من ناحية أخرى فإن القوة تحمي نوعاً ما من بطش الأنظمة السائدة، خاصة في الدول ذات السياسات الاستبدادية التي تفتك بقوى المعارضة. ومع ما سنذكره في هذه السطور من عوامل لتحصيل القوة، تظل الحركات المعارضة أو المقاومة غير آمنة تماماً من القضاء عليها من قبل الأنظمة الشمولية؛ فقد رأينا من يمتلك مليارات الدولارات ومن هم آخذون بناصية قنوات إعلامية كبيرة بل مؤسسات إعلامية بالأحرى، ومن لديهم من أشكال القوة الأخرى الكثير وهم مع ذلك ليسوا معارضين بما تحمله الكلمة من معنى، رغم ذلك رأيناهم فريسة سهلة في أيدي بعض الأنظمة المستبدة بين عشية وضحاها؛ فالقوة المسلحة تحسم الأمور في النهاية لصالح النظام. ومن ناحية أخرى إذا لجأت المعارضة إلى العمل المسلح بإمكانيات لا تؤهلها للحسم ستكون قد كتبت نهايتها بأيديها؛ لذلك فالمقصود هنا هو تحصيل عوامل وأشكال القوة الممكنة وقدر المستطاع، وضم هذه العوامل بعضها إلى بعض لتتشابك لتصبح الحركات المعارضة أو المقاومة عصية قدر الإمكان على محاولات الإجهاز عليها.
[bs-quote style=”default” quote=”فقد رأينا من يمتلك مليارات الدولارات ومن هم آخذون بناصية قنوات إعلامية كبيرة بل مؤسسات إعلامية بالأحرى، ومن لديهم من أشكال القوة الأخرى الكثير وهم مع ذلك ليسوا معارضين بما تحمله الكلمة من معنى، رغم ذلك رأيناهم فريسة سهلة في أيدي بعض الأنظمة المستبدة بين عشية وضحاها؛ فالقوة المسلحة تحسم الأمور في النهاية لصالح النظام.” content/plugins/blockquote-pack-pro/img/other/steve-jobs.png” align=”left” ]وتتنوع أشكال القوة عامة ما بين قوة عسكرية، واقتصادية، وإعلامية، وإدارية وتنظيمية، وغير ذلك، وفي بنية الدولة القومية الحديثة تحتكر الدولة القوة العسكرية بصفتها المحافظة على الأمن وما يتطلبه من حيازة السلاح والتدرب عليه واستخدامه، الأمر الذي وجدت فيه الدول المستبدة الطريقة المثلى للسيطرة على الشعوب بصورة كبيرة، عن طريق الاستخدام غير المشروع للقوة العسكرية في قمع معارضيها.
هذه السيطرة لا تجدي معها إلا معارضة أو مقاومة متسلحة بقوة شاملة تتكون من عوامل القوى المختلفة الممكنة، فقوة المعارضة الشاملة هي محصلة ما تمتلكة من قدرة أو موارد مادية ومعنوية والتي تتشابك وتتناسق وتقوم الحركة المعارضة بتوظيفها على أساس إداري محكم وتخطيط استراتيجي مسبق لتحقق أهدافها، التي في القلب منها تغيير النظام السياسي السائد. ولكن جوانب القوة نفسها تعترضها عقبات ومعوقات تشكل تحديات وعوامل ضعف، وهو ما سنتعرض له فيما يلي.
مفهوم القوة السياسية
هي القوة التي تكتسبها الأحزاب أو الجماعات أو المنظمات المختلفة أو يكتسبها الأفراد في ميدان العمل السياسي أو الفكر السياسي بمقتضى القانون أو الدستور أو الواقع السياسي من خلال صناديق الانتخابات أو النجاح السياسي على مختلف الأصعدة[1].
فيشكل الرأي العام والإعلام وصناديق الاقتراع والقانون، القوة الحامية للعمل السياسي في “البلاد الديمقراطية”، بصورة كبيرة، أي نعم تحدث خروقات أحياناً، ولكن تظل هناك عوامل قوة مختلفة تؤدي إلى حماية الحزب أو الحركة التي تمارس السياسة من فتك السلطة السياسية أو الحزب الحاكم، ولكن في بلاد الاستبداد وفي ظل تراجع المؤسسات القضائية والإعلامية وإدارة المشهد السياسي بالحديد والنار، تسيطر حالة من انسداد أفق العمل السياسي أمام الحركات/ التنظيمات/ الجماعات السياسية، وضمور العمل السياسي بأدواته المختلفة، والكف عن العمل مخافة التعرض للقمع؛ فلا توجد قوة أو ضمانة تحمي العمل السياسي، فيكون مصيره الضعف، إن لم يكن الاندثار تماماً.
لكن تظل هناك مساحات تتحرك فيها الحركات المعارضة والمقاومة، هذه المساحات هي الفرصة السانحة لها لتحصل عوامل قوتها، والتي من شأنها أن تمكنها من التأثير في المشهد السياسي وكسب أنصار جدد وتغيير قناعة قطاعات من الشعب لإحداث شروخ بطيئة بضربات متتالية في جسد النظام القائم، أشكال من القوة تساعد في دفعها إلى الواجهة لتشكل رقماً صعباً أمام النظام الحاكم. ونتعرض لبعضها فيما يلي.
المشروع الجامع/ الحلف
لا يلزم من تبني مشروع ما عدم الانفتاح على التيارات المعارضة الأخرى المتفقة على هدف إزاحة النظام المستبد، خصوصاً في ظل استهداف شامل لجميع التيارات المعارضة ووجود خطر أعظم ونظام وظيفي يعمل لصالح أجندات غربية وصهيونية، ولكن الإشكالية هنا تكمن في تحديد كنه التيارات المختلفة التي تصطبغ بصبغة “الوطنية” والتي يجري التحالف معها ولا يعود بالسلب والضرر على المعارضة أو المقاومة نفسها؛ ففي مصر على سبيل المثال أيدت بعض التيارات العلمانية الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب محمد مرسي، وظهرت شخصيات كالدكتور محمد البرادعي في بيان إعلان الانقلاب، وإن كان انسحب بعد ذلك من هذا المعسكر، وكانت جبهة الإنقاذ التي ضمت شخصيات معارضة كبيرة سابقة للرئيس الأسبق المخلوع محمد حسني مبارك من أهم الساعين لإسقاط أول حاكم مدني منتخب.
وإنما المقصود تكوين ما يشبه الائتلاف يضم القوى والقطاعات الجادة والصادقة، ائتلاف سياسي على أساس وثيقة عمل تُبنى على إدراك المصالح العامة للبلاد وخطورة ما هي فيه، ويسعى إلى إزاحة النظام السائد، مع وضع آلية لإدارة الخلاف الذي حتماً سيكون موجوداً وباقياً ومستمراً؛ فالبحث عن ائتلاف تذوب فيه جميع الفوارق هو ضرب من المستحيل، لكن المتاح هو تكوين ائتلاف راشد يدار فيه الخلاف بحكمة وتعقل؛ فالظرف التاريخي يفرض وجود ذلك، لأن الأنظمة تستفيد من تشتت المعارضة أيما استفادة، بل وتذكي هذا التشتت لتبقى قوى المعارضة منشغلة بعضها ببعض (فرّق تسُد)؛ وهنا يبرز معوِّق هو من أشد معوقات المشروع الجامع، ألا وهو الاستقطاب الذي يعد كالفيروس القاتل الذي يؤدي إلى انحراف الوجهة وفساد الاجتماع على الهدف المنشود، لذلك يُعد وضع آلية لإدارة الخلاف والقضاء على هذا الفيروس من الأولويات في هذا الإطار.
فسؤال الائتلاف والحلف والمشروع الجامع هو في الحقيقة من أهم الأسئلة التي تنشغل بها الحركة المعارضة، بأن تسعى إلى التحالف والائتلاف وتوسع تفاهماتها مع الفصائل والقطاعات الأخرى الممكنة، حتى تصل إلى صياغة عامة لذلك الائتلاف، الذي في داخله يعرف كلٌ وظيفته وفاعليته. ومجال الاختلاف يبقى موجودا مع الاعتراف بذلك حتى لا يشكل الخلاف حجر عثرة أمام التحالف مستقبلاً.
الإدارة الاستراتيجية/ التخطيط
التخطيط والإدارة الاستراتيجية تحقق للحركة قوة لا يستهان بها، ولا نبعد إذا قلنا بأنه لا قوة فعالة بدون إدارة استراتيجية قوية.
فهناك دوماً حالة من الشد والجذب بين قواعد وقيادات الحركات المعارضة، بين الحاجة للتجاوب مع الأحداث المتجددة القريبة، وبين تطوير الاستراتيجيات والأهداف طويلة الأمد؛ فتظهر حالة من التشتت وضياع الجهود، وتكون الغلبة في الغالب الأعم لصالح الانخراط اليومي والتعاطي السريع مع المستجدات، دون نظر إلى الأفق وتخطيط استراتيجي للسنوات القليلة المقبلة، خاصة في هذا الزمان المتسارع والمتلاحقة أحداثه، الأمر الذي يؤدي إلى تراجع الإمكانيات وضعف التأثير والتآكل التنظيمي ويشكل عاملاً أساسياً من عوامل الضعف، وفي المقابل أنظمة قوية لديها وزارات وأجهزة تضع مئات البرامج التي يعمل على تنفيذها عشرات الآلاف من العاملين بصورة يومية.
لذلك تعد الإدارة الاستراتيجيّة من العوامل المهمة لتحصيل القوة؛ حيث تظهر أهميتها في مُساعدة الحركات المعارضة على النجاح في تحقيق أهدافها بصورة منظمة بعيدة عن العشوائية؛ وتمكنها من التأقلم مع الواقع المتجدد وإدارتها لأنشطتها الداخلية والخارجية، وتعزز قُدرة القيادات على الاستجابة والوعي للمؤثرات الداخلية والخارجية، وتسهم في تطوير وتحسين وتنمية الأفكار المستقبلية، من خلال تحديد الفرص والتحديات في المستقبل وتوقع المشكلات المؤثرة.
والنتائج الجيدة للإدارة الاستراتيجية تبنى على تحديد الأولويات بدقة، ومن ثم صياغة الأهداف والبرامج والسياسات، وتحديد الموارد المتاحة لتوظيفها من أجل تحقيق هذه الأهداف، وتبنى كذلك على دعم الرقابة ومتابعة تنفيذ هذه البرامج والتنسيق والتعاون بين الإدارات المختلفة في الحركة، والحرص على اكتشاف الأخطاء وتصحيحها وتسليط الضوء عليها للاستفادة منها وتجنب تكرارها في المستقبل؛ من خلال الاعتماد على معايير مُناسبة تُشكّل الأهداف الاستراتيجيّة.
وقليل من الحركات المعارضة/ المقاومة مَن يهتم بالإدارة الاستراتيجية والتخطيط الجيد، وبعضها يخطط جيداً لكن تكمن أزمته في الرقابة والمتابعة للتأكد من تنفيذ البرامج والأهداف، ولمراجعة الأخطاء والترشيد المستمر.
إن التخطيط الجيد ينطلق من تحديد نقاط الضعف والقوة الخاصّة بالحركة، ثمّ تحليلها، لتحديد الأولويات السابق ذكرها، وكذلك تدرس نقاط قوة وضعف الأنظمة السائدة، واحتياجات الشعب وسلوك القطاعات المختلفة فيه. تقوّي الإدارة الاستراتيجية الحركات المعارضة إن كانت إدارة ناجحة، لذلك فاختيار مقياس موضوعيّ يحدد مدى كفاءة الإدارة أمر مطلوب، لمعرفة مدى قدرتها على تطبيق الأهداف المخطط لها؛ حيث تُعدّ الإدارة غير ناجحة عندما تفشل في تحقيق الأهداف، بغض النظر عن إنجازاتها الأُخرى، التي تظل إنجازات متناثرة وليست منظمة ومركزة، الأمر الذي يؤثر على أولويات الحركة وأهدافها بالسلب.
التمويل
ضمان الحركة أو التيار المعارض لمصادر تمويل ثابتة وذاتية من أهم عوامل القوة، فالقوة الاقتصادية/ المالية للحركة أو التنظيم تذلل له العديد من المصاعب وتمكنه من إطلاق فعاليات وبرامج في المجالات المتنوعة التي تساعده على تنفيذ أجندته وأهدافه، فالبرامج السياسية والإعلامية والخيرية والفعاليات الثورية والثقافية والتعليمية، وبناء الكوادر في التخصصات المختلفة، كل ذلك يحتاج إلى تمويل قوي يكفل تحقيق التميز والاحترافية في ذلك كله، والعكس صحيح أيضاً، فضعف التمويل يقابله ضعف في كل شيء تقريباً، ويصاحبه انعدام أثر حقيقي للمعارضة، وتحولها إلى ما يشبه الكيان الهش عديم الجدوى.
الثبوت/ الاستمرارية والذاتية والاستقلالية، أهم خصائص التمويل الجيد، وذلك بإطلاق المشروعات التجارية والاستثمارية التي تدار ذاتياً من الحركة ويعمل فيها أبناؤها، حتى تمتلك المعارضة قرارها ولا تكون متحركة وفق إرادة الداعمين، أو متوقفة في وجودها أو عدمه على رضى الداعم الخارجي، خاصة إن كان هذا الدعم من حكومة من الحكومات، فالدول لها توجهاتها السياسية الخاصة، وأجندتها تتغير من حين إلى آخر وفقاً لمصالحها، فقد تتصالح على سبيل المثال مع الدولة التي تعارضها الحركة المقاومة، فتقطع التمويل بعد أن كانت الحركة قد عقدت عليه الآمال ووظفت على أساسه العاملين وأطلقت على إثره البرامج والفعاليات، مما يمثل ضربة قوية للحركة وبعثرة لأوراقها واختلافاً بين القائمين عليها والعملين في صفوفها.
الكوادر
تتنوع القنوات التي تستخدمها التيارات المعارضة لنزع شرعية النظام السائد، ما بين إعلامية، وتكنولوجية، وحقوقية، وسياسية، وغير ذلك، ويعد إعداد الكوادر وتأهيلهم للتميز في هذه المجالات من أهم أسباب قوة التيارات المعارضة، إذ إن الاكتفاء بجهود الهواة لن يكون ذا أثر فعال، وسيحدث نوعاً من العشوائية ويفتح ثغرات يستخدمها النظام لصالحه في إسقاط المعارضة على مستوى الرأي العام والجماهير.
ونحن في عام 2018 وبعد مرور سبع سنوات تقريباً على اندلاع “الربيع العربي” نتساءل عن حجم الكوادر التي أُعدت في التخصصات المختلفة؟ الإجابة ستكون صادمة بعض الشيء، نظراً لانشغال المعارضة بالواقع الآني فقط والتعامل معه بنظرة يومية محدودة، دون تخطيط للسنوات القليلة القادمة، وهو ما شكل عامل ضعف في خانة إعداد الكوادر.
ولكن هل نفد الوقت؟ الإجابة هي بالطبع لا، فمناخ الانسداد السياسي المستمر هو أفضل مناخ لإعداد الكوادر، بفرزها وتحديد ميولها ومن ثمة تسكينها في تخصصات تُحدد سلفاً، ثم الإنفاق عليهم ومتابعة هذا الملف ومراحل تشغيله ومراقبته لضمان جودة المخرجات في إطار ما سبق من نبذة عن الإدارة الاستراتيجية، ثم تأتي مرحلة التوظيف بعد ذلك.
وكمثال توضيحي على ذلك، اختيار مجموعة من الشباب المعارض، وتوجيهه لدراسة الإعلام أو السياسة أو الحقوق أو تكنولوجيا المعلومات أو غير ذلك، والتكفل بمصروفات دراسته، مع متابعته من الناحية الاجتماعية، وبجانب الدراسة الجامعية يُنشأ ملف خاص بالتدريب، فتكون النتيجة بعد أربع سنوات تخرج مجموعة كاملة من الشباب كمحترفين في تخصصات مختلفة. مع الاهتمام أكثر بالعلوم الإنسانية وتوجيه الشباب لدراستها، وهي التي ينصرف عنها الكثيرون متوجهين نحو العلوم الطبيعية، مع أهمية الأولى لما تحتويه من علوم مهمة للحركات المعارضة، كالإدارة والحقوق والسياسة والفنون وغيرها. وهكذا في كافة المجالات التي تفتقد الحركات المعارضة/ المقاومة كوادر فيها؛ فتركز على إيجاد هذه الكوادر المفقودة.
ولوضع أيدينا على المشكلة أكثر نضرب مثلاً بمجال الفن؛ فالمتميزون فنياً في أوساط الحركات المعارضة أو المقاومة قليلون، في حين أن النظام المستبد يوظّف الفن في خداع الجماهير وتزييف الواقع، كـ”مسرحية” الانتخابات الرئاسية الأخيرة في مصر على سبيل المثال، فقبيل الانتخابات بأيام صدرت عدة أعمال فنية ذات جودة عالية ومؤثرة للغاية بالنسبة للمواطن البسيط المخدوع، ومن أمثلة هذه الأعمال:
العمل الأول: هو لقاء حواري مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أشبه بفيلم تسجيلي، مع المخرجة ساندرا نشأت، وظهر خلاله السيسي في زي غير رسمي متحدثاً بطريقة عادية ومازحة أحياناً عن عدة أمور بعضها شخصية، وفي مكان مفتوح فيه الأشجار والمساحات الخضراء، وغير ذلك من اللمسات الفنية، التي أخرجته من صورته الحقيقية، صورة العسكري مغتصب السلطة والمسؤول عن عدة مجازر واعتقالات وانتهاكات حدثت منذ 2013، وصورة الرئيس “الفاشل” الذي فشل في إدارة عدة ملفات اقتصادية وسياسية واجتماعية.
العمل الثاني: هو أغنية للفنان “حكيم” صاحب الشعبية الجماهيرية، فقد استخدمه النظام من خلال أدائه لأغنية “أبو الرجولة” لإكساب الشرعية والترويج للانتخابات الرئاسية، وخرجت الأغنية في عمل فني يركز على تجاوب الفئات البسيطة من الشعب مع حكيم وهو يجوب الشوارع، وهم في الحقيقة يبتسمون له ويسلمون عليه لفرحتهم برؤية فنان مشهور بشكل مفاجئ، ولكن مخرجي وفناني النظام قد مزجوا ذلك في “فيديو كليب” ليظهر أنه حراك شعبي مؤيد للنظام ولرأسه بالخصوص، وقد غطى ذلك على كونها انتخابات هزلية قضى قبلها السيسي على جميع من أعلنوا نيتهم للترشح؛ سواء بالاعتقال أو فرض الإقامة الجبرية أو غير ذلك.
العمل الثالث: هو أغنية “مساء الخير يا ريس”، وهي أغنية مؤثرة استخدم فيها النظام العسكري نحو ثلاثين من الفنانين؛ كهاني رمزي ورانيا يوسف وأحمد بدير وروجينا ونشوى مصطفى وغيرهم، ويظهر بعضهم وهو يستخدم البطاقة التموينية وآخر وهو يعبر الشارع ويركب “الأتوبيس” بينما ينظر في جريدة يطالعها مَن بجانبه فيرى عنوان ما نصه: “السيسي أعطى إشارة البدء لاستئصال الفساد” فتلمع عينا الموظف الكادح مع موسيقى في الخلفية؛ مما يؤثر بالنفس بالطبع. ولن يفكر كثير من المشاهدين حينها في كذب كل هذه المشاهد وأن هؤلاء الفنانين يعيشون حياة مرفهة ينفقون فيها الملايين على ملذاتهم ولا يسيرون كعامة الناس في الشوارع ولا يستخدمون الموصلات العامة وأن تلك المشاهد لخداع المشاهد وتضليله لا أكثر، لن يفكر أحد في ذلك.
العمل الرابع: أغنية “قالوا ايه علينا” والتي وظف فيها النظام جنود الجيش وضباطه في قوات الصاعقة؛ للترويج له وتجميل وجهه، الأغنية فُرضت أيضاً على طلاب مدارس مصر قبيل مسرحية الانتخابات؛ ليرددوها بشكل إجباري في طابور الصباح وداخل الفصول، ويؤديها عسكري صاحب صوت جهوري بطريقة حماسية، وفي الإخراج الفني لها يظهر بعض قتلى الجيش في ثوب الأبطال والشهداء للتأثير في المشاهد، وعند قول الأغنية “نموت ولا يدخل مصر خسيس وجبان” تظهر صورة شخص يرفع راية مكتوب عليها “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، في إشارة إلى أن “الإسلاميين” هم المقصودون.
هذه نماذج فنية لتوظيف النظام المستبد الأعمال الفنية لخداع الشعب، وفي المقابل لا توجد أعمال بنفس القوة والشعبية والجودة والإخراج، مما يستدعي إعداد كوادر في هذا المجال الذي يعد من أكثر المجالات المؤثرة في الشعوب سواء بالحق أو الباطل.
القوة الدينية
تستخدم الأنظمة المستبدة “رجال الدين” الموالين لها لإضفاء الشرعية عليها عند عموم الشعب، والذي يمثل الدين والمتحدثون عنه موضع احترام وتقدير عنده، وأيضا لتنفير الناس من المعارضة وفضهم من حولها، بتخوينها وتحريم دعمها وإطلاق بعض الأسماء الشرعية عليها بأنهم ككونهم “الخوارج” وما شابه ذلك.
وإن كانت تلك الأنظمة تفعل ذلك بالباطل فالأولى بالمعارضة أن تستخدمه في الحق، لنزع الشرعية عن النظام عن طريق حث أهل الفتوى وأهل العلم الشرعي على إصدار الفتاوي التي تبين حكم الشرع في تأييد هذا النظام، وما الواجب على المسلم حياله، مع ذكر الأدلة الشرعية على ذلك ونشره بين الجماهير.
فالقوة الدينية قوة أساسية في هذا المقام، خاصة مع ما يمارسه النظام المستبد من “تضليل” ديني يستوجب وجود متخصصين لفنيده وتمييز حقه من باطله. وتتهم السلطات عبر قنواتها الإعلامية والمثقفين الموالين لها حركات المعارضة بأنها تُدخل الدين في السياسة، مما حدا ببعض الحركات المعارضة إلى دفع ذلك عن نفسها والابتعاد عن السعي إلى بث الفتاوي الدينية المتعلقة بالنظام المستبد، وهي الإشكالية التي يجب أن تنضبط؛ فالسياسة جزء من الدين، والدين حاكم على كل شيء، وللعلماء المتخصصين أن يقرروا حكم الدين فيما تفعله السلطة من مفاسد، وذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والممنوع فقط هو الكلام في الدين أو السياسة عن غير فهم ودراية وترْك علماء الدين رسالتهم الدعوية لينشغلوا بأمور السياسة المتجددة، وإنما تريد السلطات المستبدة نزع جانب القوة الدينية من الحركات المعارضة عن طريق اتهامها السالف بأنها توظف الدين في خدمة السياسة، وهي تهمة معلبة ليس لها أي أساس من الصحة، ولا ينبغي للمعارضة أن تنشغل بها؛ فالذي يطوّع الدين لخدمة استبداده هو السلطات المستبدة لا غيرها.
المعلومات
من أهم عوامل القوة، قوة المعلومات، فعلى أساس المعلومات المتوفرة لدى المعارضة تستطيع التعامل مع النظام السائد واتخاذ الإجراءات المناسبة والدقيقة بإزائه، فلا يتصور مواجهة نظام لا يعرف عنه إلا ما يبثه هو عن نفسه، أو ما تتناوله وسائل الإعلام التابعة له؛ فوجود خريطة معلوماتية عن النظام الذي تواجهه الحركة لا غنى عنه، خريطة لأهم الشخصيات المؤثرة والفاعلة في النظام، وملفات تعريفية لكل واحد منهم، سواء شخصيات سياسية أو إعلامية أو قضائية و عسكرية أو دينية ـو غير ذلك؛ فالدولة تدار في النهاية بواسطة مجموعة من الأشخاص هم في الحقيقة الذين يقودون المشهد وغيرهم تابعون لهم.
وكذلك خريطة وصفية لصراع الأجنحة المختلفة داخل جسد النظام، الأمر الذي يمكّن المعارضة من اتخاذ السياسات والمواقف التي تستفيد من هذا الصراع وتستخدمه لصالحها في إضعاف النظام.
وبما أن الحركة المعارضة أو المقاومة هي ثورية بالمقام الأول وبالأساس؛ فمن مهمتها أن تحوز معلومات عن حالة الشعب ودرجة سخطه على النظام لتحديد الوقت المناسب للاحتجاجات وكذلك معرفة المعلومات عن مناطق وجود قوات القمع لتفادي الخسائر البشرية عند القيام بتظاهرات أو مسيرات وما شابه ذلك.
وكذلك تمد جسور التواصل مع العسكريين وكل أصحاب النفوذ والقوة، المؤمنين بالتغيير وقيم الثورة،
فوجود جهاز معلومات يمثل قوة إضافية للحركة وهو كالعقل بالنسبة للإنسان والذي على أساسه تكون الممارسات والأفعال والمواقف راشدة.
ومن الأمور التي تجعل الحركات المعارضة لا تعمل في الضباب، امتلاكها لأدوات قياس واستطلاع، لقياس قوتها الذاتية، واستطلاع أحوال الشعب ومدى جاهزيته، وردود أفعال السلطة في حال القيام بفعاليات ما.
الإعلام
يعد من أهم الأسلحة التي تمتلكها الحركة المعارضة، خاصة في عصرنا الحالي الذي يرتبط فيه المواطنون بالإعلام ارتباطاً وثيقاً ومتنوعاً، من قنوات فضائية ومواقع تواصل اجتماعي وصحف، وتستخدم الأنظمة السياسية الإعلام في تشويه المعارضة، وتزييف الوعي، وبث الأخبار الكاذبة حولها، وفي المقابل تجميل وجه النظام، وتغيير قناعات الشعوب لحجزها عن المطالبة بحقوقها وتثبيطها بالآمال الفارغة. مما يستدعي إعلاماً مقابلاً قوياً يقدم خطاباً إعلامياً راشداً واحترافيا،ً يجذب المشاهدين ويبين الحقائق.
ويعد الإعلام أيضاً نوعاً من القوة الحامية للعاملين في العمل السياسي المعارض، عن طريق كشف وترويج الانتهاكات الحقوقية التي تحدث لهم؛ مما يردع النظام “بعض الشيء”؛ لحرصه على أن يظهر أمام الشعب في صورة النظام الراشد العادل، بعكس لو كان قمع السلطة لا يسمع به أحد ولا يشعر به الرأي العام؛ وقد شوهد هذا في الحالة المصرية على سبيل المثال وبالأدق في حالات الاختفاء القسري؛ فقد لجأت المعارضة بجميع أطيافها إلى توثيق حالات الاختفاء القسري ونشر وقائعها على القنوات الفضائية ومواقع وسائل التواصل الاجتماعي، مما كان له بعض الأثر -ولو كان قليلاً- في الحد من اختطاف المعارضين وتغييبهم وعدم تقديمهم لأي محاكمة، وإن كانت حتى محاكمة صورية.
إن الإعلام هو وسيلة تواصل الحركات المعارضة أو المقاومة مع الجماهير، والجماهير هم رأس مال الثورات ووقود التغيير السياسي والاجتماعي، ومن هنا تتجلى أهميته لأي حركة معارضة، فتدافع به عن محاولات عزلها عن المشهد بوضعها في خانة “أعداء الوطن”، وتكشف وجه النظام الحقيقي للناس، بتسليط الضوء على انتهاكاته الحقوقية من قتل وسجن وتعذيب، وفساد سياساته الداخلية والخارجية وغير ذلك، مما يسهم بشكل أو بآخر في تفتيت كتلته الشعبية المتأثرة بخطابه وخطاب الموالين له.
لكن على صعيد آخر لو لم تحسن المعارضة استخدام سلاح الإعلام، قد يكون لذلك أثر عكسي عليها بالسلب، فالإعلام المهني والراشد ضروري لإحداث التأثير المطلوب، وهو الإعلام المبني على استراتيجية تُكتب ضمن ما ذكر سابقاً من الإدارة الاستراتيجية والتخطيط، فيحدد الجمهور المخاطب بدقة ليوصل له الرسالة المناسبة، وينشر مادته الإعلامية بمهنية حتى لا يفقد متابعيه الثقة فيما يقدمه، ويصحح أخطاءه ويراجعها ويقوّم نفسه باستمرار.
القوة الحقوقية والقانونية
تمثل المنظمات الحقوقية والنشطاء الحقوقيون اليوم “صداعاً” في رأس الأنظمة المستبدة، لما يقومون به من توثيق وأرشفة لما تمارسه السلطات من قمع وتعذيب واعتقال تعسفي وتصفية ميدانية ومحاكمات غير عادلة وغير ذلك، فإيجاد مكاتب قانونية لدى حركات المعارضة أو المقاومة يكسبها قوة تضاف إلى أنواع القوة الأخرى، عن طريق توظيف تلك الانتهاكات السافرة في ملاحقة النظام المستبد بكل وسيلة ممكنة، كاستخدامها كأدلة موثقة في إقناع الهيئات البرلمانية في الدول المختلفة للضغط على أنظمتها لتتخلى عن دعم النظام القائم، وكتقديمها للمحاكم والمنظمات الحقوقية العالمية والصحف المشهورة باللغات المختلفة وترويجها بين شعوب دول العالم المختلفة لتعرية النظام وكشف وجهه الحقيقي أمام الشعوب وقاداتها، حتى يصير من العار على رئيس أي دولة عقد اللقاءات مع ممثلي النظام المستبد. وكذلك فإن الحقوق لا تسقط بالتقادم، والتوثيق والأرشفة للانتهاكات وتحديد مرتكبيها ونشر ذلك بأدلته للرأي العام، هو في حد ذاته أمر “مرعب” لممارسي الانتهاكات ولأركان النظام، هذه الأمور تسهم بشكل أو بآخر في تقليل توحش الأنظمة الديكتاتورية، بعكس لو ارتُكبت الانتهاكات دون أن يتحرك أحد دولياً ولا إعلامياً ودون أن يعرف أحد شيئاً عما يحدث، الأمر الذي سيزيد الانتهاكات والاستبداد فجاجة.
القوة القانونية والحقوقية من عناصرها أيضاً وجود محامين للدفاع عن معتقلي الحراك الثوري ومعتقلي المعارضة، ومتابعة قضاياهم وكشف الإجراءات القضائية المسيسة التي تحدث تجاههم، فقضية المعتقلين والدفاع عنهم ليروا النور مرة أخرى هي من أهم الأمور التي ينشغل بها المكتب الحقوقي والقانوني، فهؤلاء هم وقود المعارضة والمضحون بأنفسهم وبالتالي الاهتمام بهم وبأُسَرهم أمر ضروري، وتركهم يواجهون مصيرهم بجانب أنه في أعلى درجات الخطأ إلا أنه يجعل غيرهم من مؤيدي المعارضة أو المقاومة ينفضون من حول المعارضة؛ فهي لا تقدم لهم أو لأسَرهم أي شيء إذا اعتُقلوا.
خاتمة
تتعدد عوامل القوة المتاحة والممكنة أمام الحركات المعارضة أو المقاومة وما ذكر هنا بعض جوانبها المهمة لا غير، وكلما زادت الحركة من تحصيل أشكال القوة المختلفة مثّلت رقماً صعباً في المشهد السياسي، وكل حركة لديها بالفعل جوانب من القوة، مما يستدعي رسماً لخريطة الموجود وخريطة المفقود، ثم سيراً حثيثاً من أجل تحسين الموجود واستكمال المفقود.
فالإعلام مثلاً كعامل للقوة موجود بالفعل ولكن هل يمارس بشكل صحيح أم يحتاج إلى تحسين وتطوير لتحقيق المطلوب؟ وإعداد الكوادر بطريقة احترافية واستراتيجية مفقود تقريباً، فكيف يستكمل ذلك؟
وكذلك يقال عن السعي لتجميع القوى السياسية الممكنة في مشروع أوسع من مشروع الحركة الخاصة، مشروعان يتقاطعان في إدراك اللحظة الآنية وما يكتنفها من أخطار توجب الوحدة في جانب المعارضة أو المقاومة السياسية، وتكون هناك مساحة للاختلاف معترف بها؛ فهذا السعي من شأنه أن يستكمل المفقود في باب قوة مهم وهو الحلف أو المشروع الجامع.
تبقى هناك تحديات ومعوقات تشكّل عوامل ضعف أمام تيارات المعارضة أو المقاومة، كالاستقطاب والعشوائية في اتخاذ القرارات والسياسات، والانشغال بالمسائل الواقعية المتجددة والآنية على حساب التخطيط، وضعف التمويل أو تحصيله من مصدر خارجي في صورة دولة أخرى أو غير ذلك مما يضع مصير الحركة بين يدي المموِّل، وكذلك عدم الاهتمام بالشباب وإهمال تأهيليهم وإعدادهم، وترك الساحة الدعوية/ الدينية ليملأها رجال الدين التابعين للسلطات المستبدة، وكذلك عدم امتلاك جهاز للمعلومات الأمر الذي يجعل المقاومة تسير عل غير هدى، بالإضافة إلى ضعف الإعلام وبُعد أجزاء منه عن المهنية والاحترافية.
فالعمل السياسي المعارض تواجهه تحديات واسعة، وهو ما بين ما بين تحسين وتكميل وإصلاح لجوانب الضعف، من أجل الوصول إلى أعلى مستوى ممكن من القوة التي تشكل له أعلى درجة من الفاعلية.
[1] مصطلحات عصر العولمة، د. إسماعيل عبد الفتاح عبد الكافي، الدار الثقافية للنشر، ط1، القاهرة، 2007م.