العقل اليهوديملفـات

السيناريوهات المحتملة لمستقبل طوفان الأقصى، في ضوء السنن الإلهية

د عبد العزيز كامل

 

 

كان هذا عنوان كلمة فضية الدكتور عبد العزيز كامل في الندوة التي عقدها مركز رؤيا، بعنوان:

(مستقبل طوفان الأقصى في ضوء السنن الإلهية)

وتضمنت هذه المحاضرة مقدمة وعدة محاور:

مقدمة: صدرها بعنوان: الحرب العالمية القائمة.. والأخرى القادمة:

تناول فيها علاقة حرب غزة الحالية وعلاقتها بما أسمته أمريكا وحلفاؤها (الحرب العالمية على الإرهاب)، وبين أنها أصبحت جزءًا من تلك الحرب التي هي في حقيقتها حرب على الإسلام، تلك الحرب التي اشتعلت أولًا في أفغانستان ثم استعرت في العراق، لتمتد إلى معظم البلاد العربية منذ أعلن عنها وشنَّها بوش الابن على المسلمين في بداية الألفية الثالثة، فاستغرقت مدتيه الرئاسيتين، ومدتيْ حكم أوباما بعده؛ بل عمل الأخير على توسيعها وتفريعها، خاصة عقب فشل الثورات العربية التي أحيت الحمية الإسلامية السُّنية.

وهذه الحرب دخلت مرحلة أخطر وأكبر مع مجيء الأحمق الجريء (دونالد ترامب) الذي جدد لهذه الحرب صفتها العولمية الصليبية فقال: ” سأمحو الإسلاميين الإرهابيين من الكرة الأرضية لأنهم يقتلون المسيحيين (الأبرياء)!

وقد ظن البعض أن تلك الحرب ستتوقف بمجيء الرئيس (الديمقراطي جدًّا) يوسف بايدن؛ فإذا به _ بعد طوفان الأقصى _ يصف الفصل الأخير على يد إسرائيل بأنها (حرب دينية) مقلدًا سلفه بوش الذي وصف حربه في العراق بأنها   صليبية.

 ثمَّ تناول السبب الأهم من إصرار أمريكا وحلفائها على استمرار الحرب ورفض إيقافها بقوله:

القرار واضح بإبقاء جذوة تلك الحرب مشتعلة حتى تحقق أهدافها، وهي إعادة إحكام الحصار لكسر إرادة أمتنا في تحطيم القيود والآصار، خاصة بعد أن كادت تلك القيود تُكسر بعد انطلاق الثورات العربية التي تصدرتها الاتجاهات الإسلامية؛ حيث أعاد ذلك لفت الأنظار إلى تلك القوة الكامنة في الإسلام.

ثم تناول في تلك المقدمة نتائج هذه الحرب الضروس التي خاضها المسلمون في تلك الحروب قائلًا:

   رغم استضعاف أهله؛ فقد أبطلت نظرية (نهاية التاريخ) التي بشر فيها (فوكوياما) بالانتصار الحضاري للفكر الغربي الليبرالي الرأسمالي البروتستانتي وتسيده وحده للعالم، وبددت قوة الانبعاث الإسلامي مبكراً أوهام الانتصارات في(صدام الحضارات) كما نظَّر لها اليهودي” صمويل هنتجتون”..

وعرقلت على أرض الجهاد بالعراق مشروع يهود أمريكا (المحافظون الجدد) المُسمى (مشروع القرن الأمريكي) والذي كان يهدف للإبقاء على زعامة أمريكا للعالم مدة مئة عام قادمة.

وها هي قوة الإسلام المستضعف والمستهدف بحرب عالمية منذ ربع قرن؛ تبدد في غزة الصغيرة نظرية (أمن إسرائيل) بعد أن أغرقها طوفان الأقصى في موجاته الأدنى.

ثم استعرض أهم القوى التي تتولى كبر هذه الحروب وتكالبت على أهل السنة خصوصًا، وعلاقة تلك الأحداث بالسنن الإلهية، وطبيعة الحرب العالمية المتوقعة؛ فقال:

إن الحرب العالمية على الإسلام لم تستهدف منذ البداية إلا أهل السنة، الذين يمثلون السواد الأعظم من الأمة، ولم يكن هذا الاستهداف قاصرًا على امريكا وحلفائها الغربيين، بل دخل على خطه نصارى الروس، بالتحالف مع رافضة الفُرس المجوس، فكانوا سويًّا على خط المواجهة إلى جانب نصارى الروم _ وبخاصة في سوريا.

لكن اختلاف أجندات الأحلاف وتضارب مصالح الأطراف؛ أظهر تناقض رؤاهم وتنافر عقائدهم بما يفسد خطاهم ويعرقل خططهم، وسيحولها – والعلم عند الله – إلى أدوات قدرية لتحقق السنن الإلهية على الطريقة التي شهدها العالم في الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث تقضي  بعض تلك السُنن بضرب قلوب الكفار بعضهم ببعض، وبخاصة النصارى؛ الذين هم رواد ومدبري الحروب ضد المسلمين على مر القرون والسنين، وهي حروب لم تتوقف أيضًا فيما بينهم، كما قال الله تعالى عنهم: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة -14).

وقد كانت الحربان العالميتان مثالاً تفسيرياً مصيرياً لهذه الآية الإلهية والسنة الربانية، وجاءت حرب أوكرانيا لتجدد حروب العداء والبغضاء.

وكذلك فإن أساتذتهم التاريخيين في التأليب على حرب المسلمين – وهم اليهود – لم ولن يخرجوا عما قاله الله تعالى فيهم: (بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُون) (الحشر14) وقال: (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۚ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) (المائدة -64).

ولم يبق في أطراف الحرب القائمة والقادمة ضد أهل الإسلام من غير هؤلاء وهؤلاء؛ إلا المبتدعة المعادون للمنهاج القويم، وعلى رأسهم رافضة الحق المفترون، وهم أصحاب المشروع الصفوي الفارسي الامبراطوري، وفي ضوء سنن الله تعالى نتصور أن عاقبة هذا المشروع هي الضياع، بعد أشواط طويلة من الدجل و الكذب والخداع، فقد قال الله تعالى في أمثالهم من زنادقة المبتدعة الأقدمين: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) (الأعراف152).

وقد نقل الطبري في تفسيرها عن أبي قلابة قال: “هو جزاء كل مفتر إلى يوم القيامة، أن يذله الله”.. وقال ابن عُيَينة:” كل صاحب بدعة ذليل”..

أما أنظمة الشقاق والنفاق العلمانية من (الخشب المسندة) فهي تسقط بسقوط من تولى إسنادها من أسيادها.

إن الكل في تناقض متباغض، وهذا لابد أن يرتد أثره تفريقًا بين صفوفهم التي قد تبدو متراصة، وتمزيقًا لخطواتهم التي تظهر متماسة.

الحرب العالمية القادمة أو مقدماتها بين ” الأخوة الأعداء ” وإن استبعد البعض وقوعها؛ لن تكون بالضرورة حرباً نووية فيها نهاية العالمكما يهول المهوِّلون، بل ستكون _ ولو على مراحل _ طريقاً لدمار نادي المكر الكُبَّار، الراعي لمصالح الكفار والفجار، حتى يُفسَح طريق التمكين أمام المؤمنين، مثلما حدث عندما غُلبت الروم من الفُرس ثم غَلبتهم، فكان هذا تحطيماً إلهياً أولياً لقوتهما، ريثما يُجهِز المسلمون عليهما وهو ما حدث بالفعل.   

ثم ختم هذه المقدمة بتأكيده جملة من الحقائق المهمة؛ قائلًا:

وعالم اليوم يُستدرج بالسنن الإلهية رغم أنفه كما حدث في الحرب العالمية الأولى ثم الثانية – حيث سقطت امبراطوريات ونشأت أخرى، حتى ظهر (النظام العالمي) الراهن، وهو بتماسكه الحالي الواهن يسرع الخطا بانتظام إلى كُناسة التاريخ.

وما على المستضعفين المرشحين للذبح على عتباته إلا الرباط والتصبر والتربص (فتربصوا إنا معكم متربصون) (التوبة-52).

ملامح الملاحم الآخرة.. ستظل تُطل برأسها من بين أطلال الحروب الحاضرة في حواضر الإسلام.. وسيظل أهل هذا الدين- رغم كل شيء – هم أولياء الله الذين آذن من عاداهم بالحرب، في أي حرب قائمة أو قادمة.

فليكن هذا ظنهم بربهم.. حتى يكون – سبحانه – عند ظنهم به.. فيعلي شأنهم ويتولي أمرهم، ويهلك ويدمر عدوه وعدوهم، فهو القائل سبحانه عن هؤلاء الأعداء وأسلافهم.. (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۖ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ) (محمد -11).

 

 

المحور الأول: من خصائص السنن الإلهية:

وفي هذا المحور استعرض سريعًا بعض سمات وخصائص عامة تشترك فيها السنن الربانية بقوانينها الكونية، ذكر منها:

– أنها قدر سابق.

– أنها لا تتحول ولا تتبدل.

– أنها ماضية لا تتوقف ولا تتخلف.

– أنها لا تختلف ولا تُخالف، ولا تجدي مخالفتها.

– أنها لا تَهدي المعاندين ولكنها تَهدي المتقين.

 أنها تسري على البر والفاجر.

المحور الثاني: بعض السنن الإلهية التي يمكن في ضوئها استشراف مجريات حرب طوفان الأقصى:

حيث استعرض في هذا المحور بعضًا من السنن الإلهية التي يمكن في ضوئها فهم أو استشراف مجريات الأحداث الواقعة والمتوقعة بعد انطلاق حرب غزة تحت مسماها الأثير (طوفان الأقصى)، وذلك على النحو التالي:

  • طوفان الأقصى.. ومطارق التغيير السنني :

تسببت حرب طوفان الأقصى في هبوب عواصف تغييرية على كثير من الساحات العالمية والإقليمية والمحلية، وإذا كان التغيير سنة قدرية إلهية عامة؛ فإن تحتها مجموعة من السنن التابعة لها، مثل: سُنَّة التدافع الدائم بين أهل الحق وأهل الباطل، وسُنَّة تداول النصر والهزيمة بحسب قوانينهما ودواعيهما، وكذلك سُنَّة تجديد الدين على يد المصلحين، من علماء ودعاء ومجاهدين.

وسُنَّة إهلاك، الظالمين ولو بعد حين، وكذا سُنَّة تحقق وعد التمكين بغلبة المؤمنين، وسُنَّة الاستبدال بين صعود العاصين أو المصلحين، وسنة دمار قرى المترفين، وسنة فشل المتفرقين المتنازعين، وفلاح المتعاونين المعتصمين بحبل الله المتين.. ونحو ذلك مما أشارت إليه نصوص الوحي كتابا وسنة..

والأمر كما قال الله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (الرحمن/٢٦). وهذه الآية تلاها النبي صلى الله عليه وسلم عند أصحابه فقالوا: وما ذاك الشأن؟ قال: (مِن شأنِه أنْ يغفِرَ ذَنْبًا ويُفرِّجَ كربًا ويرفَعَ قومًا ويضَعَ آخَرينَ) رواه ابن حبان (رقم /٦٨٩) بإسناد صحيح.

والتغيرات الواقعة والمتوقعة في ضوء معرفة السنن تنال وتطال ساحات عامة عالمية، وخاصة إقليمية ومحلية، حتى النظام الدولي ذاته؛ نراه مقبلا على تغييرات جوهرية..

فقد تفردت الولايات المتحدة الأمريكية بزعامة العالم والجلوس المنفرد على كرسي القطبية الدولية لعقدين متتاليين. منذ سقوط الاتحاد السوفيتي عام ١٩٩٣؛ وبلغت أمريكا ومعها حلفاؤها _ وبخاصة يهود العالم ومعهم يهود فلسطين _ درجة متقدمة من (العلو الكبير) الذي كان لابد أن يليه مسلسل التدرج المتدحرج في التراجع والنزول، تصديقا للسنة الربانية التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم   عندما غُلبت ناقته (القصواء) التي كانت لا تسبق، فجاء أعرابي بناقته فسبقها، فقال عليه الصلاة والسلام مقررا هذه السنة الإلهية: (حَقٌّ علَى اللَّهِ أنْ لا يَرْتَفِعَ شيءٌ مِنَ الدُّنْيا إلَّا وضَعَهُ) رواه البخاري.

والذي نعتقده، أن معركة طوفان الأقصى وتداعياتها؛ قد خلخلت مكانة التفرد الأمريكي  بزعامة العالم، وذلك حين تزلزلت الأرض  تحت أقدام أقوى  حلفائها في أخطر مكان في العالم، وهي دولة ” إسرائيل”، جراء الهجوم  المباغت لأبطال  غزة، الذي جسد سنة إلهية أخرى،  دل عليها قول الله تعالى على لسان  رجلين مخلصين من أتباع موسى عليه السلام، (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ  ([المائدة: 23]

وهذه السنة القدرية تنبني على مقدمة شرعية، تفيد بأن الإيمان بالله والتوكل عليه وحده مع الشجاعة والإقدام في مباغتة الأعداء، لابد أن تثمر النصر والظفر على الأعداء، بعد إعداد العدة المستطاعة، قال الطبري في تفسيره للآية: ” قالا لبني إسرائيل حين جبنوا عن لقاء أعدائهم لدخول الأرض المقدسة: (ادخلوا عليهم الباب..) أي ” متى توكلتم على الله واتبعتم أمره، ووافقتم رسوله، نصركم الله على أعدائكم وأيدكم وظفركم بهم، ودخلتم البلدة التي كتبها الله لكم ”

لقد كان الجمع بين التوكل والإقدام سببًا مستجلبًا للنصر، وقد كان هذا شأن من شرفهم الله بالقيام بعملية الطوفان، فشهد العالم شجاعتهم وتوكلهم الذي حقق الهزيمة المبكرة لعدوهم.

 

 

    (2) طوفان الأقصى وسنة المكر بالماكرين:

من أهم السنن الإلهية التي ينبغي رصدها واستحضارها عند استشعار مكر الكفار بالمسلمين؛ أن يستيقن المؤمنون بما قاله الله: {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا ۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ يونس/٢١

فالمكر الكبَّار الذي يدير به أكابر المجرمين شؤون عالم اليوم لحسابهم ومصالحهم؛ لا يخفى على من لا تخفى عليه خافية، فمهما كان مكرهم أكبر فالله أكبر، وهو لهم بالمرصاد ومن ورائهم محيط، لأنهم يمكرون مكر المخلوق الضعيف المغرور {وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر/١٠]

ولأن معنى المكر في الأصل: التدبير الخفي؛ فقد يكون لخير أو لشر، ولا يوصف الله تعالى به استقلالًا، ونسبته لله في كتاب الله لا تجيء إلا على معنى يليق بعظمته وعدله وحكمته، فتدبيره – سبحانه – يأتي خفيًّا لإيقاع أهل المكر السيئ في أسوأ العواقب والعقوبات: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر/ ٣٤]. وشتان بين مكرٍ ومكرٍ {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال/٣٠]

ومن السنن الإلهية في الماكرين: أن الله تعالى يجعل مكرهم ذاته وبالًا عليهم، فيصير تدميرهم في تدبيرهم، وكأنهم يوجهون سهامهم نحو نحورهم؛ وقد قال الله سبحانه: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١)} من سورة النمل.

وقال: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ۖ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الانعام/١٢٣].

ومع التأمل في آيات القرآن؛ سنجد أن كل مكر سيئ بالمؤمنين يحيق عاجلًا أو آجلًا بأعداء الدين، ولكن مع شدة عقوبات الله للماكرين عبر التاريخ؛ فلا نجد لهم عقوبة أسوأ  من أن يمد الله لهم في غيهم، وقد يزيد الله في إمهالهم  ويطيل أعمارهم، حتى يزدادوا إثمًا، فيخسرون الآخرة بعد الدنيا، كما قال الله عز وجل: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ ۗ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٣) لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ ۖ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} (٣٤) من سورة الرعد.

   والمراقب لمجريات حرب غزة سيرى أن هناك ألوانًا وأشكالًا من المكر على مستويات إقليمية وعالمية، تصل إلى حدِّ التواطؤ الجماعي لتصفية القضية الفلسطينية من خلال الفتك بالمقاومة، وفضِّ حاضنتها عنها، وإفراغ الأراضي المحتلة منها، بعد تجويع وتشريد وبلاء يعقبه تهجير وإجلاء.

وفي كل حال فلا يليق بأهل اليقين أن يظنوا _مجرد ظن _ أن الله لا يتولى الصالحين، أو أنه سيصلح عمل المفسدين، بل ينبغي لهم أن يراقبوا فيما يستقبل من الزمن.. جريان هذه السنن، وقد قال الله تعالى عن أعداء المؤمنين الأولين وقال سبحانه: { وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (٤٦)فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (٤٧) }..من سورة إبراهيم

     3_ طوفان الأقصى.. وسنة التدافع:

قد لا يتصور أحد الحال التي كان يمكن أن تكون عليها جزيرة العرب لو لم يدفع الله قوى الكفر بجند الإيمان في فجر الإسلام، فقد تصدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صحابته لهذه القوى في نحو مائة غزوة وسرية، جاهد بنفسه في تسع عشرة منها للدفاع عن ملة التوحيد في تلك الجزيرة مهد الإسلام؛ التي استمات كفارها ليبقوها على الشرك والوثنية..

وما المصير الذي كانت تلك الجزيرة ستقول إليه لو لم يتصد خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول _ أبو بكر الصديق، رضي الله عنه _ لمواجهة جموع القبائل العربية التي ارتدت عن الإسلام ومنعت الزكاة وقاتلت على ذلك بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام.؟

وهل يتخيل أحد ما الذي كان سيكون عليه أمر دين الله؛ لو لم يقم عمر بن الخطاب _رضي الله عنه _ بكف بأس أكاسرة الفرس المجوس عن جزيرة الإسلام، ثم تصديه لكبح جماح قياصرة الروم عن بيت المقدس وديار الشام، بعد أن استعبد الفرس والروم عرب الجزيرة واستذلوهم قرونا…؟

   وما المصير الذي كان يمكن يسير إليه دين الحق لو لم ينطلق للدعوة إليه والدفاع عنه أبناء الصحابة والتابعين في أنحاء آسيا وربوع أوروبا ومجاهل إفريقيا…؟

وما الذي كان يمكن أن يصل إليه حال أمة الإسلام لو ينهض صلاح الدين الأيوبي لدحر الصليبيين، وينبري سيف الدين قطز لإيقاف زحف التتار الوثنيين، الذين أسقطوا الخلافة العباسية في بغداد ثم اجتاحوا بلاد الشام قاصدين بعدها استباحة الديار المصرية ليقضوا تماما على الأمة الإسلامية …؟!

 وهكذا نقول في عصرنا.. ماذا لو يتصد المجاهدون من أنحاء العالم الإسلامي للدفاع عن أفغانستان الموحدة ضد روسيا الملحدة التي كان لها مشروع لاجتياح العالم الإسلامي بدءًا من كابول حتى جزيرة العرب من أجل الاستحواذ على آبار البترول…؟

واليوم نقول: ماذا كان مخططًا للمنطقة العربية في ظل طوفان التطبيع الجارف تحت شعار: (الولايات المتحدة الإبراهيمية) لو لم تُجرف هذه المخططات بطوفان الأقصى، المضاد له في القوة والمعاكس في الاتجاه؟

إن (سنة التدافع) الربانية المذكورة في النصوص القرآنية تجيب على كل تلك التساؤلات الافتراضية، حيث يقول الله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة/٢٥)

وقد نقل الإمام البغوي في تفسيره لهذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ” ولولا دفع الله بجنود المسلمين؛ لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المؤمنين وخربوا المساجد والبلاد “.

وهذه السنة الربانية (المدافعة) مذكورة أيضًا في قول الله سبحانه: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج/٤٠).

قال الإمام ابن كثير: ” أي: لولا أنه يدفع عن قوم بقوم، ويكشف شر أناس عن غيرهم، بما يخلقه ويقدره من الأسباب، لفسدت الأرض، وأهلك القوي الضعيف”

سنة التدافع بين الحق والباطل ستظل باقية ما بقي الزمان، ولئن ظن البعض أن واقع المسلمين اليوم في العالم خال من المدافعة فـ (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ.. إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُور) [الحج:٣٨].

4_ طوفان الأقصى وسنة المداولة:                                                

المعركة مع اليهود ستستمر حتمًا في طريق طويل، قد يتحول إلى التدويل، وبين مراحله ستكون سنة المداولة فاعلة، ولابد من توقع ذلك وعدم استبعاده، فأحوال المسلمين وغير المسلمين في العالم تتغير بسرعة، وستظل تتغير، من سراء إلى ضراء، ومن شدة إلى رخاء.. فمن سنن التغيير التي تأتي عواصفها على الأخيار والفجار: (سنة التداول) التي تتنقل بها الغلبة والتمكين كل حين بين أطراف الناس، وقد أشار إليها القرآن في قول الله تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (آل عمران/ ١٤٠)..

والآيات نزلت بعد أن كثر (القرح) أو الجراح على المسلمين في غزوة أحد، بعد أن استعر القتل بالمشركين في غزوة بدر..

وسنة “التداول” أو “المداولة” يجري بموجبها تصريف الأقدار بحلوها تارة وبمرها أخرى، على أهل الحق وعلى أهل الباطل على السواء، ولكن لأن من أركان الإيمان أن نؤمن بالقدر خيره وشره؛ فعلينا أن نوقن مع ذلك أن أمر المؤمن كله له خير، فإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له _ كما صح في الحديث _..   فتداول الأيام بين الناس يكون على الصالحين تمحيصًا وتطهيرًا.. ويكون على المفسدين عقوبة وتنكيلًا.

وقد أورد الطبري عند تفسيره لهذه الآية عن التابعي الجليل (قتادة) أنه قال: (وتلك الأيام نداولها بين الناس) ” إنه والله لولا الدُّوَل ما أوذي المؤمنون، ولكن قد يُدال للكافر من المؤمن، ويبتلى المؤمن بالكافر، ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه، ويعلم الصادق من الكاذب “..

وفي حديث البخاري عن محاورة أبي سفيان لعظيم الروم في الشام، أن هرقل قال لأبي سفيان في ضمن أسئلة أخرى: (سَأَلْتُكَ كيفَ كانَ قِتَالُكُمْ إيَّاهُ؟ فَزَعَمْتَ أنَّ الحَرْبَ سِجَالٌ ودُوَلٌ، فَكَذلكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لهمُ العَاقِبَةُ).

وهذه العاقبة ليست خاصة بالرسل، بل بكل المؤمنين من أتباع الرسل، كما في قول الكليم موسى لقومه: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف/١٢٨) وكما في قول الله لخليله محمد – صلى الله عليه وسلم: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ۖ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا ۖ فَاصْبِرْ ۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:٤٩].

        5- طوفان الأقصى وسنة الاستدراج:

ماجري ويجري في خلفيات الأحداث العالمية اليوم من تطاحن وتشاحن دولي؛ يظهر لنا أن الجميع فيها يمكر بالجميع، ويريد جمعهم هنا وهناك أن يورطوا غيرهم، وهذا ينبئ بأن هناك استدراجًا إلهيًّا قدريًّا؛ يهيئ لأمر عظيم، والعلم عند الله..

فتوريط أمريكا لروسيا في حرب أوكرانيا؛ وسعي روسيا لتفكيك وإفقار أوروبا؛ وتربص كل من الصين وأمريكا ببعضهما، عن طريق حلفائهما؛ ثم تخبط الطغاة المنافقين في بلاد المسلمين وسط هذه القوى المتقلبة والمتغلبة، حائرين بين الرجوع للشعوب أو الركون للأعداء، مذبذبين بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء..

كل ذلك يدل على أن السنة الكونية الإلهية (سنة الاستدراج) تعمل بقوة، قد لا نراها، ولكنا نلمس آثارها.

ومعنى (سنة الاستدراج) أن يقاد أهل الباطل إلى هلاكهم وحتوفهم درجة بعد درجة، وخطوة بعد خطوة، وهذه السنة التغييرية تجري في الغالب الأعم على الجبابرة المكذبين بالدين؛ لتثبيت اليقين بأن الله مولى الذين آمنوا، وأن الله مخزي الكافرين، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِيّ مَتِينٌ﴾ [الْأَعْرَاف/١٨٢_١٨٣].

وَفِي آيَةٍ أُخْرَى قال عز وجل: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِيّ مَتِينٌ﴾ [الْقَلَم/ ٤٤-٤٥].

ولا شك أن شر المكذبين هم المعتدون، وهؤلاء هم أول المتوعدين.

وعندما تبدو ظواهر الأمور عند البشر على غير حقيقتها في المقادير؛ تظهر إشارات هذه السنة الإلهية من اللطيف الخبير، الذي يخبئ بها المنح في المحن، فيجعل شدة الابتلاءات مفتاحًا لما بعدها من عطايا وكرامات، كما قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم لحبر الأمة وترجمان القرآن (ابن عباس): (واعلَمْ أنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ، وأنَّ الفرَجَ مع الكرْبِ، وأنَّ مع العُسرِ يُسرًا). أخرجه الترمذي برقم (٢٥١٦) وأحمد برقم (٢٨٠٣) بإسناد صحيح.

وسنة الاستدراج لا تسير فقط على المكذبين الكفار، بل على سائر العصاة المعاندين الفجار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّه لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ، فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:١٠٢]). والحديث مُتَّفَقٌ عليه.

فهذه السنة تعمل في كل ظالم بحسبه” فيحمل كل على ما يليق به ” كما قال ابن حجر في شرح الحديث بفتح الباري (٢٠٥/٨) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتَ اللهَ يُعطي العبدَ من الدنيا على مَعاصيه ما يُحِبُّ.. فإنما هو اسْتدراجٌ، ثم تلا: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:٤٤].   والحديث أورده الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (٤١٣)

ونلاحظ في نصوص الاستدراج والإمهال والإملاء؛ أن المستدرجين يمهلهم الله ويملي لهم وهم {لا يعلمون}.. لكنهم بعد فوات الأوان سيعلمون، كما قال القوي العزيز سبحانه: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: ٢٢٧].

لذلك فلا ينبغي أن نُغرَّ بظواهر أمور راهنة، تبدو أحيانًا في غير صالح المؤمنين، فقد تكون استدراجًا لأعداء الدين، ومعارك المسلمين ضد اليهود وحلفائهم ليست استثناء من ذلك، فيقين المؤمنين أن أعداءهم حتمًا سيستدرجون.

     6 _طوفان الأقصى وسنة نصر المؤمنين:

مهما بدت الأوضاع العالمية والإقليمية سوداوية ومأساوية بنظر الكثيرين فيما يتعلق بواقع الدين ومستقبل المسلمين؛ فإن السنن الإلهية تحسم الأمر عندما تقضي بصورة حازمة جازمة حتمية، بنصر وإنصاف المؤمنين، ولو بعد حين، وهو أمر لا يحتمل شكًّا من مرتابين، أو تشكيكًا من قانطين متشائمين.. لأن الله القوي العزيز هو الذي قال: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21].

وقال: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: ٥1].

ولنتأمل معا توكيد وتكرار الكتاب المجيد لمعنى فريد، لا يكاد يغيب إلا على ذوي الفهم المعيب، وهذا المعنى هو اقتران قوانين نصر المؤمنين بنواميس السنن الجارية على الأولين والآخرين، بلا تبديل ولا تغيير، كما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ}. [الأنعام/٣٤]..

وقال أيضًا: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٢٢) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (٢٣)} من سورة الفتح.

ولذلك فإن التأمل العميق في جريان القوانين والسنن.. لتفعيل أسبابها في هذا الزمن.. من أهم مهام الوقت، فالسنن الإلهية هي أحكام كونية قدرية.. لا تعطي نتائجها إلا على مقدمات الأخذ بالأحكام الدينية الشرعية، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد:٧).

 قال أهل التفسير: إن تنصروا الله بطاعتكم شرعًا؛ ينصركم بقدرته قدرًا، وهو ذات المعنى العظيم في قوله عز وجل: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج/٤٠].

وهذه الآيات وأمثالها تثبت أن نصر المؤمنين وعد صادق ثابت في الأحكام القدرية الكونية، وهو نتيجة حتمية إذا سبقت بمقدمات إقامة أسبابه الشرعية.

وهذه السنة الإلهية عملت وتعمل وستعمل مادام هناك صراع بين الحق والباطل، فقد قال الله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:٨].

ولكل هذا؛ فإن يقين المؤمنين بأن العاقبة للمتقين، تجعلهم لا يشكون في أن نصر الله يظلل الأمة بذاك البذل الصادق والجهاد المشروع لأهل فلسطين، والذي أثبتت تفاعلات طوفان الأقصى أن رياحه تهب من جهة بيت المقدس، عاصمة الخلافة القادمة بإذن الله.

    7 _ طوفان الأقصى وسنة الاستبدال:

لنصرة الدين أقوام، يختارهم الله في كل زمان ومكان للعمل في سبيله، فيصنعهم على عينه، ويثبتهم ويهديهم للتوفيق والسداد علما وعملا..

بلا دعوى تميز ولا تزكية نفس، فالعمل في سبيل الله تكليف لا تشريف، وهو لا يتوقف على جهد فرد مهما بذل، ولا على جهاد كيان مهما ضحى، إلا إذا كانت الأعمال كلها لله، إقبالًا على الله، وقبولًا تامًّا لمنهج الله..

بغير هذه الكيفية في صلاح الأعمال والإخلاص في الإقبال.. يأتي ما يعرف في السنن الإلهية بسنة (الاستبدال).. فعندما يغير قوم ما بأنفسهم فيصير أمرهم فرطًا وسيرهم عوجًا؛ فلابد أن تتفرق بهم السبل، حتى ينتهي أمرهم إلى فقدان الأهلية وانتهاء الصلاحية في نصر دين الله الذي قال: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:٤٠].

وترتبط سنة الاستبدال دائمًا بالتولي عن نصرة الدين، إما بالنفس وإما بالمال، وهما الأساسان اللذان لا تتحقق النجاة ولا يقوم للمسلمين شأن في الحياة إلا بهما، كما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (١١)} من سورة الصف.

ولذلك اقترن حديث القرآن عن الاستبدال مرة بالتولي عن النصرة بالنفس، ومرة بالتولي عن النصرة بالمال، فقال الله تعالى في الأولى: {إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} [التوبة :٣٩]

وقال في الثانية: {ها أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} [محمد: ٣٨].

وكما أن من يبخل فإنما يبخل عن نفسه، فإن.. {مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: ٤٦].

وسنة الاستبدال تستدعي تبديل صنف رديء من الناس غير جدير بنصر الله بصنف آخر حقيق به مستحق له، وقد قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ* إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة:54-56].

والآية تفيد بأن هناك صفات لازمة لمن يأتي الله بهم لنصرة دينه، فهم (أذلة على المؤمنين) أي _ كما قال ابن كثير _متواضعين لإخوانهم ومتعززين على خصومهم من أعداء الله وأعدائهم، كما هو وصف نبيهم الذي وصف بأنه (الضحوك القتال) أي ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه. ومن صفاتهم أنهم (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) أي لايردهم عما هم فيه من طاعة الله وقتال أعدائه وإقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك راد، ولا يصدهم عن ذلك صاد، ولا يحيك فيهم لوم لائم ولا عذل عاذل. وهذه الصفات من الهبات والهدايات (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) أي: من اتصف بهذه الصفات فإنما هو فضل الله عليه وتوفيقه له.

 والحقيقة بناء على ما سبق؛ أن هناك استبدالًا يقابله استعمالٌ، فمِنْ خلق الله من يُبدل، ومن عباده من يُستعمل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أرادَ اللَّهُ بعبدٍ خيرًا استعملَهُ. فقيلَ: كيفَ يستعملُهُ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: يوفِّقُهُ لعملٍ صالحٍ قبلَ الموتِ). رواه الترمذي (٢١٤٢) بإسناد حسن صحيح.

وكم رأينا ـ وسنرى ـ خلال ما حدث ويحدث في معركتنا مع شر البرية من سيستبدلون ومن سيستعملون. ونسأل الله يستعملنا ولا يستبدلنا.

 8 – طوفان الأقصى وسنة الفرج بعد الشدة:

عندما يأمر الله عباده المؤمنين في كل زمان ومكان بأن ينتظروا نصره وثأره من الطغاة الظالمين في قوله: {وَٱنتَظِرُوٓاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [هود:١٢٢] فإن في ذلك تنبيهًا وتذكيرًا بأن شأن المؤمنين الثبات على اليقين الذي نطق به سيد المرسلين عندما قال: (واعلم أن النصر مع الصبر، وإنَّ الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا). رواه الإمام أحمد وغيره، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ٤٩٦/٥

وسنة الله في التفريج عن المؤمنين بوقوع الانتقام – على غير توقع – بجموع الظالمين؛ لا تنفي مراده عز وجل من أوليائه أن يتعبدوه بالتربص بأعدائه، والاستعداد للقائهم والانتصار عليهم، كما قال سبحانه: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ۖ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا ۖ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة:٥٢].

والمؤمنون ربما يفتقدون أسباب المخارج من النوازل، وقد يعجزون عن وسائل الأعمال التي تبنى عليها الآمال، مقارنة بما لدى الفجار من إمكانات المكر الكبار؛ ولذلك فسرعان ما يأتي الثأر والانتصار لهم على غير انتظار منهم، كما قال الله سبحانه: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [النحل: ٢٦]..

وحتى الرسل تُبتلى بالأعداء  إلى الحد الذي قد يبتعد فيه  الأمل والرجاء، لولا تدارك الرحمات الإلهية وفق هذه السنة الربانية؛  كما قال الله عز وجل:  { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:١١٠] وهي سنة جرت على الأولين من المؤمنين، كما هي جارية على من بعدهم إلى يوم الدين، كما قال سبحانه: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [البقرة:٢١٤].

وإذا كان البعض يتعجب من بعض ما سبق من الكلام؛ لكثرة وطول ما يرى من الأذى والابتلاء وشدة الإيلام؛ فإن الله يعجب من عجبهم لاستبعادهم الفرج من ربهم: ففي الحديث القدسي: (عَجِبَ رَبُّنا مِنْ قُنوطِ عِبادِه وقُرب غِيَرِهِ_ أي تغييره _ يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزِلينَ قَنِطينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ؛ يَعْلَمُ أنَّ فرَجَكُمْ قَرِيبٌ). رواه أحمد (١/ ٣٠٧) والترمذي. ٢٥١٨) وقال حسن صحيح. وقواه ابن تيمية وابن القيم وحسنه الألباني بمجموع طرقه في الصحيحة.

ومعنى قوله: (أزلين): الْأَزْلُ – بِسُكُونِ الزَّايِ -: الشِّدَّةُ. وَالْأَزِلُ عَلَى وَزْنِ كَتِفٍ هُوَ الَّذِي قَدْ أَصَابَهُ الْأَزْلُ، وَاشْتَدَّ بِهِ حَتَّى كَادَ يَقْنَطُ.

  9 – طوفان الأقصى وسنة التغيير:

لا يدري أحد ماذا ستكون عليه أحوال عالم اليوم بعد بضع سنين،  فتسارع حركة الأحداث العالمية وتقلباتها؛ تذكرنا بانقلاب أحوال العالم قبل البعثة النبوية في غضون سنوات معدودة، لسابق علم الله بقدوم النور بعد الظلام، وذلك عندما تغير وضع الزعامة العالمية من قيادة الفرس إلى قيادة الروم، تمهيدا لسيادة المسلمين خلال سنوات قلائل بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما أشار إليه القرآن في قول الله تعالى: {ألم (١)غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ} [سورة الروم ]..

لقد جاءت أخبار انتصار الروم على الفرس، في وقت انتصار المسلمين في غزوة بدر، التي كانت فاتحة لانتصارات المسلمين، ولهذا قال الله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) } [الروم].

والأمر كما قال الله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (الرحمن:٢٦). وهذه الآية تلاها النبي صلى الله عليه وسلم عند أصحابه فقالوا: وما ذاك الشأن؟ قال: (مِن شأنِه أنْ يغفِرَ ذَنْبًا ويُفرِّجَ كربًا ويرفَعَ قومًا ويضَعَ آخَرينَ) رواه ابن حبان (رقم /٦٨٩) بإسناد صحيح.

وأملنا ورجاؤنا إذا وضع الله أقوامًا ورفع آخرين.. أن يجعل ذلك عزًّا للإسلام ورفعة للمؤمنين..

إن العواصف التغييرية؛ تهب اليوم على غالب الساحات العالمية والإقليمية والمحلية في بقاع الأرض.. وبخاصة في بلدان العرب والمسلمين، التي لا نكاد نرى فيها بلدًا إلا وهو على شفا تغييرات جذرية وتحولات مفصلية..

وحتى النظام الدولي ذاته؛ نراه مقبلًا على تغييرات جوهرية، ستنتقل به غالبًا من حالة تفرد أمريكا بالقيادة الدولية _ إلى وضع التعددية القطبية، وهو ما ستتبعه حتمًا تحولات إقليمية ومحلية، في مرحلة ما بعد الثورات العربية..

 في تقديري أن هذه التحولات القائمة والقادمة؛ ليست إلا مقدمات لما بعدها من تغييرات كبيرة وكثيرة، ستتابع خلال المرحلة الانتقالية التي يشهدها العالم، بين زمان تسلط الجبر الدولي والإقليمي والمحلي، وبين مرحلة العودة الحتمية لتمكين الدين واستخلاف المسلمين.

فالخلافة (نعم).. الخلافة على منهاج النبوة.. قادمة قادمة؛ كما صحت بذلك الأحاديث، ولكنها لن تأتي فجأة بدون مقدمات، بل بين يديها تغيرات وتحولات يجريها الحق سبحانه لصالح أهل الحق من عباده، وفق قانون: {فاصبر فإن وعد الله حقٌّ} {وأن العاقبة للمتقين}.

   وهذه التحولات الكبرى، تحكمها لا محالة؛ سنن الله في التغيير، وهي سنن وقوانين تعم جميع الأجناس والأصناف والطوائف البشرية، إسلامية كانت أو كفرية، فردية أو جماعية، شرقية أكانت أو غربية..

فعندما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ.   حتى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم} [الرعد: ١١].. جاءت كلمة (قوم) لتعم كل قوم، فهم يخضعون طوعًا أو كرهًا لقوانين التغيير الربانية في السنن الكونية.. وكما قال الله سبحانه أيضًا: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:٥٣]

لذلك فإن سنن التغيير المبثوثة في القرآن، والمنثورة في السنة؛ تشير إلى أن التغيير في أحوال الناس قد يكون إلى الأحسن بالنسبة إلى قوم، وقد يكون إلى الأسوأ بالنسبة لآخرين، بحسب تعامل الناس مع أسباب الإصلاح في الدنيا، أو قواعد الفلاح في الآخرة..

ولهذا أيضا؛ لابد من استحضار قواعد السنن الحاكمة لمجرى التاريخ، لا لاستشراف المستقبل فحسب؛ بل لاكتشاف طرق تصحيح المسار، واستشفاف عوامل تجنب البوار والانهيار، والاعتبار بما كان فيما سوف يكون.

ولذلك قال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:٤٦].

قال ابن كثير في تفسيرها: ” ليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر، ولا تدري ما الخبر”.

المحور الثالث...طوفان الأقصى.. هل يبلغ مداه الأقصى…؟

 

وفي هذا المحور الأخير طرح فيه الدكتور عبد العزيز هذا السؤال المهم: طوفان الأقصى.. هل يبلغ مداه الأقصى…؟ وفي معرض الإجابة عليه قال:

 

عندما اختار مجاهدو فلسطين اسم (الأقصى) عنوانا لملحمتهم التاريخية ضد شر البرية؛ كان حقًّا على كل مسلم أن يوقن بأن المسجد الذي بارك الله حوله، سيتحول التاريخ عنده لصالح أهل الإيمان، كما تكرر ذلك طوال الزمان منذ بناه إبراهيم عليه السلام..

  كل المؤشرات تؤكد أن معركة طوفان الأقصى أو تفاعلاتها على الأقل؛ ستتمدد وتتطور وتطول، لتتحول من أحداث تخص جزءًا صغيرًا من فلسطين؛ إلى أزمات واسعة المدى، لها أبعادها العالمية والإقليمية، وكذلك تداعياتها الداخلية في الدول المحيطة بكيان الاحتلال.

فطوفان الأرض المباركة مرشح للتحول إلى ثوران إقليمي حولها، ثم بركان عالمي تتغير موازين القوى حيالها،  هذا إن لم ينته الطغاة عن طغيانهم  ومحادتهم لأولياء الله، كما قال الله تعالى: (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ ۚ نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ  ( (40) الأنفال.

والمعنى ـ كما قال الطبري ـ وإن يعد هؤلاء المشركون لقتالك بعد الوقعة التي أوقعتها بهم يوم بدر؛ فقد مضت سنتي في الأولين منهم ببدر، ومن غيرهم من القرون الخالية، إذ طغوا وكذبوا رسلي ولم يقبلوا نصحهم، من إحلال عاجل النِّقَم بهم، فأحلّ بهؤلاء إن عادوا لحربك وقتالك، مثل الذي أحللت بهم ” انتهى كلامه.

 

وفي حال استمرار الحرب واتساعها لما هو أبعد من غزة، فهناك توقعات، من باب التحليلات لا التنبؤات، مستقاة من استشراف ما قد يكون في ضوء ما قد كان، وما عهدناه في هذا الزمان الكثير التقلب والمتسارع في الترقب، إضافة لعموميات فقه السنن التي تجري عليها قوانين التاريخ ونواميس الزمن.

 

  • فعلى المستويات الداخلية:

فإن البلدان المعنية بما كان يسمى بـ(الصراع العربي الإسرائيلي) والتي شكلت عبر ما مر من هذا الصراع (دول الطوق) الحامي لكيان الاحتلال بدلًا من الحماية منه؛ سيجري جرُّ أنظمتها طوعًا أو كرهًا للعودة لصراع آخر بصور جديدة، وهو ما سيطيح بمخرجات استراتيجيات السلام الموهوم والتطبيع المزعوم، خاصة إذا جرى البدء في تنفيذ مخطط (الوطن البديل) للفلسطينيين في سيناء والأردن.

  •  وأما على المستويات الإقليمية:

فإن الهزيمة الإسرائيلية خلال الأيام الأولى لطوفان الأقصى؛ كانت أيضًا هزيمة أمريكية، باعتبار أن كيان العدوان هو في الأصل قاعدة عسكرية متقدمة للأمريكان في صورة دولة.

ولأن إيران ـ لمكرها ـ عدَّت ما جرى انتصارًا لها قبل غيرها؛ فالمترجح التحرش بها واستدراجها للمواجهة من قبل الحشود العسكرية الأمريكية والغربية التي يتوالى وصولها إلى المنطقة.

** ولاشك أن العواصم العربية التي احتلتها إيران، واصطنعت فيها أذرعتها العسكرية تحت مسمى (محور المقاومة) في بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء؛ ستظل أنظمتها تحت خط النار، إذا ما تقرر كسر شوكة طهران، بعد أن تخطت الخطوط الحمراء التي رُسمت لها بانضمامها إلى تحالف المعسكر الشرقي الجديد، الجامع بين الأعداء الألداء لأمريكا والغرب، وهم الصين وروسيا وكوريا الشمالية.

  •  وأما على المستويات العالمية:

فإن الحشود العسكرية الأمريكية والبريطانية الضخمة، لم تأت لمجرد مساندة عصابات نتنياهو المذعور المقهور من مباغتة المقاومة الإسلامية لجيش اليهود على غرة، وكذلك فإن إرسال أمريكا للعديد من حاملات الطائرات إلى شرق المتوسط بكامل التسليح البري والبحري؛ وبصحبة آلاف من المقاتلين من قوات المارينز وتأهب أضعافهم للطوارئ، مع قدوم قوات بريطانية بحرية للدعم والإسناد، وقول بايدن بأن الحرب ستطول؛ وقول وزير خارجيته بأننا نخوض حربًا دينية، كل هذا يدل على أن الحرب صارت عندهم أكبر من تل أبيب، وأبعد من غزة..

ومن الواضح أيضًا أن تلك الحشود المتصاعدة المتزايدة؛ ليست مجرد استعراض للقوة الغربية في وجه ما يسمى (محور المقاومة) بزعامة إيران، ولكن المقصود ما وراء إيران اليوم، وهو (محور المعسكر الشرقي الجديد) الآخذ في البروز والتحدي.

لذلك ستظل إيران متحسبة لضربات قاصمة طال تأجيلها، وستبقى روسيا متأهبة لخلط الأوراق بعيدًا عن حدودها، والصين كذلك ستراقب متربصة ومتحفزة، بل قد تحرك المسار في جزيرة تايوان، إذا تعرض حلفاؤها الرئيسون لأي هجوم أو عدوان.

وهذا يعني أن الأمور قد تتدحرج نحو صراعات عالمية، سيرى الناس بداياتها، ولا يعلم غير الله نهاياتها..

 

** أما طوفان الأقصى الذي بدأ ولم تنته تداعياته ونتائجه بعد؛ فلم تتفجر موجاته إلا بعد أن بلغ الظلم المتعدد الأطراف مداه، وهو ما يستدعي جريان سنن الله، في الانتقام من الظالمين.

** فنوح – عليه السلام – عندما دعا ربه: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} جاء الطوفان العظيم بالانتقام ليبقى تذكرة للمؤمنين {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (١٥) [سورة نوح].

وهكذا تجري سنة الله في الأولين والآخرين بهلاك المجرمين بعد نصر المؤمنين.: {فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم:٤٧).

فاللهم نصرًا وعزًّا لهذا الدين.. وهزيمة وذلًّا لتحالف الكفار والمنافقين.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

زر الذهاب إلى الأعلى