 1961، أعيد دفنه في مقبرة كينيرت في فلسطين. وقد كرّم فلاديمير زئيف جابوتنسكي هيس في كتابه “الفيلق اليهودي في الحرب العالمية” باعتباره أحد الأشخاص الذين جعلوا إعلان بلفور ممكنًا.
نبذة عن كتاب “روما والقدس” أو “حياة إسرائيل”:
هو كتابٌ رائدٌ ومؤسسٌ للمشروع الصهيونيي، نشره موسى هيس عام 1862 في لايبزيغ. ويقع الكتاب في 272 صفحة من القطع المتوسط حسب النسخة الأصلية المودعة في جامعة كورنيل والمنشورة عام 1918. وقد أعطى الكتاب زخمًا للحركة الصهيونية العمالية لاحقا. في كتابه دعا هيس إلى عودة اليهود إلى فلسطين، واقترح دولة اشتراكية يصبح فيها اليهود زراعيين من خلال عملية “استرداد التربة”. وهذا ما وقع بالفعل وانتهى إلى تأسيس دولة الكيان الصهيوني على يد اليهود ذوي الميول العمالية الاشتراكية واليسارية، وما عُرف لاحقًا بحزب العمال والذي تسيد الكيان فترةً طويلة منذ عهد بن غوريون. بل إننا نجد في العهد المعاصر والقريب مدى قرب رابين وبيريز ونتنياهو من كثير من رؤى المؤلف العامة، لا سيما في النظرة إلىى المنطقة والعلاقات الدولية والحضارات.
وكان الكتاب أول كتاب صهيوني يضع مسألة القومية اليهودية في سياق القومية الأوروبية. فهو يرى أن ثمة علاقة بين بعث روما في أوربا وبعث القدس (أورشليم) في الشرق، ولو من باب تسويق الفكرة إلى اليهود المترددين والأوروبيين. ويرى أن ثمة علاقة بين الحركة القومية العضوية والحركة الصهيونية، وهكذا جاء عنوان الكتاب. ولقد تمت كتابته حسبما يدعي هيس والصهاينة على خلفية الاستيعاب اليهودي الألماني ومعاداة السامية الألمانية والكراهية الألمانية للقومية الناشئة في بلدان أخرى، فيما من الواضح أن الفكرة وجدت في القرن السادس عشر وجذورها دينية قديمية ومدعاة، وهو ما لا ينكره هيس على أية حال في طيات كلامه، بل يؤسس له. كما نجد أن الفيلسوف الألماني ليبنيتس روّج لهذا المشروع عند الملك لويس الرابع عشر، ثم تبنى نابليون لاحقا تلك الدعوة ومعها مشروع قناة السويس حيث أطلق دعوةً إلى اليهود لاستيطان فلسطين إبّان محاولاته احتلالها.
ويتحدث الكتاب عن الثورة الفرنسية كمَعْلَم أساسي في تاريخ الغرب، فهي تشكل بعثاً اجتماعياً سيؤيد المشروع الاستعماري الصهيوني في الغرب. وقد مزج فيه هيس بين الفلسفة العلمانية والدينية، والديالكتيك الهيجلي، ووحدة الوجود عند سبينوزا، والماركسية[2].
محاور وطروحات بارزة في الكتاب:
كُتب الكتاب على شكل اثنتي عشرة رسالة موجهة إلى إمرأةٍ ما حزينةٍ قد تكون جهةً رمزية كوالدته المتوفاة، وهذا ما قد يفسر عواطفه المتأججة وحرصه على إظهار دور الأم والأسرة اليهودية. ثم أضاف إلى رسائله خواتيم واستنتجات. طرح هيس في عمله مواضيع وفلسفات ورؤى تأسيسية متنوعة جدا – مليئة بتناقضاتٍ خفيةٍ وفلسفاتٍ حادةٍ وصوفياتٍ وديباجات لازمة وتحالفات سياسية برغماتية ومهادنات ذكية ومسلمات افتراضية – وذلك في سبيل الرأي والمشروع الذي انتصر له، والذي يظهر أنه كان قضية الساعة بين طوائف وجماعات ومفكرين يهود مختلفي الآراء. فمن أهم محاوره وطروحاته:
- يرى هيس أن الحل الوحيد للمسألة اليهودية يكمن في العودة إلى فلسطين التي هي السبيل الوحيد إلى (التجديد اليهودي القومي)، أي “حياة إسرائيل”.
- ينسج هيس منظومةً يهوديةً تجديديةً تعتبر أن النموذج اليهودي غير قابل للتدمير، ولا يمكن اقتلاع الشعور القومي اليهودي ولا “العبقرية اليهودية” التي تحرك دوما التاريخ البشري، حيث ستطور الدين الذي وكلها به الخالق من خلال قدسية العرق اليهودي الذي هو أساس الديانة اليهودية ورسالة الرب.
- يؤسس الكتاب gمبدأ: إذا كان تحرر اليهود لا يمكن التوفيق بينه وبين القومية اليهودية، فيجب على اليهود أن يضحوا بالتحرر من أجل القومية وهو ما يسميه “العبادة الوطنية”.
- يستند الكتاب في محاوره على أنّ التاريخ ما هو إلا ساحة للصراع العرْقي. لذا، تفشل كل محاولات الإصلاح لأنها تتجاهل عنصر العرْق. فعند هيس الصراع العرقي هو الصراع الأولي، والصراع الطبقي ثانوي. ينتصر هنا هيس ببرغماتيته للنظرة الهيجلية إلى الصراع العرقي وتسييره للتاريخ على حساب رفيقه ماركس، ولكن لصالح حتمية السيادة اليهودية.
- يقرر الكتاب إنّ اتجاهات الحياة الاجتماعية تشبه وجهات نظر الحياة الروحية، فهي إبداعات عرقية نموذجية وبدائية. وهيس لا ينفك عن إظهار مفردات الداروينية لكنه ككثر من اليهود يجعلها مقدمة لتبرير سيادة العرق اليهودي والعبقرية اليهودية والحلول الإلهي في التاريخ اليهودي ونظرية الشعب المختار. فإذا كانت اليهودية تدين بخلودها للإنتاجية الدينية الرائعة للعبقرية اليهودية، فإن هذه العبقرية تدين بوجودها لخصوبة العرق اليهودي.
- يغزل الكتاب الثالوث الحلولي في نسيج اليهودية ومشروع العودة الصهيونية؛ فيحل عنده الإله في الطبيعة التي أسمى ما فيها القدس (أورشليم)، لتصبح أرضاً مقدَّسة ومركزاً للكون، أي أرض الميعاد. ويحلّ في الشعب ليصبح شعباً مختاراً، ومقدَّساً أزلياً. كذلك نجد هذه النظرة الحاخامية الحلولية إلى جانب النَفَس الدارويني منتشرة بكثرة عند فلاسفة اليهود. وهي مما أشار إليه أمثال (عبد الوهاب المسيري)
- يتناول المؤلف النظرة الإنسانية للحياة والتي تنبع عنده من النظرة اليهودية إلى الإنسانية… وطالما لم يكن لدى أي شعبٍ آخر مثل هذه العبادة الوطنية والإنسانية، كان اليهود وحدهم شعب الله. فمنذ الثورة الفرنسية أصبح الفرنسيون وكذلك الشعوب الأخرى التي تلتهم هم حلفاء اليهود. فهذا هو العصر الذي ستنهض فيه الأمة اليهودية.
- يبحث الكتاب قرب تشكل الظروف السياسية في الشرق بحيث ستسمح بتنظيم بداية استعادة الدولة اليهودية. فهذه البداية عنده سوف تعبر عن نفسها في تأسيس مستعمرات يهودية في أرض أجدادهم، وهو المشروع الذي سيفرضه الغرب بلا شك على طريق التجارة إلى الهند والصين وفي ملتقى القارات الثلاثة، فدع البذرة فقط تُزرع تحت حماية القوى الأوروبية، حسب هيس.
- يؤكد الكتاب على أن معظم الطوائف المسيحية والشعوب المختلفة متفقون على الرغبة في إعادة الشعب اليهودي إلى تراثه القومي المدعى، وهم متفقون على نفس الوسيلة. وبهذا يعتبر الكتاب وثيقةً مبكرةً تشير إلى الدور الوظيفي الذي سيقدمه هذا الكيان المصطنع إلى الغرب، وقد أكد ذلك هيس بسؤالٍ تقريري:
“ولكن هل هناك دولةٌ أكثر قدرة على القيام بهذه المهمة من إسرائيل التي عٌينت لنفس المهمة منذ بداية تاريخها ؟! ”
- ناقش هيس كتاباتٍ وخططٍ وخطواتٍ عمليٍة ومؤتمراتٍ تتوافق مع مقترحاته نحو إقامة المستعمرات ثم الدولة القومية في فلسطين. وتوقع تنظيم الجمعية التي اقترحها عالم وطني يهودي، واستيطانها النهائي للأرض المقدسة مع المستعمرين اليهود تحت حماية الدول الغربية المتحضرة. كما عرج على جهود وزيارات روتشيلد ومونيفيوري وغيرهما المبكرة لفلسطين لدراسة ودعم المزارع اليهودية، وكذلك مقررات مؤتمر أستراليا لليهود وحلفائهم حول خطوات الاستيطان العملية ودعمه، مما يظهر أن هيرتزل لم يكن مبدع ماكينات الصهيونية، بل جزءً من ماكينةٍ كبيرة.
- استعرض هيس في طول الكتاب وعرضه موضوع العداء لعرق القومية اليهودية، لا سيما علاقة المجتمع الألماني باليهود، وكذلك دور ونظرة اليهود الإصلاحيين والاندماجيين في أوروبا إلى الهوية اليهودية، وقام بالرد على ما اعتبره محاولاتهم اليائسة في الاندماج، ونقد توجهاتهم وابتعادهم عن روح العبادة الوطنية معتبرًا المصلحين الدينيين أكبر خطر على اليهود كخطر داخلي تقويضي. ثم بحث خطر روح (الرجعية الألمانية) ضد الشعوب والثورة الفرنسية التنويرية، وتوقع حلول كارثة بإلمانيا وانتقد موقف مارتن لوثر المنافق من ثورة الفلاحين الألمان، حسب زعمه.
- وكحتميةٍ: يرى موسيس هيس في مرحلة مملكة الروح القدس – وهي مرحلة نهـاية التاريخ التي سـيتحقَّق فيها خلاص الجنـس البـشري بأسره – سينشأ مجتمع اشتراكي ويؤكد التضامن الإنساني نفسه دون أية عوائق، ومن ثمّ فهو مجتمع يحقق رسالة اليهودية القديمة ولكن في إطار علماني. وليس بإمكان اليهود الآن سوى أن ينضموا إلى الحضارة العالمية، تماماً كما فعل باروخ اسبينوزا نبي اليهودية الحقيقي عنده.
جولات مهمة مترجمة في نصوص الكتاب
- القومية العضوية ومحورية العرق اليهودي في تسيير التاريخ والدين عند هيس:
يذكر هيس حقيقة ظهور القومية العضوية كإطار مرجعي في الغرب، فيقرر أنّ حركة التنوير دعوة للعالمية والإخاء ولكن يصاحبها زيادة الوعي القومي في (أوروبا) وزيادة الإحساس بأن الأمة كيان عضوي متماسك. ومصدر التماسك العضوي للشعوب العضوية هو العرْق، فهو القيمة الحاكمة الكبرى، وهو محرك التاريخ.
وهكذا يقول في (الخاتمة الخامسة) للكتاب تحت عنوان “قاعدة السباق الأخير” :
“كان تاريخ البشرية الماضي برمته يتحرك في الأصل فقط في دائرة الصراع العرقي والطبقي. فالصراع العرقي هو الصراع الأولي، والصراع الطبقي ثانوي”. ويضيف: “إنّ اتجاهات الحياة الاجتماعية حالها كحال وجهات نظر الحياة الروحية، هي إبداعات عرقية نموذجية وبدائية”.
ويرى هيس اليهود باعتبارهم قوماً ينقصهم الوعي القومي. وحيث إنّ القومية والعرْق أمران مترادفان في عقل هس وفي وجدان أوروبا في القرن التاسع عشر ، فالعرْق هو مصدر الوحدة العضوية وهو القيمة الحاكمة المرجعية، إذ إنّ الانتماء القومي هو في جوهره انتماءٌ عرْقي. يؤكد هيس هذه المفاهيم في أواخر (الرسالة الرابعة):
“إنّ العرق اليهودي الذي تعرض لضغوط شديدة وكاد أن يدمره العديد من الأمم في العصور القديمة، كان سيختفي منذ زمن طويل في بحر الأمم الهندية الجرمانية، لو لم يُمنح هبة الاحتفاظ بنوعه الخاص في جميع الظروف وإعادة إنتاجه. وإذا كانت اليهودية تدين بخلودها للإنتاجية الدينية الرائعة للعبقرية اليهودية، فإن هذه العبقرية تدين بوجودها لخصوبة العرق اليهودي… إن العرق اليهودي في كل أنحاء العالم يمتلك القدرة على التأقلم أكثر من كل الأجناس الأخرى…”
ويؤكد هيس:
“إن اليهودي التقي هو قبل كل شيء وطني يهودي. فاليهودي الذي ينكر وجود القومية اليهودية، ليس فقط هاربا بالمعنى الديني، بل هو أيضا خائن لشعبه وعرقه وحتى لعائلته. وإذا كان صحيحا أن التحرر اليهودي في المنفى لا يتوافق مع القومية اليهودية، فإنه كان من واجب اليهود التضحية بالأولى من أجل الثانية”.
- هيس وضرورة الدولة القومية اليهودية:
يواصل هيس التمهيد لمسألة ضرورة الدولة القومية اليهودية في أواخر (الرسالة الخامسة) من خلال عباراته:
“ما الفائدة من أن يصل يهودي مستنير هنا وهناك إلى منصب رفيع، في حين أن اسم “يهودي” يرتبط بوصمة عار يمكن لكل صحفي مغمور، وكل زميل غبي، أن يحاسب عليها بأمان؟.
وطالما يسعى اليهودي إلى إنكار جنسيته، وطالما أنه غير مستعد للاعتراف بانتمائه إلى ذلك الشعب البائس والمضطهد، فإن موقفه الخاطئ يجب أن يصبح يومًا بعد يوم لا يطاق أكثر. لماذا الوهم؟ فلقد اعتبرت الدول الأوروبية دائمًا وجود اليهود في وسطها أمرًا شاذًا. سنبقى دائما غرباء بين الأمم… اليهودي في المنفى الذي ينكر جنسيته لن يحظى أبدًا باحترام الأمم التي يعيش بينها. قد يصبح مواطناً متجنساً، لكنه لن يتمكن أبداً من إقناع الأمميين بانفصاله التام عن جنسيته”.
ثم يضيف:
“اعتقادي المسيحاني هو الإيمان بتجديد الأمم المتحضرة التاريخية، والذي لن يتم إلا برفع الأمم المضطهدة إلى مستوى الأمم الجبارة والمهيمنة… ما زلت أعتقد أن المسيحية كانت خطوةً إلى الأمام على الطريق نحو هدف الإنسانية، والذي أطلق عليه أنبياء اليهود اسم العصر المسيحاني. اليوم، كما هو الحال دائما، ما زلت أعتقد أن العصر الحالي العظيم في التاريخ العالمي قد تجلى لأول مرة في تعاليم سبينوزا… فالمسيحية في نهاية المطاف هي دين الموت الذي توقفت وظيفته في اللحظة التي استيقظت فيها الأمم من جديد. إنّ تاريخ الأمم الأوروبية على مدى الثلاثمائة عام الماضية يوضح بوضوح حقيقة هذا القول المأثور. لكنني سأقتصر على لفت انتباهكم إلى الأحداث التي تجري حاليًا في إيطاليا…
فعلى أنقاض روما المسيحية يرتفع الشعب الإيطالي المتجدد. ويمارس الإسلام في الشرق تأثيراً مماثلاً لتأثير المسيحية. كلتا الديانتين تعلمان الاستسلام والخضوع، وتتبع تركيا نفس السياسة التي تمارسها النمسا في إيطاليا فيما يتعلق بفلسطين. إنّ المسيحية والإسلام ليسا سوى نقوش على شواهد القبور التي أقامها القمع الهمجي على قبور الشعوب الضعيفة، لكن جنود الحضارة الفرنسيين يكتسحون تدريجيًا هيمنة البرابرة”
ويقول في ذات (الرسالة الخامسة):
“في تلك البلدان التي تشكل خطاً فاصلاً بين الغرب والشرق، وهي روسيا وبولندا وبروسيا والنمسا وتركيا، يعيش الملايين من إخواننا الذين يؤمنون بشدة باستعادة المملكة اليهودية ويُصلُّون من أجلها بحرارة في خدماتهم اليومية. لقد حافظ هؤلاء اليهود من خلال إيمانهم بالقومية اليهودية على نواة اليهودية بطريقةٍ أكثر إخلاصًا من يهودنا الغربيين. لقد سعى هؤلاء إلى إحياء جزء كبير من ديننا… إلى هؤلاء الملايين من إخوتي أتوجه وأصرخ: “ارفعوا رايتكم عاليًا يا شعبي!”. ولا تزال الأمة اليهودية تحافظ على بذور الحياة المثمرة”.
- العرق والهوية والجنسية في ظل العبقرية اليهودية والعبادة الوطنية، ودحض اليهود الإصلاحيين:
ولكن التعريف العرْقي ليس التعريف الوحيد عند موسيس هيس وإن كان هو الأساس، فهو يدعي أنّ هويته القومية ترتبط بتراث أسلافه وبالأرض المقدَّسة وبالمدينة الخالدة. ويرى أنّ ثمة ترابطاً عضوياً عميقاً بين الهوية اليهـودية والدين اليهودي. فالدين أهم أشكال التعبير عن هذه الهوية، أي أنه يرى الدين مكوناً إثنياً. ولذا، فقد اقترح هيس عدم إدخال أية تغييرات عليه، واستنكر محاولات اليهود الإصلاحيين التنويريين تحويل اليهودية إلى شيء عالمي أو إلى نسخة ثانية من المسيحية. فهي محاولة محكوم عليها بالفشل لأن اليهودية الإصلاحية لا تُبدي أي شكل من أشكال الاحترام للمقومات الأساسية للقومية الدينية التي تشكل جوهر الدين. فاليهودية دين عبادة قومية على النقيض من المسيحية، ولذلك فهو يشير دائماً إلى “دين اليهود التاريخي”، كما صرح في (الرسالة السابعة):
“اليهودية في الوقت الحاضر لا تتوقع أي عداء من العلم أو من الحياة، ولكن فقط من أولئك الذين يتظاهرون بأنهم ممثلوها ]يقصد اليهود الإصلاحيين والمستنيرين[[3] دون أن يكون لهم الحق في القيام بذلك”.
وأشد من ذلك حيث قال:
“إنّ الخطر المحدق باليهودية لا يأتي إلا من المصلحين الدينيين… فاليهودية مثل المسيحية، لا بد أن تختفي نتيجة لحالة التنوير والتقدم العامة إذا لم تكن أكثر من مجرد دين عقائدي، أي “عبادة قومية”. ومع ذلك، فإن الإصلاحيين اليهود، أولئك الذين ما زالوا موجودين في بعض المجتمعات الألمانية ويحافظون قدر استطاعتهم على العرض المسرحي للإصلاح الديني، لا يعرفون سوى القليل عن قيمة اليهودية الوطنية”.
ثم يبين أكثر بصورةٍ فجةٍ:
“اتجهت جهود الإصلاحيين الدينيين اليهود الألمان إلى تحويل يهوديتنا الوطنية والإنسانية إلى مسيحية ثانية تتبع النمط العقلاني، في وقت كانت فيه المسيحية نفسها في حالة تفكك بالفعل… أنا لا أتفق مع (موسى مندلسون)[4] في أن اليهودية ليس لديها عقائد. أنا أدعي أنّ التعليم الإلهي لليهودية لم يكتمل في أي وقت من الأوقات. لقد استمر دائمًا في التطور، وكان تطوره يعتمد على التوفيق بين العبقرية اليهودية وعبقرية الحياة والإنسانية. إن تطوير معرفة الله من خلال الدراسة والتحقيق الضميري، ليس فقط غير محظور في اليهودية، بل يعتبر واجبًا دينيًا. ولهذا السبب لم تستبعد اليهودية أبدًا الفكر الفلسفي أو حتى تدينه”.
نلحظ في الفقرة السابقة كم لدى اليهود جرأة واعتقاد بتخويل الإله لهم بإعادة صياغة وتطوير الدين حسب أذواقهم، وهذا ظاهرٌ كثيرًا من خلال إحالاته وأمثلته التاريخية لتطور العقيدة اليهوديه وقد لخصه بقوله هنا:” أنا أدعي أن التعليم الإلهي لليهودية لم يكتمل في أي وقت من الأوقات…”. لذا، يرى هيس وكثرة من اليهود تقديم التلمود على التوراة! وقد أشار إلى ذلك أيضا في نهاية هذه (الرسالة السابعة).
ويُفصِح هيس في ذات (الرسالة السابعة) عن وصفته لتوحيد اليهود بناء على العرق ليتجاوزوا من خلالها تناقضاتهم الدينية والفلسفية البينية:
“وفي الواقع فإن اليهودية كجنسية لها أساس طبيعي لا يمكن أن يُنحِّيه بمجرد التحول إلى دين آخر، كما هو الحال في الديانات الأخرى. فاليهودي ينتمي إلى عرقه وبالتالي إلى اليهودية أيضًا، على الرغم من أنه أو أسلافه قد أصبحوا مرتدين. قد يبدو الأمر متناقضًا وفقًا لآرائنا الدينية الحديثة، ولكن في الحياة على الأقل، لاحظت أن هذا الرأي صحيح. اليهودي المتحول يظل يهوديًا مهما اُعترض عليه… باختصار، أُفضِّل كل ما من شأنه أن يساهم في رفعة الجماعة وتعليمها دون تقويض عبادتنا القديمة في الوقت نفسه. وفي دائرة عائلتي أيضًا، كنت أحرص على مراعاة تقاليد شعبنا بصرامة. إذا اتبع الناس السياسة الموضحة أعلاه، فسوف يسود السلام في المجتمعات اليهودية…”
ثم يختم (رسالتة السابعة) ناصحًا ومبشرًا:
“علينا أن نعيد دراسة تاريخنا الذي أهمله عقلانيونا إهمالاً جسيمًا، وأن نشعل في قلوب جيلنا الشاب الروح التي كانت مصدر إلهام لأنبيائنا وحكمائنا. عندها أيضًا سنستمد إلهامنا من بئر اليهودية العميق وسيستعيد حكماؤنا السلطة التي فقدوها منذ اللحظة التي ابتعدوا فيها عن اليهودية وحاولوا إصلاح الشريعة اليهودية بدوافع أخرى غير الوطنية. وسنصبح بعد ذلك مرة أخرى مشاركين في الروح القدس؛ أي العبقرية اليهودية التي لها وحدها الحق في تطوير وصياغة الشريعة اليهودية وفقًا لاحتياجات الشعب. وبعد ذلك، عندما ينتهي المنفى الثالث أخيرًا، ستجدنا جاهزين لاستعادة الدولة اليهودية”.
- توصيفات يهودية في الحضارات والإنسانية لموسيس هيس:
ثم تتصاعد أحاديث ومفاهيم موسيس هيس حول الحضارات والإنسانية، كما في بداية (الرسالة التاسعة):
“أعتقد إن الجوهر القومي لليهودية لا يستبعد الحضارة والإنسانية فهي تنبع منهما كما تنبع النتيجة بالضرورة من السبب. ومع ذلك، إذا كنت أؤكد على الجانب القومي لليهودية وهو الجذر، بدلاً من الجانب الإنساني وهو الزهرة، فذلك لأن الناس في عصرنا يميلون إلى تزيين أنفسهم بأزهار الثقافة بدلاً من زراعتها مرة أخرى في التربة التي نمت عليها. فمن اليهودية تنبع نظرتنا الإنسانية للحياة… وطالما لم يكن لدى أي شعب آخر مثل هذه العبادة الوطنية والإنسانية، كان اليهود وحدهم شعب الله. فمنذ الثورة الفرنسية أصبح الفرنسيون وكذلك الشعوب الأخرى التي تلتهم، منافسينا النبلاء وحلفاءنا المخلصين…”
ثم يعلن في أواخر (الرسالة التاسعة) وبلهجة داروينية تُظهر مركزية الشعب اليهودي:
“وإلى الطبقة الأخيرة من أعضاء الإنسانية العضوية – وهي الطبقة التي هي في الواقع الطبقة المبدعة – ينتمي الشعب اليهودي. لم يكن هذا الشعب ملحوظًا في العالم، حيث كان مضطهدًا إلى حد كبير من قبل جيرانه الأقوياء والمحتلين. لقد اقترب الشعب من التدمير في السبي المصري والبابلي، ونهض مرتين إلى حياةٍ روحيةٍ جديدةٍ وحارب طويلًا وبنجاح ضد أقوى الشعوب القديمة وأكثرها تحضرًا؛ اليونانيون والرومان. ثم أخيرًا في الصراع الأخير للعالم القديم كان هذا الشعب هو الذي لقح عبقرية الإنسانية بروحه الخاصة حتى يجدد نفسه، جنبًا إلى جنب مع تجديد البشرية. لقد انتهت الشعوب التاريخية وأصبح لكل أمة وظيفتها الخاصة في الكائن البشري، وبدأنا لأول مرةٍ في تصور أن إنجلترا بتنظيمها الصناعي تمثل القوة العصبية للإنسانية التي توجه وتنظم النظام الغذائي للبشرية. وفرنسا هي الحركة العامة، أي الاجتماعية. وألمانيا تتولى وظيفة التفكير. وأمريكا تمثل قوة التجديد العامة التي من خلالها سيتم استيعاب جميع عناصر الشعوب التاريخية في عنصر واحد. ونلاحظ أن كل شعب حديث وكل جزء من المجتمع الحديث يظهر في نشاطه كعضو من أعضاء الإنسانية، يجب عليه أيضًا أن يحدد أهمية ووظيفة الشعب القديم الوحيد الذي لا يزال موجودًا حتى اليوم قويًا ونشيطًا كما كان في أيام القديمة، أي شعب إسرائيل”.
- تجديد الأمة اليهودية بالعودة إلى أرض الأجداد، وعصر مجيء الرب وأورشليم الجديدة:
يصرح هيس في أواخر (الرسالة العاشرة):
“ولكن على الرغم من أن العلم لا يزال صامتا فيما يتعلق بالقانون الذي يحكم تطور الحياة الاجتماعية، إلا أنّ العبقرية الدينية اكتشفته منذ زمن طويل. لقد تمسكنا نحن اليهود دائمًا منذ بداية تاريخنا بالإيمان بعصر مسيحاني مستقبلي ]عصر المخلص والخلاص والسلام اليهودي[. يتم التعبير عن هذا الاعتقاد رمزيًا في ديننا التاريخي من خلال عيد السبت. إن الاحتفال بالسبت هو تجسيد للفكرة العظيمة التي طالما حركتنا، وهي أن المستقبل سوف يحقق السبت التاريخي، تمامًا كما أعطانا الماضي السبت الطبيعي… لا تشير إعلانات الروح القدس إلى مستقبل آخر سوى إلى سن النضج للعالم الاجتماعي. وسيبدأ هذا العصر بحسب ديننا التاريخي، بالعصر المسياني. هذا هو العصر الذي ستنهض فيه الأمة اليهودية وكل الأمم التاريخية الأخرى مرة أخرى إلى حياة جديدة، عصر “قيامة الأموات” و”مجيء الرب” و”أورشليم الجديدة”… فالعصر المسيحاني هو العصر الحالي، الذي بدأ ينبت مع تعاليم سبينوزا، وأخيراً ظهر إلى الوجود التاريخي مع الثورة الفرنسية الكبرى، حيث بدأ تجديد تلك الأمم التي اكتسبت دينها التاريخي الوطني فقط من خلال تأثير اليهودية”.
ثم يوضح في (الرسالة الحادية عشرة) مسار المهمة:
“ما يتعين علينا القيام به في الوقت الحاضر من أجل تجديد الأمة اليهودية هو أولاً: الحفاظ على الأمل في النهضة السياسية لشعبنا. وبعد ذلك إيقاظ هذا الأمل حيث هو نائم. وعندما تتشكل الظروف السياسية في الشرق بحيث تسمح بتنظيم بداية استعادة الدولة اليهودية، فإن هذه البداية سوف تعبر عن نفسها في تأسيس مستعمرات يهودية في أرض أجدادهم، وهو المشروع الذي ستقرضه فرنسا بلا شك”.
- دولة الحضارة الغربية في الشرق والتحالف الوظيفي:
يتحدث هيس في (الرسالة الحادية عشرة) مبكرًا في العام 1862 عن طبيعة مشروع الدولة القادمة بتفاصيل وخطط واضحة، وقد تحققت رؤيته بشكلٍ شبه دقيق:
“أليس هناك من يُتمُّ إعداد الأمور وتسوية الطرق، أليس طريق الحضارة الذي يبنى في الصحراء على شكل أعمال قناة السويس وخط السكة الحديد الذي سيربط آسيا بأوروبا؟ إنهم لا يفكرون في الوقت الحاضر في استعادة شعبنا. لكنك تعرف المثل القائل: “الإنسان يقترح والله يتصرف”. وكما بحثوا في الغرب ذات يوم عن طريق إلى الهند واكتشفوا بالصدفة عالماً جديداً، فسوف نعيد اكتشاف وطننا المفقود على الطريق إلى الهند والصين الذي يجري بناؤه الآن في الشرق. فهل مازلت تشك في أن فرنسا ستساعد اليهود في إنشاء مستعمرات قد تمتد من السويس إلى القدس، ومن ضفاف الأردن إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط؟”.
ثم يواصل حديثه في (الرسالة الثانية عشرة) ويعلن بكل وضوح بأن إسرائيل الجديدة ستكون مستعدة لأخذ الوظيفة الغربية الاستعمارية في الشرق، فيتساءل مقرراً:
” ولكن هل هناك دولةٌ أكثر قدرة ًعلى القيام بهذه المهمة من إسرائيل التي عُيِّنت لنفس المهمة منذ بداية تاريخها؟! …بالنسبة للاستعمار اليهودي على الطريق إلى الهند والصين، لا يوجد نقص في العمال اليهود أو المواهب اليهودية ورأس المال. دع البذرة فقط تُزرع تحت حماية القوى الأوروبية“.
ثم لا يدع هيس الأمر على علاته دونما خطط عملية وبنيوية، فيُفصِّل:
“إن الحصول على أرض أجداد مشتركة، وتنظيم العمل على أساسٍ قانوني، وتأسيس المجتمعات اليهودية للزراعة والصناعة والتجارة على الطراز الموسوي – أي المبادئ الاجتماعية – هي الأسس التي سوف يقوم عليها يهود الشرق مرة أخرى، وفي صعودها سوف يشتعل من جديد نار الوطنية اليهودية القديمة ويضيء الطريق إلى حياة جديدة ليهود العالم أجمع. وعلى الأرضية المشتركة المتمثلة في (الوطنية اليهودية)، ستلتقي جميع الطبقات اليهودية؛ الأرثوذكسية والتقدمية، والغنية والفقيرة. ولسوف يدركون أنهم أحفاد هؤلاء الأبطال الذين قاتلوا أقوى الأمم القديمة وأكثرها تحضرًا… سوف ينظرون إلى أنفسهم كأبناء ذلك العرق الذي – على عكس أي شعب آخر في التاريخ – عانى من استشهاد ألفي عام، والذي حمل دائمًا راية الجنسية؛ أي كتاب الشريعة“.
ثم يحسم الأمر على كل صعيدٍ جازمًا:
“إنّ معظم الطوائف المسيحية والشعوب المختلفة متفقون على الرغبة في إعادة شعبنا إلى تراثه القومي. والأمر الأكثر لفتًا للانتباه هو أنهم جميعًا متفقون على نفس الوسيلة للوصول إلى النهاية… أتوقع بالفعل تنظيم الجمعية التي اقترحها العالم الوطني اليهودي التقي، واستيطانها النهائي للأرض المقدسة مع المستعمرين اليهود تحت حماية الدول الغربية المتحضرة…”
خواتيم واستدراكات موسيس هيس
أولاً: الهيلينيون والعبرانيون
يرحل الفيلسوف الاشتراكي هيس في نظريات الاجتماع والتاريح التي يطوعها خدمةً لقضيته، فيقرر ويكرر:
“إن الحياة الاجتماعية هي قبل كل شيء نتاج حياة أعراق محددة وقبائل شعبية مختلفة، شكلت كل منها مسار حياتها بطريقة نموذجية. لقد جاءت الأجناس المختلفة في صراع مع بعضها البعض. ومن احتكاك تلك القوى المتناقضة، تولد الشرارات الأولى للروح التي تحتوي على الخلايا، والتي ستنبثق منها أشكال حياةٍ أعلى وأكثر انسجامًا”.
ثم يؤكد زيادةً:
“ويبدو أنّ هذه الخطة الإلهية الموحدة للتاريخ هي في هذا العصر في مرحلتها الأخيرة من التطور التاريخي. ولكن في العصور القديمة عندما كانت الأمم لا تزال في قبضة الحياة الطبيعية، كان هناك شعب واحد فقط، وهو شعب إسرائيل الذي تمكن بفضل عبقريته الخاصة من إدراك أعمال الخطة الإلهية في تاريخ البشرية”.
ثانيًا: المسيح وباروخ اسبينوزا
هيس يجعل اليهودية مركزا للأديان والأفكار، مدعيًا بأنّ:
“هذه الدنيوية الأخرى في سياق التطور التاريخي، بقدر ما اقتربت الأمم من الدين التاريخي اليهودي، اتخذت أكثر فأكثر طابعًا علمانيًا. وكلما ازدادت يهودية العالم الوثني، أصبح العالم الوثني أكثر إنسانية، وزادت قدرة اليهود على المشاركة في ثقافة هذا العالم والمساهمة في تقدمه. وأخيرًا، بعد الصراع الطويل بين عالم الشهوانية الوثني والقوة الهمجية من ناحية ]يقصد موروث القبائل الجرمانية والبربرية التي أثرت في المسيحية بشهوانيتها وماديتها الهمجية[، والنظرة الروحية الصوفية اليهودية من ناحية أخرى، سلطت شمس الحضارة الإنسانية الحديثة أشعتها الخافتة على عالم أفضل وأكثر ذكاءً. وفي عالم أكثر كمالا، كان اليهودي هو الذي استطاع أن يرسل إشارةً إلى العالم بأن المرحلة الأخيرة من عملية التطور البشري قد بدأت”.
ثالثًا: النظرة الجينية إلى العالم
يغزل هيس الثالوث الحلولي في نسيج اليهودية ومشروع العودة الصهيونية؛ فيحلّ عنده الإله في الطبيعة التي أسمى ما فيها القدس (أورشليم)، لتصبح أرضاً مقدَّسةً ومركزاً للكون (وأرض الميعاد)، ويحلّ الإله أيضا في الشعب ليصبح شعباً مختاراً ومقدَّساً وأزلياً. كذلك نجد هذه النظرة الحاخامية الحلولية إلى جانب النفس الدارويني منتشرة بكثرة عند فلاسفة اليهود.
وها هو يعلن:
“إنّ تعليم باروخ اسبينوزا الذي يستمد النظام الروحي الأخلاقي بأكمله للحياة من فكرة واحدة عن الله كأساس للطبيعة والفكر ]هيس وكثر من اليهود على مذهب اسبينوزا والأجداد في الحلولية والاتحاد في الطبيعة والإنسان[، والذي يجعل معرفة الإله كهدفٍ أسمى للحياة، يوفق بين التناقض الواضح بين الفلسفة والعلم التجريبي من جهةٍ، وبين العق والشعور من جهة أخرى”.
ويواصل مغلفًا الماضي والمستقبل في بوتقةٍ مطلقةٍ:
“إنّ الفكرة الأساسية لنظام اسبينوزا هي أنّ الإله هو الجوهر الوحيد وأساس وأصل كل كائن. فهي التعبير الأساسي عن العبقرية اليهودية التي تجلت في الوحي الإلهي منذ زمن موسى والمسيح والأنبياء حتى العصر الحديث. إن مظاهر العبقرية اليهودية هذه ليست ظاهرةً خارقةً للطبيعة، ولكنها تشكل جزءًا من القانون الأبدي العظيم الذي يحكم مجالات الحياة الثلاثة: الكونية والعضوية والاجتماعية. ومع ذلك، فإن المجال الخاص للعبقرية اليهودية هو المجال الاجتماعي، وبفضله أصبح التطور التاريخي الموحد للإنسانية ممكنًا…
إنّ مجيء العصر المستقبلي للحياة الاجتماعية سوف يتم التعجيل به من خلال جهود وطاقة اليهود الذين لديهم دعوة خاصة لنقل الوحي الذي يؤثر على مجال الحياة الاجتماعية وذلك ببثه إلى العالم”.
رابعًا: العداء الأخير
يرجع هيس هنا – موظفًا ثقافته الديالكتيكية – إلى فلسفته العمالية الاشتراكية، وبنكهةٍ عالميةٍ لا تبرح محورية تطور الصراع العرقي الذي سيُتَوَّج بحتمية سيادة اليهود في نهاية نضج التاريخ، فيستنتج:
“إن التناقض النظري الأخير الذي يمكن التغلب عليه إلى حد ما، أي ما بين الفلسفة والعلوم التجريبية، وبين المادية والمثالية، ليس إلا التعبير النظري عن التناقض العملي في الحياة الاجتماعية… فحال المضاربة الصناعية مثل المضاربة الفلسفية، هي ضرورة تاريخية ووجودها مبررٌ طالما أن العمل الإنتاجي والبحوث ليست مركزيةً ومنظمةً، وطالما أنها لا تملك مركزَ ثقلٍ وتوازنٍ خاصين بها… غير أنّ جذر هذا العداء لا يكمن في خبث هذه الطبقة أو تلك، بل هو متأصل في تاريخ تطور الجنس البشري الذي ما لم يصل إلى سن النضج، فعليه أن يمرّ نحو هدفه من خلال الصراعات العرقية والطبقية…”.
خامسًا: قاعدة السباق الأخير
يغزل هيس على ذات المنوال بنكهة هيجيلية تدعي:
“أنّ اتجاهات الحياة الاجتماعية حالها كحال وجهات نظر الحياة الروحية، هي إبداعات عرقية نموذجية وبدائية حيث كان تاريخ البشرية الماضي برمته يتحرك في الأصل فقط في دائرة الصراع العرقي والطبقي. فالصراع العرقي هو الصراع الأولي، والصراع الطبقي ثانوي…”
ثم يعود ليؤكد رؤيته حول مستقبل ألمانيا، إذ توقع هيس باقتدار وقوع حرب كبرى بين الألمان القوميين والدول الأخرى:
“ومع ذلك، يبدو أن الصراع العرقي النهائي أمر لا مفر منه إذا فشل السياسيون الألمان في فهم الوضع، ولم يحاولوا معارضة تيار الرجعية الهائل الذي سيؤدي في النهاية إلى توريط ألمايا في تصادم مع الدول الرومانسية”.
سادسًا: فصل من التاريخ
يواصل هيس معالجته لموضوع ألمانيا وعلاقتها بالجميع، فيصف تمخضاتها ومصيرها الاجتماعي:
“إنّ الأمم كالأفراد، تمر في سياق تطورها بفترات حياة محددة. ولا يتم تكييف كل عمر لكل مرحلة من مراحل التنمية؛ ولكن لكل عصر درجة معينة من التقدم. وإذا تأخر شعب ما في تطوره أو فاتته إحدى المراحل، فسيكون من الصعب عليه للغاية أن يتبع المسيرة المتناغمة للأمم نحو التقدم”
ويقارن مضيفًا: “احتلت ألمانيا في عهد الإصلاح مكانة رفيعة في القرن السادس عشر مجال التنمية الاجتماعية والسياسية. وحتى الجماهير كانت تتخللها روح الإصلاح الاجتماعي والسياسي الذي لم نشهد مثله إلا في إنجلترا في القرن السابع عشر، وفي فرنسا في القرن الثامن عشر. كان القرن السادس عشر عصر النهضة الألمانية. لقد ولدت ألمانيا في تلك الفترة إصلاحا عظيما، ولكن بقدر ما لم تنجح في أن تصبح إصلاحا وطنيا حقيقيا، فقد قسمت الأمة إلى قسمين. ومن ناحية أخرى، غرقت ثورة الفلاحين السياسية والاجتماعية أخيرا في دمائها…اضطر الفلاحون الألمان إلى التخلي عن الثورة، والتي تم القضاء عليها. ومنذ تلك اللحظة بدأت الأمم الألمانية تتراجع في سلم التقدم. مارتن لوثر، الذي لم يكن يفتقر إلى البصيرة في شؤون الإنسان، رأى ذلك وعبّر عن حزنه حيال ذلك بعدما خذل الفلاحين… لا يمكن للوطنيين الألمان تحقيق هدفهم إلا عن طريق التحالف الودي مع الدول التقدمية والقوية في العالم وكذلك الشعب الألماني…”.
نقد مرتكزات نموذج هيس في تمرير المشروع
لم تعكس العرقية البيولوجية والداروينية الاجتماعية الألمانية نفسها كما عكستها الكتابات اليهودية عما يسمى بالأمة اليهودية.
نقرأ في كتاب هرتزل (الدولة اليهودية) وفي كتاب ليبوبنكسر (التحرر الذاتي) ما يؤكد أنّ اليهود ليسوا طائفةً دينيةً أو تجمعًا ثقافيًا فحسب، بل أمة قائمة بذاتها ولم تستمر إلا بفضل خصائصها الاستثنائية.
فعند سوكلوف يشكل اليهود وحدةً عرقيةً وتاريخيةً وثقافيةً، هي الأساس المشترك لبعث حياةٍ قوميةٍ كاملةٍ في وطن آبائهم.
واليهود عند مارتن بوبر، هم الشعب الوحيد في العالم الذي تكوّن خلال الأزمة الغابرة كأمةٍ وكسبطٍ ديني في آن واحد.
ويرى ريتشارد كروسمان في (انبعاث أمة) وفيلكوفسكي في (عصور الفوضى) أنّ لليهود دورةً خاصةً في التاريخ يتعاقب فيها الخروج والدولة والكوارث كما تتعاقب الخطيئة البشرية والقربان اليهودي باعتبارهم شعب الله[5].
و هكذا، عند التأمل جيدا في منطلقات وحِجاج موسيس هيس، سيتبين لنا أن الرجل يمثلُّ جانبًا مهمًا من السجال اليهودي في عصره، ويصدر عن قراءات ونقاشات ورؤى كثيرةٍ اطلع عليها وقام بغربلتها وتوجيهها نحو الهدف الأعلى وصميم المشروع، مستخدمًا مصطلحاتٍ وتقريراتٍ بأساليبَ فلسفيةٍ تتحاشى تحرير وإثبات مسلماته ومفاهيمه التي نسجها بدهاءٍ ونَفَسٍ قوميٍ وتسخيرٍ دينيٍ ودعاوى حضاريةٍ وعقلانيةٍ تنويريةٍ انتهازيةٍ. ومن هذه الملاحظات عليه والمرتكزات التي اتبعها[6]:
- زاوجَ هيس بين الروح المقدَّسـة وعبقرية الشعب اليهودي التي نبعت منها كل من الحياة الإثنية والعقيدة اليهودية، أي أن القومية العضوية أو روح الشعب أسبق من الدين، وما الدين سوى تعبيرٌ عن الروح القومية.
- ونجد أنه لا ينفك عن استخدام فلسفة صراع هيجلية وعلائق وداروينية، لكنه ككثرٍ من اليهود يجعلها مقدمةً لتبرير سيادة العرق اليهودي والعبقرية اليهودية والحلول الإلهي في التاريخ اليهودي ونظرية الشعب المختار.
- يتحول الدين عند هيس إلى بيولوجيا تحلّ في جينات العرق اليهودي من خلال ثلاثية الإله والأرض والشعب. إنها فكرة بيولوجية جينية مبتدعة من قصص (التناخ) دأب عليها اليهود أكثر من كونها مسألةً توراتية دينية.
- وبالتالي ينطلق هيس في مشروع الدولة اليهودية من التأسيس على فكرة أن اليهود سيظلون دومًا غرباء بين الشعوب الأوروبية التي قد تحررهم لأسباب إنسانية، لكنها لن تحترمهم أبدًا طالما أن اليهود يضعون ذكرياتهم الوطنية العظيمة في الخلفية.
- وعرض المشكلة على هذا النحو يشير إلى الحل، وهو نقل الشعب الذي نبذه العالم الغربي وتوطينه في الشرق ليقوم على خدمة نفسه وخدمة الغرب. ومن ثم يصبح اليهود جزءاً من التشكيل الاستعماري الغربي بعد أن فشلوا في الانتماء إلى التشكيل الحضاري الغربي. ويشير هيس إلى أنه قد تم تعبيد طريق الحضارة في الصحراء، أي أن طرق المواصلات جعلت الشرق مفتوحٍا أمام الغرب. والدولة اليهودية يجب أن تكون دولةً مستقلةً مُعترَفًا بها من القانون الدولي – أي القانون الاستعماري الغربي – كدولةٍ متحضرة.
- ويميز هيس بين يهود الشرق ويهود الغرب، فالمشروع الصهيوني لا يعني أن يهاجر يهود الغرب كلهم إلى فلسطين، ذلك أن أغلبية اليهود الذين يعيشون في بلدان متمـدنة في الغـرب لابد أن يبقـوا في بلادهـم بعد تأســيس دولة يهودية، فقد نجحوا في شق طريقهم بجهدٍ بالغٍ وحققوا لأنفسهم مركزًا اجتماعيًا وسوف لن يتخلوا عن أيّ نجاح حققوه. ولكنهم سيساندون الشعب اليهودي من شرق أوروبا في مهمته التاريخية، أي أنه حدد لهم دورهم في الحركة الصهيونية.
- هذه هي الصيغة الصهيونية الأساسية. ولكن هيس كان مدركاً أنها في حد ذاتها لا تكفي، لذا فلابد من زيادة مقدرتها التعبوية بإضافة ديباجاتٍ وأبعادٍ مختلفة. فيزعم إنّ دولة اليهود الجديدة ستوفر لهم الكرامة والاحترام والشرف، وسيتم تطبيعهم إذ سيُحوِّلهم حصولهم على أرض إلى أفرادٍ وعمالٍ نافعين، وسيُسهم رأسمالهم وعملهم في إعادة الحياة للأرض القاحلة، أي أنهم سيتحولون إلى مادة استيطانية ناجحة.
- ثم يستخدم ديباجاتٍ إثنيةٍ دينيةٍ، فيؤكد أنّ هذا البعث القومي سيؤدي لا إلى إصلاح اليهود وحسب، وإنما إلى إصلاح اليهودية نفسها، فعبقرية اليهود الدينية لن يعيدها إلا نهضةٌ قومية. كما أنّ هذا الجفاف الديني سيختفي عندما تستيقظ الحياة الوطنية المنطفئة.
- وإلى جانب الديباجة الإثنية، هناك الديباجة العمالية الأممية الإنسانية، إذ اليهودية القومية عند هيس لا تستبعد النظرة العالمية، بل العكس هو الصحـيح، فالعــالمية هي النتيـجة المنطقية لصفات اليهود القومية. بل إنه لا يوجد شعب غير اليهود له دينٌ يربط العناصر القومية والعالمية والتاريخية معاً، فاليهود إذن هم وحدهم شعب الإله. ولقد أصبح تاريخ الإنسانية مقدَّساً من خلال اليهودية.
- ولضمان تماسك كل ما سبق، يُطلق هيس وصفته لتوحيد اليهود بناءً على العرق ليتجاوزوا من خلالها تناقضاتهم وخلافاتهم الدينية والفلسفية البينية. فاليهودية عنده جنسيةٌ لها أساسٌ طبيعي لا يمكن أن يُنحِّيه… فاليهودي ينتمي إلى عرقه وبالتالي إلى اليهودية أيضًا، على الرغم من أنه أو أسلافه قد أصبحوا مرتدين. وإذا اتبع الناس هذه السياسة، فسوف يسود السلام في المجتمعات اليهودية.
- وفيما يتصل بالسكان الأصليين، فاليهود سيجلبون الحضارة للمتخلفين، وعليهم أن يعملوا على تثقيف القطعان العربية المتوحشة والشعوب الأفريقية.
- وهكذا أطلق هيس مصطلحاتٍ شحن بها رسائله، فكانت مليئةً بالبدع الدينية العنصرية والعرقية التي غلا فيها، ولكن بلغةٍ فلسفيةٍ، وتاريخية دينية، وعرقية مظلومية منمقة. ومع ذلك هيس لا يتوقف عند تحرير مشروعيتها وصحتها، فهو منهمكٌ فقط بما يخدم شعبه وقضيته وهدفه. ومن ذلك مصطلحات أخرى وردت في رسائله مثل: راية الجنسية المساوية لكتاب الشريعة، دين اليهود التاريخي، والعبادة الوطنية والعبادة القومية واليهودية الوطنية، واليهودية هي الجذر والإنسانية هي الزهور، والعبقرية اليهودية وروح القدس، والسبت التاريخي والخلاص.
- يتمترس دومًا موسيس هيس ببرغماتيته وتحشيداته خلف الثورة الفرنسية والتنوير – رغم كل ما صاجبها من عنف وقتل – من أجل أن يلج إلى شعارات العالمية والإنسانية، متخذًا بدهاءٍ نموذج الفيلسوف التنويري اليهودي المشهور باروخ اسبينوزا كواجهةٍ فلسفيةٍ تسويقيةٍ. وهو ما مكَّنه من منابذة وحِجاج اليهود الاستعابيين والإصلاحيين وكذلك تلميع وترويج طروحاته، لا سيما أنه يناقض فيلسوفا يهوديا عظيما وأعلى منه كعبًا هو زعيم الإندماجيين والإصلاحيين (موسى ميندلسون)، وهي حركةٌ وطائفةٌ لا زالت ضخمةً حتى الآن في أمريكا وغيرها.
- العجيب أن موسيس هيس يهلل للإصلاح الديني المسيحي ويرفض إصلاح الديانة اليهودية، ذلك أنّ اليهودية عنده ديانةٌ نابعةٌ من العبقرية اليهودية التي حلّ فيها روح القدس.
- والخلاصة التي أرادها هي: أنّ التاريخ يسيّره الصراع العرقي نحو مرحلة (النضوج البشري) المدعاة. ونهاية التاريخ لا تكون إلا بحتمية سيادة العرق اليهودي الذي يستمد تعاليم دينه من العبقرية اليهودية التي يحلّ فيها روح القدس لتعبِّر عن ذاتها في مصهر (العبادة الوطنية القومية). وحينذاك ستتوحد كل طوائف اليهود بما فيهم الملحد منها، حيث (سيجدد) الشعب اليهودي نفسه فقط بالعودة إلى القدس، إذ سيكتمل هناك (ثلاثي) الإله والأرض والشعب، ليحلّ السلام الأبدي على الشعوب التي ستجدد نفسها بدورها خلف الشعب اليهودي المختار الذي يحرك مسار التاريخ والإنسانية وشعوبها المتنورة وذلك من خلال التحاقها بمهمة الشعب اليهودي المتجدد.
وما تلك إلا من أمنيات عهد الخلاص وسلام ليس فيه سلام… بل هو رجسة الخراب العنصري.
توصيات ومقترحات
ينبغي علينا دراسة الحركة الصهيونية من جذورها البعيدة، وأن لا نكتفِ أو نرتكز فقط على منعطف هيرتزل والمؤتمر الصهيوني ووعد بلفور، إذ إنّ فهم النموذج الصهيوني يحتاج منا إلى الغوص في قعره الاجتماعي والذهني، وفهم ظروف تشكُّلِه وتراكم معطياته، وكيف تجاوز المشروع الخلافات ونقاط الضعف التي عاناها ذاتيًا وبينيًا تجاه أوروبا، ثم كيف استجمع أطرافه وسخَّر الطاقات والدعايات في سبيله، وصولاً إلى ميل الصهيونية من اليسار باتجاه اليمين فاليمين المتدين، وما يطلق عليه مصطلح “الصهيونية الجديدة” ثم “الصهيونية الدينية”.
فعلى سبيل المثال، يمكننا دراسة وملاحظة أرضياتٍ ومنصاتٍ تقوم عليها البنية الصهيونية وتحتاج إلى إعادة تقييم أثرها وملاحظة تغيرّ معطياتها داخليا وعالميا، وبالتالي إعادة برمجة سبل مواجهتها بعد استشعار نقاط ضعفها وقوتها؛ لا سيما المعرفية منها كقضيةٍ فكريةٍ تحرريةٍ عالميةٍ من ناحية، وكذلك تحولاتها وعواملها الديمغرافية. فمن تلكم المحاور:
- وضع آلياتٍ نظريةٍ وعمليةٍ من أجل هلهلة المشروع الصهيوني من داخل المكونات اليهودية المتشاكسة أو المتحررة، فعلى سبيل المثال: مد الجسور بيننا وبين الإصلاحيين اليهود، وإنشاء تحالفات ونشاطات مؤسسية معهم وتوسيعها بصورة متواصلة. وتعتبر التجربة مع حركة “ناطوري كارتا” مثالاً ينبغي تجذيره ومأسَسَته وتوسيعه.
- مراقبة مراحل تطور الصهيونية وبنيتها وطبيعة محاورها وخطابها ونقاط ضعفها وقوتها، وبالتالي سبل التعامل معها. وهي مراحل: الصهيونية الكلاسيكية، ثم حركة ما بعد الصهيونية – المؤرخون الجدد – في التسعينات، وظهور الصهيونية الجديدة المتدينة والعنصرية بجلاء.
- تطوير الخطاب المؤسسي نحو مواجهةٍ معرفيةٍ تعرِّي الأرضيات والبنية العنصرية ودعوى التحضر والديمقراطية والإنسانية من طرف المشروع الصهيوني. ويمكننا الإفادة من والتعاون بهذا الصدد مع “المؤرخين الجدد”.
- بناء أدواتٍ لنشر خطابٍ عالمي فعّالٍ يعرِّي حقيقة البناء العرقي العنصري والاستعماري للمشروع الصهيوني، وكونه يتلبس بديبجاتٍ دينيةٍ – ما لبثت تتجذر لتصبح بنيويةً تعبر عن ذاتها بالصهيونية الدينية – مليئةٍ بالتطرف في سبيل تحقيق أهدافه الوصولية.
- وفي سبيل ذللك ينبغي الاستفادة من نقود المؤرخين الجدد والناقدين اليهود الكبار لبدعة الشعب اليهودي المخترع، والعرق والتاريخ المتوهم من أمثال: شلومو زاند صاحب كتابي (شعب مخترع) و(عرق متوهم)، ورفائيل فالك صاحب بحوث (الصهيونية وبيولوجيا اليهود)، وفنكلشتاين مؤلف (صناعة الهولوكوست)، وإيلان بابيه مؤلف كتابي (فكرة إسرائيل) و(عشر خرافات عن إسرائيل)، وآفي شلايم مؤلف (إسرائيل وفلسطين)، وكيث وايتلام صاحب كتابي (نشوء إسرائيل القديمة) و(اختلاق إسرائيل القديمة).
- إدراك مفصلية تحدي التغيير الديمغرافي الاستراتيجي في تاريخ المشروع الصهيوني الاستيطاني مرورًا بكل محطاته في القرنين الماضيين. وضرورة التمسك بالأرض ومقاومة التهجير – مثل نموذج التمسك الشعبي بالقدس الشرقية – وتفعيل المقاومة الشعبية، وعدم إعطاء الكيان الغاصب فرصة للتغيير الديمغرافي السافر.
- وبالتالي، ينبغي مراقبة واستغلال آثار الصراع الداخلي في الكيان الغاصب بين العلمانيين والمتدينين الذي سيزداد في المستقبل، وكون ما يجمع المعسكرين معًا هو التهديد الأمني. وكذلك الحال مع موقف الأجيال الجديدة من اليهود ورفضها للممارسات الإسرائيلية، حتى أن عدداً كبيراً منهم ينشط في حركة التضامن مع الفلسطينيين. وينبغي البناء على التضامن العالمي غير المسبوق مع القضية الفلسطينية بسبب الإجرام السافر، وانحسار الرواية الصهيوينة الواحدة مع توسُّع لامركزية الإعلام، وتصنيف إسرائيل كدولة فصل عنصري من قبل المنظمات غير الحكومية المحترمة مثل منظمة العفو الدولية “أمنستي”، و”هيومن رايتس ووتش” و”بيتسيلم”.
مركز رؤيا للبحوث والدراسات
[1] أنظر: موسيس هيس في “موقع الصهيونية وإسرائيل” من قِبَل عامي إيسيروف على الشبكة العنكبوتية.
[2] أنظر في مقدمة: Moses Hess, Rome and Jerusalem, Introduction by Ami Isserov
[3] الكلام بين المعقوفتين هو دوما توضيح لكلام هيس من خارج نصوصه
[4] موسى مندلسون: (مواليد 1729 في ديساو – توفي عام 1786 في برلين). هو فيلسوف يهودي ألماني دافع عن التسامح الديني وكان من رواد حركة هاسكالا (التنوير) التي نادت بضرورة اندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية، ونشر التنوير والتسامح وفصل الدين عن الدولة.
[5] أنظر في مقالة وفق محادين بعنوان: ” العرقية النازية في صورتها اليهودية”
[6] استفدت من موقع الحصن المتخصص في دراسة المذاهب في بعض الملاحظات على طروحات هيس لاسيما النقاط من رقم 4 إلى 8. https://www.alhesn.net/play/10771