اختطاف الحركة الإسلامية
الحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبي بعده.
وبعد:
فإن الفكـرة المستندة إلى الـوحي المعصـوم في تقـريرها، والاستدلال لها، فكرة خالدة، تستمد بقاءها من بقاء الحق وقِدَمِهِ ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ۗ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرً﴾ [الإسراء:105].
والفكرة الحق عند من آمن بها تعلو ما عداها، وتسمو فوق ما سواها، وتظفر بمن ناوأها وعاداها، وهي تُنْشئ واقعًا يستند في وجوده إليها، ويقوم في بنائه عليها، وبقدر ما تكون الفكرة نقيةً، والممارسات المبتنية عليها مسدَّدة، تنشأ معارضات وعداوات من الباطل وأهله، من ذلك ما يدفعه الحسد، ويرفده الحقد ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة:109].
﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [البقرة:105].
﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ۖ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ۖ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾ [النساء:89].
ومن ذلك ما يتسبَّب فيه الجهل والضلال معًا.
«لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ؛ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا»([1]).
وإذا سمَّاهم الله تعالى في كتابه: «مغضوبًا عليهم»؛ لتنكُّب طريق الحق بعد تبيُّنه، وسمَّاهم «ضالين»، فهل يتأتَّى بهداهم اقتداء، وهل يطلب سؤالهم في حال الابتداء أو الانتهاء؟!
ولو أن الأمر توقَّف عند حسدٍ، أو حقدٍ، أو غلٍّ، لربما هان الخَطْب، وخفَّ الكرب إلا أن الواقع يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران:118].
﴿إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ [الممتحنة:2].
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة:217].
وكل ما تقدَّم يبـرهن على أن الحرب على الإسلام، وفكرته، وأهل ملَّته، قديم قِدَم بعثة سيد الأنام ﷺ ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾ [الفرقان:31].
﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ۖ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [الأنعام:123].
ومن صور ذلك المكر الكُبَّار، وكيد الليل والنهار: الحرب على الفكرة الإسلامية الأمثلية ومن يمثِّلها اعتدالًا واتزانًا في صورة الحركة الإسلامية المعاصرة المنضوية تحت راية أهل السُّنة والجماعة على تعدد مدارسها الدعوية، وتنوُّع اهتماماتها العملية.
إن الحرب على الفكرة الإسلامية وما يمثِّلها من الحركة والدعوة، واختطافها جهةَ الغلو والتطرف، وتصويرها على أنها عنفٌ ولَّد حركةً، وتطرفٌ أنشأ دعوةً، وغلوٌّ تمثَّل في تيارٍ، كل ذلك من مكر الأعداء ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾ [إبراهيم:46].
إن اختطاف الإسلام في حركاته الدعوية باغتيال وسطيتها واتزانها إنما هو تهديدٌ لوجوده، وتسويغٌ لاستهدافه، وسعيٌ في استئصاله ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال:30].
وفـي هذا البحث أضواءٌ على هذه القضية، وقد انتظمت مفاصله في البحوث التالية:
– تاريخ الحرب على الحركة الإسلامية، وفكرتها الأصلية.
– اختطاف الحركة الإسلامية: الأسباب والبواعث.
– استراتيجيات وأهداف الاختطاف.
– القوى الفاعلة في الحرب على الحركة الإسلامية.
والله تعالى غالب على أمره، وهو سبحانه من وراء القصد،
والحمد لله رب العالمين.
الحركة الإسلامية وفكرتها الأصلية
إن الحرب على الفكرة الإسلامية المعتدلة التي تحملها الحركة الإسلامية بجماعاتها وهيئاتها الدعوية والفكرية قديمةٌ قِدَمَ الحركة الإسلامية ذاتها.
وإذا أرَّخنا لهذه الحركة الإسلامية المعاصرة من جذورها الأولى، فإننا سنذكر حركة الشيخ محمد بن عبد الوهَّاب في الجزيرة العربية، وحركة الشيخ محمد بن علي السنوسي في ليبيا، والحركة المهدية في السودان، وحركة الشيخ عثمان بن فودي في غرب أفريقيا، وكلها حركات في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين.
ثم لا بد أن نذكر ما جاء بعد ذلك في القرن الرابع عشر مما يمثل جسم هذه الحركة الإسلامية في شتَّى الأقطار والديار، ومن ذلك:
حركة الإخوان المسلمين، وجماعة أنصار السُّنة المحمدية، والجمعية الشرعية، وكلها تأسَّست بمصر، وحركة بديع الزمان سعيد النورسي في تركيا، والجمعيات السلفية في شبة القارة الهندية (أهل الحديث، والجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية، وجماعة التبليغ والدعوة في شبه القارة الهندية، وما تفرَّع عنها وانفصل من جماعاتٍ ودعواتٍ وحركاتٍ وجمعياتٍ عمَّت الوطن الإسلامي بأَسْره، بل وامتدت إلى الوجود الإسلامي خارج دياره في أوروبا وأمريكا وأستراليا وكندا وغيرها.
ولقد عمَّت هذه الحركة الإسلامية، وطَبَقت على الأرض بأمر الله وتوفيقه، وظهرت آثارها جَليَّةً جليلةً في تديُّن واسع بين الشباب، وتنامٍ مشهودٍ للوعي بمؤمرات أعداء الأمة، وتأثير ملحوظ على الحياة بكل مجالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وثقة واعتداد بالحضارة والثقافة العربية والإسلامية.
وبعض تلك المظاهر كافٍ في اشتعال عداوات وتأجيج محنٍ وثاراتٍ، تعود إلى الصليبية تارة، وللصهيونية أخرى، وللعلمانية ثالثة!
إن صعود الحركة الإسلامية بمدارسها وتوجيهاتها المختلفة يعود إلى مجموعاتٍ من الأسباب تتعلق بذاتية الإسلام، كما تتعلق بالظرف السياسي الذي تمرُّ به الأمة، كما ترتبط بالضغط على الإسلام وأهله!
وأخيرًا: فإنَّ هذه الحركة وصعودها العالمي إنما هو قدر الله الغالب الذي لا يغالب، وهو في جوهره ومظهره وفاءٌ عاجلٌ للوعد الإلهي بحفظ الدين، وتمكين أهله.
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور:55].
وما الحركة الإسلامية إلا مظهر عظمة الإسلام، وحيويَّته، وقدرته على التجدُّد، واستعصائه على الفناء، وأصالته بأصالة الحق الذي يحمله، والخير الذي في جوانبه.
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران:110].
وأيًّا ما كانت أسباب الصعود الإسلامي، والظهور الواسع للحركة الإسلامية في المئة سنة الأخيرة، فإن هذا استدعى عداءً هائلًا في ميادين كثيرة، وبأساليب عديدة، ترجم عنها ما لَقيَتْه تلك الحركات والدعوات والشخصيات الكبـرى من عنتٍ وفتنٍ ومحنٍ ازدادت حدَّتها شيئًا فشيئًا حتى إذا وصلت الحركة الإسلامية للحكم، أو شارفت عليه في مواقع عديدة في السودان وأفغانستان وماليزيا وتركيا وغزة ومصر وتونس والمغرب وغيرها، تفجرت حرب عالمية شعواء على الحركة الإسلامية بمختلف تجليَّاتها، وحضورها المعاصر.
واتَّخذت تلك الحرب وجهًا فكريًّا، كما اتخذت وجوهًا عسكريةً وسياسيةً واقتصاديةً!
ومن عجبٍ أن يتحدث العسكريون عن الوجه الفكري للحرب على الحركة الإسلامية!
فمن ذلك ما قاله (دونالد رامسفيلد) وزير الحرب الأمريكي في خريف عام 2003م، وأكَّده في ربيع عام 2006م، وقد دارت رحى آلته العسكرية على بلاد الأفغان وبلاد الرافدين، فقال: «نحن نخوض حرب أفكارٍ، كما نخوض حربًا عسكريةً»([2]).
وعلى منواله نسجت وزيرة خارجيته (كوندا ليزا رايس) في مقالتها في شتاء 2005م حين عبَّرت بوضوحٍ أكثر، فقالت: «إننا ضالعون في حرب أفكارٍ أكثر مما نحن منخرطون في حرب جيوشٍ»([3]).
وهذا الموقف ليس خاصًّا بأمريكا، بل هو موقفٌ عالميٌّ عبَّر عنه أيضًا (توني بلير) رئيس وزراء بريطانيا بقوله: «إن الوقت قد حان لتتوحَّد إدارات الحكومة البريطانية من أجل تحقيق النصر في حرب الأفكار»([4]).
وهذا ما حدا بعض المفكِّرين الغربيين أن يطلق على هذه الحرب مصطلح: «الحرب العالمية الثالثة»، ويؤرخ لبدايتها فعليًّا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
أما تاريخ الحرب على الإسلام ذاته، فقديم قدم التاريخ، يقول الكاتب والقائد الإنجليزي جلوب (1897-1986): «إن تاريخ مشكلة الشرق الأوسط إنما يعود إلى القرن السابع للميلاد».
وتقول د. كارين أرمسترونج: «علينا أن نتذكر أن الاتجاه العدائي ضد الإسلام في الغرب هو جزء من منظومة القيم الغربية التي بدأت تتشكل مع عصر النهضة، والحملات الصليبية، وهي بداية استعادة الغرب لذاته الخاصة مرة أخرى، والقرن الحادي عشر كان بداية لأوروبا جديدة، وكانت الحملات الصليبية بمثابة أول رد فعل جماعي تقوم به أوروبا الجديدة»([5]).
وما يؤكده القسس والمفكرون يؤكده الساسة والاستراتيجيون.
يقول أيوجين روستو مستشار الرئيس الأمريكي جونسون لشئون الشرق الأوسط حتى عام (1967م): «يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافا بين دول أو شعوب، بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية»([6]).
فإذا انتهينا إلى الرئيس الأمريكي نيكسون إذا به يقول: «إنه ليس هناك صورة في ذهن وضمير المواطن الأمريكي أسوأ صورة من العالم الإسلامي»، ثم يبين مآلات الحرب بقوله: «وسوف يضطر الغرب إلى أن يتحد مع موسكو ليواجه الخطر العدواني للعالم الإسلامي»([7]).
ثم جاء الرئيس الأمريكي بوش الابن ليعلنها في أعقاب الحادي [عشر من سبتمبر حربًا صليبيةً.
ثم يُفصِّل تلك الحرب بقوله: «نحن نحارب في جبهاتٍ مختلفةٍ عسكريةٍ واقتصاديةٍ وسياسيةٍ وفكريةٍ، ونحن واثقون أننا سننتصر في كل جبهةٍ»([8]).
إذًا، اختطاف الإسلام، والحرب على أفكاره، رديفٌ للحرب العسكرية والاقتصادية والسياسية، وهي حربٌ وثيقة الارتباط بصراع الحضارات الذي صكَّ مصطلحه (هنتنجتون)، وهي شديدة التعلُّق بـ «صراع الأصوليات» الذي تحدَّث عنه (إدوارد سعيد)، وهي بتعبير (برنارد لويس): «صراع الأديان».
وقد اختار الغرب في الحرب الفكريَّة جوانب متعددةً من المساعي التي تهدم الفكرة الإسلامية، ومن تلك المسارات: اختطاف فكرة الإسلام نحو الغلوِّ والتطرُّف والعنف، ومن ثَمَّ نبزها بمصطلح الإرهاب الذي لا يعدو لدى أكثر الغرب اليوم أن يكون هو الإسلام السُّنِّي خاصَّة بعقيدته، وشريعته، وقيمه، وكل ما ينتسب إليه.
وقد بذل الغرب في هذا السبيل ألوانًا من البذل، وعمل على صناعة الغلو والتطرُّف، ومن ثَمَّ استغلال تلك الصورة بعد وَصْمها وأهلها بالإرهاب.
فإذا ما حانت نظرةٌ إلى ما جرى صناعته من الغلو والعنف، وإخراجه بصورةٍ سينمائيةٍ في العراق وسوريا، وجعله ذريعةً مناسبةً وفرصةً مواتيةً للتدخل العسكري من جهةٍ، ولتشويه صورة الإسلام وأهله من جهةٍ أخرى، أدركنا أنها حربٌ ممتدةٌ إلى الوجود الإسلامي في العالم بأَسْره بما في ذلك الوجود الإسلامي في الغرب نفسه!
حقيقة الحرب الفكريَّة المعاصرة:
إن حقيقة الحرب الفكرية دائرةٌ رحاها بين الإسلامية واللَّادينية، المُسمَّاة بـ «العلمانية»، والعلمانية فكرة خبيثة الجوهر، ونكدة الثمر!
وهي دينٌ يقصي كل دينٍ، ويحاول أن يملأ في الحياة كل فراغٍ يملؤه الدين!
فالعلمانية تتمثَّل في الحياة السياسية، وتتجسَّد في الديموقراطية، وتبتدي في الحياة الاجتماعية والفكرية في ثوب الليبرالية.
وتنشر فكرتها المسمومة في القانون والتنظيمات عَبْر نظرية السيادة!
وتصبغ الحياة الاقتصادية بصبغتها المعروفة بالرأسمالية!
وتشيع الإلحاد في الأدب من خلال الوجودية والحداثة!
وتحت كل نظرية أو فكرة مبادئُ وضوابطُ تحافظ على جوهر اللادينية الإلحادية.
فإن حانت من العلمانية الْتفَاتةٌ إلى دينٍ ما تقديرًا أو توقيرًا، فللنصرانية المحرَّفة التي تقول: «دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»!
ومع ثورة الغرب على دينهم النصرانـي المحرَّف، والذي ذاقوا على يدي رهبانه وكَهَنته سوء العذاب، وانتصار العلمانية في شقِّها الليبرالي والرأسمالي إلا أنه عند مواجهة الإسلام تحضر الكنيسة النصرانية كما يحضر الكنيست اليهودي فورًا، وذلك لاستحضارهم الحروب الصليبية في خلفيَّتهم الفكرية!
وهذا ما فسَّر نطق كثيرٍ من قادتهم السياسيين باسم الحروب الصليبية، والحروب المقدَّسة، والحرب العادلة، ونحوها من مصطلحاتٍ!
وإذا كان قادتهم قد لزموا الحياد بشأن النصرانية واليهودية، فإنهم مع الإسلام ليسوا كذلك، وما ذاك إلا لأنه الدين الذي يربط بين الدين والدنيا، وبين الدنيا والآخرة، وبين مناشط البشر في هذه الحياة، وبين عبادة الله.
﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام:162، 163].
وهذه الحرب في حقيقتها إحدى صور الحرب الباردة على المجتمعات الإسلامية في ثوابتها الفكرية والمنهجية.
فهي حربٌ وثيقة الارتباط بصراع الحضارات الذي صكَّ مصطلحه (هنتنيجتون)، وهي شديدة التعلق بصراع الأصوليات الذي تحدث عنه (إدوارد سعيد) وهي بتعبير (برنارد لويس) الذي يعتبر المُلْهم لهذه الحرب في تجلياتها القريبة: «صراع الأديان»!
ومن جهةٍ أخرى، فهي رديف للحركة العسكرية، إذ ما من مواجهةٍ عسكريةٍ إلا وراءها مواجهة فكرية بين حقٍّ وباطلٍ، أو بين باطلٍ وباطلٍ، وهذا ينسحب على الحروب العالمية الماضية انسحابه على الحرب العالمية الحاضرة على الإسلام وأهله اليوم!
وما الحرب العالمية على الإرهاب اليوم إلا حرب على الإسلام بعقيدته وشريعته وقيمه ودعوته في المشارق والمغارب!
يقول (بول كروجمان): «إن تهديد الإرهاب معضلة يجب حلُّها، بل سانحة سياسية يجب استغلالها»([9]).
وهذا ما عبَّر عنه (روبرت ستلوف) بعد عامٍ واحدٍ من أحداث سبتمبر 2001م، فقال في كتابه (معركة الأفكار في الحرب ضدَّ الإرهاب) حيث ذكر أن حرب الأفكار تعني أن أمريكا بصدد فرض الثقافة الأمريكية على عقول الناس في الشرق الأوسط!
وحقيقة حال الحرب أنها ممتدَّة إلى الوجود الإسلامي في العالم بأَسْره بما في ذلك بلدان أوروبا.
بين مصطلح حرب الأفكار ومصطلحات أخرى:
إن مصطلح حرب الأفكار دالٌّ على ما يدل عليه مصطلح اختطاف الإسلام، وتعدُّد الأسماء لا يشوش في القديم والحديث، فهي حرب الأفكار التي عُبِّر عنها في حقبة قريبة بالغزو الفكري، وهي جيلٌ من أجيال الصراع الحضاري، أو الصدام الأصولي، وشكلٌ من أشكال عولمة السيطرة على العقول، وتسويق الفكر الغربي، وترويج الليبرالية في الثقافة والفكر والاجتماع، فهي حرب القيم، وحرب النصوص.
ولا تبتعد هذه الحرب الفكرية عن مفهوم عصرنة الإسلام، أو علمنة الإسلام، أو تغريب الإسلام، والتأويل المعاصر في المفاهيم الإسلامية.
وهذه الحرب ترتبط بوشائج لا تخفى بظاهرة ما سُمِّي بالتديُّن الجديد، والدعاة الجدد!
لهذه الحرب أسبابٌ دعت إليها، وبواعث حرَّكت آلتها، وهذه الأسباب تتغيَّا غايات معينة، وترمي إلى أهداف محددة، والمسلم في عالم اليوم مدعوٌّ لأنْ يتعرف على أسباب هذه الحملة وأغراضها، ويكتشف مكانها وآليتها حتى يتمكَّن من مواجهتها بسلاحها، وبما يمنع وصولها لأهدافها.
ثم إن الغيور على دينه، الحريص على سدِّ الثغور التي ينفذ منها العدو معنيٌّ باستبانة سبيل المجرمين، ومعرفة مكائد المفسدين في الدين.
وقديمًا وحديثًا استعمل من أبناء الإسلام من إليه قد أساء، وأُتِيَت أُمَّته من قِبَلِهِ، وسعى في تلك المهالك لحتفه بظلفه! وإنْ لبس مسوح الضأن من اللين إلا أنه عاش في مسلاخ شيطان، كلما أمكنته فرصة من أمته عقرها! وكلما لاحت له قدرة غدرها! فهو من أعدائها في ثياب أبنائها، وقد قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ [النساء:45].
وفي هذا الصدد، فإنَّ أهم ما يذكر من البواعث ما له تعليقٌ بالواقع المعاصر، ومن أهم ما ينبغي أن يلحظ في هذه الحرب المسعورة ما يلي:
أولًا: المدُّ الدَّعوي المعاصر:
على مدار القرن الأخير من الزمان، ومحاولات الاستعمار الغربي على أشدها في كَبْت المدِّ الدعوي المنسوب للأمة الإسلامية بجماعاتها الدعوية، وهيئاتها العلمية، وأنشطتها التربوية، وشخصياتها الاعتبارية في كل مضمارٍ!
ولقد سعى المعنيُّون بهذا الشأن في الغرب، وأوليائهم في الشرق بكل جهدٍ في وَأْد تلك الجهود، ومحاصرتها في أُطرٍ من القطرية والإقليمية، وإدخالها إلى آتون محنٍ وفتنٍ وعذاباتٍ واضطهاداتٍ، وتشويه صورتها ورجالاتها وإنجازاتها، فما زادها البلاء إلا شدَّةً، ولا التضييق والحصار إلا قوةً، ولا الفتن إلا تمسُّكًا وثباتًا، وبدت نوعيَّتها في السنوات الأخيرة أصلب عودًا، وأقدر على الانتشار في العالم، والانتفاع بمعطيات التقنية في الدعوة عبر الفضائيات والمواقع الإلكترونية، وشبكات التواصل الاجتماعي وغيرها!
كما لُوحظ نضج نسبي في جوانب الفكر الإسلامي، والوعي الواقعي، والفهم لمكائد الخصوم، والقدرة على تفويت فرص الاستئصال والإجهاض في الجملة.
فتحصَّل من ذلك حالةٌ من الوعي الراشد، والثبات المنهجي، وما كان مَحلِّـيًّا من الأعمال الدعوية، والأنشطة الخيرية، والجماعات الإسلامية، قد غدا عالميًّا.
ولا يخفى أنه بمجرد قيام ثورات الربيع العربي، انطلقت تلك الدعوات الإسلامية الضاربة بجذورٍ قويةٍ في مجتمعاتها في محاولاتٍ لاستئناف حياةٍ جديدةٍ بناءً على حضورها الإسلامي الفاعل، وقدرتها على تحريك الجماهير، وعملت على الانخراط في فعالياتٍ سياسيةٍ كثيرةٍ، وغدت أقوى وأقدر على تحريك الأمة.
كل ذلك ألقى بظلالٍ كثيفةٍ من التخوُّفات، وزاد من الرغبة في القضاء على تلك الدعوات، وتقليص فاعليتها بكل سبيلٍ، ولا يستثنى من ذلك توجُّه دعوي، أو علمي، أو سياسي، أو جهادي من تلك التوجُّهات المنسوبة إلى أهل السُّنة.
فهي حرب على الإسلام المقاوم للهيمنة الغربية، والاستعمار، والعلمنة، والعولمة الضارَّة في جميع الميادين، وشتَّى مناحي الحياة.
وهنا تتجه المخاوف من الإسلام السلفي الأصولي كما يدَّعونه، كما تتجه إلى الإسلام السياسي الإخوانـي كما يزعمونه.
ولا شك أن اختطاف هذه التوجهات، وجرَّها جميعًا نحو الغلو والعنف والتطرف، يفتح أبوابًا من الذرائع للاستئصال والبطش والتنكيل والتكبيل.
ثانيًا: الإخفاق العسكري الغربي:
وقد تبدَّى هذا واضحًا في ثلاثة حروب عسكرية متتابعة في الثلاثين سنة الأخيرة على بلاد الرافدين تحت شعار: «الحرب على الإرهاب»، وكانت النتيجة جميعًا الفشل.
وفي حملةٍ ظالمةٍ على بلاد الأفغان، حصد الأمريكان مرارة الهزيمة، وتعود جثامينهم في الطائرات التي حملتهم مُحمَّلة بالخزي والخذلان.
وعلى رُبى غزَّة ذاق اليهود وأولياؤهم هزيمةً مذلةً مرةً بعد مرة.
وكما سقطت هيبة جيش الإلحاد الروسي في حرب أفغانستان، فقد مُني بنفس النتيجة الأمريكان، وصدق الله العظيم: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال:17].
لقد كان الغرب يتجمَّل بشعاراتٍ بَرَّاقةٍ من العدل، وحماية الحقوق والحريات، فإذا به يتخلَّى عن ذلك جميعًا، ويتحرك بعنفٍ بالغٍ لا يكون من نتيجته إلا الفشل الذريع في تلك الحروب، والتي أدركوا من خلالها أن الحرب المباشرة -لا سيما البـريَّة منها- لن يرجعوا منها إلا بخُفي حنينٍ.
ولن يستفيدوا من تلك العربدة إلا كسر النظام العالمي الذي صنعوه، وانتهاء صلاحيته للبقاء، مع سقوط هيبة تلك الجيوش المُدجَّجة بأنواعٍ من أسلحة الدمار الشامل.
وبات واضحًا لكل ذي عينين أن اعتماد خيار القوة العسكرية الضاربة لا يمكن أن يكون هو الحل الحاسم في الشرق.
وإنَّ المتأمل في الحشود الأمريكية على أفغانستان، والتي بلغت 250.000 مقاتل أمريكي مع 500 مقاتلة، و150 سفينة حربية، بجانب قوات الحلفاء البريطانية، ودعم الناتو، لَيُدرك بجلاءٍ أن الغرب استنفر قوته في استعراضٍ هائلٍ للقوة في مواجهة الإرهاب الذي تقول دراسات فوكوياما وهنتبجتون أن النسبة الغالبة من معتنقيه يرجعون إلى الدول العربية (82%)([10]).
إن المتأمل في النتائج لهذه الحرب يدرك كم كانت مُخيِّبةً للآمال، بحيث إن الأمريكان اليوم تقلَّص عدد قواتهم وبعد خمسة عشر عامًا وزيادة إلى أربعة عشر ألفًا يبحثون عن خروجٍ يحفظ ماء الوجه بعد تفاوضٍ مع طالبان (الإرهابية) بزعمهم.
ولم تكن العراق بأحسن حالًا بعد دخولهم لها، فقد أصبحوا هدفًا سهلًا للمجاهدين والمقاومين، فكان لا بد من البحث عن استراتيجيةٍ أخرى تؤازر الحرب العسكرية.
ثالثًا: تنامي الرُّقعة الإسلامية في الغرب، وتحسن صورة الإسلام نسبيًّا هنالك:
أطلق (جورج هاينز فاين) السكرتير العام لبابا الفاتيكان تحذيرًا مما وصفه بـ «أسلمة الغرب».
ونشرت صحيفة (لفرانس ويست إكلير) إحصائيات تشير إلى زيادةٍ في عدد الداخلين إلى الإسلام هنالك، ففي عام 2007م دخل حوالي 114 ألف مسلم عربي في فرنسا وهولندا وألمانيا وشمال بلجيكا والنمسا بحيث إنَّ أعداد الداخلين ومعدلات المقبلين على الإسلام بعد الحادي عشر من سبتمبر تضاعف ثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل الأحداث([11]).
ونشرت صحيفة (ها آرتس) اليهودية أن أجهزة المخابرات الأمريكية والأوروبية والموساد قدَّموا تقارير مطوَّلة إلى وكالة المخابرات الأمريكية يحذرون من ارتفاع معدل انتشار الإسلام في الغرب، رغم كل الأزمات التي تحيط بالمسلمين، وأن عامي 2004- 2005 شهدا اعتناق أكثر من خمسين ألف شخصٍ أوروبي للإسلام أغلبهم من النساء، وأن الإسلام أصبح ينتشر بطريقةٍ مخيفةٍ، وأن المسلمين الجدد يعملون على تأدية جميع شعائر وطقوس الإسلام بمنتهى الدقة، ويصبحون أكثر تدينًا من المسلمين بالوراثة، وهو أمرٌ يستدعي الوقوف عنده([12]).
وتحويل وجهة هؤلاء الذين دخلوا الإسلام إلى إسلامٍ متصالحٍ ومناسبٍ للغرب أمرٌ لا بد منه.
كما تلاحظ لدى المراقبين الغربيين هنالك أنه بعدما سمح الدستور الأمريكي 1988م بتدريس الأديان كافَّة في المناهج التعليمية، فقد نال الإسلام نصيبًا من ذلك، وكان له أثره في تصحيح الصورة السلبيَّة التي تركها الاستشراق الذي امتدَّ لقرابة قرنين من الزمان، وخلَّف نحوًا من 60.000 ألف كتابٍ عن الشرق المسلم.
كما ساعد على إحداث تلك التغييرات الإيجابيَّة إعداد معايير خاصة للتعبير والكتابة في المقررات الدراسية تمنع من إسقاط رأي المؤلف في ثنايا عباراته، أو تضمينه أحكامًا لوصف دينٍ ما أو عقيدةٍ ما، وقد صدرت توصياتٌ من أكثر من جهةٍ دوليةٍ تدعو إلى مراعاة تلك الضوابط([13]).
وهذا الانتشار والاعتدال استفزَّ (هنتنجتون) مرةً أخرى بعد أكثر من عشرة أعوامٍ من إصداره لكتابه (صراع الحضارات)، ليكتب عام 2004م: (من نحن)، مُنْتقدًا ما سمَّاه: الإسراف في تدريس ثقافات وأديان الأمم الأخرى، ومن بينها الإسلام!
وتجاوب معه عددٌ من المفكرين اليهود، مثل: (مارتن كريمر) أستاذ الدراسات الشرق أوسطية، ومدير مركز موشى ديان بجامعة تل أبيب، ليشنَّ هجومًا على تلك الأقسام بالجامعات الأمريكية التي تدرس الإسلام، وتعني بتقديم صورةٍ معتدلةٍ للإسلام!
وأيًّا ما كان الأمر، فإنَّ الحضور الإسلامي في الغرب أصبح لافتًا ومُسْتعديًا لأصحاب التوجه الأصولي الإنجيلي المتطرف، وتزامن مع الصعود السياسي لليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا على حدٍّ سواء.
من هنا كان لا بد للإسلاموفوبيا أن تعمل على الأقليات المسلمة هنالك بأنواعٍ من التشويه، وصورٍ متعددةٍ من التشويش، كان من أخطرها: صناعة الغلو، ومن ثَمَّ استثماره، فضلًا عن افتعال أسبابٍ لنبز المسلمين هناك بتهم الإرهاب، واستدراج بعض المنحرفين من أبناء تلك الجاليات المسلمة لممارسات تُشوِّش وتُشوِّه الجميع هنالك.
ومن ثَمَّ عرفت أحداث عنف ضد المسلمين من بعد الحادي عشر من سبتمبر، وتعرَّضت مساجد ومراكز إسلامية لاعتداءاتٍ متكررةٍ، وتعرَّضت المظاهر الإسلامية للتضييق والحصار، وكانت الطامَّة ما جرى في الدنمارك من نشر الرسوم المسيئة للنبي ﷺ، ثم أُعيد نشرها في (143) جريدة إلى (56) دولة؛ تعبيرًا منها عن تضامنها مع الصحيفة الدنماركية، وصُودِرَ حق المسلمة في غطاء وجهها في فرنسا وغيرها، وقامت حربٌ على المآذن في سويسرا وغيرها.
وأخيرًا، فإنَّ محافظة الأقليات المسلمة على هُويَّتها، واستعصاءها على الذوبان في عقائد وثقافات غيرها، وحرصها على الوجود الفاعل، والمشاركة الإيجابية، أصبح مصدرًا للقلق عند كثيرٍ من الدوائر المتعصبة، ومع تنامي تلك الأقلية عدديًّا، غدا البحث عن وسيلةٍ لتقليص حضورها أمرًا مُلِحًّا عند دوائر سياسية ودينية متعددة.
رابعًا: العداء الديني للإسلام وأهله:
وهذا معلومٌ منذ فجر الإسلام، ومقالاتهم في ذلك معلومةٌ، ويتبدَّى هذا العداء في العصر الحديث في تصريحات رجال الكنيسة غربًا وشرقًا.
وقبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر بنحو سنتين، قال الكادرينال (بول بوبار) -مساعد بابا الفاتيكان، ومسئول المجلس الفاتيكاني للثقافة- في حديثٍ لصحيفة (لفيجبارد) الفرنسية: «إن الإسلام يشكل تحدِّيًا بالنسبة لأوروبا والغرب عمومًا»([14]).
وللبابا (بنديكت) من بعدُ تصريحاته المسيئة.
وفي إثر تلك التعليقات والتصريحات عملت العناوين الصحفية الأوروبية على التخويف من الإسلام، وصار مألوفًا لدى الغرب عناوين، مثل:
* الإسلام يناقض الأديان الغربية، وينسفها من الجذور.
* الإسلام هو العدوُّ المقبل بعد انتهاء الاتحاد السوفيتي.
* الدين الأكثر انتشارًا في أوروبا هو الإسلام.
* أوروبا إسلامية 2020.
* الإسلام يعادي السامية.
ونحو هذا من عناوين وموضوعات تحرِّض على الإسلام.
ولا ينبغي أن ينسى تأثير الأصوليَّة الإنجيليَّة البروتستانتية المتطرِّفة في موقفها من الإسلام، وكونها مثَّلث عقيدة مَن حكموا الغرب الأمريكي في الحقبة القريبة الماضية من أمثال بوش الأب والابن، وعدد من قيادات أمريكا ومُفكِّريها وقسسها أمثال: برنارد لويس، وبات روبرتسون، وجيري فالويل، وغيرهم.
خامسًا: وجود بوادر تطرف وغلو وعنف تدعو لاستثمارها:
مع تحذيرات القرآن الكريم، والسُّنَّة المطهرة من الغلوِّ الذي وقع قبل الأمة المسلمة في أمم أهل الكتاب، إلا أن ما جرى لهم قد جرى لهذه الأمة، ولأسبابٍ كثيرةٍ.
قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ [النساء:171].
وفي الحديث: «إِيَّاكُمْ وَالغُلُوَّ فِي الدِّينِ»([15]).
ولقد وجدت بذرة الغلوِّ في العبادة مبكرًا، ومتزامنةً مع بذرته السياسيَّة، حتى أخبر النبي ﷺ، وما زالت للمسلمين عبر التاريخ لهم معه صولاتٌ وجولاتٌ.
فإذا انتهينا إلى العصر الحديث، وجدنا أسبابًا للغلوِّ قد تَجذَّرت مجتمعةً في بيئاتٍ ابتعدت عن تحكيم الشريعة، وغاب عنها هدي النُّبوة، وأصبح الغلو ينشأ لحزمة أسبابٍ تعود للفرد والمجتمع والدولة معًا، وتعقَّدت علاقاته وإشكالاته الاجتماعية والسياسية، واختلطت بالأسباب الشخصيَّة والسلوكيَّة.
ومع غياب الفقه الراشد في ظلِّ علمانيةٍ تضرب بأطنابها في مجتمعاتٍ مسلمةٍ جرى فيها إسقاط أحكام الإسلام، وكثيرٍ من قيمه بالاحتكام إلى قوانين غير المسلمين- سقطت المجتمعات في هُوَّةٍ من التبعية الفكرية والحضارية، وتآمرت قوى الأعداء من الصليبية والصهيونية، وتحالفت معها دول رافضية، ولا دينية، قومية وليبرالية، وغدت هُويَّة الأمة ممزقة بين هذا الضعف وذاك الغزو، واضْطُهدت في هذا السبيل حريات، ومُنعَت حقوق، وعُذب الذين يأمرون بالقسط من الخَلق، وهذا بالضرورة مناخ يستنبت القهر، ويصنع رِدَّات فعلٍ من الغلو.
ولما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام في كل زمانٍ ومكانٍ، فقد سبقت الأمة الدول والجماعات في إعلان الجهاد ضد المستعمر أيًّا كان لونه وشكله ولغته، كما أعلنت الأمة الجهاد ضد الحكم الطائفي المستبدل للشرع، المستبد بالبدع، المتحكم بالأهواء.
ومن فلسطين إلى سوريا والعراق وليبيا، مرورًا بأفغانستان والبوسنة والشيشان إلى آخر مسيرةٍ طويلةٍ سارتها الأمة في معظم تلك البلاد بلا إمامٍ يجمع كلمتها، ولا رايةٍ توحد صفوفها، ولا كلمةٍ نافذةٍ لجملة علمائها وحكمائها.
فمُورِسَ الجهاد والقتال في غيابٍ كليٍّ أو جزئيٍّ لأسباب هدايته وإرشاده، فتولدت أخطاء، وتراكمت مخالفات، ووقعت انحرافات بسبب من قلة العلم والفهم والحِلْم أحيانًا، وبسببٍ من غياب الرؤية والإرادة والحكمة أحيانًا أخرى!
واختلطت إيجابيات الجهاد بسلبياتٍ وقعت، وامتزجت حسناته الخالصة بشائبة الغلو القادحة.
ولما كان أعداؤه الذين وقعت فيهم النكاية، بدءًا من فلسطين، وانتهاءً بآخر بقعة رفعت له فيه راية- قد ساءهم اتِّقاد جذوته، وانتشار فكرته، وممارسته، فقد عملوا بطرق شتى لوَأْده، وحرفه عن وِجْهته، وانتهجوا في ذلك أساليب متعددة، وتوسلوا بوسائل شتى.
فمن ذلك: صناعة الإسلاموفوبيا في بلاد الإسلام وخارجها، فصنعوا خوفًا من الإسلام من بعض بنيه، كما هو حاصل من كافَّة مخالفيه!
وجعلوا من ذلك سببًا ونتيجةً للحرب عليه!
ثم لما مُنُوا بهزائم مذلة في بلاد الرافدين والأفغان وغيرها، التمسوا حيلة الاختراق، وتجسس المخابرات، وتأليب وتشجيع الانقسامات والانشقاقات، ثم انتهوا إلى حيلةٍ شيطانيةٍ تقضي بصناعة غلوٍّ تشوبه شائبة جهادٍ؛ ليواجهوا بها جهادًا شابته شوائب غلو لتقوم تلك الأذرع المصنوعة بمهمة قتال تلك الطوائف على الأرض بدلًا من معركةٍ يخوضها المستعمر الصليبي والصهيوني بدم جنوده!
فأَذْكوا نار الفُرْقة، وأمدُّوا الفُرقاء بسلاح الفتنة، واستعملوا آلة الإعلام في التأثير على الرأي العام، وغيَّبوا العلماء والدعاة واضطهدوهم، وهو ما أفضى إلى غياب قيادةٍ حكيمةٍ على مستوى الدول والجماعات!
سادسًا: هزيمة التيار السُّني المقاوم للاحتلال:
إن التيار السُّني المقاوم يتمتع بمميزات عظيمة في الأمة الإسلامية، فهو يتميز بثبات منهجي، واستقرار فكري، ويقوم على حراسة الثوابت العلمية والعملية للأمة، ويحمي منهج أهل السنة، ويتصدَّى للمناهج الزائفة، والمذاهب المنحرفة، ويناهض تيارات الإلحاد والتغريب والعلمنة جميعًا، وهذا ما يجعل الأفكار المنحرفة لا تجد رواجًا داخل المجتمعات السُّنية.
كما يتميز بتنوُّع في قياداته، وثراء في كفاءاته، فلا يكاد يخلو مجال علمي شرعي، أو عملي تقني، أو دعوي اجتماعي، أو اقتصادي، أو قانوني من حضور سُنِّي.
وهذا التيار السُّني على تنوع مدارسه الدعوية والعلمية والسياسية والجهادية يمتلك حضورًا إعلاميًّا ظاهرًا، وقد ازداد هذا بعد الثورات العربية.
كما يملك هذا التيار الواسع قدرةً على الحشد الجماهيري رشَّحته لمواقع سياسية وبرلمانية في عدَّة دول عربية وإسلامية؛ كالكويت ومصر والمغرب والسودان وباكستان وتركيا وفلسطين وماليزيا وغيرها، مع مصداقية أخلاقية وسلوكية تستمدُّ عمقها من الانتساب إلى الأجيال الأولى، والقرون الثلاثة الفاضلة، فهي ريادةٌ تاريخيةٌ حضاريةٌ معاصرةٌ.
وما ينسب لهذا التيَّار من جهاد المستعمر في أفغانستان وفلسطين والعراق وغيرها هو جهاد يُحْسب لأهل السُّنة إجمالًا.
ولقد تمكَّن هذا الجهاد من مراغمة الروس والأمريكان في أفغانستان، ومواجهة احتلال العراق، ومقاومة اليهود في فلسطين وغيرها.
فالوصول إلى هزيمة هذا التيار المقاوم لكل أشكال العدوان على الأمة من خارجها، والانحراف من داخلها، يُمثِّل هدفًا عزيز المنال لتلك القوى المستكبرة!
فإذا أمكن اختطاف هذا التيار نحو الغلوِّ الفكري والديني والسياسي والعسكري، ومن ثَمَّ إنشاء معارك وصراعات باسم مفاهيم شرعية؛ كالجهاد والخلافة وغيرها، تُفْضي إلى خضد شوكة هذا التيار، فإن هذا يحقق أهدافًا عدَّة، حيث يقتتل المسلمون فيما بينهم، ويتفانون بأموالهم، ويقضون على قوَّتهم بأنفسهم بينما يبقى المستعمر في إطار التحريض والتمويل، ثم جني ثمار تصفية الإسلام المقاوم.
والغرب يقوم اليوم بعملٍ مزدوجٍ، فهو يُوجِدُ المسوِّغات، ويهيئ المناخات المناسبة لاستنبات بذور الغلو والعنف، ويسعى في ذات الوقت لتدمير الاعتدال، وحرب أهله، ويمزق النسيج الوطني بما يستطيع من طائفية يبعثها، ولُحمة وطنية يمزقها، ثم يُبْقي على الغلاة بدعم خفيٍّ لهم، فينفتح الباب للإبقاء على الطغاة، وتثبيت عروشهم في وجه أولئك الغلاة الإرهابيين!
كما يوجد ذلك مبررات ودواعي التدخُّل العسكري في بلاد المسلمين للخلاص من الغلاة الذين مهَّدوا الطريق للمستعمر بحربهم على أهل السُّنة، وتهيئة طريق السيطرة وتعبيده للتحالفات الغربية.
سابعًا: اتخاد الإسلام عدوًا جديد خلفًا للشيوعية:
إن الأصل في النفوس البشرية ألا تقف مطامعها عند حد، فهي أبدًا في حرث وسعي، وفي قصد إلى العلو والتمكن والسيطرة؛ ولذلك فقد تنازعت العالم القوى الكبرى منذ فجر التاريخ، من الفرس والروم قديمًا، إلى المسلمين والنصارى في العصور الوسطى، إلى دول المحور والحلفاء فيما بعد.
حتى انتهت دورات الزمان وكراته إلى العصر الحديث، الذي تنازعته قوتان عظمتان: الاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة الأمريكية، ولم تكن أي من تينك القوتين غفلًا عن العقيدة والأيدولوجيا، فقد قام الاتحاد السوفيتي على الشيوعية الملحدة، وقامت الولايات المتحدة على الرأسمالية الليبرالية.
وما لبث أوار الحرب أن اشتعل بين هاتين القوتين، سمومًا حارًا تارة، وزمهريرًا باردًا أخرى، وانشطر العالم إلى معسكرين، فالسوفييت ومن والاهم هم حلف الشرق، والأمريكان ومن جرى مجراهم في حلف الغرب.
أما أهل الإسلام فقد تباينت أحوالهم مع هذه الحرب، فقد اكتووا بنارها في أحوال، كما أنهم في أحوال أخرى: استدفأوا بها، واستعانوا بها على عدوهم، واستغلوا تناقضاتها لنصرة قضاياهم، فمن ذلك استفادة أهل الإسلام في أفغانستان والشيشان وغيرها من هذه العداوة العالمية في دفع الروس عن أرضهم، إلى غير ذلك مما لا يخفى من صور الاستفادة.
ثم كان أن وضعت هذه الحرب أوزارها، وانقشع غبارها عن انهيار مروع للشيوعية، حيث سقطت حكوماتها في أوروبا الشرقية حكومة تلو حكومة، وبدأت روسيا في مراجعات إعادة بناء الشيوعية على يد جورباتشوف، والتي كانت في الحقيقة تخففًا من حمولتها، وتفريغًا لها من كثير من مضامينها، أعقب ذلك سلام في باطنه استسلام الدب الروسي لسطوة الغرب.
ومنذ ذلك الحين ألقت بلاد العالم إلى الأمريكان بمقاليد القيادة، واعترفت لهم بالسيطرة والسيادة، وتكون النظام العالمي الجديد، وهو نظام أحادي القطب، يدور حول محور واحد، وهو الولايات المتحدة الأمريكية.
وكان من نتائج ذلك أن التفتت الرأسمالية الأمريكية إلى العدو الثاني بعد سقوط الشيوعية، ألا وهو الإسلام، وقد كان الشيوعيون والرأسماليون مصرحين بمعاداة الإسلام وحربه([16])، لكن حربه لم تكن الأولوية عندهما، فلما سقط الخطر الشيوعي الأحمر، لم يبق للرأسماليين إلا عدوهم الأبدي، وهو الإسلام وأهله.
يقول المؤرخ الغربي أرنولد توينبي في فترة الحرب الباردة: «نستطيع أن نتحاور مع الشيوعية، ونستطيع أن نتحاور مع كل دين إلا الإسلام؛ فإنه يظل العدو الأبدي لنا»([17]).
فالإسلام اليوم هو العدو الذي توحد العالم الجاهلي عليه، والأمة المسلمة هي القصعة التي تداعى عليها الشرق والغرب، فآلات الحرب الكبرى التي أعملت في الاتحاد السوفيتي حتى تركته صريعًا، تعمل اليوم بكل جبروتها وعنفها في جسد الأمة المترامي الأطراف، بحرب عسكرية تارة، وحرب فكرية تارات، وبوجوه غربية تارة، وبأقنعة عربية تارات.
إن الحرب والصراع في نظر القوى العالمية مقوم من مقومات وجودها، لا سيما حرب هذه الأمة التي يتوفر لها من أسباب التمكين الذاتية ما لا يتوفر لغيرها، ولا سيما هذه العقيدة التي تتهاوى أمام محكماتها تناقضات النظريات والأيدولوجيات.
لأجل كل ذلك كان الإسلام وأهله هم العدو الذي اختاره العالم الغربي لنفسه، فاصطنع هذه العداوة لتحقيق مآربه، وإشباع أطماعه وعنصريته، ثم لتأمين سيطرته، وتأكيد زعامته، بمنع أبناء هذه الأمة من اليقظة والنهوض، وتغييبهم عن أهم أسباب قوتهم وعزتهم: دينهم وعقيدتهم.
اختطاف الإسلام أهداف وغايات واستراتيجيات
لاختطاف الإسلام، ولحرب الأفكار الموجَّهة ضد العالم المسلم اليوم غايةٌ عظمى، ونهاية كبرى تتعلق بالإسلام من جهةٍ، وبنيه من جهةٍ أخرى.
فأمَّا ما يتعلق بالإسلام ذاته: فتغييره وتبديله في فَهم أتباعه له، وفي نظرتهم إلى أصوله وقواعده، ومحكمات أحكامه وشرائعه، وفي إلزاميَّة ثوابته، وسمو مقاصده، بل وفي تعاملهم مع تراثهم الذي يشرح كتاب ربهم، وسُنَّة نبيهم ﷺ، وهذا من خلال عملية تضليل كبرى!
ومن تصريحاتهم الدالَّة على معنى تغيير الإسلام ومداركه:
يقول رامسفيلد: «إن تلك الحرب تستهدف تغيير المدارك، وإن من المحتَّم الفوز فيها، وعدم الاعتماد على القوة العسكرية وحدها»([18]).
ويقول تونـي بلير: «إذا كنتم تريدون أن تنقلوا الحرب إلى أرض الأعداء، فعليكم أن تهزموا أفكارهم ودعايتهم إلى جانب هزيمة مخططاتهم»([19]).
وتُحدِّد كوندا ليزا رايس الهدف بدقة، فتقول: «المهمة الأساسية في حرب الأفكار تتعلق بالترويج للقيم الأمريكية المتمثلة في الحرية والديموقراطية، ونظام السوق الحر»([20]).
وأمَّا ما يتعلق بأبناء الإسلام أنفسهم: فتحويل انتماءاتهم إلى إسلامهم الأصيل إلى انتماء تاريخي، وعواطف نحو الماضي لا عَلاقة لها بحياتهم، ولا هيمنة لها على سلوكهم وممارساتهم، مع الإبقاء الشكلي إن أرادوا على الإسلام في هُويَّاتهم، وأوراقهم الشخصية والثبوتية.
وعن هذه الغاية قال رامسفيلد في تصريح له في أكتوبر عام 2003م: «نريد لشعوب الشرق الأوسط أن يكون إسلامها كإسلام الشعوب المسلمة في شرق أوروبا».
وهو إسلام ذاب وغاب في قاع العلمانية الغربية الأوروبية بتجلياتها الليبرالية والرأسمالية إلا بقايا من هُويَّة وشعائر تعبدية!
وبناءً على ما سبق: فإن الاستراتيجية العليا لهذه الحرب تقوم على حرب الفكرة الأساسية في الإسلام، وكل ما تفرَّع عنها، وذلك عن طريق مقاومة الفكرة الأصلية بفكرة بديلة من نفس جنسها، لكنها مزيفة، وتحت وطأة التغيير والتعديل الجوهري تحوَّلت الفكرة الأصلية إلى باهتةٍ لا روح فيها، ولا قدرة لها على إثبات نفسها، أو مواجهة غيرها.
لقد كانت استراتيجية التنصير الأولى، وغاية المواجهات الفكرية عبر التاريخ في القديم، تقوم على مقاومة الفكرة الأصلية بفكرة أصلية أخرى مضادة لها.
أما في ظلِّ حرب الأفكار المعاصرة، فإن الاستراتيجية الأساسية لا تعنى إلا بمقاومة داخلية تُحْدث تغييرًا وتعديلًا في الأفكار ذاتها، وهو ما أطلق عليه اسم: «الأفكار البديلة والمعدَّلة»، ومن ثَمَّ يتحقق شقُّ المسلمين إلى شقَّين كبيرين: متطرفين ومعتدلين!
ثمَّ تضع الإدارة الغربية لحرب الأفكار عبر مؤسسة راند وغيرها مواصفات ومميزات وخصائص لأولئك المعتدلين بزعمهم؛ ليتميزوا عن غيرهم، الذي هو في حقيقة ما يريدون عدوهم!
ثم يُكلَّف المعتدلون بمواجهة المتطرفين فكريًّا ومنهجيًّا، ثم عسكريًّا إن لزم الأمر.
ولا مانع لدى الإدارة الغربية بسياسيِّيها وعسكريِّيها أن تعين المعتدلين في حربهم الفكرية والسياسية والعسكرية على حدٍّ سواء!
بل إنَّها تتدخَّل من تلقاء نفسها لدعم الاعتدال عسكريًّا تحت شعار: الحرب على الإرهاب!
بل لا مانع لديها في الأصل من صناعة واستثمار وتشجيع الغلو حتى تشنَّ الحرب عليه، وعلى أهل الإسلام المقاوم للتغيير والتعديل باسم الحرب على الإرهاب!
وتبدأ الاستراتيجية العليا للحرب على الفكرة المحورية في الإسلام، وهي الإيمان والتوحيد.
والفكرة الصحيحة التي بَرهنَتْ عليها الدلائل، وتكاثرت على إثباتها الحقائق والوقائع على حدٍّ سواء هي التي أصبحت عقيدةً تستقر في الوجدان، وتسري في الدماء، وتترجم إلى أقوالٍ وأفعالٍ، ويقدم أصحابها أرواحهم فداءً لها!
فهي العقيدة المنتصرة بنفسها، الآخذة بعقول وقلوب أبنائها، والتي ينظرون إلى الوجود والخلق والأشياء من خلالها!
وعقيدة التوحيد تضادُّ عقيدة التثليث وتأليه البشر؛ لأنها حربٌ على الشرك في كل صوره وتجلِّياته!
وهي الحق المطلق في هذه الحياة، فأنَّى للنصرانية واليهودية بعد تحريفها أن تواجه الإسلام، فضلًا عن الشرك والوثنية والإلحاد!
لذا، لمَّا سطعت شمس التوحيد متمثلةً في جيل الصحابة، بددت سُحُب الشرك والخرافة والأديان المحرفة في المعمورة بأَسْرها آنذاك.
ووصل الإسلام إلى ما وصل إليه الليل والنهار، وملكت الأمة المشارق والمغارب، حتى إذا كان الضعف من أهل الإسلام أنفسهم، دالت دولتهم، وزالت خلافتهم، وصاروا نهبًا عسكريًّا وفكريًّا لكل منتهبٍ!
ومع الحرب التقليدية العسكرية، شُنَّت الحرب الفكرية عبر طمس الهُويَّة الإسلامية للبلاد المحتلَّة، فلم يُجْدِ ذلك شيئًا، فاستعملت أسلحة العلمانية من الماركسية والليبرالية وغيرها.
فكانت النتيجة قريبةً من سابقتها، وإن وجدوا لتلك الأفكار من الضُّلال أُذنًا مُصغيةً، لكنها قلَّة نادرة لا تشوش على عموم قاعدة الأمة دينها، ولا تحرفها عن صحيح انتسابها إلى مفاهيمها.
ومن هنا جاء التعديل الاستراتيجي في حرب الأفكار داخل الإسلام ذاته، وبأفكار بعض منتسبيه، لا لإنشاء فكرةٍ جديدةٍ، أو لإدخال فكرةٍ أجنبيةٍ، وإنما لاستثمار ما هو منسوبٌ إلى الأمة من أفكارٍ ضالةٍ مع إجراء ما يلزم من تعديلٍ أو تغييرٍ!
ولا يقتصر الأمر في هذه الاستراتيجية على تغيير وتبديل وتعديل الأفكار، وإنما يمتدُّ إلى إنشاء واقع عملي تقوم عليه تلك الأفكار، ويقوم عليها!
وهذا القدر يسلِّم إلى الاستراتيجيات الفرعية، وللتطبيق عليها عبر أمثلةٍ مهمةٍ، غير أنه قبل مغادرة هذه النقطة لا بد من تمثيلٍ لبعض الكيد المنظم حول فكرة التوحيد والإيمان، وكيف يمكن العبث بأصل الأصول مثلًا!
مثال للتبديل والتعديل العبثي في مفهوم الإسلام، والإيمان، والدين:
تقوم فكرة مناقضة التوحيد، والعبث بأصل الدين على اعتماد مناحٍ كلامية وفلسفية مناقضة للسُّنة، ومضادة لفكرة التوحيد، ولو من بعض جوانبها وجوانبه.
ثم تجري محاولةٌ لتطويع النصوص الشرعية، وَلَيِّ أعناق المعاني الإيمانية؛ ليحدث التوافق مع الفكرة الإلحادية.
ثم يساق الكلام، ويُسوَّق الفهم، ويؤخذ بزمام الأفهام على لسان بعض مَن يُنْظر إليه بعين الاحترام، فإذا بالتوحيد تفلسف، وإذا بالإيمان تمنطق، وإذا بالمؤمن تزندق، عياذًا بالله!
على نحو قول الهروي V: «ينظر الناظر الفَهِمُ في جذرها، فيرى مُخَّ الفلسفة عكس لحاء السُّنة!»([21]).
أو على نحو ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «يُعبِّرون بالعبارات الإسلامية القرآنية عن الإلحادات الفلسفية واليونانية!»([22]).
وهذا فخٌّ من أفخاخ هؤلاء قديمًا وحديثًا: «يموِّهون بالتعبير على المعانـي الفلسفية بالعبارات الإسلامية»([23]).
وهذا يُنْشئ في الإسلام اتجاهًا عبَّر عنه الدكتورمحمد محمد حسين بقوله: «يدعو إلى إسلامية متطورة يُفسَّر فيها الإسلام تفسيرًا يطابق الحضارة الغربية، ويبـرِّر أنماطها وتقاليدها»([24]).
ثم الأمر ينتهي إلى شيخ الإسلام في التعبير عن هذه المحاولة بقوله: «وهذا شأن كل مَنْ أراد أن يُظْهر خلاف ما عليه أُمَّة من الأمم من الحقِّ، وإنَّما يأتيهم بالأسهل الأقرب إلى موافقتهم، فإن شياطين الإنس لا يأتون ابتداءً ينقضون الأصول العظيمة الظاهرة، فإنهم لا يتمكَّنون… والغرض هاهنا التنبيه على أن دعاة الباطل المخالفين لما جاءت به الرسل يتدرَّجون من الأسهل الأقرب إلى موافقة الناس إلى أن ينتهوا إلى هدم الدين»([25]).
وهاهنا مثال فكري مفهومي مصطلحي:
«الإسلام» و«الإيمان» و«الدين» و«التوحيد» مصطلحات كلها تدل على عبادة الله وحده عند المسلمين، وكل مَن لم يأت بالتوحيد والشهادتين، فهو كافر عند المسلمين بالإجماع.
وهذا من أوضح المعانـي وأصرحها في القرآن والسُّنة، وكلام العلماء، بل من إجماعهم المعتبر.
فلا يُسوَّى بين مسلم ومشرك، أو بين مسلم ويهودي أو نصرانـي في الإيمان، لا في الدنيا، ولا في الآخرة، والفصل بينهم في الدنيا والآخرة!
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [الحج:17].
وفي الحديث: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنَ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِمَا جِئْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ»([26]).
وظلَّ الأمر مقاربًا على هذا النحو حتى القرن الرابع عشر الهجري حتى جاء العبث الفكري داخليًّا، وهو ما سوف يستثمره الوافد الخارجي الأجنبي عمليًّا.
فنجد الشيخ محمد عبده يُفسِّر الإيمان بقوله: «إنَّ الإيمان هو اليقين في الاعتقاد بالله ورسله واليوم الآخر بلا قيدٍ في ذلك إلا احترام ما جاء على ألسنة الرسل»([27])، فإن سألت عن الإيمان بمحمدٍ ﷺ، قال: «لا إشكال في عدم اشتراط الإيمان بالنبي ﷺ، ويكفي احترام ما جاء على لسانه»([28]).
وهذا يوافق ما قرره شيخه جمال الدين الأفغاني الذي يقول: «إن الأديان الثلاثة -الموسويَّة، والعيسويَّة، والمحمديَّة- على تمام الاتفاق في المبدأ والغاية، وإذا نقص في الواحد شيءٌ من أوامر الخير المطلق، استكملته الثانية»([29]).
وإذا علمنا انتماء الأفغانـي ومحمد عبده للماسونيَّة حينذاك، فإن رئيس المحفل الشرقي الأكبر العالمي وهو محمد رشاد فياض يقول: «الميمات الثلاثة في الموسويَّة والمسيحيَّة والمحمديَّة يجتمعون في ميمٍ واحدٍ، هو ميم الماسونية؛ لأن الماسونية عقيدة العقائد، وفلسفة الفلسفات، إنها تجمع وتوحِّد المتفرقات والمتشتات، وإن ما أورثه الآباء الصالحون للأبناء هو مبادئ الحرية، والمساواة، والإخاء»([30]).
ويقول الدكتور عبد العزيز كامل: «ونحن في منطقة الشرق الأوسط نؤمن بالتوحيد بطريقةٍ أو بأخرى، وأقولها واضحةً: يستوي في هذا: الإسلام والمسيحية واليهودية، حتى الإيمان بالأقانيم الثلاثة في الفكر المسيحي يختم بإلهٍ واحدٍ، هذه منطقة توحيد، والصور تختلف، وتفسيرها الفلسفي يختلف»([31]).
يقول د. محمود حمدي زقزوق: «وتبقى هناك مسألة اختلاف الأديان، فعلى الرغم من أن التعاليم الأساسية للأديان السابقة تتفق مع ما أتى به الإسلام، إلا أن هناك فرقًا بينهما في الأحكام العملية، والثابت على أيِّ حالٍ: أن الخير كل الخير في اعتبار الأديان طرقًا مختلفةً تهدف إلى هدفٍ واحدٍ، والجميع مدعوُّون بنص القرآن إلى التسابق في صالح الأعمال، وفي الخيرات كلِّها: ﴿ﮬ ﮭ﴾ [المائدة:48]، أمَّا الأمور التي اختلف فيها أصحاب الأديان اختلافًا لا سبيل إلى تسويته، فتنصُّ تعاليم القرآن كما جاء في تكملة الآية المشار إليها على أن الله سيُنْبئ هؤلاء وأولئك عندما يرجعون إليه بما كانوا فيه يختلفون ﴿ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ﴾ [المائدة:48]»([32]).
وقد أدَّى تذويب أو إلغاء هذه الفوارق إلى نوعٍ من الموالاة والمحبة المنهي عنها لليهود والنصارى، ومن ثَمَّ إلغاء فريضةٍ من فرائض الإسلام، بل ركن من أركان الإسلام، وهو الجهاد الذي حوَّلوه إلى الدفاع، وعلَّلوا كل حركةٍ من حركاته بأنها للدفاع بمعناه الاصطلاحي الحاضر الضيِّق.
وقد عدَّ الشيخ عبد المتعال الصعيدي مصطفى كمال أتاتورك من المصلحين، وذك في كتابه: (المجددون في الإسلام)، إلى غير ذلك من الأمثلة([33]).
الاستراتيجيات الفرعية
بعد فشل خيار القوة الضاربة، وفشل الحملات العسكرية وما يتبعها من فرض مشاريع الهيمنة الغربية بشكلٍ مباشرٍ، فقد اعتمدت استراتيجيات خادمة للاستراتيجية العليا هي بمثابة تفسير وشرح وبيان لتلك الاستراتيجية التي تقوم على إحداث التغيير داخل الإسلام نفسه!
وقد اعتمدت تلك الاستراتيجية لنحو عشر سنواتٍ، ثم تخلَّل الربيع العربي في السنوات الخمس الأخيرة، وهو ما أدَّى إلى انقطاعٍ واضطرابٍ في مسيرة التبديل والتعديل الفكري ليعود الأمر إلى نصابه في السنة الأخيرة مجددًا.
وعلى كلٍّ، فإن الركائز الاستراتيجية عمليًّا تقوم على ما يلي:
1- حرب عقيدة التوحيد بالإلحاد:
وذلك بالطعن المباشر في إثبات وجود الله تعالى، ثم بالنَّيْل من القرآن، ثم بالتعرض لشخص نبينا ﷺ بالبهتان، ثم انتقاص السُّنة، وهدم مُحْكماتها، ثم بالإرجاف حول مسائل الإجماع القطعي في الشريعة فيما يتعلَّق بالأحكام العملية؛ كحرمة الربا والزنا وشرب الخمر، وغيرها.
ثمَّ بهدم منزلة الصحابة والتابعين، ثم بإسقاط قيمة الأئمَّة الأربعة الفقهاء، ونبذهم بأشنع الاتهامات، والهجوم على (الصحيحين)، وصاحبيهما بالكذب والافتراء، والاستعانة على ذلك كله بما كتبه المستشرقون والملحدون والمنحرفون في كل دينٍ وملَّة كفرية، بل والاستعانة بما كتبه مسلمون في الظاهر، زنادقة ملاحدة في الباطن! وثبت ذلك جماهيريًّا!
ومن أراد على ذلك برهانًا، فليتابع حلقات مُصوَّرة لعدنان إبراهيم، وإسلام البحيري، ومحمد نصرن ومحمد راشد، ومحمد شحرور!
فضلًا عن كتابات كثيرة في هذا الصدد.
ثم ليتابع حلقات تلفزيونية مع ملاحدة يُحْترمون، وزنادقة يُقدَّمون، ومقولات باطلة تبعث، وانحرافات متهافتة تحيا من جديدٍ.
2- حرب عقيدة أهل السُّنة وأصولهم بعقائد أهل البدع وأصولهم والأهواء.
وهذا يبدأ من دعم عقائد الرافضة الغلاة، ويمتدُّ إلى الاتجاهات الاعتزالية العقلانية، والمدرسة التنويرية الإصلاحية الحديثة، وينتهي عند الخلافات الكلامية الأشعرية والماتريدية مع السلفية!
إحياءً لذلك كله، وخلطًا للحابل بالنابل، وانتقاءً للمداخل البدعية في القضايا الأصولية وتبنِّيها. كما سلف مثال الحديث عن الإسلام والإيمان والتوحيد، وجرى عن عمدٍ ضرب المعتدل الفرقي الكلامي بالمتطرف المتشدد السُّني السلفي الوهَّابي، ولم يختص هذا بقطرٍ دون آخر، بل كان عامًّا إلا ما قلَّ وندر.
وفي إطار هذه الحرب الفكرية التي يراد لها أن تستعر، ولا يراد لأُوارها أن يهدأ، أصدرت:
* كتب السب والقذف والبهتان تنال من أهل السُّنة وعقيدتهم.
* وأقيمت المؤتمرات والندوات، وألقيت المحاضرات، وأطلقت الروابط العالمية للاتجاهات الكلامية.
* وجرى التضييق على المناهج والمناشط والأعمال المنسوبة لصحيح المعتقد، وأهل السُّنة بالجملة.
* واستعملت الوسائل الإعلامية في ذلك على أوسع نطاقٍ.
3- حرب طوائف وجماعات الدعوة الإسلامية بالطرقية الغالية:
وهي حرب منهجية ومسلكية، قالت عنها دانيال بابيبس: «إن الغرب يسعى إلى مصالحة التصوف الإسلامي ودعمه؛ لكي يستطيع ملء الساحة الدينية والسياسية وفق ضوابط فصل الدين عن الحياة، وإقصائه نهائيًّا عن قضايا السياسة والاقتصاد، وبالطريقة نفسها التي استخدمت في تهميش المسيحية في أوروبا والولايات المتحدة».
وبعد هذا الإعلان باثني عشر يومًا، وفي 24 أكتوبر 2003م، استضاف مركز نيكسون مؤتمر برنامج الأمن الدولي في واشنطن؛ لاستكشاف مدى الدور الصوفي في تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية([34])!
وكان هذا التوجه وفقًا لتوصيات برنارد لويس اليهودي الأمريكي رأس دهاقنة الحرب الفكرية!
وعبر مسيرة العشر سنوات الأخيرة انطلق نشاط صوفي عالمي محموم يجوب العالم شرقًا وغربًا للدعم والتوجيه والتبشير بالطرق الصوفية، والمسالك الفكرية لها.
– فتأسست عدة اتحادات صوفية قطرية ودولية.
– وعقدت المؤتمرات والندوات التي تُروِّج لفكر ابن عربي، وجلال الدين الرومي، وتحدَّث عن مزايا الطرق والزوايا الصوفية، وافتتحت أكاديميات للتصوف، ومعاهد علمية لا تُدرِّس ولا يُدرَّس بها إلا الصوفية.
– كما سلمت المناصب الدينية القيادية للصوفية الغالية في مصر والمغرب وغيرهما، وقد جرى دعم سياسي رسمي لهذه التوجهات على حساب اضطهاد الحركة الإسلامية المنتسبة للإسلام السُّني المقاوم.
– وأصدرت مؤلفات تهاجم الحركات الإسلامية الأصلية، وتعتبرها بمثابة الخوارج والفرق البدعية، بدءًا من الإخوان، وانتهاءً بالسَّلفيِّين!
– وأما سبب وقوع الاختيار على الطرق الغالية لتبنِّيها، فيجيب عن ذلك الغرب نفسه:
تقول فارينا علم وهي باحثة إنجليزية: «من الممكن أن تصبح الصوفية اليوم بتركيزها على القيم الإسلامية المشتركة، ووضع الأهداف السامية نصب عينيها بمثابة قوةٍ مضادةٍ للإسلام السياسي المجاهد»([35]).
– كما يذكر الاستعمار مواقف الصوفية الغلاة في الهند ومصر والجزائر وغيرها!
ويكفي قول الصادق المهدي وهو من أحفاد المهدي صاحب الحركة المهدية في السودان: «الإسلام الصوفـي منذ نشأته اتَّسم بإسقاط واجب الجهاد، والتخلِّي عن الإيجابية الاجتماعية، فكان أشبه بحركة انطواءٍ ممَّا سهَّل على جماعته التعايش مع نظم سياسية فرضت سلطانًا على المجتمع»([36]).
4- حرب دعاة السلفية ببعض غلاة المنتسبين إليها:
في تقريرٍ لمركز مكافحة الإرهاب بالأكاديمية العسكرية في رويست بوينت بأمريكا نشر عام 2006م، جاء النص الآتـي: «فالولايات المتحدة يمكن أن تدعم بتعقُّل اتجاهات سلفية سائدة، مثل: مجموعة المدخلي، والتي تؤثر في رفع الدعم عن الجهاديين، ولا تدعو إلى العنف، وذلك من خلال دعم المؤلفات، والمحاضرات، والمدارس الجديدة، وهذا سيكون له تأثير على المدى القصير، وهذا سيُعمِّق تجريد العقيدة السلفية من الإيحاء الذي تهتدي به الحركة الجهادية كثيرًا»([37]).
فتأسس توجُّه سلفي بدعم رسمي ليقوم بمثابة مسجد الضرار في المحيط السلفي؛ إذ يُعْلن هذا التيار عن سلفيته أولًا ببعض الشعارات والمظاهر التي تجتذب بعض الشباب والأغرار، ثم لا يلبث أن ينقض على كل مَنْ هو سلفي تجريحًا وتبديعًا، وإسقاطًا وتشويهًا، وللمعاني الشرعية محرفًا ومبدِّلًا.
وهكذا يُضرب التوجُّه السلفي من داخله ببعض من يزايد سلفيًّا على الصادقين، ويعمل لحساب أعداء الدين.
ولا يمنع هذا من وجود بعض المخلصين الصادقين في هذا التوجُّه، وذلك لقلَّة العلم أحيانًا، ولقلَّة الوعي بالحقائق والوقائع أيضًا، فليس كل منتسبٍ لهذا التوجه يعمل للهدم متسترًا، ولا يرتبط بالانحراف المنهجي قاصدًا.
ولا يمنع هذا من وجود غلاة في بابٍ أو أكثر من أبواب العلم أو العمل ممن يستظلون بمظلة السلف الواسعة، وأمثال هؤلاء ينالون قسطًا من الدعم بما يخدم أهداف واستراتيجيات اختطاف الإسلام.
اختطاف الحركة الإسلامية نحو الغلو والعنف
أولًا: فرق وجماعات الغلو العقدي:
الغلو العقدي هو: مجاوزة حد ما شرعه الله ورسوله باعتقاد باطل قد يترتب عليه قول وفعل ما لا يحلُّ، وقد يوجد من الغلو العقدي ما يرتبط به عنف وقتال، وهذا النوع من الغلو وُجِدَ من قديم، وقد قاتل الصحابة الخوارج، واحتسب العلماء على فرقهم وطوائفهم الذين غلوا في حكم مرتكب الكبيرة، فكفروا عصاة المسلمين، ثم تبرأوا منهم كما يتبرأون من الكفار الأصليين، ثم استباحوا دماء مَن اعتقدوهم كفارًا من أهل الإسلام، فقاتلوهم وقتلوهم، وتركوا أهل الأوثان!
وقد يوجد غلو عقدي لا عنف فيه؛ كغلو بعض غلاة الصوفية في قدر النبي ﷺ حتى أفضى بهم إلى اعتقاد ما لا يحلُّ اعتقاده فيه ﷺ؛ كاعتقاد أنَّ له تصرفًا في الكون، أو أنه يملك مغفرة الذنب، أو كشف الضُّرِّ، ونحو ذلك.
وأول احتساب وقع على غلوِّ الخوارج كان احتسابه ﷺ على ذي الخويصرة التميمي الذي قال ﷺ له: «وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ! قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ»([38]).
ثمَّ احتسب عمر على صبيغ بن رعل، وجَلَده حين جعل يضرب القرآن بعضه ببعضٍ، وقطع الشجرة التي بُويع تحتها النبي ﷺ لمَّا رأى ناسًا يقصدونها، فخاف عليهم الفتنة([39]).
واحتسب علي I في قتل ابن سبأ لمَّا أظهر انتقاص أبي بكر وعمر، وغلا في عليٍّ، ودعا بالسيف ليقتله، فشفع له ناسٌ، فنفاه([40]).
واحتسب على الخوارج بعد ذلك بقتالهم، وتبعه عمر بن عبد العزيز.
واحتسب العلماء والأمراء من بعدُ على الزنادقة، كما احتسب الإمام أحمد على المعتزلة في قولهم بنفي الصفات، وخَلْق القرآن، واستمر الحال من ذلك الزمان في الاحتساب على صور الغلو العقدي وطوائفه حتى إذا انتهينا إلى العصر الحديث، ولأسبابٍ متعددةٍ ظهرت جماعات الغلو العقدي مجددًا بأسماء وألقاب شتَّى، فمن ذلك:
جماعة التكفير والهجرة والتوقُّف والتبيُّن، وما انشق عنهما من مجموعاتٍ عرفت بغلوها في الحكم بالتكفير على الحاكم والمحكوم، وتكفير مرتكب الكبيرة، والدعوة إلى اعتزال المجتمعات الجاهلية، والحياة في الصحراء خارج المدن، وغير ذلك من انحرافاتٍ تمتدُّ إلى الأخلاق، ثم انتقلت تلك الجماعة إلى استباحة دماء مخالفيها، والمنشقِّين عنها، ودماء أهل الذمَّة والعهد، ومنذ ذلك الحين والمواجهةُ الفكرية والأمنية على أشدها مع هذه التوجُّهات([41]).
ووجود تلك الجماعات ليس قاصرًا على بلدٍ دون غيرها، فكما وُجدَت في مصر، وُجدَت في اليمن والأردن والجزائر وتونس والجزيرة العربية.
وقد رُصد نشاطٌ ملحوظٌ لها عقب ثورات الربيع العربي، كما في سيناء، وتونس، وليبيا.
وغنيٌّ عن البيان أن هذه الجماعات إذا رفعت شعار الجهاد فتنتقل من غُلوٍّ في باب الاعتقاد إلى غلوٍّ في باب الدماء والأموال، وقد وقع هذا بصورةٍ غير مسبوقةٍ -وللأسف- في العراق وسوريا وغيرهما، على نحو ما سيتضح أكثر في سياق الحديث عن الغلو في الجانب الجهادي والعسكري.
ثانيًا: الغلو في جانب ممارسة الجهاد:
الجهاد ذروة سنام الإسلام ولا شكَّ، بَيْد أن الإنسان إذا حمل سلاحًا، تأجَّجت في جوانحه مشاعر القوة والقدرة، فما لم يوجد العِلْمُ الهادي، والانضباطُ التربويُّ، فإن أخطاء قد تقع بسبب سوء استعمال القوة، والإفراط في جانبها.
وقديمًا وقعت حوادث فردية في الجهاد احتسب فيها النبي ﷺ على مَنْ أخطأ فيها؛ كحادثة قَتْل أسامة بن زيد L رجلًا في أثناء الجهاد بعد أن قال: «لا إله إلا الله»، وفدى النبيُّ ﷺ بعض القتلى بسبب أخطاءٍ وقعت في أثناء الجهاد([42]).
وهذه النوادر تؤكد قاعدة العدل والانضباط التي شهد بها الأعداء!
يقول أندرو بانترسون: «إن العنف باسم الإسلام ليس من الإسلام في شيءٍ، بل إنه نقيض لهذا الدين الذي يعني السلام، لا العنف»([43]).
فإذا انتقلنا إلى العصر الحاضر، والجهاد يمارس في ظلِّ نكول دولٍ وحكوماتٍ عن فريضته، واضطرار فئاتٍ من الشباب أن يمارسوا الدفع عن أنفسهم وبلادهم في البوسنة والهرسك ضدَّ التطهير العِرْقي، وضد الاحتلال الروسي، ثم الأمريكي في أفغانستان، وضد الروس في الشيشان، والأمريكان في العراق، وغيرها.
ونشأت جماعات جهادية لدفع المستعمر، وردِّ عادية اليهود في فلسطين، وذلك في ظل غياب الدولة من جهةٍ، ووجود فجوةٍ بين العلماء والشباب المجاهد من جهةٍ أخرى، واتساع الشُّقة بين التأصيل النظري والممارسة الواقعية للجهاد على الأرض.
فإذا انضم إلى ساحة الجهاد مَنْ عنده نوع غلو عقدي، أو تسرُّع في التكفير وإجراء الأحكام، فإن ذلك مَدْعاة للوُلُوغ في دماء معصومة بغير برهانٍ.
وتحت كلِّ هذه الضغوط جاء الجهاد ضد المستعمر الغربي، ثم جاء الجهاد ضد الظلم والاستعباد الذي حاوله الروس في بلاد الأفغان، وفي ظلِّ تقاعس حكومات، نَشَطتْ حركاتٌ، وتقدَّم لقيادتها شباب قبل نحو خمسةٍ وثلاثين عامًا، وتكوَّنت بينهم ثقافة جهادية تختص بهم، فيها ما هو مقبول قطعًا، وفيها ما هو مردود قطعًا، وفيها ما هو من موارد النظر الشرعي، والخلاف الاجتهادي.
ودُوِّنت مؤلفات في أثناء تلك الغمار عن شرعية الجهاد، والإعداد له، وقتال الطائفة الممتنعة عن تحكيم الشريعة، وحكم استهداف الكفار المدنيين، والموقف من جيوش البلاد التي لا تحكم بالشريعة، وغيرها مما هو منشور الآن بشكل إلكترونـي، وعلى نطاق واسع.
وكل تلك الكتب ترسم خطوط الفكر والممارسة لهذا العمل، والتي ربما عنيت بالفعل فقط دون دراسة الآثار، أو تنمية روح الاستشهاد، وثقافة الموت في سبيل الله بدلًا من ثقافة الحياة في سبيل الله، وإخراج مشاريع للشهادة أكثر من مشاريع للنصر!
ولأسبابٍ عديدةٍ وقعت فجوة بين العلماء والمجاهدين، واتسعت الشُّقة بين التأصيل النظري الشرعي للجهاد، وتحقيق مناطه، وتوقيت ممارسته، وكفاية إمكانياته، ودقة حساباته، وسلامة مآلاته، وحال الأمة وأولويَّاتها، وتقدير المصالح والمفاسد والموازنة بينهما، فكانت النتيجة: تَصدُّر غير المتأهلين في ظلِّ ظاهريةٍ في فَهْم النصوص، ونَقْص في إدراك مناطات الأحكام ومقاصد الشريعة على حدٍّ سواء، مع اعتبارها من المصالح المظنونة فحسب!
ومما ينبغي تقريره على أية حال أن هذه الجماعات المقاتلة قد تمكَّنت من استقطاب أعدادٍ كبيرةٍ من الشباب من اتجاهات شتى، فمنهم من هو منتسب لجماعات عقدية غالية يَشيع لديها فكرُ التكفير، وبدع الغلو في الحكم على الناس، ومنهم دون ذلك.
لكن التزاوج بين جماعات الغلو العقدي وجماعات الغلو الجهادي ينتج تركيبة شديدة الخطورة، تجمع بين تكفير المجتمعات، ووجوب جهاد الدُّول التي لا تحكم بشرع الله، ولتعطيلهم للجهاد في هذا العصر أيضًا، وأنه تنطبق على تلك الدول بجيوشها أحكام الطائفة الممتنعة، مع اعتقادهم أن مفسدة بقاء الكفر أعظم من مفسدة القتل، وربما اعتقدوا أن التوسُّع في قتل الأبرياء المعصومين استدلالًا بمسألة التتـرُّس، ودعوى جواز قتل الأطفال والنساء في بلاد المسلمين بدعوى تبييت العدوِّ، وأن هذه الممارسات الجهادية التي شابها الغلو داخلة في جهاد الدفع المتعيَّن.
ويرتبط بذلك أمور تتعلق بقضية الولاء والبراء، والغلو فيها، وكذلك مسألة الغلو في البيعة التي يأخذونها من أفرادهم.
وهذه الإشكالات تعتبر عابرةً لتنظيمات الجهاد كافة، بدءًا من جماعة الجهاد الإسلامي المصرية، ومرورًا بالجماعات المسلحة في ليبيا والجزائر وغيرهما، وانتهاءً بتنظيم القاعدة وتنظيم الدول الإسلامية([44]).
وبناءً على ما سبق، فإنَّ التنظيمات الجهادية التي ارتبطت بقاعدة فكرية تتبنَّى الغلو قد أثرت في اجتذاب مئات من الشباب نحو الغلو والعنف معًا في العقود الماضية ليبلغ الأمر ذروته في العقد الأخير.
لقد بات معلومًا أن أنظمة عربية مستبدة قد اتخذت من تأجيج الغلو -بل من صناعته- مشجبًا تعلِّق عليه فشلها تارةً، وخيانتها لشعوبها أخرى!
وغدا الحديث مكررًا عن أعمالٍ قيل إنها إرهابية ارتكبت بأيدي الغلاة لتشعل فتيل الطائفية، أو لتوجد ذرائع الخوف والبطش والتنكيل بالجملة، وصار متعارفًا على أن القوانين الاستثنائية هي الأصل في كبرى البلدان العربية؛ نظرًا لاستشراء حالةٍ عامةٍ من الغلو العنيف الذي قد يعبر عنه بالإرهاب.
وبمراجعة مزاعم كثيرٍ من دول المنطقة في العقود الأخيرة يظهر بجلاءٍ أن أكبر مستفيدٍ من وقوع حوادث تفجيرات في دور العبادة من كنائس ومساجد ومستشفيات وغيرها من مرافق هي ذات الجهات التي تسعى لتقييد الحريات، وصناعة الخوف.
إنَّ ما يعبَّر عنه بأقل الخسائر لدى تلك الأنظمة يعني التضحية ببعض الأرواح والأموال في سبيل استدامة تلك القوانين التي لا يمكن فرضها في الأحوال العادية المستقرة.
على أنَّ صناعة الغلو تنشأ -ولا بدَّ- من خلال المواجهة الأمنية لتلك الجماعات بالفعل، إذْ لا جدال في أن جماعات التكفير والهجرة نشأت أواخر الستينات بمصر جرَّاء العنف الذي مُورِسَ تُجاه جماعة الإخوان المسلمين.
لقد كان شكري مصطفى شابًّا في جامعة الإخوان يوم أن اعتقل، ولا يزيد عمره عن ثلاثة وعشرين عامًا عام 1965م، فلما أخرج عام 1971م، تمت بيعته أميرًا للمؤمنين، وقائدًا لجماعة المسلمين -بحد زعمهم- ثم بدأ يمارس أنشطته، وينشر أفكاره الغالية.
وعليه، فإنَّ صناعة الغلو، وتأجيج جذوته، يجري بصورة مباشرة مقصودة أحيانًا، وأحيانًا أخرى بصورة غير مباشرة جرَّاء معالجة غير رشيدة.
وأخيرًا، فكما ينتسب الإرهاب إلى جماعاتٍ وميليشياتٍ، فإنه ينتسب أيضًا إلى الدول التي قد تمارسه ضد شعبها، وهو مصطلح قديم تحدَّث عنه أرسطو حين يستخدمه الطاغية ضد رعاياه.
وقد حدَّدت منظمة العفو الدولية أشكال إرهاب الدولة: بالاحتجاز التعسُّفي، والمحاكمات غير العادلة، والتعذيب، والقتل السياسي، أو الإعدام خارج نطاق القضاء([45]).
لا امتراء في أن النظام الإيرانـي تربطه علاقات وثيقة ومعقدة بكثير من التنظيمات الجهادية، بما في ذلك المعتدلين والغلاة على حدٍّ سواء، من هذه العلاقات ما هو بيِّن معلن، ومنها ما هو سري خفي، ومنها علاقات تعاون وصداقة، وعلاقات مصالح مشتركة مع بقاء العداوة.
وصفحة العلاقات الإيرانية بالغلو وتنظيماته مُتْرعة بالإشكالات، وهذا يرجع لأسباب متعددة، منها: سَعْي الإيرانيين لتصدير ثورتهم الدموية، وحرصهم على إيجاد توترات كبيرة في المحيط السُّني المجاور لهم، مع وجود قواسم مشتركة بينهم وبين الغلاة في جوانب فكرية أيديولوجية، وجوانب عملية أيضًا، وأخيرًا فإن جزءًا مهمًّا من ثقل هذا النظام إقليميًّا يرتبط بقدرته على التأثير سلبًا في الدول السُّنية.
ثم إن هذا النظام يقوم على قاعدةٍ من الغلو العقدي في آل البيت، ويحمل أيضًا عقيدة تكفيرية لأهل السنة بالجملة، كما يحمل مشروعًا للتشيُّع الديني والسياسي معًا، ولذا فإن دفع الغلو في محيطه الإقليمي يعتبر جزءًا من رسالته وأيديولوجيته التي عليها قام.
وقد نسبت أعمال كثيرة للحرس الثوري الإيراني، وفَيْلق القدس صُنِّفت ضمن أعمال إرهابية على مستوى إقليمي ودولي، فلقد قدَّمت إيران دعمًا لا نهائيًّا لنظام الأسد، وقاتلوا بشكل مباشر معه ضد الشعب السوري وثورته، وبشكل سافر شارك حزب الله الشيعي اللبناني المدعوم إيرانيًّا في القتال ضد الثوار بسوريا.
ولا يفوت أن يذكر الدور الإيرانـي في دعم الغلو الحوثي المسلح باليمن، وما جرى من قَتْل اليمنيين لتستقرَّ للحوثيين الأمور باليمن.
وهكذا يبدو النظام الإيرانـي المُسمَّى بـ «نظام ولاية الفقيه» أحد أهم القوى الداعمة لاختطاف الإسلام نحو الغلو، وصناعة صورة العنف في المنطقة، وذلك عَبْر سجلٍّ حافلٍ بدعم كل ما مِن شأنه تقديم الخدمة للإرهاب والتطرف بشكل مالي وعسكري.
خامسًا: النظم الغربية (الصليبية والصهيونية):
إن المتتبع للتاريخ الأوروبي والغربي القديم والمعاصر سوف يقف على نفسية إقصائية عنيفة، تحتكر الحق، وتُطوِّعه لمصالحها الذاتية، ولا تمنح وكالةً عنه لأحد كائنًا من كان، فتاريخهم قام على الخصام والصدام، وعلى أيديهم تحوَّلت النصرانية من دين متسامح إلى دين محارب على يد القديس أوغسطين (430م)، ودشنوا مبكرًا مصطلح: «الحرب العادلة» حيث ساد لديهم اعتقاد بأن مملكة الرَّبِّ لا تقوم في الأرض إلا باستخدام القوة العسكرية لفرض العقيدة الدينية!
وبين كتابي أوغسطين «العقيدة المخالفة»، «ومدينة الرب»، وصراع الحضارات نحو ستة عشر قرنًا من الزمان، كلها تشهد بأن العنف والدموية صناعة غربية.
وإذا أسْعَفت المتابعَ ذاكرتُهُ، سيقف على سبعين مليونًا من ضحايا الحربين العالميتين، وسيعرف أن عدد سكان الأمريكتين قد تقلَّص من ثمانين مليونًا إلى عشرة ملايين بدخول الضيوف الغربيين إلى هناك!
«إنَّ الغرب يرفض ويُدين المختلفين، وهو بهذا الرفض للأشكال الإنسانية الأخرى يحمل أسباب انهياره النهائي، ويضع مستقبل الإنسانية في خطر حقيقي»([46]).
وهذه الحقيقة -بل الأزمة- هو ما حدا بنعوم تشومسكي أن يخرج عدَّة كتب في هذا السياق([47]).
ولا ينسى الشرق ما فعلته الحملات الصليبية حين دخلت القدس، ولا ما فعلته حملات التفتيش في الأندلس على مدى نحو أربعة قرون.
ولا تنسى ذاكرة التاريخ ما فعله النصارى باليهود، ففي بريطانيا أخرج منها اليهود (1290م)، وبقوا محرومين من دخولها لأكثر من ثلاثة قرونٍ ونصف!
بل ولا يمكن أن ينسى التاريخ حروب الكاثوليك والبروتستانت لقرنين من الزمان ليذهب أربعون بالمائة من سكان وسط أوروبا ضحيةً للحروب الأحد عشر التي قُتِلَ فيها نحو عشرة ملايين وفقًا لإحصاء فولتير([48]).
أما ما يجري اليوم من حربٍ عالميةٍ على الإسلام وأهله، فأمرٌ يحتاج رَصْده إلى مجلدات، لا ورقات.
والأمر كما عبَّر عنه بومبيو وزير خارجية أمريكا بقوله: «الإسلام المتطرف يبقى تهديدًا، وسنواصل عملنا ضدَّ الأشرار»([49]).
وحين اعترف ترامب بسيادة إسرائيل على الجولان، قال بومبيو أيضًا: «إن الرب اختار ترامب لحماية ودعم إسرائيل»([50]).
وهذه التصريحات تعيد إلى الأذهان ما قاله الأب أريان الثانـي مفجر الحروب الصليبية في مجمع «كلير مونت» عام 1095م حيث قال: «أيها الجنود المسيحيون، اذهبوا وخلِّصوا البلاد المقدسة من أيدي الأشرار، اذهبوا واغسلوا أيديكم بدمائهم أولئك المسلمين الكفار»([51]).
إن العقلية المسكونة بالعدوان على بني الإنسان إذا غذَّتها ديانة محرفة تؤجج الرغبة في الدماء، فإنها تقف بالبشرية على حافَّة الفناء، لا سيما إذا غدت مدججةً بسلاحٍ يكفي لإبادة الأرض وساكنيها عدَّة مرات([52])!
إن الغرب يقف وراء تفاقم الإرهاب في العالم عامَّة، وهو أكبر القوى الداعمة له في الشرق.
يقول المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي: «الواقع أن قيادة الولايات المتحدة الحالية متطرفة في هذا السياق، ولكن الأمريكيين ملتزمون بصراحةٍ ووضوحٍ باستخدام العنف للسيطرة على العالم، وهم يقولون ذلك علنًا»([53])، فأيُّ إرهاب أكبر من هذا؟! وأيُّ امتهان لما يُسمَّى بالشرعية الدولية أعنفُ من هذا؟!
ثم يقول: «ويجب أن نعي أن قسمًا كبيرًا من العالم يَعتبر نظام حكم واشنطن إرهابيًّا، ففي السنوات الأخيرة قامت الولايات المتحدة بأعمالٍ، أو دعمت أعمالًا في كولومبيا، ونيكاراغوا، وبنما، والسودان، وتركيا، وهذه أمثلة قليلة فقط تنطبق عليها التعريفات الأمريكية للإرهاب، وذلك عندما يطبق الأمريكيون المصطلح على الأعداء».
ثم يتابع قائلًا: «في أكثر نشرات المؤسسات الرسمية رزانة «فورين أفيرز» كتب «صموئيل هنتنجتون» يقول: بينما تُندِّد الولايات المتحدة بانتظامٍ ببلدانٍ متنوعةٍ «كدولٍ مارقةٍ»، فإنها صارت تعتبر في أعين بلدان كثيرة الدولة العظمى المارقة، والتهديد الخارجي الأعظم لمجتمعاتها»([54]).
وتاريخ الأداء الغربي والأمريكي خاصةً في نحو قرنٍ ونصفٍ من التأجيج والإذكاء المستمر للعدوان باستعمال القوة العسكرية الغاشمة ينتهي إلى تأكيد عدوانية تُهدِّد بقاء العالم في النهاية.
ومن غير شكٍّ، فإنَّ الغلوَّ المنسوب إلى بعض فئاتٍ إسلاميةٍ قد أمكن استثماره وإمداده غربيًّا، ومن ثَمَّ توظيفه في قتال الفئات الإسلامية على الأرض في العراق وسوريا بدعم الطائرات الغربية، ما أدَّى إلى تغلُّب التحالف الغربي بمساعدة الغلاة، ثم جرى حصرهم أخيرًا في «الباغوز» السورية، ومن ثَمَّ إعمال القتل والأَسْر فيهم جميعًا؛ نساءً وأطفالًا ورجالًا.
وهو إرهابٌ تشترك فيه دول الغرب مجتمعةً ومنفردةً عبر تحالفات دولية وبدونها.
وهو إرهابٌ ضاربٌ في شِعَاب الماضي والحاضر، ومستكنٌّ في النفسية الدموية العنيفة في المستقبل.
والغرب نفسه -وأمريكا في القلب منه- تتعرَّض لهذا الإرهاب داخليًّا، وما حوادث المذبحة والتفجيرات في مركز أوكلاهوما الفيدرالي التجاري عام (1995م) عن الأذهان ببعيدٍ، وقد قتل فيها (168) شخصًا، ووُجِّهت التهمة فورًا إلى المسلمين، ثم تبيَّن الأمر من قريبٍ، فاتُّهم فيها «تومني مكافي» الأمريكي المتطرف، ولم يسمح لأحدٍ وقتها أن يَصِمَ المسيحية أو اليهودية بتطرفٍ، أو يوجه إليهما نقدًا، أما في حال لو كان الفاعل مسلمًا، فلا مانع من تدمير بلادٍ بأَسْرها، وإعلان الحرب على دينها وثرواتها.
تاريخ الحرب على الحركة الإسلامية وفكرتها الأصلية 8
حقيقة الحرب الفكريَّة المعاصرة 13
بين مصطلح حرب الأفكار ومصطلحات أخرى. 15
اختطاف الحركة الإسلامية الأسباب والبواعث.. 17
أولًا: المدُّ الدَّعوي المعاصر. 18
ثانيًا: الإخفاق العسكري الغربي: 19
ثالثًا: تنامي الرُّقعة الإسلامية في الغرب، وتحسن صورة الإسلام نسبيًّا هنالك. 21
رابعًا: العداء الديني للإسلام وأهله 23
خامسًا: وجود بوادر تطرف وغلو وعنف تدعو لاستثمارها 25
سادسًا: هزيمة التيار السُّني المقاوم للاحتلال. 27
اختطاف الإسلام أهداف وغايات واستراتيجيات.. 32
1- حرب عقيدة التوحيد بالإلحاد: 41
2- حرب عقيدة أهل السُّنة وأصولهم بعقائد أهل البدع وأصولهم والأهواء. 42
3- حرب طوائف وجماعات الدعوة الإسلامية بالطرقية الغالية: 43
4- حرب دعاة السلفية ببعض غلاة المنتسبين إليها: 45
القوى الفاعلة في اختطاف الحركة الإسلامية نحو الغلو والعنف.. 47
أولًا: فرق وجماعات الغلو العقدي. 47
ثانيًا: الغلو في جانب ممارسة الجهاد 49
خامسًا: النظم الغربية (الصليبية والصهيونية) 55
([1]) أحمد (14631)، عبد الرزاق في المصنف (10158)، البيهقي في السنن (2/10، 11).
([2]) الواشنطن بوست في 27/3/2006م.
([3]) الواشنطن بوست في ديسمبر 2006م.
([4]) مؤتمر صحفي عقد في 17/4/2004م.
([5]) الأصول الفكرية لموقف الغرب من نبي الإسلام، د. باسم خفاجي (ص60).
([6]) نقلًا عن قادة الغرب، يقولون: دمِّروا الإسلام، وأبيدوا أهله، جلال العالم (ص31).
([7]) الفرصة السانحة، نيكسون، ترجمة أحمد صدقي مراد، القاهرة، (ص28، 138، 152، 153).
([8]) معركة الثوابت بين الإسلام والليبرالية، عبد العزيز مصطفى كامل (ص210).
([9]) مقال: 11 سبتمبر: المفصل الكارثي في تعايش الحضارات، لإياد أبو شقرة، صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 17/سبتمبر/2006م.
([10]) العدد السنوي من مجلة النيوزويك الأمريكية، ديسمبر (2001)، فبرارير (2002).
([11]) انتشار الإسلام في أوروبا وراء تحذيرات سكرتير البابا، مقال لخالد أبي بكر، موقع: إسلام أون لاين الإلكترونـي، الجمعة 27/7/2007م.
([12]) صحيفة لاكسبريس الفرنسية، من مقال بعنوان: عشرات الفرنسيين يُقبلون على اعتناق الإسلام يوميًّا، بقلم: كلار شارتيه 3/4/2006م.
([13]) من تلك الجهات: معهد السلام بواشنطن الذي أُنشئ عام 1984م بقرار من الكونجرس.
([14]) مقال: ظاهرة القمص زكريا بطرس لماذا؟
منتديات أتباع المرسلين الإلكتروني.
([15]) أخرجه أحمد (1851)، وابن ماجه (3029)، وصححه الألبانـي.
([16]) مقال الواشنطن بوست في ديسمبر 2005م.
([17]) عن جريدة اللواء البيروتية 10/07/1991م.
([18]) مقال الواشنطن بوست في ديسمبر 2005م.
([19]) مقال الواشنطن بوست 27/3/2006م.
([20]) مؤتمر صحفي في 17/4/2007م.
([21]) ذم الكلام، للهروي (5/134).
([23]) جامع المسائل، لابن تيمية (6/139)، عالم الفوائد.
([24]) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (1/6).
([25]) بيان تلبيس الجهمية (3/511، 515)، الشئون الإسلامية والأوقاف.
([27]) رسالة التوحيد، محمد عبده (ص189).
([29]) الأعمال الكاملة، جمال الدين الأفغانـي، جمعها د. محمد عمارة (1/69).
([30]) الإسلام والحضارة الغربية، د. محمد محمد حسين (ص196، 197)، عن كتاب (النور الأعظم) لمحمد رشاد فياض (ص112).
([31]) الإسلام والعصر، د. عبد العزيز كامل (ص194)، عن كتاب (العصريون معتزلة اليوم)، يوسف كمال (ص109).
([32]) بحوث ودراسات في ضوء القرآن الكريم، د. محمود حمدي زقزوق (ص144، 145).
([33]) الدخيل في التفسير في القرن الرابع عشر، عبد الرحيم فارس أبو علية (1/108).
([34]) فهم الصوفية واستشراف أثرها في السياسة الأمريكية، مركز نيكسون 2004م، ترجمة د. مازن مطبقاني.
([35]) مقال المبادئ الخمسة لمستقبل الإسلام، فارينا علم، موقع الديموقراطية المفتوحة (Open Democray).
([37]) سرقة تنظيم القاعدة (ص20).
([38]) البخاري (3610)، ومسلم (1064).
([39]) البدع والنهي عنها، لابن وضاح ص102).
([40]) الفرق بين الفرق، للبغدادي (225).
([41]) من المراجع المهمة في هذا الصدد: الحكم بغير ما أنزل الله، وأهل الغلو (221) لمحمد سرور زين العابدين، الاحتساب على الغلو المعاصر، لمحمد يسري، الغلو في الدين، عبد الرحمن اللويحق.
([42]) سنن البيهقي الكبرى (18752).
([43]) لا سكوت بعد اليوم، بول فندلي (ص91).
([44]) من الكتب المهمة في هذا الصدد: الانحرافات المعاصرة في مسائل الجهاد، راشد الزهراني، سلسلة مراجعات الجماعة الإسلامية المصرية، مبادرة وقف العنف رؤية واقعية، وضرورة شرعية، الجماعة الإسلامية المصرية.
([45]) من الكتب المهمة: الإرهاب الدولي وإرهاب الدولة، وحيد عبد المجيد.
([46]) أمريكا طليعة الانحطاط، روجيه جارودي (ص142).
([47]) منها: ماذا يريد العم سام، قراصنة وأباطرة الإرهاب الدولي في العالم الحقيقي، الهيمنة أم البقاء، الإرهاب والإرهاب المضاد، وغيرها.
([48]) قصة الحضارة، ول ديورانت (3/4)، (4/36-53).
([49]) موقع قناة الجزيرة عاجل في 22/4/2019م.
([50]) قادة العرب يقولون: دمِّروا الإسلام، أبيدوا أهله (ص31).
([51]) الإسلام والغرب، عبد الودود شلبي (ص15).
([52]) يراجع: أمريكا الاستعمار الجديد: من الاستيطان الأبيض إلى الهيمنة العالمية، فيكتور كيرنان.