اختطاف الإسلامملفـات

اختطاف النماذج: نموذج تطبيق الشريعة

مقدمة:

البحث من حيث عنوانه يجمع في دائرة تركيبه بين مفاهيم ثلاثة تأخذ بانفرادها أبعاداً فكرية ومنهجية متغايرة ومتباينة من حيث أصلها، وقد تتلاقى وتتداخل فتحدث بتلاقيها في بعدها التركيبي إطاراً موضوعياً محدداً له صفاته وخصائصه وقسماته على شاكلة موضوعنا الذي نحن بصدده، وحتى نستطيع أن نصل إلى كوامن التركيب بين هذه المفاهيم لزم فيما يبدو للباحث الوقوف عليها تعريفاً وتفهيماً حال انفرداها قبل الولوج إلى موضوعاتها التي تستفاد حالة التركيب.

ولئن كان مشروع مواجهة الاختطاف بمختلف مداخله وأبوابه وتباين موضوعاته قد سلط الضوء بإسهاب على ظاهرة الاختطاف في دوائرها الفكرية والحركية، فإن لمفاهيم (النموذج، تطبيق الشريعة) حقاً لازماً يدفعنا إلى استجلاء كوامنهما من حيث الدلالة المفهومية وما يمكن إبرازه من معانٍ تثيرها سواء على مستوى الكلمة بمعزل عن التركيب وعلى مستوى كذلك الإسناد الذي يفيده هذا التركيب؛ لكونه من المفاصل والمجالات التي وجه المختطفون إليها وسائلهم وأدواتهم التي يحاولون من خلالها توظيفها واستغلالها لتمرير مخططاتهم وأهدافهم الاستراتيجية وليجعلوه مساراً لتقديم نسخة من الإسلام المدجن الذي لا طعم له ولا لون ولا رائحة، بحيث يفقد فاعليته وقدرته على البناء والتغيير.

ومن هنا فإن البحث يدلف إلى اختطاف النماذج بتعرضه لمفهومين على سبيل الإجمال، وهما مفهوم النموذج، ومفهوم تطبيق الشريعة؛ بوصفهما مجالاً من مجالات الاختطاف، ثم يتعرض إلى القسمات الموضوعية على وفق المنهجية والهيكلة المتبعة في أبحاث المشروع.

النموذج:

لفظة النموذج يتفاوت النظر إليها من حيث نسبها ومن حيث اشتقاقها، ومن جهة المجال المعرفي الذي تدور في إطاره وتكون محوراً للبحث فيه، فمن جهة أصلها (نسباً واشتقاقاً) يرى علماء اللغة أنها من الألفاظ الأعجمية التي عربت، فنموذج معربةٌ من كلمة (نموذه) الفارسية، ومن حيث معناها اللغوي تعني مثال يُقتدى به ويُعمل عليه، ومن حيث مجالها الذي تدور فيه فإن كلمة النموذج  استعيرت في اللغة العربية وتستخدم للإشارة إلى النموذج بوصفه أداة تحليلية ونسقاً كامناً، يدرك الناس من خلاله واقعهم، ويتعاملون معه ويصوغونه[1].

والنموذج في دائرته الفلسفية بنية فكرية يجردها العقل الإنساني من كم هائل من العلاقات والتفاصيل، فيختار بعضها ثم يرتبها ترتيباً خاصاً، أو ينسقها تنسيقاً خاصاً، بحيث تصبح مترابطة بعضها ببعض ترابطاً يتميز بالاعتماد المتبادل وتشكل وحدة متماسكة، وطريقة التنسيق والترتيب هي التي تعطي النموذج هويته المحددة وفرديته وتفرده، فيراه صاحب النموذج أنه يشكل الإطار الكلي الذي يفسر تفاصيل الواقع وعلاقاته، ومن خلال مجموعة العلاقات المحددة والمتبادلة داخل هذا النموذج بما لها من تماثل أو تقارب مع المتغيرات والعلاقات القائمة في الحياة الواقعية يتم الاستشراد بها للحكم على الواقع، وبناء على ذلك فإن النموذج في أصله لا يماثل ولا يشاكل الواقع، فهناك فرق بين النموذج من ناحية والمعلومات والحقائق من ناحية أخرى[2].

لكل نموذج بعده المعرفي، أي أن خلف كل نموذج معاييره الداخلية التي تتكون من معتقدات وفروض ومسلمات وإجابات عن أسئلة كلية ونهائية تشكل جذوره الكامنة وأساسه العميق، وتزوده ببعده الغائي، وهي جوهر النموذج والقيمة الحاكمة التي تحدد النموذج وضوابط السلوك، وحلال النموذج وحرامه، وما هو مطلق وما هو نسبي من منظوره، فهي باختصار مسلمات النموذج الكلية أو مرجعيته التي تجيب على الأسئلة الكلية والنهائية (ما الهدف والغاية من الوجود في الكون؟ هل الإنسان مادة وحسب، أم مادة وروح؟ أين يوجد مركز الكون: كامناً فيه أم مفارقاً له؟)”[3].

وهذا المفهوم للنموذج بحسب ما رقمه المسيري يقترب من مفهوم (رؤية العالم) الذي صكه المفكر الألماني فيلهم دلتاي، وهو مفهوم من حيث بنيته الفكرية يحدد الصورة الكونية التي تؤلف النواة الأساسية، أو على الأصح الكتلة الأساسية للمعتقدات والمسلمات الافتراضية عن العالم الحقيقي الواقعي التي يمكن في ضوئها، أو بالنظر إليها، الوصول إلى إجابات شافية عن التساؤلات حول مغزى الكون، فرؤية العالم بهذا الاعتبار تحيل إلى موقف كلي من الحياة ومن العالم، وبصيغة أدق تحيل إلى طريقة لتصور الحياة وإدراك العالم إدراكاً كلياً[4].

ولهذا قال المسيري ذاته وهو يصف وظيفة النموذج: “من أهم وظائف النموذج وظيفته الإدراكية الإنسانية الفطرية، فهو يحتوي على رؤية الإنسان للكون (مسلماته الكلية) التي يرتب الحقائق وينظم المعلومات على أساسها، وذلك أثناء أبسط عمليات الإدراك. فكأن وظيفة النموذج هنا وظيفة فطرية، ومن ثم يمكن تسمية النموذج من حيث هو أمر فطري (النموذج الإدراكي)”[5].

تطبيق الشريعة:

الركن الثاني من عنوان هذا البحث هو المركب الإضافي بين كلمتين دل تركيبهما الإضافي على الجمع بين الوسيلة والمقصد، فهو من باب إضافة الوسيلة إلى مقصودها، وهذا المركب قد دار حوله سجال فكري وحركي على مدار أكثر من قرن منذ أن ألغيت الخلافة العثمانية أوائل القرن العشرين، وما زال هذا السجال قائماً مع تفاوتٍ في درجته صعوداً ونزولاً، ولا يخفى أن إثارة هذا السجال لم يكن له وجود من قبل؛ لكون الشريعة كانت هي المرجع والأساس في دول الإسلام منذ عهد الخلفاء الراشدين إلى أواخر الدولة العثمانية بغض النظر عن كيفية التعاطي مع الشريعة ومنهجية تطبيقها في مختلف المراحل الزمنية، ومن هنا فإن البحث يستدعي إجمالاً بيان المراد بالتركيب، بما يستجلي معنى لقبه الذي يفيده تركيبه.

اختلفت الأنظار في تعريف الشريعة؛ وكان مرجع ذلك تباين وتغاير زوايا النظر نفسها بحكم تغاير التخصصات العلمية والمعرفية، بل قد أسهم البعد الزمني كذلك في تغيير مسار المفهوم، كل ذلك جعل المفهوم ينتقل من دائرة الإطلاق والعموم إلى دائرة التقييد والتخصيص دون أن يكون هناك افتئات أو تعسف على المعنى الأصلي الجامع الذي يحمله المفهوم، إلا على الوجه الذي قُصد به تعويق تفعيله في دائرة عمومه بهدف تعضيته وتفريق أجزائه وأفراده.

والشريعة كمفهوم تدور مع مادة (ش ر ع)، وهي تعني من حيث دلالتها اللغوية الدين والمذهب والمنهاج والسنة والطريقة المستقيمة[6]، وأما دلالتها الاصطلاحية، فتنتظم كل الأحكام التي جاءت بها نصوص القرآن والسنة في جميع المجالات: عقيدة أو عملاً أو أخلاقاً[7]. قال ابن تيمية: “والتحقيق أن الشريعة التي بعث الله بها محمداً صلى الله عليه وسلم جامعة لمصالح الدنيا والآخرة، وهذه الأشياء ما خالف منها فهو باطل، وما وافقها فهو حق. لكن قد يغير -أيضاً- لفظ الشريعة عند أكثر الناس، فالملوك والعامة عندهم أن الشرع والشريعة اسم لحكم الحاكم، ومعلوم أن القضاء فرع من فروع الشريعة، وإلا فالشريعة جامعة لكل ولاية وعمل فيه صلاح الدين والدنيا، والشريعة إنما هي كتاب الله وسنة رسوله، وما كان عليه سلف الأمة في العقائد والأحوال والعبادات والأعمال والسياسات والأحكام والولايات والعطيات”[8].

ومع التوسع العلمي وتشعب التخصصات العلمية، شهد لفظ الشريعة استعمالات اصطلاحية دارت مع التخصيص والتقييد بمقتضى المجالات العلمية التي ظهرت فيها هذه الاستعمالات، والاستعمال الاصطلاحي عادة ما يضيق من مدلولات الألفاظ ويقصرها على بعض مدلولاتها اللغوية، إلا أن هذا الاستعمال المضيق لمفهوم الشريعة لا ينبغي أن يحجبنا أو يحجب عنا المعنى الأصلي والكامل للشريعة، الذي على أساسه ينبغي أن نتناول القضية التي نحن بصددها وهي تطبيق الشريعة[9].

فالشريعة إذن من حيث مفهومها الذي يرتبط بقضية التطبيق تعني المعنى الشامل الذي يسع الدين كله من حيث مقاصده وأحكامه، ومن حيث عقائده وأعماله، ومن حيث مجاله الذي يسع الدنيا والآخرة وبما يستوعب البشرية كلها، وهذا الذي يتناسب مع دلالة الاقتران بين مفهومي (النموذج/الشريعة) بما توحي به من رؤية كونية حضارية يختص به هذا النموذج عن غيره من النماذج الكونية.

فإذا ظهر المقصود من الشريعة فهماً ونظماً، فما الذي يعنيه مفهوم التطبيق الذي اقترن بها وجعلها بمعيتها في دائرة النموذج؟

التطبيق من حيث هو إذا أردنا الوقوف على بنيته الاشتقاقية يدور مع (ط ب ق)، ومن معانيه التي تقارب المعنى المقصود في هذا السياق العموم والتعميم، وقد قال الزبيدي في التاج: “وطبق الشيء تطبيقاً: عمَّ”[10]، فهو بهذا الاعتبار دال على تعميم الشريعة من حيث جعلها موضع التنفيذ والتحكيم في واقع الناس، وظاهر أن هذا المفهوم لم يكن مألوفاً عند العلماء من المتقدمين والمتأخرين، وإنما المألوف الذي دل على معناه ومضمونه ما شاع عند العلماء من ألفاظ: الامتثال والطاعة والاتباع والعمل والتمكين والتحكيم والتنزيل بل حتى التدبر والتدبير، وكلها مقتضى نصوص شرعية إما لفظاً أو معنى.

وكل هذه المعاني دالة على قضية مركزية وهي تفعيل الشريعة وتنزيلها في واقع الناس، والذي نخلص إليه في مفهوم تطبيق الشريعة من حيث معناه أنه يقصد به تنفيذ ما شرعه الله لعباده من العقائد، والعبادات، والأخلاق، والمعاملات، ونظم الحياة في شعبها المختلفة بما يحقق مقاصد الحق من الخلق في الدنيا والآخرة[11]، وإنما دفع باتجاه الدعوة إلى تطبيق الشريعة إشكالية التعطيل لأحكام الشريعة  مما له تعلق بالمسائل العامة والمجال العام، فضلاً عما أصاب المجال الخاص من تبديل وتغيير في المفاهيم والمضامين.

ولا غرو أن نجد لهذا التعطيل والتغيير والتبديل ذكراً في التنزيل وبيانه بقصد الإنذار وتضمينه ضرورة الاستمساك بالشريعة، قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾[الجاثية: آية 18]، وقال عليه الصلاة والسلام: “فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ”[12] … في أمثاله من نصوص الشريعة، وهو بحد ذاته يمثل إنذاراً مبكراً لما قد يعرض على النموذج الإسلامي من إشكاليات وأزمات متعلقة بفهم الشريعة وتطبيقها وتنزيلها في واقع الناس، وما يرتبط بها من حملات للنيل منها بشتى الوسائل والآليات.

ومن هنا يأتي ذلك الارتباط والاقتران في سياق هذا البحث بين نموذج تطبيق الشريعة وما يعرض عليه من محاولات الاختطاف؛ ليكون مدخلاً من قبل الباحث إلى الوقوف عند محاولات اختطاف النماذج التي تعد مجالاً للنظر والتفكير بوصفها وحدات قياسية يمكن من خلالها تفعيل الشريعة وأحكامها ومقاصدها في واقع الناس بما يجعلهم يؤطرون حياتهم بأطرها ويدورون معها حيث دارت، ولا يخفى أن للبعد التاريخي حضوره في تشكيل صور ومظاهر الاختطاف من خلال محاولات أربابه التاريخية للنيل من الشريعة وتغيير مناراتها ومساراتها بالتعطيل تارة وبالإبطال تارة وبالتحريف والتبديل والتغيير تارة أخرى، وهو ما يلزم في هذا المقام التأسيس للبحث بمقدمة تاريخية موجزة حول إشكالية تفعيل الشريعة وتنزيلها في واقع الناس في سياق الجدل بين الفكر والواقع.

مقصد إنزال الشريعة:  

لم تكن الشريعة الخاتمة مستثناة من قصد تنزيل الشرائع على مدار تاريخ الإنسانية، بل على العكس تماماً قد جمعت مقاصد الشرائع وهيمنت عليها وخُتم عليها بالحفظ والتصديق؛ لتكون رسالة قائمة دائمة وإن ختمت النبوة بها، ولو تأملنا بعضاً من سياقات القرآن النصية، لأمكننا الوقوف على جملة من المقاصد العامة التي قصد بها إنزال الشريعة، ومن الآيات الجامعات في هذا السياق قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[الحديد: آية 25]، فأخبر سبحانه أنه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل، وأعظم القسط التوحيد الذي هو رأس العدل وقوامه[13]، وبهذا يثبت يقيناً أن الرسالات جميعها إنما جاءت لتقر في الأرض وفي حياة الناس ميزاناً ثابتاً ترجع إليه البشرية؛ لتقيم عليه حياتها في مأمن من اضطراب الأهواء واختلاف الأمزجة، وتصادم المصالح والمنافع، وهذا الميزان هو الضمان الوحيد للبشرية من العواصف والزلازل والاضطرابات والخلخلة التي تحيق بها في معترك الأهواء، وبغير هذا الميزان الإلهي الثابت في منهج الله وشريعته لا يهتدي الناس إلى العدل، وإن اهتدوا إليه لم يثبت في أيديهم ميزانه، وهي تضطرب في مهب الجهالات والأهواء[14].

فإذا كانت آية واحدة من آيات القرآن تحمل في أثنائها هذه الجوامع الكلية الثقال، فإن للقرآن جميعه أثراً في حياة الإنسانية لو تحققت به واصطبغت بصبغته لأدركت بيقين مسالك الهداية في تحقيق مقاصد الحق من الخلق في عبدية الإنسان لربه واستخلافه في الأرض بعمرانها ولانعكس ذلك في البشرية صلاحاً وخيراً ونفعاً يسع الخلق كلهم، ولا يقف ذلك عند حدود الدنيا بل يسع الآخرة كذلك في المآل، ومن موافقات الشاطبي في تقرير هذه الحقيقة قوله في بيان المقصد من الشرع: “الشارع قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية، وذلك على وجه لا يختل لها به نظام، لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء، وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات. فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تخل أحكامها، لم يكن التشريع موضوعاً لها؛ إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد، لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق، فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبدياً وكلياً وعاماً في جميع أنواع التكليف والمكلفين وجميع الأحوال”[15].

إشكاليات الدعوة إلى تطبيق الشريعة:

إن ظهور المقصد في إنزال الشريعة يأخذ في الاعتبار النظر إليها من حيث كونها تبياناً لكل شيء، وهذا يستدعي تحكيمها في شؤون الحياة كلها؛ لما تنطوي عليه في خطابها ومقاصدها من الجوامع والكليات والأسس والمبادئ التي تنساق إليها جزئياتها وفروعها، ومن هنا فإن تطبيق الشريعة الذي ندور معه في هذا الإطار يستلزم استحضار هذا المقصد الكلي الذي يلزم أن يراعى معه تنفيذ أحكام الشريعة كلها دون استثناء، وهو ما يعني الدخول في السلم كافة بجميع ما تحتويه الشريعة من عقائد وأحكام وحِكَم ومقاصد وقيم، بحيث تكون المنظومة كاملة بجميع أنظمها ومساراتها مطبقة في واقع الناس، وهذا لا يقف عند حدود بعض مكونات الأمة أو قصر التطبيق للشريعة في الدائرة القانونية أو السياسية، أو النظر إلى الوجود الجزئي للشريعة بحكم تطبيق بعض أبوابها كما هو الحال في أبواب العبادات والأحوال الشخصية .. في غيرها، وهذا التقرير أملته بعض الإشكاليات التي طُرحت على قضية الدعوة إلى تطبيق الشريعة.

ذلك أن الدعوة إلى تطبيق الشريعة شابتها جملة من الإشكاليات التي تأثرت بالأطر التكوينية والمنهجية والتخصصية لدى الداعين إلى تطبيق الشريعة، فدفع البعض إلى التساؤل حول طبيعة هذه الإشكاليات وأزماتها التي تترك أثرها حول الدعوة إلى التطبيق نفسها، وتكمن هذه الإشكاليات في ثلاث، وهي: افتراض غياب الشريعة كلها، واختزال الشريعة في السياق القانوني والجزائي، وإحالة تطبيق الشريعة إلى جانب الدولة بمعزل عن الأمة[16]، وهي إشكاليات بالرغم من وجاهتها لكن لا ينبغي أن تبعد النظر عن قضية تطبيق الشريعة وكونها من المرتكزات التي يلزم التأكيد عليها عند أرباب العمل الإسلامي بمختلف اتجاهاتهم، دون أن تكون هذه الدعوة بمعزل عن الاعتقاد بكونها دائرة مع وسائل تفعيل الشريعة، فالتطبيق ليس مقصوداً لذاته بقدر كونه وسيلة إلى جعل الشريعة محكمة بين الناس، فوجوبه على وفق هذا التقرير وجوب الوسائل لا وجوب المقاصد، بمعنى أن الوصول إلى تطبيق الشريعة يعد نقطة البداية في حد ذاته وليس منتهى المراد.

إن النظر الكلي في خطاب التأسيس والتأصيل في مفهوم تطبيق الشريعة وما يقاربه من مفاهيم (تحكيم الشريعة، اتباع الشريعة، طاعة الشارع، تنزيل الشريعة .. في غيرها) بحسب ما تثيره الآيات تقضي بدفع الإشكاليات المفاهيمية التي يمكن أن تعرض في سياق قضية التطبيق، فالخطاب القرآني ذاته راعى تصيح مفاهيم الاتباع بمساراتها الكلية وشموليتها وعموميتها بعيداً عن منهجية التعضية والتجزيئ ومسلك الانتقاء مما له مدخل لأهواء النفس ورغباتها سواء في سياقها الجماعي أو الفردي، ولذلك تجد القرآن يسد الذرائع على أرباب هذه المناهج فدعى إلى أخذ الشريعة كاملة بجميع مضامينها ومكوناتها، ومن ذلك قوله تعالى:  ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾[البقرة: آية 85]، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾[البقرة: آية 208]، وقوله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾[المائدة: آية 49]، وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾[الحجر: آية 91] .. في غيرها. وهي آيات ظاهرة المعنى من حيث كون الشريعة ما أنزلت إلا لتحكم وتطبق في واقع الناس بحيث يلزم أهل الإسلام جعلها في سياق نظم ومؤسسات وبرامج وخطط وقوانين، وهذا موضع من مواضع الاجتهاد الكبرى في الأمة.

تطبيق الشريعة ومفهوم الدولة الحديثة:

لعل كذلك من الإشكاليات الكبرى التي تعرض على قضية تطبيق الشريعة هي مدى تناغم الدعوة إلى التطبيق مع الدولة الحديثة ذاتها؛ بحكم كونها شكل الدولة المستحكم في بلدان العالم الإسلامي، وليس من مقصودنا ربط قضية تطبيق الشريعة بالدولة من حيث تفعيلها وتنزيلها وتحمل عبء ذلك، وإنما مرجع طرحه كون الدولة ممثلة بنظامها السياسي تعد في النموذج الإسلامي حارسة للدين وسائسة للدنيا به على وفق التعريف المألوف والمعهود في كتب التراث السياسي الإسلامي، وإلا فإن لتطبيق الشريعة مقومات تقضي استثمار طاقات الأمة كلها دون تمييز بين مكوناتها حكاماً ومحكومين، أفراداً وجماعات، مؤسسات ونظماً، وإنما يتم ذلك في إطار تأسيس الرابطة السياسية الإيمانية في سياق تعاقدي بين مكونات الأمة.

إن الإشكال لا يكمن فقط في شكل الدولة الحديثة بل في فلسفتها كذلك، ذلك أن الدعوة إلى تطبيق الشريعة إنما تنطلق من أساس تستكن فيه الرؤية الإسلامية الكونية أو ما يسمى برؤية العالم المتعلقة بالخالق والوجود والإنسان والحياة والمآل، والرؤية الكونية في التصور الإسلامي ليست مجرد قضية نظرية تعبر عن تصور ذهني أو فكري للعوالم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية، إنما هي موقف إنساني منها يسعى لإقامة علاقة سوية معها لحياة أفضل، وللرؤية الكونية أهمية تأسيسية كبرى فهي التي تحدد للإنسان معنى وجوده والغاية منه وعلاقاته بالذات وبالآخر وبالعالم وبالكون وتزوده بالطاقة الوجدانية والدافعية، وهي رؤية تعارفية حضارية، وهذا بلا ريب يكون له أثره البالغ على الظاهرة السياسية بوصفها إحدى الظواهر الإنسانية الرئيسة، فتنساق مع قيم النموذج الإسلامي في التوحيد والعمران والاستخلاف والتزكية والعدل .. في غيرها.

وهذه الرؤية من حيث طبيعتها ومقوماتها تتنافر بالضرورة مع الطبيعة الفلسفية التي تقوم عليها الدولة الحديثة شكلاً ومضموناً، وهذه من الإشكالات التي عرضها بعض المفكرين عند نقاشه للمشروع السياسي للتيارات الإسلامية المختلفة، فمن الأهمية بمكان حال الوقوف عند نموذج الدولة الحديثة ربطها بنموذجها المعرفي الذي يعد بعدها الغيبي -إن صح التعبير- الذي تأرز إليه وترجع إليه لتتزود منه، أعني به فسلفتها الليبرالية ونموذج الوضعي، وهذا التقرير ليس ضرباً من ضروب الخيال، بل هو حقيقة تجلت في أفكار فلاسفة الغرب أنفسهم، فهذا برتراند راسل يرى أن النسق الفلسفي لليبرالية كان هو النسق الديني معكوساً، ففي مقابل الله كمطلق وضعت الدولة، وهو الرأي نفسه الذي ذهب إليه برايان تيرنر في تحليله صعود المواطنة في ظل تطور الرأسمالية، ويصف آبتر الإيمان بالدولة الحديثة القومية وبناء الهوية بأنه دين سياسي حداثي يحل محل الدين التقليدي الغيبي، أي نسق ثقافي يحل محل النسق الثقافي ما قبل الحداثي[17]، وهذا كله يجعل إلباس هذه الدولة في شكلها ومضمونها لباساً إسلامياً دونه مفاوز لا يمكن عبورها أو تجاوزها إلا بمراحل من التهذيب والغربلة والتصفية بما يتوافق مع النموذج الإسلامي وخاصة في البعد الوسائلي المنفك عن تأثيرات وجهته الفلسفية.

هذا التطواف في السياق المفاهيمي حول نموذج تطبيق الشريعة وما ارتبط به من عوارض إنما هو توطئة وتمهيد للولوج في سياق موضوعي يأخذ بالاعتبار تسكين النموذج في دائرة منهجية بقصد معرفة ما تعرض له هذا النموذج من حملات ممنهجة تقصد اختطافه وتغيير مساره وتحريف مناراته أسوة بإخوته من أفراد المنظومة الإسلامية، وهو ما يجعلنا ننتقل إلى دائرة المتن في دراسة هذا النموذج في سياق منظومة الاختطاف استناداً -كما أشرنا من قبل- إلى المنهجية المتبعة في مشروع مواجهة الاختطاف.

 

 

كيف كان التخلي عن تطبيق أحكام الشريعة:

تحت هذا العنوان كتب الشيخ مناع القطان رحمه الله مبحثاً من مباحث كتابه معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية، وقد تطرق الشيخ إلى شمولية الشريعة لشؤون كلها، عقيدة، وعبادة، واجتماعاً، واقتصاداً، وسياسة، وحكماً، وأشار إلى المحددات المنهجية التي حددتها الشريعة في تشريعها للأحكام وتغايرها من حيث صورها ومظاهرها بموجب قاعدة الثبات والتغير في الأحكام، وهو الذي أشرنا إليه في سياق الخصائص المنهجية، وقد ظلت أحكام الشريعة باسطة نفوذها على الأمة في عصور التاريخ المختلفة بالواقع التطبيقي لها، ولم يتهاون المسلمون في قضية تطبيق الشريعة؛ لارتباط ذلك بأصول الإيمان[18]، وقد أشار بعض المتخصصين بالتاريخ إلى أن التاريخ الإسلامي نفسه هو تاريخ تطبيق الشريعة الإسلامية[19]، وهو التطبيق الواقعي الذي التزمت به الأمة بالرغم من الاختلالات والانحرافات التي شابت هذا التطبيق، إلا أنها لم تكن لتؤثر على صورة هذا التطبيق بشكل كامل إلى حد الإزاحة والتجريف والإلغاء الذي أصابها فيما بعد.

وقصة الإلغاء لم تكن لتأتي في واقع الأمر ضربة لازب، وإنما كان لها ممهدات، أولها كما يشير الشيخ القطان احتكاك المسلين بالغرب، وضعف الدولة العثمانية الذي استغله الغرب وتسلل من خلاله ببث تصوراته ونظمه وأوضاعه، وكانت النتيجة انبهار الناس بها مما أفضى إلى تهاون الناس في الالتزام بأحكام الشريعة، ثم جاء استبدال القوانين الوضعية بأحكام الشريعة مرحلة بعد مرحلة[20]، وقد ذكر القطان حادثة كاشفة في سياق قصة الإلغاء، فقال رحمه الله: “أما مصر التي كانت قد انفصلت عن الخلافة العثمانية، فقد استنكف حاكمها الخديوي إسماعيل باشا عن تطبيق المجلة الشرعية، وترجم القانون المدني الفرنسي الأول (قانون نابليون) وطبقه في بلاده، وكان هذا بداية التقنين الوضعي في أحكام المعاملات، وما كان الشعب المصري المسلم ليقبل هذا بسهولة، لولا أن الخديوي استخدم بعض العلماء في الكتابة عن ذلك، لبيان أن هذا القانون مستمد من مذهب الإمام مالك، وهي تكأة باطلة للتغرير بالناس. وحين زحف الاستعمار الغربي على العالم الإسلامي بعد أن مزق باقي أوصاله، زحفت معه القوانين الوضعية، وسادت أحكام القانون المدني الغربي”[21].

 

المبحث الأول: بواعث اختطاف نموذج تطبيق الشريعة:  

بحكم الاختلاف في طبيعة الاختطاف من حيث نوعه وجنسه وبحكم كذلك تباين أربابه وذويه، فإن بواعث الاختطاف بموجب ذلك مختلفة ومتباينة، وعليه فإن هناك جملة من البواعث التي تدفع الخاطفين باتجاه اختطاف نموذج تطبيق الشريعة، وبيانها -أو بيان أهمها- على وفق ما يأتي:

أولاً: من أبرز البواعث التي تدفع باتجاه الاختطاف لهذا النموذج، كون الشريعة مستبطنة لجملة من الخصائص ذات البعد الشمولي بما يجعلها قادرة على استيعاب ما تقتضيها الحاجات البشرية بمختلف صورها وأشكالها في كل زمان ومكان، الأمر الذي يجعلها فاذَّة عن غيرها، وهذا هو مرجع الخصوصية التي تتميز بها هذه الشريعة، وجعلتها دائمة الصلاحية في زمان ومكان، وهي صلاحية لا -ولن- تتهيأ لغيرها البتة، علماً أن هذا التقرير المنهجي لا يقف عند حدود التنظير بل تدعمه شواهد الحق وشهود العدل ووقائع التاريخ، كلها دالة على خصوصية صلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان[22].

وتبرز في هذا السياق جملة من الخصائص يمكن تأطيرها في إطارين:

الأول: إطار بنائي، تتميز به الشريعة بانطوائها على جملة من المحددات البنائية على مستوى خطابها التأسيسي وخطابها البياني، وأبرز هذه المحددات هي:

-خاصية الإطلاق: والإطلاق المقصود في هذا السياق أن يكون القرآن خارج إطار الزمان والمكان؛ لأن الخطاب المتلبس بهما يكون نسبياً، ومن شأن النسبي عدم الإحاطة والقصور المنهجي، ومن السهل واليسير إدراك أن خطاب البشر الذي فاتته القرون والسنون لا يصلح لأن يكون خطاباً عاماً يمكن تنزيله باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال، وعلى هذا الأساس جاء الخطاب القرآني مطلقاً لجعل الزمان والمكان صالحاً لتنزيله وتحقيق مناطاته لا أن يكونا محيطين به من كل جانب، لكن هذا لا يمنع من القول أن القرآن يحتاج إلى التنزيل في الواقع بجهد بشري بحسب الإمكانات البشرية في فهمه وتدبره.

-خاصية الاستيعاب والتجاوز: إن من شأن القرآن عند تنزيله في واقع الناس أن يستوعب حاجاتهم ويقوم بترقيتها وصولاً إلى ترقية المجتمع الإسلامي، فإذا قام باستيعاب حاجات المرحلة الزمنية الأولى وترقيتها يتجاوزها إلى مرحلة زمنية ثانية؛ من أجل استيعاب حاجاتها والقيام بترقيتها… وهكذا ندرك القيمة المنهجية التي يقوم عليها القرآن في إطار خاصية الاستيعاب والتجاوز، وهذا من شأن جعل الخطاب القرآني هو الخاتم.

-خاصية الهيمنة والتصديق: ويدور التصديق حول تأييد القرآن لكل ما جاء في الكتب السابقة من حق وحكم لا تختلف مصالحه باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال كقضايا التوحيد والنبوة والمعاد والقيم والسلوك والأخلاق، فجمع القرآن كل ما هو حق في هذه الكتب في إطار التصديق لها، فلا حاجة للمسلم أن يرجع إليها لمعرفة هذا الحق لكون القرآن جامعاً له، وأما الهيمنة فمقصود بها إبطال كل ما هو باطل في الكتب السابقة، كما أن الباطل منفهي عنه على مدار الأزمان، من خلال الهيمنة على الكتاب بجعله محفوظاً من التغيير والتحريف والتبديل.

-خاصية العموم والشمول: يختص القرآن الكريم بخاصية العموم من جهة كونه أريد به عموم البشرية في جميع مراحلها الزمنية، ومن شأن العموم أن تكون مناطات القرآن صالحة للتنزيل في جميع هذه المراحل، وأما الشمول فإن القرآن المجيد يعد كتاباً للدين كله، منه تستمد العقيدة، وتؤخذ العبادة، وتلتمس الأخلاق، وتتوخى أصول التشريع والأحكام، ويعد كتاباً للبشرية كلها من خلال تحقيقه مقاصدها وحاجاتها الروحية والنفسية والاجتماعية والمنهجية والمرجعية، فهو جامع لكل الموضوعات والمضامين في إطارها الكلي، كما نص على ما مقتضاه الثبات مع تغاير الزمان والمكان.

الثاني: إطار قيمي، وهذا باعتبار ما تؤول إليه صلاحيتها للتطبيق بانعكاسها في الأمة بل في البشرية كلها صلاحاً وإصلاحاً ورعاية لمصالح الناس، ويجليه بشكل ضافٍ الدكتور سيف الدين عبدالفتاح في مدخل القيم بقوله: “الصلاحية للشريعة كسمة عامة ترتبط بخلودها، كما ترتبط بما يفترض اعتبارها الرسالة الخاتم، والصلاحية لا تأتي في حجتها إلا من خلال تكوين منظومة مصلحية من التفكير والبحث، هادفة في كل الأحوال إلى الإصلاح حسب الوسع والطاقة كامل الوسع وكامل الطاقة، لتحرك فاعليات تربط بين الخصيصة الأساسية والعامة للشرعة، والخصيصة التكوينية والمقصد الأساسي المتمثل في الحفظ و الإصلاح بما يمثل مطلق الرعاية، المعادلة يمكن أن تتخذ هذا الشكل التفاعلي:

الصلاحية                  المصلحة                الإصلاح”[23].

 

ثانياً: من البواعث التي تتلازم مع ما تقدم أن تطبيق الشريعة يعد دليلاً على تمكين الأمة في سياق حضورها بعد وجودها، ولئن شاب وجودها الحسي شائبة التفرق والتشتت في سياقه الجغرافي منذ أوائل القرن العشرين حتى يومنا هذا، فإن لوجودها الوجداني بحكم ارتباطها بدينها أثره في الحفاظ على الرابطة الفكرية والثقافية، ولا يخفى أن للأمة مقومات تسهم في إخراجها إلى حيث شهودها الحضاري الذي يمثل وظيفتها التكليفية التي لا يسع أحداً غيرها القيام بها، والتصدي للقيام بهذا الواجب الكفائي في بعده الكلي يقضي بجعلها في دائرة الحضور الذي يعني الفاعلية والتأثير، فيكون النهوض بالأمة قائماً بتطبيق الشريعة وتفعيلها وتنزيلها في سياق ما يسمى الرابطة السياسية الإيمانية، وأبرز هذه المقومات: وسطية أوتيت للأمة من عقيدة التوحيد والشعائر العبادية ووحدة القبلة، واختيار واجتباء يقضي بالتصدي لأداء الواجب الذي تترتب عليه خيرية الأمة بين الأمم، التلبس بالابتلاء والتمحيص، وهي مقومات تأخذ في اعتبارها خصائص منهجية ومجالية.

إن هذا التكامل والتناغم بين الأمة وشريعتها الخاتمة يخشى منه الخاطفون أن يعيد فاعليته إلى الوجود، فيقضي على مشاريعهم بالإبطال والنقض ويكونوا هم أنفسهم بالفعل مجالاً وموضعاً للاستيعاب الإسلامي، وهو ما يعني بذل كل ما بوسعهم للحيلولة دون انتقال الأمة المسلمة إلى دائرة الفعل، والإبقاء على تبعيتها في إطار علاقة المركز والهامش.

ثالثاً: وهذا الباعث يأخذ مساراً مغايراً لقسيميه؛ بسبب تغاير نوعية الاختطاف وتباين الخاطفين، ويكمن في النظر إلى تطبيق الشريعة في مسارات التهوين أو التهويل، وذلك بجعله قاصراً على بعض جوانب الشريعة دون غيرها، وهذا من الأدواء الكامنة في الأمة من جهة غياب منهج الاستقامة، والتعويل على الأفهام القاصرة في توجيه خطاب الشريعة، مما أفضى إلى التهوين منها بالتفريط في بعض أبوابها، أو إلى التهويل فيها بالإفراط في بعض أبوابها، وهو ما يثير إشكاليتين كان لهما أثرهما في تاريخ هذه الأمة، وامتد تأثيرهما إلى يوم الناس هذا، وهما إشكاليتا تضييع الشريعة والغلو فيها، وقد انعكست هذه الإشكالية على منهجية التطبيق بما أفضى إلى تشويهه بالقدر الذي لا تقل خطورته عن إشكالية تنحية الشريعة عن حياة الأمة.

 

المبحث الثاني: القوى الفاعلة ووسائلها:

أولاً: الغرب:

لم يأل الغرب جهده على مدار تاريخه الوسيط والحديث والمعاصر بحسب تحقيبه الزمني في النيل من الأمة المسلمة والانقضاض عليها؛ سعياً وراء الهيمنة عليها والتحكم بمقدراتها وثرواتها وجعلها دائرة في تبعيته شكلاً ومضموناً، ولكي يحقق أهدافه تتبع مواطن القوة في الأمة بغية إضعافها وتعطيل فاعليتها، ولا يخفى أن مواطن القوة فيها لا تتعلق بجانب دون جانب آخر، بل تتمثل في جميع مكونات منظومته، ويقف في مقدمتها دينها وشرعتها، وتاريخياً انتهج الغرب في مواجهته للإسلام مسلكين، الأول مسلك المواجهة العسكرية وإرسال الحملات الصليبية إلى بلاد الإسلام واحتلالها، والمسلك الثاني مسلك المواجهة الفكرية، وفي هذا يقول الأستاذ أنور الجندي: “الغرب على مختلف أديانه ومذاهبه وفلسفاته، سواء اليونانية والرومانية، أديانه اليهودية والمسيحية؛ قد تشكل منذ ذلك الوقت في تحالف مقدس، كانت غايته تدمير هذه الأمة الإسلامية، وتحطيم وجود هذا المجتمع الجديد، وزاد من هذا التحالف ذلك التوسع السريع الخاطف، الذي مكن للإسلام أن يقيم هذه الإمبراطورية الواسعة، من حدود الصين إلى نهر اللوار في أقل من ثمانين عاماً .. ومن ثم قامت اليهودية والنصرانية في حالة فزع شديد، تعمل للإدالة من هذا الوجود، فاتخذت كل وسيلة لمهاجمة الأمة الإسلامية، والتمست لذلك كل ما تملكه أوروبا من إمكانيات .. لقد وقفت أوروبا المسيحية في وجه الإسلام خلال أربعة عشر قرناً في محاولات متصلة لتحول بينه وبين التوسع والامتداد، وفعلت من أجل ذلك الكثير، ولما لم تكن الحرب مجدية في إيقاف نمو الإسلام .. لجأت إلى حرب الكلمة، فأخذت تهاجم عقيدة المسلمين وكتابهم ولغتهم، في خطة طويلة  المدى، وفي محاولة استقطاب بعض العناصر غير الإسلامية من أبناء الأوطان العربية وغيرها .. وما تزال المعركة بين الإسلام والغرب -بعناصره السياسية والدينية- مستمرة لم تتوقف منذ اليوم الأول حتى اليوم الأخير”[24].

لقد أدرك الغرب أن سر قوة المسلمين كامن في شريعتهم، وأن بقاء هذه القوة مرهون باتباعها والاستمساك بها وتحكيمها في مفاصل حياتهم كلها واستثمار كل ما مقتضاه تعزيز  هذه الأمة في أداء وظيفتها الحضارية، ولأجل تقويض هذه القوة اتجه الغرب إلى النيل من الشريعة والتهوين منها بشتى السبل، واتخذ لتحقيق ذلك وسائل عدة:

الأولى: الاستشراق:

وبعيداً عند دائرة الاستشراق من حيث مفهومه وتطوره التاريخي وأدواره ورموزه التي اتسعت لها بحوث أخرى في مشروع مواجهة اختطاف الإسلام، فالبحث هنا يحيل إليها لاستكمال الصورة المتعلقة بالاستشراق من حيث وظيفته ومهامه وأهدافه، فإن الذي يعنينا في هذا المقام الوقوف عند أهداف الاستشراق من جهة موقفه مع الشريعة بمختلف مقوماتها ومكوناتها.

إن من الإشكاليات المتعلقة بظاهرة الاستشراق من حيث علاقتها بالشريعة الإسلامية النظر إلى ما أخرجته هذه الظاهرة من أفكار ومناهج ومسالك نظر في دراسة الشريعة على أنها ثمار اجتهاد منهج راكم علمياً على ما أنتجه التراث الإسلامي على مدار التاريخ، وكان من نتائج هذا النظر التأثر بمخرجات الاستشراق والتسليم به على أنه إضافات علمية يمكن الإفادة منها في المؤسسات التعليمية فضلاً عن غيرها، وبالرغم من بعض الإيجابيات التي حققها الاستشراق من جهة إثارة موضوعات وقضايا حركت العقل المسلم باتجاه بحثها والنظر فيها وأيضاً من جهة ما وقف عليه المستشرقون وأظهروه من مخطوطات ووثائق إسلامية، إلا أن الغالب على مساره العمل على تشويه الشريعة وإثاره الشبهات حولها وتقويض تأثيرها في الواقع سواء على مستوى العالم الإسلامي أو خارجه.

ولقد جلى بعض الباحثين في التاريخ الإسلامي هذه الإشكالية بوضوح في دائرة هذا التخصص قائلاً: “إن خضوع الأقسام المختلفة في الكليات والجامعات لنظام الله وشرعه واجب على اعتبار أن الإسلام نظام حياة شامل .. والوجوب يتأكد في حق أقسام التاريخ الإسلامي الذي اتبع في كتابته ودراسته وتدريسه ووضع مناهجه ومراجعه طرقاً استشراقية وغير إسلامية، بل يمكن القول إنها معادية للإسلام، وتسعى إلى تقويض بنيانه ..”[25]، ومن هنا فإنك تلمس من خلال ما كتبه المستشرقون تلكم الأهداف والغايات التي سُلط الاستشراق لأجل تحقيقها والوصول إليها.

وقد أشار بعض الباحثين إلى أن أهداف الاستشراق متعددة لا تقف عند بعد واحد، وهذا بموجب تغاير المهام والوظائف التي وجه المستشرقون إليها واختلاف زوايا النظر فيها، وبالتتبع والاستقراء رأى هؤلاء الباحثون أن للاستشراق سبعة دوافع رئيسة، وهي: نفسية، وتاريخية، واقتصادية، وأيديولوجية، ودينية، واستعمارية، وأخيراً علمية، وبجانبها دوافع ثانوية أخرى[26]، والناظر في هذه الدوافع بإمكانه في الحقيقة الوقوف على الدافع الرئيس الذي حرك الاستشراق، وهو البعد الديني، فإن بقية الأبعاد والدوافع تصب في سياقه بشكل واضح، وإن كان بعضها ذات بعد مادي، والبعد الديني له ارتباطه الواضح بموضوع بحثنا، ولذلك انساق المستشرقون بشتى تخصصاتهم في النظر إلى الشريعة للوقوف -بزعمهم- على عيوبها وهناتها وثغراتها.

ومن فإن عمل المستشرقين في دراستهم للشريعة من جهة النظر في مقوماتها المنهجية والحكمية وما يتعلق بتطبيقها يكمن كما يقول الدكتور محمد البهي في إضعاف القيم الإسلامية عن طريق شرح تعاليم الإسلام ومبادئه شرحاً يضعف في المسلم تمسكه بالإسلام، ويقوى في نفسه الشك فيه كدين أو على الأقل كمنهج سلوكي يتفق وطبيعة الحياة القائمة[27].

والفرضية الكبرى التي استند إليها أغلب المستشرقين أن الشريعة الإسلامية بوصفها قانوناً عاماً لا يمكن تطبيقها في هذا العصر؛ ومرجع ذلك بحسب المستشرقين أمران بحسب اختلاف نظرتهم لذلك، الأول: أن الشريعة نفسها ما هي إلا نظام بالٍ قد بلغ مرحلة الجمود عن التطور اللازم لأي نظام قانوني حي أو قابل للاستمرار حياً، وهو لذلك قد غدا مهجوراً في موطنه[28]، فالجهة التي استند إليها المستشرقون هي الواقع الإسلامي الذي تخلى عن الشريعة في كثير من أبوابها وأحكامها إلا قليلاً منها في أبواب الأحوال الشخصية وغيرها، وإلا فإن السمة الغالبة هي هجر الشريعة في الواقع الحسي.

والأمر الثاني توصيف الشريعة بوصف يفقدها الواقعية والإمكان وهما يتعلقان بقضية التطبيق؛ والوصف الذي أجروه عليها هو المثالية، فقد عمد المستشرقون إلى القول بأن تطبيق الشريعة الإسلامية أمر بعيد المنال؛ لأن نزعتها مثالية لا يمكن أن يكون لها واقع عملي في الحياة، فمصدرها الأم هو القرآن الكريم، والقرآن وحي إلهي له معاييره الثابتة، التي لا تقبل التغيير إلى الأبد، والحياة متجددة متغيرة، وهذا يجعل الشريعة الإسلامية عاجزة عن الوفاء بحاجات الناس التي لا بد فيها من النزعة الواقعية لتقدير الأمور، ولذا كانت الحاجة ماسة إلى قواعد قانونية واقعية لفض المنازعات، بعيداً عن المفاهيم المثالية الدقيقة للشريعة الإسلامية[29].

ولو تأملنا مقالات المستشرقين وغيرهم في هذا السياق، لأدركنا حجم الخداع والمكر الذي بثوه فيها بقصد تمرير باطلهم وسياساتهم استغلالاً للمسلمين وديارهم وتوظيفها بما يصب في مصالحهم وغاياتهم ودينهم، فهذا هورغورنيه يقول في مؤتمر عقد للمستشرقين في ليدن بهولندا: “إن سن القوانين من الشريعة الإسلامية غير موافق، لأنه ينبغي أن نُفهم المسلم أنه لا يقدر أن يعيش معيشة عصرية راقية وهو متمسك بشريعته، وأنه يجب أن يعلم أن الشريعة لا تتسع لقبول المدنية الحاضرة”[30].

وهذا مثال يغني عن سواه؛ لأنه يعطي دلالة واضحة على تلكم المنهجية العوجاء التي اتخذها المستشرقون مسلكاً لدراسة الشريعة بحثاً عن مواطن الضعف والقصور بزعمهم، وفي هذا يقول أبو الحسن الندوي: “نرى كثيراً من المستشرقين يركزون كل جهودهم ومساعيهم على تعريف مواضع الضعف في تاريخ الإسلام ومجتمعه ومدنيته، حتى في ديانته وشريعته، وتمثيلها في صورة مروعة مضخمة، إنهم ينظرون إليها عن طريق (المجهر) ويعرضونها كذلك للقراء حتى يروا الذرة جبلاً، والنقطة بحراً، وقد ظهرت حذاقتهم وذكاؤهم في كثير من الكتابات في تشويه صورة الإسلام، ويثيرون بذلك في قلوب قادة العالم الإسلامي اليوم وزعمائه -ممن تثقفوا في مراكز الغرب الثقافية الكبرى، أو درسوا الإسلام بلغات الغرب- شبهات حول الإسلام والمصادر الإسلامية، ويحدثون في نفوسهم يأساً عن مستقبل الإسلام، ومقتاً على حاضره، وسوء ظن بماضيه، حتى يركز نشاطهم وحماسهم في رفع هتاف (تطوير الدين) و (إصلاح القانون الإسلامي)”[31].

ولذلك من خداعهم أنهم لم ينتهجوا منهجية التسقيط الكامل للشريعة، بل يمارسون أسلوباً قوامه زرع الشك في نفوس المسلمين حول دينهم وشريعتهم وإن كانوا يصفونها ببعض الصفات التي يظهر للسامع أن فيها بعض المدح الذي يقلل من وطأة النشاز الذي ينساق فيه هذا المدح، وما هو في حقيقته إلا ذم، ولذلك حينما تقرأ قول كرومر: “إن الإسلام ناجح كعقيدة ودين؛ ولكنه فاشل كنظام اجتماعي”[32]، تقف على مدى ما يكنه هؤلاء من حقد وضغينة وكره للإسلام والمسلمين، وتلمس أيضاً أثناء مقولته حجم التأثر بالنسق الغربي في رؤية الدين ومكانته في الحياة.   

وسائل المستشرقين وسبلهم في تحقيق أهدافهم:

لقد بذل المستشرقون جهداً ضخماً لتطوير الشريعة، وتجديد الفقه وأصوله، وضللوا أتباع الغرب بأن الأحكام الشرعية لا تدخل في مفهوم الدين، يريدون تطبيق ما حل بالنصرانية على بلاد المسلمين، وعمد المستشرقون في ظل الدعم اللامحدود من منظومتهم الغربية إلى استغلال كل السبل والطرق المتاحة من أجل تحقيق أهدافهم العلمية والمعرفية في تشويه الثوابت الإسلامية وإشاعة القول بعدم قابليتها على التطبيق بحكم منافاتها للمعاصرة والحداثة، ومن ذلك[33]:

-تأليف الكتب وإصدار البحوث والدراسات، فكتبوا في الدراسات القرآنية والحديث والفقه والفلسفة والتصوف واللغة والأدب وغيرها.

-إصدار المجلات العلمية حول الإسلام والشرق عموماً، ومنها: مجلة الجمعية الآسيوية الملكية بلندن، ومجلة الجمعية الشرقية الأمريكية، ومجلة جمعية الدراسات الشرقية، ومجلة العالم الإسلامي الذي أسسها صمويل زويمر، ومثلها للمستشرقين الفرنسيين.

-إمداد الإرساليات التنصيرية.

-إلقاء المحاضرات في الجامعات والجمعيات العلمية.

-نشر المقالات في الصحف المحلية للبلاد العربية والإسلامية بقصد الترويج لأفكارهم.

-عضوية المجامع والمؤسسات العلمية، ومن أمثلة المجمع اللغوي المصري كان من أعضائه المستشرقون: جب، وونسنك، وماسينيون، والمجمع العربي العلمي بدمشق كان من أعضائه: بيدرسون، وكيتاني، وجيتهل.

-عقد المؤتمرات الاستشراقية، وقد بدأت منذ عام 1873م.

-كتابة الموسوعة الإسلامية المشهورة بدائرة المعارف الإسلامية، وقد أصدروها بعدة لغات.

-إعداد المعاجم العربية والقواميس اللغوية، ومن أمثلتها المعجم المفهرس لألفاظ القرآن للمستشرق فلوجل، والمعجم المفهرس لألفاظ الحديث لمجموعة من المستشرقين منهم ونسنك.

-استغلال المناصب الهامة وكراسي الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الغربية، وتأسيس أقسام للدراسات الشرقية فيها. 

الثانية: التغريب:  

محور أزمتنا الفكرية يكمن في أن واقعنا الإسلامي يفتقد ذاتيته الثقافية وخصوصيته الحضارية، هذه الذاتية حددتها قيم عقيدية وأخلاقية وعملية شكلت الأسس الفكرية لحضارة الإسلام، والقراءة الواعية لحركة الأحداث في الواقع تدرك بوضوح أن الذي يفصل ما بين الشعوب ليس المسافات الجغرافية، وإنما هي مسافات ذات طبيعة أخرى يمثل عالم الأفكار أهم معالمها، وينطبق هذا المعنى بوضوح على وضع التردي الحضاري الذي تحياه مجتمعاتنا الإسلامية[34].

ولكن هذا لا يعني ألا يكون للبعد الجغرافي دوره في تحقيق مقاصد الغرب في هيمنته على العالم الإسلامي، ولهذا يفكك العماري في أنموذجه المغربي حالة الغزو الاستعماري مبيناً دوره في استثمار البعد الجغرافي، فقد اهتم في مرحلته الأولى بعملية تفكيك وتغيير المرتكز الجغرافي بوصفه وحدة جيوسياسية مهمة وإطاراً مصدرياً للقوة، ولتوقيف معطيات القوة الاستراتيجية لهذا المرتكز الجغرافي عمل على التطويق الجغرافي للعالم الإسلامي وفصل أجزائه إلى وحدات جغرافية صغيرة، يمكنها معها تعطيل دورها وتأثيرها الحضاري، وهذا التطويق الجغرافي ساعد بشكل كبير على استكمال مراحله بتغيير العقلية المسلمة وجعلها في دائرة الاستتباع الغربي[35].

لقد كان التغريب أداة من أدوات الغرب الفاعلة والعاملة في تفكيك عقلية الأمة الفكرية وإعادة تشكيلها، ما جعله من أكثر العوامل فاعلية في اختطاف الإسلام ومحاولة تغيير بنيته الفكرية وتقديمه على أنه الإسلام المقصود حضارياً، وما هو في حقيقته سوى حالة من حالات الاستلاب للأمة ومؤهلاتها الحضارية، والدلالة المفهومية للتغريب (التقليد للغرب) تشير بحسب ما قاله الجندي إلى أنه “حركة كاملة لها نظمها وأهدافها ودعائمها، ولها قادتها الذين يقومون بالإشراف عليها، تستهدف احتواء الشخصية الإسلامية الفكرية، ومحو مقوماتها الذاتية، وتدمير فكرها، وتسميم ينابيع الثقافة فيها”[36] ،وفي سياق آخر “حمل المسلمين والعرب على قبول ذهنية الغرب وغرس مبادئ التربية الغربية في نفوس المسلمين؛ حتى يشبوا مستغربين في حياتهم وتفكيرهم، وحتى تجف في نفوسهم موازين القيم الإسلامية”[37].

إن برامج التغريب تحاول أن تخدم هدفاً مزدوجاً، فهي تحرس مصالح الاستعمار، بتقريب الهوة التي تفصل بينه وبين المسلمين، نتيجة لاختلاف القيم، ونتيجة للمرارة التي يحسها المسلم إزاء المحتلين لبلاده ممن يفرض عليه دينه جهادهم، وهي في الوقت نفسه تضعف الرابطة الدينية التي تجمع المسلمين، وتفرق جماعتهم التي كانت تلتقي على وحدة القيم الفكرية والثقافية، أو بتعبير أشمل وحدة القيم الحضارية، وقد لاحظ المستعمر الغربي هذا الخلاف الشديد بين المسلمين وبينه، في العقائد، وفي القيم، وفي التقاليد والعادات، وفي اللغة .. في غيرها، فاتخذ لأجل تجسير الهوة بين المسلمين والمستعمر الأوربي طريقين، الأول تربية جيل من العصريين، الذين ينشؤون تنشئة خاصة تقربهم من الأوربيين ومن الإنجليز على وجه الخصوص، في طرائق السلوك والتفكير[38].

وأما الطريقة الأخرى التي اتخذها الاستعمار لإيجاد هذا التفاهم المفقود، وعمل على تنفيذها، فهي أبطأ ثماراً من الوسيلة الأولى، ولكنها أبقى آثاراً، وهي تتلخص في تطوير الإسلام نفسه وإعادة تفسيره، بحيث يبدو متفقاً مع الحضارة الغربية، أو قريبا منها وغير متعارض معها على الأقل، بدل أن يبدو عدواً أو معارضاً لقيمها وأساليبها[39]، وهذا لا يعني البتة سوى ظاهرة الاختطاف التي نحن بصددها.

لقد كان تطبيق الشريعة الإسلامية مما يقض مضاجع أعداء هذا الدين، وكانت الخلافة رمز قوة المسلمين ووحدتهم، ولذلك دأب المستعمر وأعوانه على إقناع بعض المسلمين من أجل اللحاق بالغرب بفصل الدين عن شؤون الدولة والحياة، بعد أن تآمروا على نظام الخلافة في مطلع هذا القرن، ولذلك كان هدف التغريب الأساسي هو حجب الشريعة الإسلامية، وإحلال القانون الوضعي بديلاً عنها في البلاد الإسلامية التي وقعت تحت سيطرته ونفوذه السياسي، وقد أحيط هذا العمل بدعوى عريضة مضللة، تحاول أن تصور الشريعة الإسلامية بأنها شريعة صحراوية، وأنها لا تصلح للعصر الحديث، وأنها عاجزة عن الاستجابة لمتغيرات العصر.

أساليب التغريب ووسائله:

اتخذ أرباب التغريب أساليب ووسائل متعددة، وهي تتداخل وتتقاطع مع كثير من الوسائل التي اتخذها المستشرقون وغيرهم في التطاول على الثوابت الإسلامية، وسنقف مع منظومتين اتخذت وسائل متعددة في تحقيق أهدافهم في ذلك، وهما التعليم والإعلام:

التعليم: وهو من أخطر الوسائل المتبعة في إحداث التغيير الفكري لأبناء الإسلام؛ بهدف طمس الشخصية الإسلامية وإذابتها في الثقافة الغربية، يقول زويمر: “المدارس من أحسن الوسائل لترويج أغراض المبشرين”، ولهذا اتخذ الغرب من التعليم وسيلته الأولى في التأثير والتغيير الذي ينشده، ومن وسائله في التأثير في المنظومة التعليمية: عملية الابتعاث إلى الغرب، والمدارس التنصيرية والأجنبية في البيئة الإسلامية، وإنشاء المدارس الحديثة المدنية المختلطة وباللغات الأجنبية، التضييق على التعليم الديني كما هو الشأن في الحالة المصرية[40].

الإعلام: وهذه الوسيلة من الوسائل التي تعاظم خطرها؛ بسبب التماهي مع التطور والتقدم التقني الذي اتسعت دائرة تأثيره وتنوعت، خاصة مع إحداث وسائل جديدة في منظومته، تجاوزت ما هو تقليدي منها، فلم تعد الصحافة الورقية مؤثرة، وإن كان حضورها مستمراً، بل ازداد التأثير الإعلامي على مستوى الإعلام المرئي في وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية بما تبثه من أفلام وبرامج التوك شو وغيرها.

ومما نقله الدكتور محمد محمد حسين عن هاملتون جب تأكيده على أهمية التعليم والإعلام في تحقيق أهداف التغريب في العالم الإسلامي: “والسبيل الحقيقي للحكم على مدى التغريب هو أن نتبين إلى أي حد يجري التعليم على الأسلوب الغربي، وعلى المبادئ الغربية، وعلى التفكير الغربي .. هذا هو السبيل الوحيد ولا سبيل غيره، وقد رأينا المراحل التي مر بها طبع التعليم بالطابع الغربي في العالم الإسلامي، ومدى تأثيره على تفكير الزعماء المدنيين وقليل من الزعماء الدينيين. ثم يقول بعد قليل: والواقع أن المدارس والمعاهد العلمية لا تكفي. فليست هي في حقيقة الأمر إلا الخطوة الأولى في الطريق؛ لأنها لا تغني شيئاً في قيادة الاتجاهات السياسية والإدارية. وللوصول إلى هذا التطور الأبعد يجب أن لا ينحصر الأمر في الاعتماد على التعليم في المدارس الابتدائية والثانوية، بل يجب أن يكون الاهتمام الأكبر منصرفاً إلى خلق رأي عام. والسبيل إلى ذلك هو الاعتماد على الصحافة. ويقرر جب أن الصحافة هي أقوى الأدوات الأوربية وأعظمها نفوذاً في العالم الإسلامي”[41].

مثال تغريبي سافر:

من الأمثلة السافرة على اختطاف الشريعة من خلال نموذجها التطبيقي موقف المستشار محمد سعيد عشماوي الذي كرس جهوده الفكرية في مواجهة كل المحاولات التي تهدف إلى تقنين الشريعة الإسلامية والدعوة إلى تطبيقها، والوقوف بوجه أي سعي لإحلال هذه الشريعة محل القوانين الوضعية المعمول بها، يقول في كتابه (الإسلام السياسي) حول الدعوة إلى تقنين الشريعة والشروع فيها عملياً في سبعينات القرن الماضي:  “في السبعينات كانت دعوى تطبيق الشريعة قد أوشكت أن تقنع الناس -وأكثر الناس لا يعلمون- بضرورة تقنين الشريعة وإلغاء كافة القوانين القائمة وتغيير النظام القضائي كله. ونشطت لجان لهذا الغرض تقنن الفقه الذي التبس مع الشريعة واختلط في الأذهان بها. وقد نشرنا كتابنا أصول الشريعة (مايو سنة 1979) وتابعنا ذلك بمقالات نشرت في جريدة الأخبار في الفترة من يوليو سنة 1979 حتى يناير سنة 1980، وفيها دللنا -بالتعريفات الواضحة والمقارنات السليمة والأسانيد الصحيحة والآراء المحددة والفقه المخلص- دللنا على أن أحكام القوانين المصرية لا تبعد عن أحكام الشريعة والفقه الإسلامي إلا في نقاط قليلة لا يمكن تطبيقها دون إعداد سليم وبغير اجتهاد جديد”[42].

لقد أوهم عشماوي بكلماته هذه وغيرها التي سود بها كثيراً  كتبه وبحوثه ومقالاته أنه من حراس الشريعة ويصم الداعين إلى تقنين الشريعة وتطبيقها بالغش والخداع، وقد نسي أو تناسى أن الأسباب التي استنفرته للرد: (الصحوة الإسلامية، تزايد نفوذ الحركات الإسلامية السياسية، التوجه إلى تقنين الشريعة الإسلامية وتراث الفقه الإسلامي، محاولات تطبيق الشريعة، العودة للجذور، والتحرك الإسلامي باتجاه المواقع الأساسية الأمامية في أرجاء العالم الإسلامي) هي ذاتها الأسباب والمخاطر التي استنفرت الدوائر الغربية المعادية للصحوة الإسلامية وهي ذات التوقيت الذي ابتدأ فيه العشماوي رده[43].

لقد اتحد في موقف المستشار عشماوي من الشريعة الإسلامية المقصد وهو إلغاؤها وإهدارها وصرف الناس عن السعي إلى تقنينها والاحتكام إليها، مع تعدد في السبل التي سلكها الرجل إلى تحقيق هذا المقصد الواحد، فمرة: إنها ليس لها إلاالمعنى اللغوي للمصطلح، ومرة: إنها الفقه -أي الفكر البشري- الذي لا إلزام فيه، ومرة: هي (رحمة) وليس فيها قانون، ومرة: إن أحكامها ليست مطلقة؛ لأنها نسبية، استدعتها أسباب وانقضت بانقضاء هذه الأسباب، والآن يصل المستشار عشماوي على درب مشروعه لإلغاء الشريعة الإسلامية إلى التصريح بأن أحكام هذه الشريعة، وخاصة في السياسة والمعاملات والعمران -أي غير الشعائر العبادية- هي (أحكام مؤقتة)، تجاوزها الزمن، و(تاريخية)، أصبحت في ذمة التاريخ[44]، هذه هي السموم التي ينفثها عشماوي ويلبسها لباس التجديد الذي يراه مناسباً في التعامل مع الشريعة وأحكامها.

الثالثة: مراكز البحوث والدراسات:

حقيقة الدور الذي تضطلع به مراكز الأبحاث الغربية وأخواتها في الدائرة الإسلامية هو زعزعة الثوابت الإسلامية ومحاولة التلاعب فيها وتجريفها من عقول أجيال الأمة وإعادة تشكيل هذه العقول بما يحقق لهم أهدافهم في إضعاف بل قتل الفاعلية الفكرية التي تبثها تلكم الثوابت في عقول ونفوس هذه الأجيال عند التحقق بها وجعلها نهجاً ثابتاً في الحياة الإسلامية، وقد علم أعداء هذه الأمة قيمة هذا الدين وما يستبطنه من روافع منهجية ونفسية تنعكس في نفوس شباب الأمة تحقق بهم ومعهم فاعليتها في ظل شهودها الحضاري.

لقد شكل التطاول على الثوابت الإسلامية وتوجيه سهام التشويه إليها هدفاً رئيساً سعت لتحقيقه مراكز ومؤسسات بحثية غربية عبر دراسات وتقارير لم تقف عند دائرة التنظير بل تجاوزتها نحو إقرارها في سياسات معتمدة من قبل صناع القرار السياسي في المنظومة الغربية، وبصورتها الأمريكية على وجه الخصوص، وهذا يجعلها تتفق في موضوعات الاهتمام ومنهجية التناول مع الدائرة الاستشراقية، سواء قلنا إن هذه المراكز امتداد لها ونسخ معاصرة منها، أو قلنا إنها تقاطعت معها هدفاً ومنهجاً.

مؤسسة رند مثالاً:

ولعل التقارير سيئة السمعة التي قدمتها مؤسسة رند الأمريكية، تعد مثالاً جلياً على تلكم المراكز التي جعلت الإسلام ومنظومته وثوابته في دائرة الاستهداف بالتشويه والاختطاف، ومن أمثلة تقاريرها في هذا الصدد تقريران أصدرتهما المؤسسة عامي 2003م و2007م على التوالي، التقرير الأول بعنوان: (الإسلام الديمقراطي المدني: الشركاء والموارد والاستراتيجيات)، والتقرير الثاني بعنوان: (بناء شبكات مسلمة معتدلة)، والتقرير الأول من إعداد شيريل بينارد، وأسهمت في الثاني بمعية آخرين.

لقد تضمن التقرير الأول-فيما نحن بصدده- مواضع متعددة تناولت ثوابت الإسلام ومفاصله بالشبهات والتشكيك والطعن وعدم صلاحيتها للتطبيق في الواقع المعاصر، ومن ذلك:

أ.نظرتهم إلى القرآن الكريم، ومما جاء في التقرير:

-“الشريعة الإسلامية قد فرضت حد الرجم للزاني المحصن والجلد لغيره. وهذه مسألة محسومة عند الأصوليين والتقليديين المحافظين القريبين منهم، وهو ما لا يصح، إذ يكتنف هذه القضية غموض شديد في القرآن”[45].

-“صورة الأديان التوحيدية في النص القرآني هي صورة مشوشة، فالقرآن يحتوي على آيات عدائية وتحريضية ضد اليهود والمسيحيين، لكنه يحتوي كذلك على بعض الآيات التصالحية”[46].

-“من وجهة نظر موضوعية بحتة، فمن المستغرب أن تثير قضية الحجاب كل هذا القدر من الاهتمام؛ إذ من الواضح أن القرآن لا يفرضه”[47].

-“إن القرآن لم يسجل كتابة إلى ما بعد وفاة النبي بزمن، وقد تم تجميعه حيئنذ من شذرات لحاء الشجر أو العظام التي كتب عليها شهود الوحي نصوصه، وكذا من صدور الصحابة الذين حفظوا بعض السور القرآنية، فأملوها على أحسن ما يستطيعون التذكر. وهو ما نتج عنه كتابة عدة نسخ من القرآن كل منها مختلفة عن الأخرى. وسداً لأبواب الخلاف، تم التخلص من جميع النسخ ما عدا واحدة. ومن المعروف أنه في أثناء هذه العملية قد ضاعت سورتان على الأقل”[48].

-“إن النزعة الحداثية لا التقليدية هي التي تتسق مع الغرب. وهذا يشمل تجاوز الاعتقاد الديني الأصلي، أو تعديله، أو تجاهل بعض عناصره على نحو انتقائي. والعهد القديم لا يختلف عن القرآن في دعم ألوان من القيم والمعايير وترسيخ عدد من القوانين الشاذة إلى درجة لا يمكن تصورها”[49].

-“فالقرآن بوصفه الكتاب المقدس؛ هو بوجه عام -وإن لم يكن عند كل الناس-فوق الانتقاد، مع ذلك فهناك موضوعات كثيرة إما أن لا يتناولها بتاتاً، أو يشير إليها فقط بشكل غامض”[50].

ب.نظرتهم إلى السنة النبوية، ومما جاء فيه: “من الناحية الموضوعية ليس ثم شك في أن الحديث -على أفضل الفروض- ما هو إلا أداة معيبة .. إن الحديث لا يمكنه حل أية قضية حلاً جوهرياً. وبشكل حاسم .. فعلى سبيل المثال يذهب الأصوليون لتحريم الموسيقى .. لكن ثمت دليل على أن النبي كان يحب الموسيقى الدنيوية”[51].

وأما التقرير الثاني الصادر عام 2007م تحت عنوان: (بناء شبكات مسلمة معتدلة)، فقد تضمن دراسة مستفيضة قدمت توصيات محددة وعملية لصناع القرار السياسي بالاعتماد على الخبرات السابقة التي تحققت أثناء الحرب الباردة في مواجهة المد الشيوعي، وأهمية الإفادة منها في مواجهة التيار الإسلامي المعاصر، كما يوصي بأن تدعم الإدارة الأمريكية قيام شبكات وجماعات تمثل التيار العلماني والليبرالي والعصراني في العالم الإسلامي؛ لكي تتصدى لأفكار وأطروحات التيارات الإسلامية التي يصنفها التقرير بالمجمل بأنها تيارات متطرفة. كما يؤكد التقرير على الحاجة لأن يكون مفهوم الاعتدال ومواصفاته مفهوماً أمريكياً غربياً، وليس مفهوماً إسلامياً[52].

وأخطر مضامين التقرير مما تعلق باختطاف الإسلام وتشويه منظومته أمران:

-الأول: الدعوة إلى حرب الأفكار ودعمها من قبل الإدارة الأمريكية وذلك بإنشاء شبكات اعتدال إسلامية، ومما جاء في التقرير بهذا الشأن: “من الممكن إطلاق عملية بناء شبكات الاعتدال على ثلاثة مستويات: الأول دعم الشبكات الموجودة، والثاني تحديد الشبكات الكامنة ومساندتها في بدايتها وأثناء نموها، والثالث المساهمة في تعزيز الظروف المهيئة للتعددية والتسامح، والملائمة لنمو تلك الشبكات”[53].

ويعرف واضعو التقرير المعتدلين بقولهم: “نعرف المسلمين المعتدلين بأنهم الذين يؤمنون بالأبعاد الأساسية للثقافة الديمقراطية، وتشمل دعم الممارسة الديمقراطية وحقوق الإنسان المعترف بها دولياً (بما في ذلك المساواة بين الجنسين وحرية العبادة)، واحترام التنوع، وقبول المصادر غير الطائفية للتشريع، ورفض الإرهاب أو أي شكل آخر للعنف غير المشروع”[54]، ومن الواضح أن تقرير راند يريد أن يجعل من مصطلح الاعتدال بالمفهوم الأمريكي له أحد الأسلحة التي تستخدم استراتيجياً لتغيير الإسلام والمسلمين معاً، أو للتلويح بأن أي مقاومة للاعتدال بالمفهوم الأمريكي هي تعبير عن التطرف والغلو الذي يجب معاقبته باسم القوانين الدولية[55].

-الثاني: إعادة تفسير مبادئ الإسلام لتستجيب للمصالح الغربية، ولذلك جاء في التقرير: “العقبة الرئيسية أمام بناء شبكات إسلامية معتدلة في الشرق الأوسط هي عدم وجود قاعدة فعلية من الحركات الليبرالية واسعة الانتشار، التي يمكن الربط بينها؛ فليس لدينا الآن سوى مجموعات صغيرة أو أفراد مبعثرين. وطبقاً لليبراليين المسلمين في الشرق الأوسط، فإن كسب المعركة لصالح الإسلام؛ يتطلب خلق مجموعات ليبرالية ل(استعادة الإسلام من خاطفيه)”[56].

ثانياً: الحكومات الوظيفية:

وتأثير هذا النوع من القوى في اختطاف نموذج الشريعة -سواء في دائرة فهمه أو دائرة تطبيقه- يظهر جلياً في السياسات المتبعة من قبل هذه الحكومات الوظيفية، فقد كانت وسيلة فاعلة من وسائل تعويق الشريعة عن التطبيق والحيلولة دون تفعيلها في الواقع الإسلامي، وليثبتوا بجلاء أنهم وكلاء وموظفون تابعون للمنظومة الغربية يحمون مصالحها ويحرسون حياضها ويصدون أي دعوة لتطبيق الشريعة، حتى وإن كان ذلك رغبة جماهيرية شعبية غالبة، وفعلهم هذا لا يثير العجب في الواقع؛ ذلك أن أكثر الحكام في ديارنا الإسلامية هم من جيل المستغربين الذين يرون الإسلام وشريعته عقبة في سبيل التطور والتقدم والرقي، وسبيل التقدم عندهم الأخذ بالحضارة الغربية والثقافة الغربية والقوانين الأوربية، وقد اتخذوا وسائل مختلفة، وأساليب شتى، كلها تصب فيما سعوا إليه واستهدفوه، ومن أخطر هذه الوسائل والأساليب: ما سموه سياسة تجفيف المنابع، ويعنون بها: مصادر التوجيه والتثقيف والتعليم للأمة، عن طريق مؤسسات التربية والتعليم، وعن طريق وسائل الثقافة والإعلام، بتفريغها من كل معاني الشريعة ومفاهيم أخرى دائرة في سياقها كمفهوم تحكيم الشريعة وتطبيقها.

ومن أبرز وسائلهم وأدواتهم في تحقيق ذلك مسلك التوظيف الإعلامي والعلمائي الذي ساعد في التعبئة الجماهيرية لهذه السياسات ضد أي مسعى من المساعي الداعية إلى تطبيق الشريعة، بالإضافة إلى استدعاء وسائل التواصل الاجتماعي التي أضحت من أكثر الوسائل نجاعة في التأثير على الرأي العام وتغيير قناعاته أو التمويه بالتغيير من خلال رسائل التخييل التي ترسل إلى العامة بأن هناك كثرة غالبة تتبنى هذه السياسات وتدعو إليها.

والإشكالية الكبرى في هذا الإطار أنهم يسوقون معاني ومفاهيم مغلوطة عن الشريعة تعد في حقيقة الأمر سلباً للمعاني المقصودة منها عند صاحب الشريعة، بما يعد اختطافاً للشريعة وحصرها في زوايا وجوانب منها وفق منهجية التعضية بمسلك معضوب، فيقدم إلى الأمة على أنه هو الشريعة المقصودة في الكتاب والسنة، فيكون نموذجاً مشوهاً للشريعة لا يعكس حقيقة خطابها ولا مقاصدها الشرعية، وهم بحكم تبعيتهم لغيرهم يستحكم فيهم تقليدهم إلى قدر التطابق حذو القذة بالقذة، وإذا كان سيدهم الأكبر -والمقصود النوع لا العين- قد نحىَّ الدين عن الحياة وجعله مقيداً ومحبوساً في دور عبادة، فإن الوكيل كما أثبت الواقع كان ملكياً أكثر من الملك، فجعل الشريعة في دائرة طقوس وشعائر لا تمت إلى الحياة بصلة.

ولعل النموذج المصري في هذا الإطار يعد مثالاً كاشفاً سلطت عليه الأضواء من قبل جانب سواء على المستوى الإسلامي أو المستوى العلماني؛ ومرجع ذلك أن النموذج المصري كان على مدار التاريخ الإسلامي أحد النماذج -إن لم يكن أبرزها- الفاعلة في صناعة التاريخ وصناعة الأحداث، وذلك لأن مصر تقوم فاعليتها على أبعاد متعددة تجتمع فيها كما قال الدكتور جمال حمدان آفاق الزمان وأبعاد المكان مع الكثافة البشرية جعلتها ذات شخصية متفردة.

وقد وصف حال هذا النموذج أحد الأساتذة الذين اضطلعوا -في إطار فريق جماعي متخصص- بتقنين الشريعة في سبعينات القرن الماضي وهو الدكتور صوفي أبو طالب إذ يقول في توصيف الحالة المصرية والموقف من تطبيق الشريعة: “في منتصف القرن التاسع عشر بدأت القوانين الأوربية تنافس الشريعة الإسلامية في عقر دارها. وفي مصر وفي البلاد الإسلامية الأخرى أخذت هذه المنافسة أشكالاً عديدة بدعوى نشر الحضارة والمدنية .. ووجدنا دعاة في المجتمع العربي وفي المجتمع الإسلامي وفي مصر يرددون أن سبيل الإصلاح هو الأخذ بالقوانين الأوربية والحضارة الأوربية وتطبيقه علينا، وتحت هذا الستار دخل الكثير من القوانين الأجنبية في منافسة الشريعة الإسلامية حتى انحسر مجال الشريعة الإسلامية في دائرة الأحوال الشخصية”[57].

ومن الذين عنوا ببجث إشكالية تطبيق الشريعة وتحكيمها كذلك المستشار طارق البشري إذ طرح استفساراً حول إشكالية انحسار الشريعة عن أن تكون هي النظام الحاكم في المجتمعات الإسلامية العربية، فأجاب قائلاً: ” .. ثانياً: أن وفود النظم القانونية الوضعية الأوروبية إلى بلادنا، لم يأت ليعالج داء مستحكماً فينا، فلم نكن نحتاج إلى قوانين الغرب في ذلك الوقت، بل وفدت إلينا هذه النظم؛ لتدعم أواصر التبعية بيننا وبين الغرب. ثالثاً: أن استبعاد أنماط التشريعات العربية ودعمها بعد استقلال بلادنا، إنما مرده إلى أن الفكر الغربي قد صارت له نوابت في مجتمعاتنا، قامت على أساس تأكيد علمانية الدولة والنظام السياسي والهياكل القانونية”[58].

وإذا كانت أوعية الوعي ووسائله في دائرة الاختطاف؛ لأجل تمرير رؤى وأفكار الحكومات الوظيفية، فإنها في الوقت ذاته تمارس سياسات استبدادية تكرس بها هيمنتها على الدولة والمجتمع، ولا يخفى أن البنية المجتمعية في البلاد الإسلامية مهما أصابها من تراجع على مستوى التزامها بالشريعة الإسلامية، فإنها تبقى مرتبطة بقيمها ومرجعيتها الثقافية، ولذلك تحاول هذه الحكومات من خلال هذه السياسات الاستبدادية الحيلولة دون إخضاعها للشريعة الإسلامية؛ لأنها تتعارض مع الاستبداد والتحكم بمصائر الشعوب.

إن اتباع هذه الحكومات لسياسات الاستبداد في تكريس الهيمنة على الدولة مما يتناغم مع السياسات الغربية في إبعاد الشريعة الإسلامية عن التطبيق سواء في مجال الحكم أو غيره من مجالات الحياة مما له أثره في تغيير مسارات المجتمعات المسلمة، وأكبر عائق أمام هذه الحكومات وأسيادها الغربيين هو تحكيم المرجعية الإسلامية في الشأن العام، ولذلك كان الاستبداد في سياقها السياسي والقانوني وسيلة فاعلة في صرف المجتمعات الإسلامية عن شريعتها حكماً وتحاكماً وجعلها أسيرة في دائرة الشأن الخاص للإنسان بمقتضى الرؤية الغربية عن الدين.

ثالثاً: الجمود-الغلو-الاختزال: مسالك لاختطاف تطبيق الشريعة:

وطبيعة هذه الطائفة من القوى الفاعلة في اختطاف نموذج تطبيق الشريعة تختلف كلية عن سابقيها، فالمنظومة التي تنتمي إليها هذه القوى هو المنظومة الإسلامية ذاتها، إلا أن هذه القوى بسبب ما تنتهجه من مسارات على مستوى الفكر والحركة أسهمت بقصد أو غيره في اختطاف هذا النموذج وتشويهه في نظر الآخرين، وهذه القوى ينتظمها ثلاثة مسارات، الأول مسار الجمود والتعصب، والثاني مسار الغلو والتطرف، والثالث مسار الاختزال.

فالمسار الأول وهو مسار الجمود والتعصب كان له أثره السيء في تشويه تطبيق الشريعة وجعل نموذجها التطبيقي محل نقد ونظر سلبي، ذلك أن الشريعة من خلال خصائصها وسماتها المنهجية تتمتع بخاصية الاستيعاب والتجاوز والعموم والشمول والمرونة والقابلية لاحتواء ما تقتضيه الحياة البشرية وواقعها المتغير، وليس أدل على هذا مما ذكره ابن القيم في إعلام الموقعين تحت عنوان: (في تغير الفتوى، واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد. الشريعة مبنية على مصالح العباد)، فيقول: “هذا فصل عظيم النفع جداًن وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي هي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به. فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح  العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل ..”[59].

فهذا النقل عن ابن القيم رحمه الله يدلك بجلاء على قيمة هذه الشريعة وأهمية فهم وظيفتها الحضارية والعمرانية التي يلزم فهمها في سياق تطبيقها، إلا أن هذا الفهم غاب عن أرباب الجمود والتعصب وخاصة من أتباع المذاهب المشهورة الذين أصيبوا بداء التعصب المذهبي والجمود على أقوال أئمتهم، حتى أضحى يرى أن مذهبه هو الحق الذي لا حق سواه ومن خالفه فهو باطل، وقد كان لهذا أثره في النظر إلى قضية تطبيق الشريعة على أنها دعوة للجمود والقعود لا يمكن معها مسايرة الحياة المتطورة، وهي في حقيقتها دعوى لاكها بعض خصومها، إذ قالوا إن تحكيم الشريعة يقعد بنا عن إدراك التطور والوفاء بمقتضياته؛ ومرجع هذا ما لمسوه من مسالك المتفقهين في النظر إلى الحياة ومساراتها التي غلب عليها التقليد الأعمى لأقوال الرجال، حتى أمست الشريعة عبارة عن مذاهب فقهية جامدة لا يسعها النظر الاجتهادي، وما درى هؤلاء أن الشريعة على وفق ما ذكره ابن القيم منها ما هو ثابت ومنها ما هو متغير، وأحوال الحياة وأوضاع البشر منها ما هو ثابت ومنها ما هو متغير كذلك، فالأحكام الشرعية دائرة بين الثبات والتجديد[60].

وقد ذم الشاطبي المقلدة ووصفهم بأنهم زلَّوا بسبب إعراضهم عن أصل الدليل والاعتماد على الرجال، فقال: “والرابع: رأي بعض المقلدة لمذهب إمام يزعمون أن إمامهم هو الشريعة، بحيث يأنفون أن ينسب إلى أحد من العلماء فضيلة دون إمامهم، حتى إذا جاءهم أحد ممن بلغ درجة الاجتهاد وتكلم في المسائل باجتهاده ولم يرتبط إلى إمامهم؛ رموه بالنكير، وفوَّقوا إليه سهام النقد، وعدوه من الخارجين عن الجادة والمفارقين للجماعة، من غير استدلال منهم بدليل، بل بمجرد الاعتياد العامي”[61].

وأما المسار الثاني، فهو مسار الغلو والتطرف، وهو مسار عانت منه الأمة المسلمة على مدار تاريخها حتى هذه اللحظة، وليس أدل على ذلك من أن القرآن والسنة جاء فيهما النهي عن الغلو في خطاب صريح لا مجال فيه للتأويل، فقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ[النساء: آية 171]، وقال سبحانه: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ[المائدة: آية 77]، والآيتان وإن كانتا في سياق خطاب أهل الكتاب، فإنهما دعوة أيضاً إلى للمسلمين للتمسك بالاستقامة وسلوك الجادة في القول والعمل، والدليل على هذا ما قاله نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: “إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من قبلكم الغلو في الدين”[62].

         ويظهر مسلك الغلو في سياق ما نحن بصدده في قضية اختطاف نموذج تطبيق الشريعة في الاتكاء على مسألة الحاكمية في النظر إلى الشريعة؛ من خلال ربطها بما يسمى عند علماء التوحيد مسائل الأسماء والأحكام، وهي مسائل متعلقة بالتكفير، ويظهر أثر هذا المسلك في نموذج تطبيق الشريعة من جهة كونه عاملاً رئيساً في تشويه هذا النموذج والتنفير عنه مما يعطي صورة شائهة عن الشريعة، فيظن من لا علم له بها أن غير صالحة للتطبيق، وهو عينه أحد صور الاختطاف.

وهذا الأمر كان له جذوره في التاريخ الإسلامي، وتحديداً مع طائفة الخوارج الذين كان لهم حضورهم في زمن الفتنة في العهد الأول وما تلاه، وهذه المسألة كانت من المسائل التي لها حظها في دائرة التأصيل والتنظير والبحث والنظر، ومن خلال التجربة العملية التي وقف عندها بعض المفكرين عند احتكاكهم بأهل الغلو في هذا الباب وجد أن مظاهر الغلو في هذه المسألة مرجعها أولاً عدم تحقيق مناط الحكم بالكفر على محل صحيح وهو مرتبط بقضية المجتمعات الجاهلية ودار الكفر، وثانياً بالحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله وموقف المسلم منه، وثالثاً الغلو في مفهوم التقليد وذمه وهذا مرتبط بقضية الطاعة المطلقة بحسبهم، فظنوا أن المقلد يقلد ويطيع طاعة مطلقة مما يجعله في دائرة الكفر؛ لأن الطاعة لا تكون إلا لله[63].

         فدخلت عليهم الشبهة من هذه الجهات، وإلا فإن مسألة الحاكمية والحكم بما أنزل الله هي من المسائل الشرعية التي لها حضورها على مستوى الخطاب الشرعي قرآناً وسنة، وعلى مستوى التأصيل الفكري والنظري، ومن الخطأ البين النظر إلى مسألة الحاكمية في دائرة الربط بينها وبين واقعة تاريخية محددة (الخوارج)؛ لأن ذلك ينفي عنها أصالتها وشرعيتها المستمدة من القرآن والسنة[64]، ولئن ارتبط بها فهم خاطئ وقاصر، فلا يعني أنها مسألة نشاز يلزم إخراجها من دائرة الشريعة، ولقد أحسن البعض من الباحثين حين تعرضوا لبحث مسألة الحاكمية وما ارتبط بها من أصول وعوارض، وأهم ما أثمره بحثه أن هذا المفهوم له منظومته المفاهيمية الخاصة التي يفهم في سياقها، كما أن له سياقه الفكري المتمثل في كونه تصوراً عقدياً عن الله والكون والإنسان ونظرية الشريعة العامة ذات البعد العبادي والأخلاقي[65]، مما يجعله ينساق مع مفهومي العبادة والاستخلاف، ومن هنا يفهم هذا المفهوم في دائرة سيادة الشريعة في النسق الإسلامي، لا أن ينظر للحاكم في سياقها على أنه ظل الله في الأرض وفقاً للنسق الكنسي.

         كما يظهر مسلك الغلو والتطرف في صنيع ما يسمى بالجماعات الجهادية التي اختارت طريق القوة في النظر إلى قضية تطبيق الشريعة، ومن نافلة القول إن التعانف والاحتراب يعد أسوأ ما يمكن أن يلجأ إليه مجتمع ما في تسوية مشكلاته وإصلاح أوضاعه، وقد دلت التجارب التاريخية والمعاصرة على فداحة المصائب التي يقع فيها الناس من جراء اللجوء إلى القوة لتقويم ما بهم من اعوجاج، وإذا كان المقصود من العنف حمل الدول والشعوب على تطبيق الشريعة، فإن ذلك وهم من الأوهام؛ لأن طبيعة الدين تأبى ذلك، وتجافيه، ومن طبيعة القيم أنا ترفض الإملاء والإجبار، فاعتناقها دائماً يكون عن طريق الجاذبية من خلال القدوة الحسنة والمثل الطيب والخطاب الحكيم[66].

         والمسار الثالث هو مسار الاختزال، وهذا المسار يتمثل في النظر إلى تطبيق الشريعة من زاوية تفعيلها في جانب الحدود الشرعية وما ارتبط بها من عقوبات، والحق أن هذا المسار لا يقر به صراحة كثير من دعاة الإسلام، وإنما هو مسار يُفهم إما من جهة بعض نماذج تقنين الشريعة كما هو الشأن في الدعوة إلى تطبيق الشريعة في السودان على عهد جعفر نميري[67]، أو من جهة دلالة الالتزام -ولازم المذهب ليس بلازم- من بعض الآراء والأفكار التي قضت بتحين الظرف المناسب للدعوة إلى تطبيق الشريعة، وممن عرض لهذه الإشكالية الدكتور صلاح الصاوي، فقال تحت عنوان (أزمة ثقة): “أما ما يقال من أن انتظار الظرف المناسب هو الذي يدعو إلى التريث، فماذا يراد بانتظار الظرف المناسب؟ إن كان المقصود به تهيئة الأمة وإعدادها لقبول تطبيق الشريعة، فإن هذه مقولة من يختزلون الشريعة في الحدود والعقوبات، ويرون أن هذه العقوبات لانقطاع الحكم بها حيناً من الدهر قد باتت غريبة على الحس العام، ويحتاج استئناف العمل بها إلى تهيئة وإعداد، وقد قلنا مراراً إن تطبيق الشريعة أوسع مدى من ذلك؛ لأن الشريعة هي كل ما شرعه الله لعباده من الدين، فهي تشمل العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات، وما الحدود إلا جزء من المعاملات، وما المعاملات بدورها إلا قسم من أقسام هذا البناء الشامخ”[68].

المبحث الثالث: نماذج ناجحة:

         البحث في سياق اختطاف نموذج تطبيق الشريعة يستدعي بموجب النسق المنهجي الذي انتهجه مشروع مواجهة اختطاف الإسلام الوقوف عند نماذج النجاح سواء على مستوى البناء والمقاومة الحضارية للبنية الإسلامية ومنظومتها الفكرية والحركية، أو على مستوى حملات الاختطاف من قبل أعداء الإسلام وأذنابهم ووكلائهم.

         فعلى المستوى الأول لم يكن السؤال عن تطبيق الشريعة مجال بحث ونظر واستحضار في الذهنية الإسلامية على مدار التاريخ؛ ومرجع ذلك أن الشريعة مطبقة في أكثر المراحل التاريخية للأمة، وإن ظهر في تطبيقها هنات واختلالات وانحرافات، ولكن هذا السؤال طرأ في ذهن المسلم المعاصر بعد إلغاء الحكم بالشريعة ونظام الخلافة فيه في أوائل القرن العشرين ولم يتبق منها إلا جوانب تمس الشأن الخاص وليس العام والمعني هنا الجانب العبادي وبعض الأبواب المتعلقة بالأحوال الشخصية.

         هذا السؤال عن تطبيق الشريعة من حيث وجوده في المراحل المتأخرة في الأمة بعث في النفسية المسلمة شعوراً بأن الشريعة غائبة عن الوجود كلية وكأنها لم تطبق أبداً، ولذلك حين وجه إلى الدكتور محمد عمارة رحمه الله السؤال الآتي من قبل أحد الصحفيين: “نسمع ونقرأ كثيراً عن تطبيق الشريعة، لكن لا توجد أي نماذج عملية ناجحة في حياتنا تكون قدوة وتشجع الشعوب والدول على تطبيق شرع الله .. كله كلام في كلام!!”، طرأت الدهشة على وجهه وتعجب من السؤال وقال: “السؤال غلط من أساسه .. الشريعة لا تحتاج إلى إقامة دليل على جودها ونجاح تطبيقها، فهي قد حكمت الأمة الإسلامية أكثر من عشرة قرون”[69].

         إن من الواضحات التي لا تحتاج إلى بيان وبرهان تاريخي أن الشريعة كانت في مطبقة في الأمة على مدار قرون متطاولة، فقد ظلت منظومة العقيدة والشريعة والهوية والنظام العام متماسكة ويغذي بعضها بعضاً، وتؤدي وظائفها في الواقع الاجتماعي الإسلامي بدرجات متفاوتة من النجاح والإخفاق عبر المراحل التاريخية المختلفة، ولم يصبها خلل حاد إلا بوقوع مجتمعاتنا تحت الاحتلال الأجنبي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وما نجم عنه من سلبيات مدمرة، وانقسامات متعددة بين أبناء المجتمع الواحد[70]، وبهذا نستطيع أن نقرر أن نموذج النجاح في تطبيق الشريعة يأخذ باعتباره هذا الزمن الممتد من عهد التنزيل حتى تلكم اللحظة التاريخية التي انسلخت الأمة فيها عن شريعتها بعد الاحتلال الأجنبي.

         وأما على مستوى نجاح حملات اختطاف نموذج تطبيق الشريعة، فيعرض في هذا السياق نموذج إلغاء الشريعة من حيث كونه نظاماً عاماً يرجع إليه الناس في مختلف جوانب حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية وغيرها، ولذلك حين يقف مفكرو الإسلام في القرن العشرين مع حادثة إلغاء الخلافة الإسلامية على يد أتاتورك، لم يكن قصدهم جعل تطبيق الشريعة يتطابق مع نظام الخلافة ذاته، بقدر نظرهم إلى الخلافة كنظام سياسي يعد مجالاً وسبباً لجعل الشريعة نظاماً عاماً بموجب كونها حارسة لها وسائسة للدنيا بها كما عبر بذلك الماوردي وغيره.

         ولذلك كان الأثر الرئيس الذي أعقب إسقاط الخلافة هو إلغاء كل معلم من معالمها الإسلامية، فقد قال الشيخ مصطفى صبري تحت عنوان (فتح إزمير ذريعة لهدم الإسلام والشرع): “فكان حقاً لهم بمثوبة هذا الفتح أن أخرجوا الخلافة عن الحكومة وخرجوا عن الدين، ولم ينكره عليهم أهل الإسلام، وزادوا على ذلك أن حاولوا إلغاء المحاكم الشرعية .. وهي المحاكم التي كان الاتحاديون اكتفوا بنزع رابطتها من المشيخة الإسلامية ونقلها إلى الوزارة العدلية ولم يتجاسروا على إلغائها بالكلية فتجاسر عليه إخوانهم الكماليون لأنهم فاتحو إزمير، وكأنهم مأذنون من طرف المسلمين عامة بمثوبة ذلك الفتح أن يهدموا قواعد الدين التي كانت هذه الدولة الإسلامية موضوعة ومبنية عليها حتى تنسلخ عن كونها دولة إسلامية .. “[71].

         ولا تعرضن في هذا السياق شبهة أن الشريعة مطبقة بالفعل فإن حقيقتها سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً، ويكفي لوأدها أن مجامع ومؤسسات وعلماء وقضاة ومفكرين أجمعوا على أن الشريعة لم تعد مطبقة منذ بداية الاحتلال الأجنبي لبلاد الإسلام في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، ومن الشهادات الدالة على ذلك البيانات التي أصدرها مجمع البحوث الإسلامية بمصر ومؤتمراته الدولية، وكمثال نسوق توصية المؤتمر الثامن المنعقد في ذي القعدة عام 1397هـ الموافق أكتوبر عام 1977م، والذي حضره ممثلون ومندوبون من أربع وخمسين دولة، ومن توصياته: “يقرر المؤتمر وجوب العمل الجاد من أجل تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في جميع البلاد الإسلامية في المعاملات، والعقوبات، وفي جميع فروع هذه الشريعة. إن المؤتمر يرى أنه قد حان الوقت الذي ينبغي أن يتحرر فيه المسلمون من ربقة التشريعات الوضعية التي لا تلائم ما جاءت به شريعة الإسلام. ويؤكد المؤتمر أن التغاضي عن تنفيذ الشريعة الإسلامية هو السبب الأساسي فيما تفشى بين الناس من فساد في العقيدة، والأخلاق، والمعاملات، ويعلن أنه لا سبيل إلى إنقاذ المجتمعات الإسلامية من هذه المفاسد إلا بالاعتصام بالشريعة الإسلامية ووضعها موضع التنفيذ بكل أجزائها .. “[72].

         وقد يعرض في هذا السياق سؤال استشكالي يسوقه البعض؛ بقصد الإنكار على أمثال هذه التقريرات التي تؤكد على غياب الشريعة في أطر التطبيق والتنزيل، والدليل العملي الماثل في نظر هؤلاء هو تطبيق الشريعة في أرض الحرمين من خلال النموذج السعودي الذي كان ينظر إليه بحق- في مراحل زمنية غابرة على أنه النموذج المأمول في تنزيل الشريعة في واقع الناس كما تشهد بذلك لوائحه القانونية التنظيمية مما تعلق بالسلطات التنظيمية والتنفيذية والقضائية، إلا أن المثال شابته كثير من الإشكاليات وعوارض الانحراف عن نموذج تطبيق الشريعة المأمول، ويظهر ذلك بشكل جلي في كيفية تعاطيه مع أزمات مجتمعه، وتخبطه في سياساته الداخلية والخارجية.

فعلى مستوى سياساته الداخلية كانت القبضة الاستبدادية في حكم البلاد هي السائدة، بحيث عجز الحكام المتعاقبون إلا فيما ندر في بناء أنموذج يمكن جعله مثالاً للاقتداء والائتساء في تعميم فكرة تطبيق الشريعة في بلاد أخرى، وعلى العكس من ذلك ظهرت أصوات من داخل المجتمع السعودي تطالب بانتهاج نسق أقرب إلى العلمانية والليبرالية منه إلى الإسلام.

وإما على المستوى الخارجي، فتشهد لفشل هذا النموذج سياساته التي تتعارض بشكل كلي مع منهاج الأمة المسلمة وعقيدتها وتوحيدها، ويظهر هذا بجلاء في تعاطيه مع الانقلاب العسكري بمصر والأزمتين الليبية واليمنية، وكلها أمثلة ما زالت شاهدة على هذه السياسات لو سلمنا أنها سياسات، بل هي أقرب ما تكون إلى قطع الطريق والبلطجة كما هو الشائع في الاستعمال اليوم.

كل هذا دال على أن هذا المثال شكَّل وما زال نموذجاً ناجحاً في اختطاف تطبيق الشريعة من خلال ما يثيره من سياسات، وقد استعان لتحقيق مقصوده الاختطافي وترويج باطله بوسائل كانت إلى مرحلة زمنية قريبة محل تقدير عند عامة المسلمين، أعني بها مؤسساته العلمائية والإفتائية، ولئن كانت هذه المؤسسات قد شكلت ميزاناً لتعديل مسار السلطة السياسية بموجب ما تتبوؤه المؤسسة العلمية من مكانة لدى العامة والخاصة، وبموجب كذلك طبيعة الشخصيات التي تبوأت رأس هذه المؤسسة بما جعلها تحتل المكانة لدى الساسة والحكام، وبموجب بقاء شيء من المروءة السياسية لدى بعض الحكام، فإن هذه المؤسسات قد أضحت بأخرة وسيلة للحاكم في تمرير سياساته الاستبدادية حتى وإن كان ذلك على حساب مكانتهم العلمية أو على حساب ما يوجبه الشرع من الأخذ على يد الظالم، فأفضى إلى تضييع الأمانة التي اقتضاها قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَماناتِ إِلَى أَهْلِها وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً[النساء: آية 58].

المبحث الرابع: استراتيجية ووسائل تفعيل نموذج تطبيق الشريعة:

         هناك جملة من المعالم والرؤى والتصورات التي تجعلنا في دائرة الوعي بالنموذج الكلي في التصور الإسلامي وما يُسكَّن فيه من نماذج فرعية تأخذ بالاعتبار البعدين الأصولي والوسائلي في بناء استراتيجية يُفعل في سياقها نموذج تطبيق الشريعة، وفي الآتي جملة من هذه الرؤى والأفكار: 

أولاً: الحديث عن نموذج تطبيق الشريعة يلزم الوعي بالنماذج الكلية؛ بوصفها منطلقاً وأساساً للنماذج الفرعية وانعكاساتها الحركية،  وفي هذا السياق يقول الدكتور عبدالوهاب المسيري: “نحن ننشأ في بيئة حضارية وثقافية لها نماذجها الحضارية والمعرفية المختلفة النابعة من تراثنا الحضاري ومن واقعنا التاريخي، ولكننا نُواجه بنماذج أخرى تحاول أن تفرض نفسها على واقعنا وعلى وجداننا وفكرنا. فمنذ نهاية القرن الثامن عشر، ومع انتشار الإنسان الغربي التدريجي في أرجاء العالم، من خلال التشكيل الاستعماري الغربي، وقيامة بتدويل نماذجه الحضارية والمعرفية الحديثة، بدأ أيضاً ما يسمى (الغزو الثقافي)، وهو محاولة الإنسان الغربي فرض نماذجه هذه على شعوب العالم. وهذه النماذج ليس لها بالضرورة علاقة قوية بواقع شعوب العالم غير الغربي (أي الغالبية العظمى لشعوب الأرض)، وهي لهذا السبب ليست قادرة على التفاعل مع هذا الواقع أو على الإسهام في تفسيره أو تغييره، بل ويؤدي تبنيها أحياناً إلى تدميره”[73].

وعلى هذا الأساس فإن النظر إلى نموذج تطبيق الشريعة لا بد أن يكون في سياق النموذج المعرفي الإسلامي، وهذا يقتضي إبراز قيمته الحضارية التي تنعكس هدى وصلاحاً وسلاماً ليس فقط في النموذج الإسلامي بل البشرية بأجمعها، ومن هنا فإن الهجمة التي شنت وما تزال على الشريعة والدعوة إلى تطبيقها بزعم أنها مناهضة للتسامح والتعددية، ومكرسة لنزعة العنف المفضي إلى تحكم منظور أحادي في البشرية تحليلاً وتفسيراً مبتدأ ومصيراً، ما هي إلا هجمة نابعة من الجهل بها بما يستدعي تفكيكها والانطلاق من حقيقة وجود فراغ تعاني منه هذه البشرية ناشئٍ عن الرؤية الكونية الكلية المهيمنة في عالم اليوم، بما يؤكد على ضرورة استعادة الوعي بالبديل الإسلامي[74].

ثانياً: الحديث عن تفعيل نموذج تطبيق الشريعة في الواقع الإسلامي بعد عقود من اختطافه يستدعي أنواعاً متعددة من فقه الشريعة، ومنها: فقه المقاصد، وفقه الواقع، وفقه النوازل، وفقه الموازنات .. وغيرها، كما أن المقام كما لا يخفى على الناظر المدقق مقام نظر في سياق الفروض الكفائية التي يلزم الأمةَ القيام بها وتحقيقها في واقعها، وأن أول ما يلزمها في هذا السبيل تحرير مفهوم تطبيق الشريعة الذي شابه كثير من الغبش بسبب تحميله أفهاماً قاصرة وإلزام دعاة الإسلام بإلزامات لا وجه لها في الأصل.

وفي ذلك يقول الأستاذ عمر عبيد حسنة: “تطبيق الشريعة أو المطالبة بتطبيقها لا يعني أبداً إقامة الحدود فقط، ذلك أن الحدود لم تشرع لإقامة المجتمع المسلم، وأن الاقتصار عليها لا يقيم المجتمع الإسلامي، ولا يعني قيام المجتمع الإسلامي .. وإنما شرعت لحماية المجتمع الإسلامي ووقايته؛ ذلك أن المطالبة بتطبيق الشريعة تعني أول ما تعني: التربية الإسلامية للفرد، والشورى في الحكم، والطاعة في غير معصية للحاكم، ورفض الاستبداد السياسي مهما كان، والعدل والمساواة في القضاء، وإباحة التملك بالوسائل المشروعة، وتحريم الربا والميسر والاحتكار، والتربية العسكرية الجهادية وسريان روح الجهاد والاستشهاد والإعداد والاستعداد قدر الطاقة في الدفاع عن الأمة وحماية الفضيلة من أن يعبث بها أو يعتدى عليها .. أما الفهم المبتور .. فهي قضية على غاية من الخطورة والإساءة للإسلام نفسه ..”[75].

ثالثاً: لقد شغلت قضية تطبيق الشريعة حيزاً كبيراً من النقاش العلمي في السياق الفكري والحركي سواء في دائرته الإسلامية أو خارجها، وكان مرجع الاهتمام بها؛ كونها أضحت إحدى الإشكالات الكبرى التي واجهها الفكر الإسلامي في مراحله الزمنية الأخيرة.

وهنا نتحدث عن قرابة قرنين من الزمان، وهو المرحلة التي شهدت تنحية الشريعة عن الحكم، واستدعاء قوانين وضعية غربية بغية جعلها إطاراً مرجعياً لكثير من السياقات داخل البنية الإسلامية، بحيث تغيرت بموجبها معالم كثيرة في هذه البنية، بل واستحكمت في مفاصلها، ما دفع باتجاه تعقيد كثير من المحاولات التي استدعي فيها تطبيق الشريعة في أثناء تلكم المرحلة وكان مصيرها الفشل.

ولم يكن هذا الفشل الذي تلبست به تلكم المحاولات في حقيقة الأمر مرجعه الثقافة السائدة في المجتمعات الإسلامية، بقدر ما هو تحكم العامل السياسي وسياقه الفكري الحاضن داخل بنية هذه المجتمعات، وإلا فإن الثقافة السائدة في الغالب هي الثقافة الإسلامية؛ بدليل نماذج المطالبة بتطبيق الشريعة في مناطق متعددة من العالم الإسلامي بغض النظر عن قيمة هذه المطالبات وجدواها وكيفية تقويمها، إلا أنه لا بد من التقرير في هذا السياق أن استدعاء النظم القانونية الوضعية من الغرب لم يكن مستهدفاً في الأصل إلا جعل الأمة المسلمة في دائرة الاستتباع للغرب، ولم يكن علاجاً لداء مستحكم في بنيتها.

وبحكم ما أثير من سؤالات استشكالية حول قضية تطبيق الشريعة بجميع مضامينها الفكرية والمنهجية في السياقات المختلفة، فقد طرحت مسألة التدرج في قلب قضية التطبيق، ودار حولها جدل كثير مستدعياً دائرة الأحكام التكليفية جعلت المسألة مترددة بين هذه الأحكام بحسب اختلاف وتعدد القراءات، وبحسب تغاير المنظومة الفكرية والمنهجية التي ينتمي إليها من أصدر تلكم الأحكام، إلى القدر الذي جعل الحكم على هذه المسألة مرتبطاً بمسائل الإيمان والكفر.

وهي قضية ما كان ينبغي استدعاؤها من حيث الأصل؛ لأن الإيمان بتطبيق الشريعة وتحكميها من المسلمات اليقينية التي لا يمكن الخلاف عليه بين مكونات الأمة المسلمة، ولعل من الإشكاليات المنهجية التي تعرض لقضية التطبيق والتدرج فيه على حد سواء ذلكم الإغفال لسياقات الحكم الوضعي في دائرته الأصولية، ذلك أن الأحكام التكليفية لا يمكن استيعابها إلا في دائرة الحكم الوضعي الذي يدور حول الأسباب والشروط والموانع، فتكون القضية مرتبطة بسياقات الإمكان والاستطاعة.

ولعل من الأهمية التنبيه إلى أننا ونحن نؤصل لقضية التدرج في التطبيق يلزمنا النظر في الواقع السياسي والاجتماعي المحيط بنا، فإذا كان البعد الثقافي في الأمة -سواء في دائرته المجتمعية العامة أو ما شهدته من تحركات على مستوى الحركات الفاعلة في التاريخ الحديث والمعاصر- تغلب عليه الفكرة الإسلامية، فإن هناك من المواقع التي لها دورها البارز في إدارة المشهد والتأثير فيه، وهنا نتحدث عن دائرة الحكم والإعلام ومراكز التمويل، التي أضحى لها أدوار فعلية كبيرة في صناعة الفكر والسياسة إلى القدر الذي تتغير به قناعات العامة باتجاه أهداف أرباب السياسة والمال والإعلام.

إن بحث مسألة التدرج في تطبيق الشريعة تحيط بها جملة من القضايا التي لها تعلق بالتنزيل وتحقيق المناط، وهذا يأخذ بالاعتبار خريطة الواقع السياسي وإمكانات التطبيق ووسائله المتاحة، كما أنه يستدعي دائرة الزمان والمكان التي لها قيمتها في معرفة مناطات الحكم وكيفية تنزيله، ذلك أن قضية التدرج لا تعلق لها بالخطاب الشرعي الذي اكتمل بناؤه وإنما تعلقها كائن بالواقع وعلى هذا الأساس يعطى الواقع حقه من الواجب بقدر ما تتيحه دائرة التطبيق، وهنا تستدعى أنواع من الفقه كفقه المقاصد والمصالح، وفقه الأولويات، وفقه المآلات، وفقه الموازنات.

ومن هنا فإن التعرض لمسألة التدرج يدفعنا باتجاه البحث حول عدة قضايا وموضوعات، أهمها:

-بيان محاسن الشريعة وسعة مفهومها وصلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان من خلال منهجية الاستيعاب التي تنطوي عليها في مضامينها الخطابية والمقاصدية.

-ومنها الذاكرة التاريخية التي تنطوي عليها الأمة في تطبيقها للشريعة وتحكيمها على مدار أزمانها؛ فإن للبعد التاريخي في قراءة الأفكار ومجالاتها الحركية أهميته في بيان صوابية المنهج وقدرته على تجاوز دائرة المثال إلى الواقع.

-ومنها تعدد جوانب النظر في بحث مسألة تطبيق الشريعة نفسها، ومنها التدرج في تطبيقها؛ لكونه من الوسائل المعينة على استعادة العافية التشريعية للأمة المسلمة.

-ومنها أيضاً أهمية استدعاء دراسات الجدوى في بناء السياسات العامة المتعلقة بتطبيق الشريعة، فليس من الصواب أن تقرر الأمة إلغاء القوانين القائمة ووضع قوانين جديدة؛ لأن ذلك من دواعي الانهيار المجتمعي، وبإزاء ذلك ينبغي اعتماد منهجية النظر في البنى القانونية والتشريعية القائمة وجعلها في دائرة المقبول والمشروع وتمييزها عن غيرها مما هو غير مشروع، وبذلك يمكننا المحافظة على قدر كبير من الاستقرار، وربطنا ما أمكننا بين الثقافة السائدة والواقع العملي.

وبهذا الاعتبار تأخذ مسألة التدرج في تطبيق الشريعة نظراً منهجياً أصولياً في ضوء ما تستدعيه مناطات الواقع تنزيلاً وتطبيقاً، وما تمليه كذلك مقومات تطبيق الشريعة وأدواته، وأخيراً قواعد السياسة الشرعية.

رابعاً: ويقترب من هذه الرؤية المتعلقة بالتدرج في تطبيق الشريعة ما أسماه البعض بفقه الإمكان، وهو فقه مرتبط من حيث أصله بقواعد الاستطاعة والمصلحة الشرعية، بحيث يراعى تحقيق المناطات الصالحة للتطبيق والتنزيل في الواقع، وقد يعرض في سياقه -في باب التكثير وليس التقليل- تزاحم الأحكام والتعارض فيما بينها، فيستدعي فقهاً خاصاً يوازن بين المصالح بعضها ببعض، والمفاسد بعضها ببعض، وبين المصالح والمفاسد.

والحديث عن اعتبار شرط الإمكان عند تطبيق الشريعة ليس من باب الترف العلمي، كما أنه ليس سبيلاً لانتقاص بعض أحكام الشريعة، فالأصل أن الشريعة كلها تكون مطبقة في واقع الناس، ولكن حين يكون هناك تزاحم وتعارض، فإن بعض الأحكام قد يوقف العمل به حتى يتحقق مناطه، وهذه الرؤية أصلها في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم[76].

ففي الكتاب الآيات الدالة على الاستطاعة ورفع الحرج في أداء التكاليف الشرعية، قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾[البقرة: آية 286]، وقوله: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾[الحج: آية 78]، ومن الإشارات في هذا الباب ما قاله السعدي في تفسيره: “وظيفة الرسل وسنتهم وملتهم، إرادة الإصلاح بحسب القدرة والإمكان، فيأتون بتحصيل المصالح وتكميلها، أو بتحصيل ما يقدر عليه منها، وبدفع المفاسد وتقليلها، ويراعون المصالح العامة على المصالح الخاصة .. لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان”[77]، وفي الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: “يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم -قال ابن الزبير: بكفر- لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين: باب يدخل الناس، وباب يخرجون”[78]، وقد بوب عليه البخاري بما يدل بظهور على هذه القاعدة، فقال: “باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه”.

خامساً: لعل من المسائل التي يلزم التأكيد عليها في هذا الإطار البعدَ النفسي في كيفية التعاطي مع قضية تطبيق الشريعة بل وكثير من القضايا الكبرى في الأمة، وهذا البعد النفسي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بكيفية التعاطي مع هذه القضايا في سياق التحديات وأنماط الاستجابة؛ لأن تطبيق الشريعة ذاته يعد تحدياً من التحديات الأساسية في الأمة وإن كان في ذاته وسيلة لمقصد تفعيل الشريعة في الأمة.

إن التحدي من حيث هو يمثل حالة، ووضعاً، وموقفاً، واختباراً، وابتلاء، ووعياً وإدراكاً، واستجابة وسعياً، على كل المستويات، وهو بهذا الاعتبار إن كان يرتبط بقضايا وإشكالات وأزمات، فإنه يستدعي التحقق بالقدرة على الإدراك والوعي بها، والتعرف على سنة التعامل معها، وإمكانية تحويل السلبي منها إلى طاقة إيجابية، وكذلك يتمثل ذلك في أنماط الاستجابات النابعة لا التابعة، الفاعلة والواعية لا العليلة[79].

سادساً: من الرؤى ذات البعد الوسائلي مراجعة الأساليب المرتبطة بالمطالبة بتطبيق الشريعة في ظل ما يجري تطبيقه الآن من نظم قانونية وضعية، وهي من القضايا المرتبط بفقه الواقع، فالمنطلق الذي نصدر منه هو الواقع الحاصل الآن، والنظام القانوني الوضعي مستحكم في الأمة في أغلب مفاصلها وإن كان فيها بعض الأحكام ذات المرجعية الإسلامية مما له تعلق بمجال الأحوال الشخصية.

وهنا يعرض بعض المفكرين رؤيته في كيفية التعاطي مع قضية تطبيق الشريعة في ظل هذا الاستحكام القانوني الوضعي، فينطلق من إشكاليتين، الأولى صعوبة مطالبة الدولة بسيادة الشريعة في النظام التشريعي بعد تأسيسها في الواقع على المرجعية الوضعية، والثانية أن الدعوة إلى تعديل كافة قوانين المجتمع وإحلال قوانين جديدة محلها تؤخذ من الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامية، هذه الدعوة للتغيير القانوني الشامل تحيط بها محاذير وصعوبات جملة تفضي في الغالب إلى اضطرابات في البيئة الاجتماعية ولذلك تبدو برأيه وجهة نظر أخرى يمكن أن تحقق الهدف دون أن تفضي إلى الاضطراب أو مواجهة الدولة[80].

وجهة النظر هذه تستحضر التجربة التاريخية للمسلمين إبان فتحهم للشام والعراق ومصر وغيرها، حيث وجد المسلمون أناساً يتصرفون ويتداولون أمورهم ويتبادلون حاجياتهم فيما بينهم، فنظروا في واقع هذه الأعمال والتصرفات وعرضوها على شريعة الإسلام في الكتاب والسنة وبما تعارفوا عليه من أحكام، فما وسعته أحكام الإسلام اعتمدوه وضموه إلى معارفهم واجتهاداتهم، وما لم تسعه نصوص الأحكام قضوا عليه بالرفض[81].

وهذا النهج يمكن استمداده في النظر إلى الواقع الحاضر والتعامل معه، لرد ما جنح منه عن المرجعية الشرعية، فينظر في أحكام القوانين والتقنينات التي عم تطبيقها في البلاد الإسلامية والتي تكون وردت إلينا من الخارج مجردة عن المرجعية الإسلامية، فتراجع وتقاس على وفق أحكام الشريعة والآراء المتفرعة عنها بالاجتهاد، فما وافق الشريعة يعتمد، وما خالفها يهذب منه النظام القانوني، ثم بعد ذلك تجري إشاعة هذا الأمر لكي يجري التعامل به بين المشتغلين بفقه القانون، وينتقل بعد ذلك إلى غيرهم ليشكل جزءاً من الثقافة العامة السائدة بين جمهور المسلمين[82].

ولا يعد هذا إسباغاً ببردة الدين على ما ليس منه تثبيتاً لأوضاع منافية ومجافية له، ولا إبقاء المرجعية الثقافية الوضعية، إنما المقصود هو العكس؛ لأن المشكل ليس في تفاريع الأحكام ولا في تفاصيل النصوص، إنما المشكل في المرجعية الثقافية العامة التي ترتبط بها هذه الأحكام الفرعية وتنحدر منها، وأن ما يمكن استيعابه من هذه الأحكام في إطار المرجعية الشرعية سيكون من عوامل تثبيتها وهيمنتها وليس العكس[83].

سابعاً: من الوسائل التي تعد مجالاً كبيراً لتفعيل نموذج تطبيق الشريعة فكرة تقنين الشريعة، ولم تعرف الخبرة التاريخية الإسلامية فكرة التقنين المركزي للقوانين والقواعد النظامية، وقد عدها البعض نوعاً من الفوضى التشريعية؛ بحكم اختلاف المرجعيات الفقهية والقانونية في الأمة، وعدها البعض الآخر تعبيراً عن حيوية مجتمعية في ظل لا مركزية تشريعية، تقوي صلة الفقيه بمحيطه الاجتماعي وظروف واقعه الحال والمباشر[84].

ولئن كانت فكرة التقنين واردة في الخبرة التاريخية في حالات منفردة متعلقة بمذهب معين جاءت على صورة بعض المؤلفات الفقهية مما له تعلق بفقه المعاملات على وجه التحديد كما هو الشأن في الدولة العثمانية؛ فلأن الدواعي لم تكن سانحة لها وقتئذ لعمل جماعي منظم يسع الأمة كلها بجميع مذاهبها، ولم يشكل عدم وجودها إشكالية وأزمة في البنية الإسلامية.

أما وقد عايشت الأمة واقعاً مغايراً، فإن فكرة التقنين تعد من وسائل تفعيل الشريعة في واقعٍ استحكمت فيه القوانين الوضعية، فضلاً عن كونها وسيلة لتجاوز الخلافات البينية في الفقه الإسلامي والوقوف على قاعدة إجماعية ذات بعد مطلق أو أغلبي، والمقصود بتقنين الشريعة: صوغ الأحكام في نصوص مرتبة، ووضع هذه النصوص في مجموعة مبوبة، أو مرقمة على غرار القوانين الحديثة من مدنية وجنائية وإدارية؛ كي تكون مرجعاً سهلاً محدداً، يمكن بيسر أن يتقيد به القضاة، ويرجع إليه المحامون، ويتعامل على أساسه المواطنون[85].

ومن المحاولات الجادة في طريق تقنين الشريعة مشروع تقنين الشريعة الإسلامية في مجلس الشعب المصري سنة 1978م، وكان هذا المشروع استجابة رسمة من الدولة لنص المادة الثانية من الدستور التي تنص على أن “مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع”. ولكن هذا المشروع لم ير النور رغم اكتمال أعماله -إلا قليلاً- ودخل في أدراج مجلس الشعب مع بداية عهد مبارك وما يزال حبيس تلك الأدراج حتى اليوم[86].

خاتمة:

لم يقف مشروع اختطاف الإسلام بمختلف فواعله وتنوع وسائله وتغاير استراتيجاته عند حدود تغيير منارات الشريعة بتحريف معاني ومقاصد خطابها، بل تجاوز ذلك إلى اختطاف كل ما يمت بصلة إلى الشريعة مما يسهم في تفعيلها وتنزيلها في واقع الناس، وكان من ذلك نموذج تطبيق الشريعة الذي يتخذ بعداً وسلياً في طريق تفعيلها، ولقد تعددت بواعث الخاطفين لنموذج الشريعة ما بين خوفهم وخشيتهم من تأثير الشريعة في عقول المسلمين وأفهامهم، فيعوا حقيقة مجريات الأمور ودسائس الأفعال والأقوال وسياسات التركيع والإخضاع، وما بين ما يمثله تطبيق الشريعة من أسباب لتمكين الأمة في البناء الحضاري ليس فقط في سياق البنية الإسلامية، بل كذلك في سياق البناء الإنساني كله.

لقد حركت هذا البواعث وغيرها قوى فاعلة في سبيل تحقيق مراميهم في اختطاف هذا النموذج بوسائل متعددة، وبالرغم من تغاير هؤلاء الفاعلين من حيث وجهتهم ومنهجيتهم، إلا أنهم اتفقوا من حيث النتجية والأثر، فلئن كان الغرب بوسائلها كلها (الاستشراق، التغريب، مراكز البحوث والدراسات ..)، والحكومات الوظيفية التي مثلت الوكالة عن الغرب في تحقيق أغراضه في الهيمنة والسيطرة على المسلمين ومقدراتهم، فإن لبعض المسلمين ممن لم يفقهوا حقيقة هذا الدين وطبيعته أثراً في الدفع باتجاه تحقيق الخاطفين لأغراضهم، بسبب القراءات الشوهاء للدين أو قراءات التعضية والتبعيض التي تراعي بعض الدين على حسب بعضه الآخر.

لقد انساق البحث بعد الوقوف عند بواعث الاختطاف وقواه الفاعلة ووسائلها إلى الحديث عن النماذج الناجحة على مستوى البنية الإسلامية مما له تعلق بتطبيق الشريعة، وقد أثبتت التجربة التاريخية للأمة المسلمة نموذجاً ناجحاً ممتداً على مدار التاريخ لقرون كثيرة على دخن في هذا النموذج في المرحلة التي أعقبت الخلافة الراشدة، وكذلك على مستوى الخاطفين، فقد نجحوا في بدايات القرن العشرين في إلغاء الخلافة الذي كان الطريق لوأد أي محاولة لتطبيق الشريعة.

وإزاء ذلك كله مما تضمنته هذه القراءة كان لا بد من التعرض إلى استراتيجية ووسائل تفعيل نموذج تطبيق الشريعة ومواجهة اختطافه في سياق مشروع عام استهدف المنظومة الإسلامية، وكان في مقدمات الرؤى والأفكار والتصورات إعادة الوعي بأهمية تطبيق الشريعة وضرورة توجيه العقل المسلم إلى الأخذ بأسبابه سواء على مستوى المؤسسات الرسمية وغير الرسمية أو على مستوى عموم الأمة، فضلاً عن الخوض في بعض الأفكار المتعلقة بالوسائل والآليات التي تسهم في الدفع باتجاه جعل هذا النموذج واقعاً على مستوى الفكر وعلى مستوى الحركة.

[1] د.عبدالوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، القاهرة، دار الشروق، ط1، 1999م، ج1ص107.

[2] المرجع السابق، الصفحة ذاتها.

[3] د.عبدالوهاب المسيري، العالم من منظور غربي، القاهرة، دار الهلال، العدد 602، فبراير 2001، ص20-21.

[4] د.أحمد عبادي (تقديم)، القرآن الكريم ورؤية العالم: مسارات التفكير والتدبير، الرباط، الرابطة المحمدية للعلماء، ط1، 1436هـ/2015م، ص11-12.

[5]  د.عبدالوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، مرجع سابق، ج1ص115.

[6] السيد مرتضى الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1404هـ/1984م، ج21ص259.

[7] د.عمر سليمان الأشقر، المدخل إلى الشريعة والفقه الإسلامي، عمان/الأردن، دار النفائس، ط1، 1425هـ/2005م، ص14.

[8] شيخ الإسلام ابن تيمية، مجموعة الفتاوى، المنصورة، دار الوفاء، ط3، 1426هـ/2005م، ج19ص166.

[9] د.أحمد الريسوني، فقه الثورة: مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي، القاهرة، دار الكلمة، ط1، 1434هـ/2013م، ص71-72. وانظر: د.ماهر القرشي، الإسلام الممكن، بيروت، مركز نماء للبحوث والدراسات، ط1، 2013م، ص48.

[10] السيد مرتضى الزبيدي، مرجع سابق، ج26ص55.

[11] مناع القطان، التشريع والفقه في الإسلام تاريخاً ومنهجاً، القاهرة، مكتبة وهبة، ط5، 1422هـ/2001م، ص13.

[12] أخرجه أبو داود في سننه، أول كتاب السنة، باب في لزوم السنة، رقم: 4607، دمشق، دار الرسالة العالمية، ط1، 1430هـ/2009م، ج7ص16.

[13] القاسمي، محاسن التأويل، بيروت، دار الكتب العلمية، ط2، 1424هـ/2003م، ج3ص152.

[14] سيد قطب، في ظلال القرآن، القاهرة، دار الشروق، ط32، 1423هـ/2003م، ج6ص3494.

[15] أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1425هـ/2004م، ص238.

[16] ينظر: عبدالله جاد، قضايا تطبيق الشريعة وتدريسها، بحث منشور في: مجموعة من المؤلفين (تحرير نصر محمد عارف)، قضايا إشكالية في الفكر الإسلامي المعاصر، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1418هـ/1997م، ص161 فما بعدها.

[17] د.هبة رؤوف عزت، الخيال السياسي للإسلاميين ما قبل الدولة وما بعدها، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط2، 2015م، ص72.

[18] مناع القطان، معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية، القاهرة، مكتبة وهبة، ط1، 1411هـ/1991م، ص12-13.

[19] د.جمال عبدالهادي ود.وفاء جمعة، منهج كتابة التاريخ الإسلامي: لماذا؟ وكيف؟، المنصورة، دار الوفاء، ط3، 1414هـ/1994م، ص19.

[20] مناع القطان، معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص13.

[21] المرجع السابق، ص14.

[22] يُنظر في هذا السياق: د.يوسف القرضاوي، شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، القاهرة، دار الصحوة للنشر والتوزيع، ط2، 1993م.

[23] د.سيف الدين عبدالفتاح، مدخل القيم: إطار مرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1419هـ/1999م، ص128.

[24] أنور الجندي، الضربات التي وجهت للانقضاض على الأمة الإسلامية، دمشق، دار القلم، ط1، 1418هـ/1998م، ص10-12.

[25] د.جمال عبدالهادي ود.وفاء جمعة، منهج كتابة التاريخ الإسلامي: لماذا؟ وكيف؟، مرجع سابق، ص15.

[26] د.يحيى مراد، من قضايا الاستشراق بحوث ودراسات، ص42.

[27] د.محمد البهي، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، القاهرة، مكتبة وهبة، ط4، 1383هـ/1964م، ص39.

[28] د.محمد سليم العوا، النظام القانوني الإسلامي في الدراسات الاستشراقية المعاصرة، بحث منشور في كتاب لعدة مؤلفين تحت عنوان: مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية، تونس، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، 1985م، ج1ص255.

[29] مناع القطان، معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص57.

[30] د.عمر سليمان الأشقر، معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية، عمان/الأردن، دار النفائس، ط1، 1412هـ/1992م، ص76.

[31] أبو الحسن الندوي، الإسلاميات بين كتابات المستشرقين والباحثين المسلمين، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط3، 1406هـ/1986م، ص15-16.

[32] د.محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، القاهرة، مكتبة الآداب، ط2، 1388هـ/1968م، ج1ص240.

[33] شاكر عالم شوق، الاستشراق: أخطر تحد للإسلام، بحث منشور في مجلة دراسات التابعة للجامعة الإسلامية العالمية في بنغلاديش، 2006م، ج3ص70-72.

[34] د.سليمان الخطيب، أنماط انتقال الأفكار وآلياتها بين التفاعل والاستلاب: دراسة حالة العلاقة بين عالم الغرب وعالم المسلمين، بحث منشور كتاب: الحوار مع الغرب: آلياته، أهدافه، دوافعه، د.منى أبو الفضل ود.نادية محمود مصطفى (تحرير)، دمشق، دار الفكر، ط1، 1429هـ/2008م، ص130.

[35] أحمد العماري، نظرية الاستعداد في المواجهة الحضارية للاستعمار: المغرب نموذجاً، هيرندن – فرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1417هـ/1997م، ص6.

[36] أنور الجندي، شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، دمشق – بيروت، المكتب الإسلامي، 1398هـ/1978م، ص4.

[37] أنور الجندي، أهداف التغريب في العالم الإسلامي، القاهرة، سلسلة قضايا إسلامية معاصرة، الأمانة العامة للجنة العليا للدعوة الإسلامية بالأزهر الشريف، 1987م، ص13.

[38] د.محمد محمد حسين، الإسلام والحضارة الغربية، دار الفرقان، ص45.

[39] المرجع السابق، ص45-46.

[40] د.سعود عبدالعزيز الدوسري، التغريب في العالم الإسلامي: مخططاته وآثاره وكيفية مواجهته دعوياً، بحوث منشور في مجلة الدراسات الاجتماعية، جامعة العلوم والتكنولوجيا، اليمن، العدد الثاني والثلاثون، يناير/يونيو 2011م، ص194.

[41] د.محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، مرجع سابق، ج2ص207-208.

[42] محمد سعيد عشماوي، الإسلام السياسي، القاهرة، مكتبة مدبولي الصغير، ط4، 1416هـ/1996م، ص265.

[43] د.محمد عمارة، سقوط الغلو العلماني، القاهرة، دار الشروق، ط2، 1422هـ/2002م، ص8.

[44] المرجع السابق، ص285.

[45]شيريل بينارد، الإسلام الديمقراطي المدني: الشركاء والموارد والاستراتيجيات، القاهرة، تنوير للنشر والإعلام، ط1، 1435هـ/2013م، ص41.

[46] المرجع السابق، ص44.

[47] المرجع السابق، ص45.

[48] المرجع السابق، ص50-51.

[49] المرجع السابق، ص73-74.

[50] المرجع السابق، ص97.

[51] المرجع السابق، ص100-101.

[52] د.باسم خفاجي، استراتيجيات غربية لاحتواء الإسلام: قراءة في تقرير راند 2007، القاهرة، المركز العربي للدراسات الإنسانية، 1428هـ/2007م، ص4.

[53] شيريل بينارد وآخرون، بناء شبكات الاعتدال الإسلامي، القاهرة، تنوير للنشر والإعلام، ط1، 1437هـ/2015م، ص22.

[54] المرجع السابق، ص108.

[55] د.باسم خفاجي، استراتيجيات غربية لاحتواء الإسلام، مرجع سابق، ص50.

[56] شيريل بينارد وآخرون، بناء شبكات الاعتدال الإسلامي، مرجع سابق، ص161.

[57] د.عمر سليمان الأشقر، معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص34، نقلاً عن مجلة المسلمون، عدد 43، 1402هـ/1985م.

[58] طارق البشري، اجتهادات فقهية في المسألة الإسلامية المعاصرة، القاهرة، دار البشير للثقافة والعلوم، ط1، 1438هـ/2017م، ص75.

[59] ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، الدمام، دار ابن الجوزي، ط1، 1423هـ، ج4ص337.

[60] د.صلاح الصاوي، تحكيم الشريعة ودعاوى الخصوم، القاهرة، دار الإعلام الدولي، ط1، 1414هـ/1994م، ص49.

[61] أبو إسحاق الشاطبي، الاعتصام، عمان/الأردن، الدار الأثرية، ط2، 1428هـ/2007م، ج3ص448-449.

[62] الإمام النسائي، سنن النسائي، بيروت، مؤسسة الرسالة ناشرون، ط1، 1435هـ/2014م، ح: 3057، ص731.

[63] عبدالرحمن بن معلا اللويحق، الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1، 1412هـ/1992م، ص106.

[64] هشام جعفر، الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية: رؤية معرفية، فرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1416هـ/1995م، ص77.

[65] المرجع السابق، ص67-68.

[66] د.عبدالكريم بكار، مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي، دمشق، دار القلم، ط4، 1432هـ/2011م، ص312.

[67] د.يوسف القرضاوي، الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه، القاهرة، مكتبة وهبة، ط7، 1417هـ/1997م، ص150.

[68] د.صلاح الصاوي، التطرف الديني الرأي الآخر، القاهرة، الآفاق الدولية للإعلام، ص101-102.

[69] محمد عبدالقدوس، حوار صحيفة (المصريون) مع الدكتور محمد عمارة، المصريون، تاريخ: 7/أغسطس/2018م.

[70] د.إبراهيم البيومي غانم، تقنين الشريعة بين المجتمع والدولة، مقدمة كتاب: تقنين الشريعة الإسلامية في مجلس الشعب: الأعمال الكاملة، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، ط1، 1433هـ/2012م، ج1ص46.

[71] د.مصطفى حلمي، الأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة العثمانية دراسة حول كتاب “النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة”، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1425هـ/2004م، ص88.

[72] د.صلاح الصاوي، تحكيم الشريعة ودعاوى الخصوم، مرجع سابق، ص72.

[73] د.عبدالوهاب المسيري، العالم من منظور غربي، مرجع سابق، ص32-33.

[74] د.السيد عمر، الأنا والآخر من منظور قرآني، دمشق، دار الفكر، ط1، 1429هـ/2008م، ص30-31.

[75] عمر عبيد حسنة، نظرات في مسيرة العمل الإسلامي، قطر، رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، سلسلة كتاب الأمة 8، ط1، محرم 1405هـ، ص113.

[76] د.ماهر بن محمد القرشي، الإسلام الممكن، مرجع سابق، ص23-24.

[77] عبدالرحمن بن ناصر السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الرياض، دار السلام للنشر والتوزيع، ط2، 1422هـ/2002م، ص448.

[78] محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، دمشق، دار ابن كثير، ط1، 1423هـ/2002م، كتاب العلم، ح: 126، ص45.

[79] د.سيف الدين عبدالفتاح، تحديات كبيرة واستجابات عليلة في عالم العرب والمسلمين، مجلة المسلم المعاصر، العدد 131، يناير 2009م.

[80] المستشار طارق البشري، نحو تجديد مجالات في الفكر السياسي الإسلامي، بحث منشور في كتاب: نحو دراسة النظم السياسية من منظور حضاري مقارن: مداخل منهاجية، تحرير مركز الحضارة للدراسات والبحوث، القاهرة، مفكرون الدولية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1439هـ/2018م، ص62-63.

[81] المرجع السابق، ص65.

[82] المرجع السابق، ص66.

[83] المرجع السابق، ص67.

[84] د.باكينام الشرقاوي، المنظور الحضاري الإسلامي ودراسة النظم السياسية، بحث منشور في كتاب: نحو دراسة النظم السياسية من منظور حضاري مقارن: مداخل منهاجية، مرجع سابق، ص103.

[85] د.إبراهيم البيومي غانم، تقنين الشريعة بين المجتمع والدولة، مقدمة كتاب: تقنين الشريعة الإسلامية في مجلس الشعب: الأعمال الكاملة، مرجع سابق، ص51.

[86] المرجع السابق، ص88.

زر الذهاب إلى الأعلى