العبودية المعاصرة
بناء الأهرامات معجزة هندسية وفنية بكل المقاييس المعتبرة،
ولكن فيها جانبا مُظلما يقلُّ الحديث عنه:
مَن هم العمال والفنيون والمهندسون الذين شاركوا في البناء؟
المسألة أن “العبودية” لا تعني بالضرورة شظف العيش والحرمان، فكم من الأغنياء والمهرة والمثقفين والموهوبين عبيد؟ حتى في حياتنا المعاصرة؟ السبب في ذلك: هو ما يعتقدونه ويؤمنون به.
وماذا كانت دوافعهم؟
هناك رأي يقول إنه تم استعبادهم بالسخرة لينجزوا هذا العمل الهائل،
ولكن أكثر علماء الآثار والمصريات يرون أن هؤلاء الآلاف لم يكونوا “عبيدا”، إنما كانوا عمالا وفنيين مهرة، وتُظهر بعض الآثار من القرى المجاورة للأهرام أنهم كانوا يعيشون في بيئة توفر لهم رعاية غذائية وصحية عالية.
المسألة أن “العبودية” لا تعني بالضرورة شظف العيش والحرمان،
فكم من الأغنياء والمهرة والمثقفين والموهوبين عبيد؟
حتى في حياتنا المعاصرة؟
السبب في ذلك: هو ما يعتقدونه ويؤمنون به.
حتى لو كان عشرات الآلاف من عمال الأهرام على امتداد عشرين سنة، يبنون مقبرة لحاكمهم، عن رضا ورغبة، فإن هذا لم يحدث إلا لاعتقادهم أن رفاهية الملك في انتقاله للحياة الآخرة من شأنها أن تحفظ البلاد والعباد من بعده!
وبعيدا عن سخف مثل هذا الاعتقاد، إلا أنه جعلهم ينجزون هذا المشروع الهائل بإتقان وبراعة محيرة.
الأحرار قد يتحولون إلى عبيد بقهر القوة الغالبة،
أو بقهر الفكرة المسيطرة.
حتى في عصرنا الحالي، فإن النظم الشمولية، أو غيرها لا يمكنها التحكم في الخلق إلا بإحدى هاتين، أو بهما معا.
تعريف
إن استعداد المحاربين اليابانيين، بما في ذلك الساموراي قديما، وجنود الجيش النظامي في وقت لاحق، للتضحية بحياتهم من أجل إمبراطورهم كان متجذرًا في مزيج من المعتقدات الدينية (وخاصة وجهة نظر الشنتوية في ألوهية الإمبراطور، وقانون بوشيدو للولاء والشرف)، فجعلت مثل هذه الأفعال من الولاء والتضحية جزءًا من التاريخ الياباني، يجسد في حقيقته عبودية طوعية بقهر الفكرة المسيطرة، عبودية لإنسان مثلهم ربما لا يعرفونه وقد لا يلتقون به أبدًا.
يمكن القول بأن تعريف العبودية (المادية التقليدية): أنها حالة الملكية لشخص آخر وإجباره على العمل لصالحه أو طاعته
وقريب من هذا، كان شأن الأوروبيين في العصور الوسطى، عندما تجذرت فكرة التضحية بالنفس من أجل البابا أو الكنيسة الرومانية أو من أجل روما، على أنها الفعل النهائي للتفاني والخدمة لله. كان كثير من عامة الناس ينظرون إلى البابا باعتباره نائب المسيح على الأرض، أو يقدسونه كممثل لله، وغالبًا ما كان الولاء للبابا أو الكنيسة ينطوي على واجبات دينية تتجاوز الحدود السياسية أو الوطنية.
في العصر الحديث ظهرت أشكال أخرى من العبودية المُقنَّعة، أكثر أناقة وخفاءً، فاستبدلت بعض أشكال الرأسمالية الغربية عبودية الأجر والراتب، بعضلات العبيد السود، فتم تسخير الملايين – مع سد رمقهم وإشباع بعض شهواتهم – من أجل طبقة مهيمنة. وحتى تلك الشهوات، كثير منها مفتعل، يتم حقنها بأنماط استهلاكية زائفة تعمد إلى تسليع ما لا قيمة له عبر الترويج اللحوح. وفي الشرق استطاعت القوى الاستعمارية تدجين شعوب وحقنها بالقابلية للاستعمار، فَلان قيادها وتسخيرها وهي تحسب أنها مُحررة. وفي بعض ما يسمى بالعالم الثالث، ابتكروا عبودية “المواطن المستقر” الذي يرضى ويستلذ حنظل العبودية على عسل الحرية.
إذن يمكن القول بأن تعريف العبودية (المادية التقليدية): أنها حالة الملكية لشخص آخر وإجباره على العمل لصالحه أو طاعته، وقد شملت أشكالا متنوعة في أزمنة لاحقة لكل عمل يُجبَر الناس على القيام به رغمًا عن إرادتهم، مثل: العمل القسري، والزواج القسري.
وأما العبودية الحديثة فإنها حالة الملكية المعنوية لعقل شخص آخر وإجباره على العمل لصالحه أو طاعته، وقد أخذت أشكالا عديدة في الماضي، ولعل بدايتها كانت مع الحروب الصليبية، عندما انتبهت أوروبا إلى أن غزو العالم الإسلامي لا يكفي أن يكون عسكريا، ولكن لابد من اختراقه ثقافيا. بدأ الأمر بجهود متواضعة لبعض المستشرقين، وما لبث أن تحول إلى أداة مهمة، وصلت في القرون اللاحقة إلى ما يمكن تسميته بالغزو الثقافي، والذي أدى لنشوء حالة من “العبودية الثقافية”، نشأت عن الهزائم العسكرية والثقافية التي أصابت أمتنا، وكان من مظاهرها احتقار المرء لذاته وعقله وبيئته ونفسه، ترجمة للفكرة الخلدونية عن ولع المغلوب بتقليد غالبه.
هذه العبودية “الفكرية” أخذت أشكالا ومستويات، ما لبثت أن تغولت في عصرنا الحالي مع تغلغل أدوات ومنصات التواصل الاجتماعي، التي يمكنها تشكيل العقل الجمعي، وميوله وحواضنه البيئية، وهو ما أدى إلى ما نعيشه الآن ونعاين فيه العبودية المعاصرة.
العبودية المعاصرة
مع السيطرة الفائقة لمنصات التواصل الاجتماعي، بدأت تتشكل عبودية أشد تعقيدا وتمكنا، لسهولة إمكانية تخطيط وتسليط الفكرة القاهرة.
ويمكن للفكرة القاهرة التي يتم هندستها عبر منصات التواصل أن تتسلل وتقنع فئات من الناس حتى لو خالفت المعلوم من التاريخ والحياة بالضرورة!
كتب العبقري إدوارد سنودن مؤخرا في تغريدة راصدة لتوجهات منصات التواصل: “إن الاتجاه الذي يسلكه مجتمع الإنترنت نحو التطور يقودنا بعيدًا عن الناس الاستثنائيين الذين يتقاسمون معتقدات فريدة، ونحو طغيان الإنسان العادي (السطحي التافه الذي يسهل قياده). إنه تفضيل قوي للـ”عادي” إلى الحد الذي يُطفئ التميز. إن هذا من شأنه أن ينشئ ولاء قاسيا لهذا النمط”.
ويمكن للفكرة القاهرة التي يتم هندستها عبر منصات التواصل أن تتسلل وتقنع فئات من الناس حتى لو خالفت المعلوم من التاريخ والحياة بالضرورة! ولأن كل مستخدمي منصات التواصل توجد ملفات شخصية لكل منهم تصف أحواله وفكره وميوله، فإن خوارزميات (أو قل برمجيات) المنصات بلغت درجة من الدقة والدهاء للتأثير (أو قل التحكم) في عقول وأمزجة المستخدمين، يصعب وصفها أو تحديدها. أحد الأمثلة ربما يقرب الفكرة:
في عام ٢٠١٧ عقدت لجنتا الاستخبارات بمجلسي الشيوخ والنواب الأمريكي يوم ٣١ أكتوبر ٢٠١٧ جلستي استماع علنية استجوبت فيها ثلاثة مسئولين كبار في شركات جوجل وفيسبوك وتويتر حول مسئوليتها عن التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام ٢٠١٦ من خلال هذه المنصات الشهيرة[1]. لقد مثلت وقائع الاستجواب لحظة نادرة لوضع هذه الشركات العملاقة تحت دائرة الضوء والمحاسبة وكشفت عن لاعب قوي جديد ليس على الساحة الأمريكية فقط، وإنما على الساحة الدولية، وقد يكون إيذانا بنظام عالمي جديد. قدم بعض النواب أمثلة صارخة للتأثير في ميول الناخبين، منها مثال عن بعض الإعلانات الروسية المباشرة في إثارة الكراهية ضد المسلمين. ذلك الإعلان المدفوع تحت لافتة (ادعموا هيلاري – أنقذوا المسلمين الأمريكيين) دعا لتظاهرة أمام البيت الأبيض يوم ٩ يوليو ٢٠١٦ وكانت خطة الإعلان استهداف مؤيدي هيلاري كلينتون أو الإخوان المسلمين على فيسبوك ممن يسكنون في مقاطعات معينة في واشنطن. هكذا طلب الروس في إعلانهم استهداف هذه الفئة تحديدا، ليظهر الإعلان أمامهم على صفحاتهم. وقد كان، وافقت فيسبوك على الإعلان (بأقل من مائتي دولار). تفصيل الإعلان على هذا النحو فيه إشارة إلى امتلاك فيسبوك لبيانات جاهزة بهذا التفصيل النوعي الدقيق، وأنها قادرة أيضا على عرضه على المعلنين. هذا كله كان منذ ثماني سنوات، فكيف وصل الأمر الآن؟
دعني أقدم لك ثلاثة أمثلة حديثة تبين في مجموعها حالة السيطرة (التي ترقى للاستعباد) التي تملكها هذه المنصات:
الأول: في هوجة الانتخابات الأمريكية الأخيرة، شن إيلون ماسك ومريدوه يوما هجمة خاطفة لإثبات أن الإمبراطورية البريطانية، في نواح كثيرة، كانت قوة من أجل الخير، (ونتصور أن فائدة هذا الطرح العجيب هو إثارة نعرة التفوق الأبيض التي فيها النواة الصلبة لمؤيدي ترامب). وتم حشد رموز علمية وتاريخية (!) لهذه الفكرة لتؤكد أن الإمبراطورية البريطانية في كل بلد احتلته:
- رفعت مستوى المعيشة
- طورت البنية الأساسية
- عززت التعليم
- كما أنهت بمفردها العبودية في معظم أنحاء العالم!
وكان لافتا ذكرهم لمحاسن الاحتلال البريطاني للهند! بل ويتعجبون من الهنود ناكري جميل الإمبراطورية التي منحتهم هوية دينية (الهندوسية) واخترعت لهم لغة خاصة بهم (الهندية) بعد أن كانوا يتكلمون ويكتبون بلغة المسلمين (الأردو)[2]. وترى الترويج الواسع لهذه الفكرة المضللة، ولا تجد فيها مساحة للحقائق الدامغة عن فظائع الاحتلال البريطاني في أي مكان حل وأي بلد نزل، ولا حتى في الهند التي قام أهلها بثورات دامية عديدة ضد الاحتلال البريطاني، منها ثورة ١٨٥٧ وحدها التي – بحسب التقديرات البريطانية – قتل فيها ثمانمائة ألف هندي[3]. والشاهد هنا، أن خوارزميات منصات التواصل يمكنها تشكيل أفكار قاهرة، ثم ترويجها والإلحاح عليها، وفي نفس الوقت تضييق وصول أي أفكار مضادة لها، مما يؤدي – في جملته – إلى استعباد عقول ونفوس دون إرغام مادي أو إجراءات عنيفة.
إلى هذا الحد يمكن تزييف الحقائق والتاريخ، لتشكيل عقول وقناعات الناس، أو قل لاستعبادهم لأداء معين، يصل إلى تشكيل نمط حياة معينة بالكامل.
الثاني: خوارزميات لوسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تؤثر على المستخدمين تجاه سلوكيات معينة، بما في ذلك الخيارات المتعلقة بالصحة والمعتقدات الدينية والسياسية. وقد أبرزت الأبحاث من مصادر مختلفة كيف تشكل هذه الخوارزميات ما يراه المستخدمون، وتروج أحيانًا لمحتوى يمكن أن يؤثر على القرارات الطبية أو وجهات النظر الدينية والسياسية.
وقد اكتشف ملاك هذه المنصات أنهم يمتلكون فرصة لهذا التأثير العميق على الأطفال والمراهقين أيضا، مما يمكنهم من تشكيل عقولهم الغضة مبكرا، وهو ما يرقى إلى سلوك في غاية الوحشية
التأثير المتعلق بالصحة يكون مصمما لتوجيه الناس لاستخدام عقاقير معينة، والتي بدورها تكون لإحداث تأثيرات جسدية ونفسية مرسومة. وقد وجدت دراسة أجراها مركز مكافحة الكراهية الرقمية (CCDH) أن خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي تعمل عمدا على تضخيم المعلومات المُضلِلة حول الموضوعات الصحية. وتشير الأبحاث المنشورة في مجلة Nature إلى أن الخوارزميات على منصات مثل يوتيوب وفيسبوك وإنستجرام يمكن أن تقود المستخدمين إلى “حفر الأرانب” (rabbit holes) من المعلومات الصحية المضللة. تعطي الخوارزميات الأولوية للمشاركة، وغالبًا ما تعمل على تضخيم المحتوى الذي يثير ردود فعل عاطفية قوية، حتى لو كان مضللاً[4].
وقد اكتشف ملاك هذه المنصات أنهم يمتلكون فرصة لهذا التأثير العميق على الأطفال والمراهقين أيضا، مما يمكنهم من تشكيل عقولهم الغضة مبكرا، وهو ما يرقى إلى سلوك في غاية الوحشية. وقد أثارت الموظفة السابقة في فيسبوك فرانسيس هاوجن (Frances Haugen) مخاوف جدية بشأن خوارزميات إنستجرام وتأثيرها على الصحة العقلية للمراهقين. وسلطت الضوء على أن نظام التوصية في إنستجرام يمكن أن يضخم المحتوى المتعلق بقضايا صورة الجسم وإيذاء النفس وحتى الأفكار الانتحارية، وخاصة للمراهقين المعرضين للخطر. وأوضحت هاوجن أن خوارزميات إنستجرام مصممة لزيادة مشاركة المستخدم، مما يؤدي غالبًا إلى عرض محتوى يثير استجابات عاطفية قوية. بالنسبة للمراهقين، يمكن أن يعني هذا نزولًا سريعًا إلى محتوى ضار، حيث تفسر الخوارزمية أي مشاركة – مثل عرض أو الإعجاب بمحتوى يتعلق بالحزن أو صراعات صورة الجسم – كعلامة لإظهار المزيد من هذا المحتوى.
وقد أكدت الأبحاث ادعاءات هاوجن، حيث أظهرت أن المراهقين الذين يتفاعلون مع محتوى سلبي أو ضار يتعرضون لاحقًا لصور أو مشاهد فيديو أو رسائل أشد خطورة، والتي يمكن أن تشمل موضوعات خطيرة مثل إيذاء النفس أو اتباع نظام غذائي شديد. وقد أكدت علم الإدارة بحالات انتحار كثيرة لمراهقين ومراهقات بسبب ما يتم الضغط عليهم به نفسيا من منشورات تتلاعب بضعفهم ونقاط ضعفهم! أضف لهذا التصميم الإدماني لبعض هذه الخوارزميات، مما يوقع هؤلاء الصغار أسرى، في شكل مروع من العبودية الحديثة. وشهدت هاوجن لاحقا أمام الكونجرس أن تغييرات خوارزمية المنصة في عام 2018 أعطت الأولوية للمشاركة والتفاعل المرتفع على سلامة المجتمع، مما أدى إلى زيادة التعرض للمحتوى الخطير الاستقطابي.
الثالث: الاستقطاب المجتمعي السياسي: أظهرت دراسات من جامعة ستانفورد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تخلق ما يسمونه “غرف صدى” (echo chambers) حيث يتعرض المستخدمون في المقام الأول لوجهات نظر مماثلة لوجهات نظرهم، مما يعزز ويضخم المعتقدات السياسية. تتعلم الخوارزميات تفضيلات المستخدمين وتعطي الأولوية للمحتوى المماثل، مما يؤدي أحيانًا إلى وجهات نظر متطرفة أو يؤدي لحالة استقطاب مجتمعي حادة. على سبيل المثال، وجد تقرير من مركز بيو للأبحاث أن المستخدمين أكثر عرضة لعرض محتوى سياسي يتماشى مع تفاعلاتهم السابقة[5].
خلال انتخابات الولايات المتحدة لعام 2020، أشار تقرير صادر عن Avaaz، وهي مجموعة مناصرة عبر الإنترنت، إلى أن خوارزمية فيسبوك سمحت بانتشار معلومات مضللة حول التصويت بالبريد ونتائج الانتخابات على نطاق واسع. وأظهر التقرير أن الروايات الكاذبة، بما في ذلك مزاعم الاحتيال على نطاق واسع في التصويت، تم تضخيمها بشكل غير متناسب. وقد تردد صدى هذا البحث من خلال النتائج التي توصل إليها مركز جامعة نيويورك لوسائل التواصل الاجتماعي والسياسة، والذي أفاد بأن خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دورًا مهمًا في تشكيل آراء المستخدمين حول نزاهة الانتخابات. وفي التحقيقات الذي أجراها الكونجرس بشأن أحداث ٦ يناير ٢٠٢١، قال عدد من المتهمين بأعمال عنف في اقتحام الكونجرس، إنهم كانوا يؤمنون فعلا بتزوير الانتخابات. الاستقطاب المجتمعي الذي يمكن أن يفضي لحرب أهلية، قد تكون بذوره وشرارته مما تم هندسته في خوارزميات منصات التواصل. وقد سربت فرانسيس هاوجن، وثائق داخلية في عام 2021 تُظهر أن فيسبوك كان على دراية بدور خوارزمياته في الترويج للمحتوى المثير للانقسام والضار.
من الممكن ان يؤدي طرف خيط هذه الممارسات البشعة إلى مصالح مالية ضخمة، لكن ربما يكون الأمر أسوأ من هذا بكثير.
(ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه)
العبودية لا تكون إلا لله تعالى، ولا تقبل أن يُزاحمها في قلب عبد معبود آخر. كن حرا حقيقيا، ولا تكن عبدا لمخلوق مثلك، سواء كان إنسانا أو كيانا أو منصبا أو جاها أو شهرة أو مالا أو هوى. وهذا الأخير (الهوى) قد يكون خفيا بحيث لا ينتبه مَن يعبده لوجوده، والله تعالى يصف حاله، فيقول (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)، هكذا بالصراحة المباشرة التامة.
الناس كلهم من خلق الله تعالى، وهم عبيد لربوبيته شاءوا أم أبوا، فهو سبحانه خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم. أما المؤمنون فهم بالإضافة لعبودية ربوبيته، هم أيضا عبيد إلهيته، وهذه تسمى عبودية المحبة والطاعة واتباع الأوامر.
وأشكال المعبودات لا تنحصر، ومنها الشهوات المادية والمعنوية، ومنها الممتلكات والمقتنيات، كما في قصة صاحب الجنتين، الذي أسَرَته ثروته وشعر أنه ضمن بها مستقبله، حتى قال (ما أظن أن تبيد هذه أبدا)، ثم لما حدث ما حدث وهلكت ثروته، ندم وانتبه إلى عبادته لها، فقال (يا ليتني لم أشرك بربي أحدا)
مراتب العبودية
مقامات ومراتب العبودية كثيرة، وقد أوصلها ابن القيم في مدارج السالكين إلى خمس عشرة مرتبة[6]، وقصد بها عبودية القلب واللسان والجوارح، وفرع على كل واحدة منها الأحكام الخمسة التي للعبودية من: واجب، ومستحب، وحرام، ومكروه، ومباح، ثم فصل القول فيها، فقال: فواجب القلب منه متفق على وجوبه، ومختلف فيه. فالمتفق على وجوبه كالإخلاص، والتوكل، والمحبة، والبر، والإنابة، والخوف، والرجاء، والتصديق الجازم، .. إلى آخر كلامه رحمه الله.
ويمكن النظر لمراتب العبودية باعتبار تفاضل مراتبها وأجورها في الآخرة، وفي هذا جوانب كثيرة:
- فعبادات القلب تأتي في المقدمة، إذ يترتب عليها قبول الأعمال ابتداء (ألا لله الدين الخالص) ومحبة الله تعالى التي هي مفتاح كل خير (إن الله يحب المحسنين)، (فإن الله يحب المتقين)، (والله يحب الصابرين)، (إن الله يحب المتوكلين).
- ثم أعلى أعمال الجوارح، ما كان فيه بذل وفداء، وعلى رأسها الجهاد في سبيل الله (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)، (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم).
- ومن مراتبها الأخلاق الحسنة، وهي التي في أغلبها عطاء بلا أخذ دنيوي، ومنها: معاشرة الناس بالتي هي أحسن، فتأخذ العفو وتأمر بالعرف وتعرض عن الجاهلين، وتكظم غيظك وتعفو عمن أساء إليك، فإن حسن الخلق من أهم العبادات وأولاها بالعناية، والعبد يبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم، وما من شيء أثقل في ميزانه من حسن الخلق. وأقرب الناس مجلسا من رسول الله في الآخرة أحاسنهم أخلاقا، كما ثبت ذلك كله عن النبي صلى الله عليه وسلم.
كن حرا حقيقيا
الناس كلهم من خلق الله تعالى، وهم عبيد لربوبيته شاءوا أم أبوا، فهو سبحانه خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم. أما المؤمنون فهم بالإضافة لعبودية ربوبيته، هم أيضا عبيد إلهيته، وهذه تسمى عبودية المحبة والطاعة واتباع الأوامر.
ولعل العبارة الباهرة التي رويت عن ربعي بن عامر رضي الله عنه، في بعض أحداث القادسية[7]، لما دخل على رستم القائد العسكري للفرس، فسأله رستم: ما جاء بكم؟
فقال ربعي: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
هذه العبارة القصيرة الجامعة، وهذا الوصف الدقيق بأن الإسلام يخرج الناس (من عبادة العباد إلى عبادة الله) يصف حقيقة العبودية التي كانت، والتي نشهدها أيضا في عصرنا الحديث، وإن كانت بصورة مختلفة، لكن حقيقتهما واحدة، إلا أن نقول إن العبودية المعاصرة أشد تحكما واستعبادا وحصارا.
[1] https://ruyaa.cc/Page/1714/
[2] تأصيل (أو اختراع كما سموها هؤلاء المتعصبون) اللغة الهندية، قام به بالفعل اللغوي البريطاني جون جيلكريست حيث قام بدراسة اللغات الهندية المحلية، ومن ثم قام بتجميع وتأليف قاموس إنجليزي هندوستاني، ووضع قواعد اللغة الهندوستانية، ونُشر معجمه للغة الهندوستانية بالخط العربي، والخط النجاري، وبالحرف اللاتيني، مما أدى إلى اعتمادها كلغة مشتركة لشمال الهند (بما في ذلك باكستان الحالية) من قبل المستعمرين البريطانيين. كان الهدف الكولونيالي من هذا هو (فرق تسد)، ولا يفرق بين شعب واحد شيء أكثر من اللغات المختلفة.
[3] https://en.wikipedia.org/wiki/Indian_Rebellion_of_1857
[4] https://news.northeastern.edu/2021/09/20/negative-effects-of-instagram/
[5] https://www.carlsonattorneys.com/news-and-update/instagram-harm-teen-mental-health
[6] مدارج السالكين – فصل مراتب العبودية وهي خمس عشرة مرتبة – ١/ ١٢٩
[7] https://islamarchive.cc/shamela_view/23708?pid=5053858