اللغة العربية بين اختطاف التأويل واختطاف التجهيل
كان لخصوصية اللغة العربية روحياً وتركيبياً أثر كبير في خصوصية الثقافة العربية والأدب العربي؛ فقد كان استيعاب اللغة العربية للقرآن الكريم عاملاً روحياً بعيد الأثر في صبغ الثقافة والحضارة العربية بصبغة دينية دنيوية منقطعة النظير، كما كانت خصائص اللغة العربية التركيبية عاملاً بعيد الأثر في تفرد الأدب العربي بجماليات يندر وجود مثيل لها في آداب الأمم الأخرى، حتى كاد الأدب العربي أن ينفرد بمنهج (التذوق) الذي يقوم أول ما يقوم على أساس من استعذاب الكلمة المفردة والجملة المنسقة، ومراعاة نظم الكلمات لفظاً ومعنى.
وظلت اللغة العربية في العصر الجاهلي وما قبله حبيسة الجزيرة العربية محصورة فيها، وساعد هذا على نضجها واكتمالها؛ فقد سلمت من الاختلاط بغيرها من اللغات التي تمتلك قوة حضارية ضاربة، فكأن الله جل وعلا- لأمرٍ سبق في علمه- حفظها من تأثيرات اللغات الحضارية التي ربما كانت ستسلبها بعض خصوصيتها فتضعف أو تذوي قبل أن يشتد عودها وتمتلك أسباب المقاومة بظهور الإسلام ونزول القرآن.
فلما جاء الإسلام وقدر الله للعرب أن يخرجوا من عزلتهم وجاهليتهم وأن يتسلموا مشعل الحضارة الإنسانية؛ خرجوا يحملون عقيدتهم ولغتهم التي اكتمل نموها وبلغت الغاية في البيان. وفي أقل من قرن من الزمان استطاعت هذه اللغة البدوية أن تواكب باكتمالها هذا مسيرة الحضارة التي خطا أهلها فيها خطوات واسعة، وأن تتصدى لكل التحديات التي جابهتها في الأقطار المجاورة، وأن تتفوق على كل اللغات المحلية التي لم تقوَ على مجابهتها والصمود لها، وأن تفرض سيادتها على منطقة الشرق الأدنى والأوسط وأطرافهما.([1])
وقد امتازت اللغة العربية عن لغات الأرض قديمها وحديثها بميزتين أساسيتين هما: القِدَمٌ والحفظ؛ فليس ثمة لغة من اللغات الحالية هي أقدم من اللغة العربية بصورتها التي وُلدت بها وثبتت عليها، وليس ثمة لغة من اللغات الحالية تكفل الله بحفظها حين تكفل بحفظ كتابه الكريم الذي نزل بها سوى اللغة العربية، وليس ثمة لغة من اللغات الحالية يقرأ أبناؤها ما أنتجته قرائح أسلافهم- شعراً ونثراً- منذ ما يقارب الألفي سنة أو يزيد فيفهموه على وجهه الصحيح سوى اللغة العربية، ولو لم يكن لها من الفضل سوى هاتين الميزتين لكفاها ذلك فضلاً ورفعة وشرفاً على كل اللغات.
وكان أن عَزَّت اللغة بعز أهلها وظلت قروناً عديدة لغة العلم والمعرفة والثقافة والحضارة، وبوابة الأمم أفراداً وجماعات للتقدم والرقي. وقد أصبح من المكرور المملول أن نقول: إن شباب ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا- في فترات مجد المسلمين- كانوا يأتون إلى الأندلس ليتلقوا العلم على أيدي العلماء المسلمين، وكانت العربية آنذاك هي لغة العلم؛ فكان لزاماً على كل طالب منهم أن يتعلم العربية أولاً.. وكانوا إذا رجعوا إلى بلادهم تفاخروا أمام أقرانهم بالمصطلحات العربية والألفاظ العربية والشعر العربي.. بل كانوا يستفتحون مناقشاتهم لقومهم بالعربية؛ ليعرف محدثهم أنهم من أهل العلم والثقافة والمعرفة (تماماً كما يفعل شباب العرب الآن)، وقد تنبهت الكنيسة آنذاك لهذا الخطر؛ فتوعدت هؤلاء الشباب (الرقعاء!!)- كما سمتهم- بالحرمان من ملكوت السماء إن لم يتوقفوا عن ذلك!!، وفي سنة 240هـ/854 م أصدر القس ألفارو القرطبي (وثيقة آهات) سماها (الدليل المنير) يتحسر فيها على الشباب المسيحي الذي تعرَّبَ وابتعد عن ثقافته ولغته ودينه.. يقول فيها: “يطرب إخواني المسيحيون بأشعار العرب وقصصهم، فهم يدرسون كتب الفقهاء والفلاسفة المحمديين لا لتفنيدها، بل للحصول على أسلوب عربي صحيح رشيق، فأين تجد اليوم عالمًا مسيحيًا يقرأ التعليقات اللاتينية على الكتب المقدسة؟ وأين ذلك الذي يدرس الإنجيل وكتب الأنبياء والرسل؟ واأسفاه.. إن شباب المسيحيين الذين هم أبرز الناس مواهب ليسوا على علم بأي أدب ولا أية لغة غير العربية، فهم يقرؤون كتب العرب ويدرسونها بلهفة وشغف، وهم يجمعون منها مكتبات كاملة تكلفهم نفقات باهظة، وإنهم ليترنمون في كلّ مكان بمدح تراث العرب، وإنك لتراهم من الناحية الأخرى يحتجون في زراية إذا ذُكرت الكتب المسيحية بأن تلك المؤلفات غير جديرة بالتفاتهم.. فواحرّ قلباه! لقد نسي المسيحيون لغتهم، ولا يكاد يوجد منهم واحد في الألف قادر على إنشاء رسالة إلى صديق بلاتينية مستقيمة! ولكن إذا استدعى الأمر كتابة بالعربية فكم منهم من يستطيع أن يعبر عن نفسه في تلك اللغة بأعظم ما يكون من الرشاقة، بل قد يقرضون من الشعر ما يفوق في صحة نظمه شعر العرب أنفسهم”.. هذا ما كتبه ألفارو القرطبي.. ولاحظ ارتباط اللغة عنده بالدين.
ولم يقتصر الأمر آنذاك على اللغة؛ بل وصل تقليد الأوربيين للعرب والمسلمين إلى المأكل والمشرب والأزياء والنظافة الشخصية التي لم يكن الأوربيون يعرفون عنها شيئاً.. ونظرة سريعة في كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ، أو كتاب المستشرقة الألمانية (زيجريد هونكه) تضع يدك على كم التخلف والجهل اللذين كان الأوربيون يتقلبون فيهما.. والذي اغتسلوا من أدرانه بعد احتكاكهم بالمسلمين، ولم يكن تقليد الأوربيين للمسلمين مقتصراً على عوامهم فقط؛ بل وصل إلى خواصهم وأمرائهم وملوكهم وبعض باباواتهم؛ حتى إن (بلدوين) مغتصب القدس أطلق لحيته كالمسلمين وارتدى الزي العربي، وضرب (بتانكرد) مغتصب أنطاكية صورته على النقود بالزي العربي، وحرص (روجيه الثاني) امبراطور النورمان على ارتداء الملابس العربية في بلاطه وتعلم العلوم العربية والتحدث بالعربية.. أما البابا (سلفستر الثاني) فقد بدأ حياته العلمية في قرطبة وتعلق بالعرب وعشق علومهم وانبهر بهم حتى قال مرةً عن مكتبة القاهرة في زمنه:” إنه لمن المعلوم تماماً أنه ليس ثمة أحد في روما له من المعرفة ما يؤهله لأن يعمل بواباً لتلك المكتبة، وأنَّا لنا أن نعلم الناس ونحن في حاجة لمن يعلمنا، إن فاقد الشيء لا يعطيه”.
أما تأثير اللغة العربية بمفرداتها وألفاظها في اللغات الأخرى فهذا بحث ضخم قد لا تجمعه الأسفار ذوات العدد؛ تماماً مثل بحث تأثير الأدب العربي- بشعره ونثره- في آداب الأمم الأخرى فارسية وهندية وأفريقية وأوروبية، وحسبنا أن نعلم أن الكلمات العربية في اللغات الإسلامية كالفارسية والتركية والأوردية والمالاوية والسنغالية أكثر من أن تحصى، والكلمات العربية في الإسبانية والبرتغالية الألمانية والإيطالية والإنكليزية والفرنسية ليست قليلة أيضاً. كما أن العربية قد غزت بحروفها كثيراً من هذه اللغات فكتبت تلك اللغات بتلك الحروف العربية؛ بل وصل تأثيرها في اللغات الأخرى عن طريق الأصوات والحروف والمفردات والمعاني والتراكيب أيضاً، وأدى تفاعل العربية باللغات الأخرى إلى انقراض بعضها وحلول العربية محلها كما حصل في العراق والشام ومصر, وإلى انزواء بعضها كالبربرية وانحسار بعضها الآخر كالفارسية.([2])، ولعل هذا هو الذي دفع مستشرقاً كـ (رينان) أن يقول في كتابه (اللغات السامية) عن اللغة العربية:” إن انتشار اللغة العربية ليعتبر من أغرب ما وقع في تاريخ البشر, كما يعتبر من أصعب الأمور التي استعصى حلها؛ فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادىء ذي بدء, فندت فجأة على غاية الكمال سلسة أية سلاسة.. غنية أي غنى… كاملة بحيث لم يدخل عليها منذ ذلك العهد إلى يومنا هذا أدنى تعديل مهم, فليس لها طفولة ولا شيخوخة… ظهرت لأول أمرها تامة مستحكمة, ولا أدري هل وقع مثل ذلك للغة من لغات الأرض قبل أن تدخل في أدوار مختلفة… فان العربية ولا جدال قد عمت أجزاء كبرى من العالم”.
وسائل وأساليب اختطاف اللغة العربية:
ولأنه لا توجد- الآن- لغة حية ترتبط بدينٍ أو كتابٍ مقدس كارتباط العربية بالقرآن والإسلام؛ فقد كانت الحرب عليها فرعاً عن الحرب على الإسلام ذاته بكتابه الذي هو معجزة لغوية خالدة بخلود معجزة التوحيد الذي قامت عليه الأرض والسموات، وما أراد أحدٌ من الناس أو أمة من الأمم انتقاص الإسلام أو حربه أو اختطافه بتشويه مبادئه أو حرفها عن فطرة التوحيد والعبودية؛ إلا وضع همه في الحرب على العربية ابتداءً، أو اختطافها بالتأويل حيناً وبالتجهيل أحياناً أخرى!!
اختطاف التأويل:
واختطاف التأويل الذي نقصده هنا هو ذلك الاختطاف الذي يَحْرِفُ المصطلح عن مضمونه كُلِّهِ أو بعضه- جهلاً أو هوىً-؛ ليذهب به إلى مضمون آخر غير مراد؛ مستخدماً فرعاً من المضمون الأصلي ومُضخماً له حتى يصير الفرعُ أصلاً آخر يُنسى به الأصل الأول.. فالشورى مثلاً تُعلي من قيمة حرية المسلم في اختيار الحاكم ونظام الحكم فيما لا يخالف شرع الله، والديمقراطية تعلي من قيمة حرية الإنسان في اختيار الحاكم ونظام الحكم حتى لو خالف شرع الله؛ فيأتي المؤولون فيأخذون من الشورى فرعَ الحرية فيضخمونه جاعلين الشورى ديمقراطية؛ ناسين أو متناسين أن الأصل في الشورى عدم الخروج على شرع الله؛ بينما الأصل في الديمقراطية عدم الخروج عن اختيار البشر.
وقد نشأ اختطاف التأويل هذا أول ما نشأ في الأمة الإسلامية حين أسلم إخواننا من غير العرب ودخلوا في دين الله أفواجاً، وكان الجهل بالعربية وأصولها والبعد عن سليقة أهلها سبباً من أسباب انتشار التأويل الفاسد للمتشابه من النصوص؛ فافترقت الأمة بذلك إلى فرق وطوائف، خرج بعضُها من دائرة الإسلام بالكلية، وبقي بعضها يتراواح بين الإسلام والكفر.. وقد يَردّ هذا السببَ ظهورُ الخوارج ابتداءً؛ فالخوارج الأوائل عربٌ أقحاح يعرفون لغتهم وطرائقها؛ بل إن لسان بعض القبائل التي اشتهرت بكثرة الخوارج فيها لسانٌ معتبر في الاستشهاد باللغة في عصرها الأول.. ولا يبعد أن يكون الأمر مختلطاً بين الجهل باللسان العربي أو ببعض ألفاظ القرآن ودلالاتها، وبين تغليب الهوى والرأي.. ومَنْ بَحَثَ مُدقِقَاً في نشأة الخوارج الأُول سيجد عهد علي بن أبي طالب رضوان الله عليه بداية نشأتهم، وكان عهده رضوان الله عليه كأنه فسيفساء مختلطة من الأعراب الذين يقرؤون القرآن لا يتجاوز حناجرهم دون تدبر أو تفكر، وبين مسلمة الفتوحات من فارس والروم وغيرهما من الأجناس؛ بل إن ظهور ابن سبأ- إن صح وجوده- كان في أواخر عهد عثمان رضوان الله عليه، وقد كان ابن سبأ من أوائل من بذر بذور التأويل الفاسد في التربة الإسلامية هوىً وكُفراً. وفي سؤالات نافع بن الأزرق (وهو رأس من رؤوس الخوارج) لابن عباس رضوان الله عليه ما يدل على أن كثيراً من الأعراب لم يفهموا القرآن ومتشابهه على الوجه الذي فهمه الصحابة رضوان الله عليهم، أو لم يكلوا أمر ما لم يفهموه منه إلى الله جل وعلا كما فعل الصحابةُ ديانةً وتحوطاً. وقد أشار عثمان رضي الله عنه إلى هذا المعنى حين جعل قراءة القرآن من قِبَلِ الأعرابِ والأعاجم دون تدبر سبباً لظهور الابتداع في الدين؛ فقال في كتابه إلى العامة بحسب رواية الطبري:” أما بعد فإنكم إنما بلغتم ما بلغتم بالاقتداء والاتباع، فلا تلفتنكم الدنيا عن أمركم؛ فإن أمرَ هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم: تكامل النِعَم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الكفر في العُجمة” فإذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا”([3]).. فكأن عثمان رضي الله عنه- إن صحت هذه الرواية عنه- يقصد بالتكلف هنا تكلف التأويل الذي ينتج عن جهل الأعاجم باللغةِ من ناحية، وعن عدم تدبر الأعراب لألفاظ القرآن من ناحيةٍ أخرى؛ فيؤدي ذلك إلى ابتداعهم في الدين ما ليس منه ثم اتخاذه ديناً.. وهذا قد يؤدي إلى الكفر بعد ذلك كما في الكلمة المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.. ورغم أن هذه الكلمة: (الكفر في العجمة) لا أصل لها، ولم تُذكر في كتاب من كتب السنة المعتمدة، ولم يوقف لها على إسناد وإنما جاءت- هي وكتاب عثمان إلى العامة- في الطبري بصيغة (قالوا)؛ فلا يصح نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.. أقول: رغم ذلك فإن المعنى المذكور له وجه صحيح قرره أهلُ العلم في كتبهم وشهد له الواقع التاريخي؛ فالعجمة هي: عدم وضوح الشيء.. والمعنى أن غير العربي الذي لم يتقن العربية كأهلها ربما فَسَّرَ أو أَوَّلَ نصوصَ القرآن والسنة تأويلاً باطلاً لجهله باللغة العربية، وهذا سبب من أعظم أسباب الابتداع في الدين وتغيير معالمه، وليس المراد بالعجمة هنا عجمة النسب؛ فكم من عالمٍ باللغة والفقه كان أعجمي الأصل؛ وإنما المراد عجمة اللسان والجهل بتفسير كلام الله تعالى وكلام نبيه.
وأياً كان الأمر فإن المدقق في نشأة الفرق والطوائف داخل الإسلام سيجد عامل الجهل باللغة أو تأويلها عاملاً مهماً- وإن لم يكن وحيداً- في نشأة هذه الفرق؛ مِن الخوارج وحتى الصوفية، مروراً بالشيعة، والقدرية، والمرجئة، والمعتزلة، والجهمية، والباطنية والمتفلسفة.. وكل فرقة من هذه الفرق كانت تختطف اللغة من خلال تأويل النصوص اختطافاً يقربها من وَهَم الحق الذي تراه أو تظنه حقاً؛ ولعل اختطاف اللغة بالتأويل يتضح بشدة في فرق مثل: المعتزلة، والجهمية، والمرجئة؛ فالقارئ المدقق لتاريخ هذه الفرق ومقالاتها سيكتشف بسهولة ويسر أن غالب عوامل الاختلاف عائدة إلى الفهم المنقوص أو المغلوط لألفاظ اللغة ذاتها ومدلولاتها
وأياً كان الأمر فإن المدقق في نشأة الفرق والطوائف داخل الإسلام سيجد عامل الجهل باللغة أو تأويلها عاملاً مهماً- وإن لم يكن وحيداً- في نشأة هذه الفرق؛ مِن الخوارج وحتى الصوفية، مروراً بالشيعة، والقدرية، والمرجئة، والمعتزلة، والجهمية، والباطنية والمتفلسفة.. وكل فرقة من هذه الفرق كانت تختطف اللغة من خلال تأويل النصوص اختطافاً يقربها من وَهَم الحق الذي تراه أو تظنه حقاً؛ ولعل اختطاف اللغة بالتأويل يتضح بشدة في فرق مثل: المعتزلة، والجهمية، والمرجئة؛ فالقارئ المدقق لتاريخ هذه الفرق ومقالاتها سيكتشف بسهولة ويسر أن غالب عوامل الاختلاف عائدة إلى الفهم المنقوص أو المغلوط لألفاظ اللغة ذاتها ومدلولاتها (خاصة فيما يتعلق بذات الله وصفاته وأسمائه وأقداره)؛ يقويه الهوى حيناً حد الشطط. أما الشيعة والباطنية فإن عامل اللغة فيهم يأتي- غالباً- تالياً بعد عامل الهوى والميل النفسي، حتى أخرج الهوى والميلُ كثيراً منهم من دائرة الإسلام بالكلية.. ولعل ذَمَّ كثير من علماء المسلمين لما سموه (علم الكلام) دليلٌ على محورية هذا العامل في اختطاف الإسلام بهذه الفرق من خلال اختطاف اللغة بالتأويل.. وفي تسميتهم علم الكلام بعلم الكلام دلالة ظاهرة على خوفهم من اختطاف التأويل الذي اتسعت دائرته آنذاك. ولعلهم مِن هنا شددوا على تعلم اللغة بنحوها وصرفها وبلاغتها وبيانها وفقهها، وأدخلوها ضمن علوم الآلة التي لا يُدخل إلى علوم الغاية بغيرها، ونشأ أو قل: تجذر واتسع واستطال علم أصول الفقه لرد الألفاظ إلى معانيها الأصلية وتحرير مَحَالِّ النزاع وتفصيل المجمل وحصر مصادر التشريع الكبرى.
ومن قرأ المناظرة الشهيرة بين إمام اللغة السيرافي وبين المنطقي متى بن يونس سيكتشف أيضاً محورية اللغة سلباً وإيجاباً في اختطاف الإسلام بها أو نُصرة الإسلام بها أيضاً، حتى أن أبا يوسف تلميذ أبي حنيفة كان يبني فقهه وفتاواه على ما يؤسسه له الكسائي- إمام اللغة والقراءة- من أصول نحوية ولغوية، وقد جمع الإسنوي في كتابه (الكوكب الدري فيما يتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية) طُرفاً كثيرة من هذا وأشباهه.
واختطاف التأويل في هذا العصر أشد وأنكى؛ فقد كثرت الأفكار والمناهج والأيدلوجيات التي انهالت على الأمة الإسلامية بعد الهجمة الصليبية الاحتلالية الحديثة، واستطاع الغرب وأذنابه أن يُجَّرِفُوا التربة الإسلامية ليبذروا فيها ما ليس منها، وكان التأويل اللغوي عاملاً مهماً في تخفيف بشاعة أصل المصطلحات التي رَوَّجوها بين المسلمين؛ فالاشتراكية التي تقوم على العقيدة الشيوعية التي تقول:” لا إله والحياة مادة” صارت (اشتراكية الإسلام)، واختُطف المُصطلح بالتأويل ليصل إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم :” الناس شركاء في ثلاث؛ الماء والكلأ والنار”. والعلمانية التي تُبعدُ الله جل وعلا- وحاشاه- عن حكم الوجود؛ صارت حالة علمية يراد منها الاهتمام بالعلم من حيث كونه علماً، وقُسِّمت إلى علمانية شاملة وعلمانية جزئية، ولُعب بالمصطلح من خلال التأويل اللغوي ليُنسى أصله الجاهلي الكفري. والليبرالية التي أطلقت لمرادات ورغبات الإنسان العنان؛ صارت حريةً يأمر بها الإسلام ويحض عليها.. وهكذا دواليك في غالب هذه المناهج والأفكار والأيدلوجيات؛ حُوِّل المُصطلح وأُوِّل حتى نسي الناسُ أصله، وصار الإسلام بذلك أشبه بحقل تجارب؛ كلما نبت منهجٌ في مستنقعٍ ورُزق استطالةً وعلواً بحبل من الله وحبل من الناس؛ سارع المؤولون إلى اختطافه لغوياً ثم ترقيعه بالإسلام أو ترقيع الإسلام به. وشتان بين مَن يجعل الإسلام ميزاناً يزن به الأشياء ويردها إليه، وبين من يجعل الإسلامَ ثوباً مرقعاً لا تكاد تجد فيه رقعة تشبه أخرى؛ فهذه رقعة اشتراكية، وتلك رأسمالية، وأخرى ليبرالية، ورابعة ديمقراطية، وخامسة وطنية، وسادسة قومية.. وما شئتَ بعدها من رقاعٍ لا هدف لأصحابها سوى إخفاء الثوب ذاته؛ حتى إذا اختفى الثوب تحت الرقاع تَمَّتِ الغايةُ وحُققَ الهدف.. وكأنَّ المطلوب أن يتحول الإسلامُ إلى شيء هلامي لا شكل له ولا طعم ولا رائحة؛ يَقبلُ كُلَّ شيء؛ ليصير في النهاية لا شيء!!
والمصطلحُ احتِلَالِيُّ بِطَبْعِه، يحمل وجهَ حضارته وفلسفتها.. هو شِعَارُهَا ودِثَارُهَا؛ تماماً كورقة العملة أو أعلام البلدان؛ رموزٌ موحيةٌ مختزلةٌ في ورق أو قماش أو حروف أو مخترعات.. وهو- بحسب الأنا والآخر- أداةُ احتلالٍ وتبعيةٍ واستلاب، ونقيضُه أداةُ مقاومةٍ وأصالةٍ وتَحَرر.. وهنا تكمن مراوغة المصطلح كما تكمن خدعة المُصطَلِحِيْن؛ فالذين سموا الاحتلال استعماراً أرادوا تخفيف وقعه البغيض على النفوس، تماماً كما سموا (اللوطيةَ) (شذوذاً) ثم (مِثلِيَّة)؛ ليخففوا بشاعة انتكاس الفِطرةِ في النفوس؛ فمصطلح اللوطية يُشيع في النفس إحساساً جارفاً بالإثم الديني يتبعه نفورٌ مجتمعي، ومصطلح الشذوذ يُسقط الإحساس بالإثم الديني ويُثبت فقط معنى مخالفة المجتمعِ عُرفاً وتقاليداً.. أما مصطلح المثلية؛ فهو مصطلح محايدٌ تماماً يخلو من إيحاءات الإثم الديني والمخالفة المجتمعية معاً، بل ويميل إلى دفع الناس لقبول اللوطيين وتقبلهم.. وقس على هذه الأحابيل الخادعة ما يحدث في مصطلحات كثيرة، مثل: حقوق الإنسان، وتحرير المرأة، والمشروبات الروحية.. وغيرها من المصطلحات التي يُرققون بها بشاعة ما يرتكبون فيها!!
ولم يقتصر اختطاف الإسلام بتأويل اللغة على أصحاب الأيدلوجيات التغريبية فقط؛ بل وصل الأمر إلى التيارات الإسلامية ذاتها؛ فَجَرَّ كلُّ تيار القرص إلى ناره من خلال تأويل نصوص القرآن والسنة وأحداث السيرة النبوية، أو نزعها من سياقاتها وتنزيلها على الواقع المغاير؛ ليثبت لنفسه وللآخر المسلم أو الآخر الغربي صحة منهجه وسلامة اتجاهه، وأنه هو وحده الذي يمثل الإسلام الحقيقي؛ يستوي في ذلك التيارات التي ترفع راية التربية مع التيارات التي ترفع راية الجهاد، مع التيارات التي ترفع راية العلم الشرعي، مع التيارات التي ترفع راية التصفية الروحية، مع التيارات التي ترفع راية ما يسمونه (طاعة ولي الأمر).. وعرف العدو الغربي فيهم هذا الاختلاف فضرب بعضهم ببعض حتى صار العداء بينهم أشد من عدائهم للعدو الأصلي الذي استباح البيضة وانتهك الحُرمة وأذل الأمة.
وكان من نتائج ذلك أن تجرأ الغرب- بمؤسساته الصليبية مثل مؤسسة راند- فاعتمدوا على مثل هذه (الاختطافات التأويلية) وركزوا على أصحابها وروجوا لأفكارهم وسوقوها على أنها (الإسلام الحضاري الديمقراطي) الذي يريده الغرب.. وهو إسلام منزوع الدسم قائم على التأويلات الفاسدة للنصوص جهلاً أو هوى.
اختطاف التجهيل ووسائله:
وهو اختطاف خارجي نشأ مع نشأة الإسلام ذاته؛ فليست الحرب على اللغة حرباً عليها من حيث كونها لغة حَسْبْ؛ بل من حيث كونها وعاء القرآن وخزانة الإسلام؛ فالطعن فيها طعن في الإسلام واختطافها اختطاف للإسلام وتجهيل أبناء الإسلام بها تجهيلٌ للإسلام ذاته في نفوسهم وإبعاد لهم عنه.
ولم تسلم اللغة العربية قديماً من محاولات اختطاف التجهيل هذا- حتى في العصر العباسي الزاهر- على يد الشعوبيين من بقايا الفرس المجوس والروم الصليبيين؛ بيد أن استقرار النظام السياسي الإسلامي وعز المسلمين ومجدهم خفف من حدة هذا الاختطاف حتى جعل تأثيره كأن لم يكن، واللغات تعز بعز أهلها وتضعف بضعفهم.
وقد تعددت أسباب ضعف اللغة العربية وتنوعت منذ سيطرة بعض العناصر غير العربية على مقاليد السلطة أواخر العصر العباسي، مروراً بسيطرة المماليك، وانتهاءً بسيطرة العثمانيين، إلا أن هذا الضعف لم يكن ضعفاً عاماً أو ممنهجاً أو مقصوداً، وظلت اللغة العربية رغم ذلك لغةً رسمية وشعبية للعلوم والفنون والتخاطب، رغم دخولها فيما يمكن أن نسميه طوراً من أطوار الجمود اللغوي الذي اكتفي بما أنتجه السلف دون تجديد أو تطوير ملحوظ.
وحين استيقظ العالَمُ الأوروبي خاصةً من ظلمة قرونه الوسطى أبصر حوله أمماً مختلفة الأجناس والألوان والألسنة من قلب روسيا، إلى الصين، إلى الهند، إلى فارس، إلى تركيا، إلى بلاد العرب، إلى شمال أفريقيا وقلبها وسواحلها، إلى قلبه هو (قلب أوروبا)؛ تتلو كتاباً واحداً يقرؤه مَنْ لسانُه العربية ومَن لسانُه غير العربية، وتحفظه جمهرةٌ كبيرة عن ظهر قلب لتتداخل لغتُه في اللغات وتتحول خطوط الأمم إلى الخط الذي يُكتَبُ به، فكان عجباً أن يكون في الأرض كتاب له مثل هذه القوة الخارقة في تحويل البشر إلى اتجاه واحد متسق رغم اختلاف الأجناس والألوان والألسنة.. ومنذ ذلك العهد ظهر الاستشراق لدراسة أحوال هذا العالم الفسيح الذي سوف تتصدى له أوروبا بعد استكمال يقظتها.([4])
وبالتعاون الدائم بين (أجنحة المكر الثلاثة)*: (الاستشراق والتبشير والاستعمار) استطاع الغرب أن يخترق الشرق ويحاصره ويسيطر على الكثير من مقدراته المادية والحضارية. وكان رأس الحربة في هذا الاختراق هو الاستشراق الذي استطاع أن يصوغ النظريات التبريرية للاستعمار (الأنا) ويُسوِّغَ له أخلاقياً ودينياً واقتصادياً اعتداءه على (الآخر) ونهب خيراته وتجفيف منابع حضارته؛ ولهذا نشأت- أو قل: تجددت- نظرية (الأجناس العليا والدنيا) وجاءت في شكل علمي جميل اسمه: (النظرية البيولوجية السياسية) التي تعطي للدول الكبرى الحق في التهام الدول الصغرى.([5])
وقد تعددت وسائل اختطاف الإسلام باختطاف لغته في ظل الهجمة الصليبية الحديثة على ديار الإسلام، والتي سُميت تخفيفاً بـ(الاستعمار)، واختلفت أدواتها حسب الإقليم الإسلامي المُحتل؛ حتى وصلت في المغرب العربي عامة والجزائر خاصة إلى تجفيف شبه كامل لمنابع اللغة هناك، وكان طول أمد الاحتلال الفرنسي للجزائر عاملاً مدمراً في نشأة أجيال متعاقبة لا تكاد تعرف من اللغة العربية كثيراً أو قليلاً.. هذا عدا ما فعله الاحتلال الغربي عامة في المنطقة العربية والإسلامية باستحداث أنظمة تعليم غربية تقوم على إبعاد اللغة العربية عن الواجهة التعليمية وإحلال اللغات الأجنبية محلها والتهوين من شأنها والحط من قدر معلميها ومتعلميها في الصحف والمجلات ووسائل الإعلام التي أنشأها أو سيطر عليها؛ ليصل إلى هدفه الأساس وهو القضاء على الإسلام الذي ينبع منه فكر المقاومة والجهاد، ويقدم بديلاً حضارياً مغايراً وهادماً للفكر الذي قامت عليه الحضارة الغربية؛ ليضمن بذلك تبعية العرب والمسلمين له وللغته ولثقافته. وحوربت العربية بدعوى صعوبة قواعدها تارة، وصعوبة كتابتها تارة أخرى، وعدم مواكبتها لروح العصر تارة ثالثة، وتأثر بعض أبناء العربية بطبيعة اللغات الأجنبية التي درسوا علومهم بها، فدانوا بولاء عجيب لهذه اللغات تجاوز حد المعقول، وزهدوا في العربية وأنكروا مقدرتها على استيعاب العلوم ومواكبة العصر، ولعل كثيرًا من هؤلاء لم تسنح لهم الفرصة للاطلاع على دقائق اللغة العربية ولطف خصائصها في التعبير، وسعة عطائها في الوضع والاشتقاق والمجاز، ولو تسنى لهم اكتشاف بعض ذلك لما وقفوا منها هذا الموقف المتهاون الظالم.([6])
وقد أدى التركيز على تدريس اللغات الأجنبية والإهمال المقصود للغة العربية إلى ضعف الملكة التعبيرية لدى كثير من الباحثين والدارسين، حتى عجز كثير منهم عن إيصال حقائق العلم والمعرفة أو التعبير عنها بدقة؛ فانقطع ما بينهم وبين أهل العلم من أسباب التواصل الفكري، وهبطت قيمة ما يريدون عرضه وإضافته، وضاعت جهود قيمة ثمينة لو ملك أصحابها ناصية التعبير الواضح السليم لعادت بنفع عظيم على الحضارة العربية، ولساعدت في تقدم العلم والمعرفة في العالم العربي.([7])
وقد استُخدمت في شتى أقاليم الإسلام والعروبة المحتلة وسائل متقاربة نجح بعضها وفشل بعضها، وكان على رأس هذه الوسائل في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أربع وسائل مثلت قوارع شديدة حلت بالعربية وآدابها:
الأولى: الدعوة إلى العامية.
الثانية: الدعوة إلى كتابة اللغة بالحروف اللاتينية.
الثالثة: الدعوة إلى ما سُمي بإصلاح اللغة من خلال إسقاط الإعراب الذي هو أصل اللغة، وإسقاط الصرف، وبعض الموضوعات اللغوية والنحوية التي رأى فيها دعاة هذا العبث صعوبة على الدارسين والمتعلمين؛ فدعوا لإسقاطها تسهيلاً وتيسيراً.
الرابعة: إفساد الذوق العربي السليم من خلال استيراد مدارس ومناهج أدبية غربية ومحاكمة الأدب العربي إليها.. وهي أشد الوسائل الأربع إفساداً؛ لأن الأدب- شعراً ونثراً- أكثر ارتباطاً بالروح الإنسانية وما يتعلق بها من عاطفة وإحساس؛ فإفسادهما إفساد للروح وتلويث لها.
اللغة العربية ومواكبة العصر:
لا شك أن مرونة لغةٍ ما وحيويتها تتمثل في مقدرتها على مواكبة روح العصر، والتفاعل مع مستجداته. وخصائص اللغة العربية تدل دلالة واضحة على أن هذه اللغة تمتلك من سمات التجديد والتطور ما يؤهلها لتسنم ذروة الحضارة العلمية والفكرية، ومد المجتمعات الإنسانية بما تحتاجه في مراحل التطور والرقي.
وإذا كان من شروط مواكبة العصر في اللغة أن تتميز اللغة بالوضوح الذي يجلو الحقائق ويعين على فهمها واستيعابها، والدقة التي تعصم من الخطأ وتُجنب الفضول وتطابق المراد، والبساطة التي تتمثل في الابتعاد عن التعقيد الذي يوقع في الإبهام والإيهام والغموض، وصدق دلالة المصطلحات العلمية على المعنى العلمي المراد وبعده عن كل ما يورث الالتباس والاختلاط في المفاهيم([8]).. فإن هذه الشروط كلها لا تنطبق على لغة من لغات الأرض قدر انطباقها على اللغة العربية، بيد أن عاقلاً لا يمكن أن ينكر أن هذه اللغة في هذا العصر تقف في مهب تيارات عاصفة من كل جانب، ترميها بالعقم والعجز عن فك مغاليق مصطلحات العلوم الحديثة ووضع أسماء للمخترعات العلمية، حتى درس أبناؤها العلوم المختلفة بغير لسانها، وجرت على ألسنة أهلها في جامعاتهم مصطلحات أعجمية لا تمت إلى فصاحتها بصلة، وصار حالها يشبه الحال التي أصابتها زمن صاحب (لسان العرب) حين تجمعت ضدها جحافل الغزو الصليبي والتتري، وتنافس الناس في تصانيف الترجمانات في اللغات الأعجمية، وتفاصحوا في غير العربية، وَدَفَعَ ذلك التردي في اللسان العربي ابنَ منظور إلى وضع معجم لسان العرب قائلاً في مقدمته:” لم أقصد سوى حفظ أصول هذه اللغة النبوية وضبط فضلها، وذلك لما رأيته قد غلب في هذا الأوان من اختلاف الألسنة والألوان، حتى لقد أصبح اللحن يُعد لحناً مردوداً، وصار النطق بالعربية من المعايب معدوداً، وتنافس الناس في تصانيف الترجمانات في اللغة الأعجمية، وتفاصحوا في غير العربية”.([9])
وربما كان الحال اليوم أشد من الحال في عصر ابن منظور؛ فقد تنافس العلماء والأدباء والكتاب في الكتابة باللغات الغربية في ساحات الجامعات العربية ومراكز البحث العلمي ودور العلم ومعاهد الثقافة، وصار نطقنا بالعربية من المعايب التي لا بد أن يتداركها المتحدث بتطعيم حديثه ببعض المصطلحات الأجنبية دلالةً على الرقى والتحضر والعلم، وأصبح اللحن في العربية- في مختلف المستويات- من طبائع الأشياء، وصارت العاميات ميزة العصر في أجهزة الإعلام ودور العرض السينمائي وكثير من المجلات والصحف، ووسائل التواصل الاجتماعية الحديثة، وصار كثير من فنون الآداب باللهجات العامية، ونسينا تاريخ العربية العلمي الزاهي الذي ازدهرت فيه الأبحاث العلمية باللغة العربية في مختلف فروع العلم، كما نسينا دور العلماء العباقرة الذين استخدموا هذه اللغة المعجزة في إرساء دعائم العلوم، مثل: ابن سينا، وابن الهيثم، والبيروني، وجابر بن حيان، وابن النفيس، وابن البيطار، والرازي، والقزويني، والدينوري، والخوارزمي، والبغدادي، والبياني، وغيرهم ممن أخذ عنهم علماء الغرب واعترفوا بفضلهم وبدور العربية في حفظ التراث العلمي الإنساني، وتزويده بالبحوث والدراسات التي دفعت الرقى الإنساني خطوات واسعة إلى الأمام.([10])
وهذا التراجع الحديث ليس عائداً إلى اللغة نفسها، بل هو عائد إلى تراجع أهلها وضعفهم وقصورهم عن مواكبة العصر، وتخليهم عن مجدهم الغابر. ومن المعلوم أن مكانة اللغة تحددها مكانة أهلها؛ لأن اللغة- كما قال الرافعي- صورة الأمة،” ومتى كانت اللغة صورة الأمة فإن كل ما يعتور هذه يتصل أثره بتلك ضرورة، ولذلك بقيت العربية في نفسها على مرونتها الأولى حتى يتاح لها أقوام كأولئك الأقوام وتقيض لها أقلام كتلك الأقلام”.([11])
لقد كف العلماء العرب المحدثون عن الابتكار والتفكير العلمي المبدع، واكتفوا- في كثير من الحالات- بالتقليد للفكر الغربي والنقل عنه، ومن الطبيعي أن نقل الفكرة الأجنبية أو تقليدها يستتبع بالضرورة نقل الوسائل اللغوية المعبرة عنها واستخدام مصطلحاتها الفنية. بينما كان العالم العربي قديماً يملك أدوات تعبيره التي هي بمثابة القوالب اللغوية التي يبلور فيها فكره وإبداعه.([12])
فليس للغة ذنب حين تتراجع بتراجع أهلها، وهذا ما يؤكده بوضوح العالم الفرنسي (فندريس) حين يقول:” الواقع إننا لا نعلم إطلاقًا لغة قد قصرت عن خدمة إنسان عنده فكرة يَود التعبير عنها”، ثم يعقب قائلاً:” فلا ننصت إذن إلى أولئك المؤلفين العاجزين الذين يُحَملون لغاتهم مسؤولية النقص في مؤلفاتهم؛ لأنهم هم المسؤولون على وجه العموم عن هذا النقص”.([13])
نماذج نجاح فاعلة:
حملت العربية لواء العلم زهاء عشرة قرون بعد أن جُبيت إليها ثمار العلوم والمعارف والفنون من كل لغات الدنيا في حركة للترجمة والتعريب لم يعرف لها التاريخ مثيلاً، فلم يَشكَّ واحدٌ من المترجمين آنذاك في قصور الفصحى عن استيعاب الأفكار الفلسفية والعلمية التي انثالت من الفكر الإغريقي والروماني والسرياني، بل وعت العربية تلك العلوم، وتمثلت تلك الفنون، وقدمت للبشرية جمعاء خير حضارة أخرجت للناس بلسان عربي مبين. وقد كان ذلك بمثابة تحدٍ كبير للغةٍ بدوية أعرابية صحراوية أخرجها الإسلام- كما يقول الدكتور حسين نصار-:” من جاهلية غنية كل الغنى في الإبداع الأدبي فقيرة كل الفقر إلى حد الإملاق في الإنتاج العلمي، ثم ألقى بها في القرنين الثاني والثالث الهجريين في بحر زاخر من الحضارات والعلوم والفلسفات والفنون وكل صنوف المعرفة التي ابتكرتها الأمم المتاخمة للجزيرة العربية: كالفرس والروم والسريان والمصريين، والأمم البعيدة عنها: كالهنود والصينيين والأتراك والبربر وشعوب أسبانية.. فصمدت لهذا التحدي بفضل ما بثه الإسلام في العرب من رغبة في المعرفة وسعي في طلبها”.([14])
وقد تمكن علماؤنا القدماء من رصد المصطلحات العلمية في مؤلفات بعينها كـ: (مفاتيح العلوم) للخوارزمي، و(التعريفات) للجرجاني، و(المعرب الأعجمي في لغة العرب) للجواليقي، و(كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم) للتهانوي، ولم تعجز العربية عن تحمل تبعاتها قديماً، ولن تعجز حديثاً إذا توفر لأهلها في عصرنا الحاضر ما توفر لأهلها في العصور الماضية من إرادة وعزيمة وتصميم. وما نجاح تدريس الطب بالعربية الفصحى في بعض بلاد الشام (سوريا) في العصر الحاضر إلا برهان قوي على قدرة لغتنا العربية على استيعاب علوم العصر، والتعبير عن مظاهر مستحدثات الحضارة، وتمكنها من تناول الأشياء مهما دقت بصورة عربية بحتة تخدم الأدب والعلم والفن والصناعة، وقد صدرت عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة أجزاءٌ من معجم خاص باصطلاحات العلوم والفنون، فلو عُني علماؤنا المحدثون بالرجوع إليها والنظر فيها لأغناهم ذلك عن استعمال كثير من المصطلحات الأجنبية، ولأعادوا الحياة إلى العربية العلمية وردوها إلى سابق عهدها من الازدهار والرقي الذي به استوعبت أدق العلوم والتقنية، ولحموا العالم- كما يرى العقاد- من خسارة فادحة تصيب المنطق الإنساني بعد أن بلغ هذا المنطق بهذه اللغة مبلغاً رفيعاً من التطور والكمال.([15])
تجربة تدريس الطب بالعربية:
وقد جاءت تجربة تدريس الطب باللغة العربية في بعض بلاد الشام دليلاً واضحاً على تمكن اللغة العربية من التفاعل العلمي في العصر الحديث؛ بل إن الدراسات النفسية التربوية الحديثة لتؤكد على أن تدريس العلوم باللغة الأم عاملٌ أساس في تفوق الطلاب عقلياً ونفسياً..يقول الدكتور زهير أحمد السباعي في كتابه (تجربتي في تعليم الطب باللغة العربية) :”استمعت- في كلية الطب- إلى محاضرات تلقى باللغة العربية فوجدت الطلبة والأساتذة يتحاورون ويتناقشون بطلاقة واضحة وبحيوية بالغة وهي ظاهرة تكاد نفتقدها في كليات الطب التي تدرس باللغة الإنجليزية، نفس الملاحظة وجدتها في كلية طب دمشق حيث وجدت المحاضر قادراً على التعبير عن نفسه بلغة عربية سليمة، كما وجدت الطلاب يناقشون ويجادلون بحيوية وانطلاقة مما زاد في إيماني بضرورة تعليم الطب باللغة العربية… قد يظن بعضهم أن تعليم الطب باللغة العربية في سوريا أدى إلى تدني مستواه وهم لا يقولون هذا عن إسرائيل التي تعلم الطب باللغة العبرية، ولكي نحقق في الأمر بحثنا نتائج الأطباء السوريين في امتحان المجلس التعليمي للأطباء الأجانب وهو امتحان تعقده الولايات المتحدة الأمريكية عدة مرات في كل عام ويتقدم إليه في كل مرة نحو عشرة آلاف طبيب من مختلف أنحاء العالم ومن يجتازه يحق له العمل أو الدراسة الطبية العليا في الولايات المتحدة الأمريكية واتضح أن الأطباء السوريين لا يقل مستواهم في الامتحان المذكور عن مستوى زملائهم الأطباء في مختلف أنحاء العالم… وننبه القارئ إلى أن امتحان المجلس التعليمي للأطباء الأجانب يعقد باللغة الإنجليزية أي أن تعلم الطب باللغة العربية لم يكن عائقاً أمام الأطباء السوريين يحول دون أدائهم للامتحان واجتيازهم.” ([16])
تجربة الدكتور عبد الله مصطفى الدنان مع طفله:
كما جاءت تجربة الدكتور عبد الله مصطفى الدنان مع طفله دليلاً آخر على إمكانية غرس اللغة الفصيحة في عقل وروح الطفل ليتكلم بها سليقةً دون خطأ كما يتكلم غيرُه العامية دون، أو كما كان يتكلم العرب قديماً دون خطأ.
والدكتور الدنان ليس متخصصاً في اللغة العربية؛ بل هو أستاذ للغة الإنجليزية، ولكنّه بما حملَه من غيرةٍ على العربيّة استطاع تجاوزَ الصعوبات والعوائق فأثبتَ أن العربية ليست صعبةً في ذاتها، وما الفشل الواقع في تعليمها لأهلها إلاّ بسبب فشل مناهجها، وقد طبق تجربته هذه في تدريس العربية الفصيحة لأطفال الروضة في الكويت وسوريا وعددٍ من البلاد العربيّة.. يقول عن تجربته مع طفله :” بدأتُ تجربة باسل بعد ولادته في 29/10/1977م بأربعة أشهر. بدأتُ أخاطبه باللغة العربية الفصحى مع تحريك أواخر الكلمات، وطلبتُ من والدته أن تخاطبه بالعامية.. بدأ باسل يستجيب للفصحى فهماً عندما كان عمره عشرة أشهر، وعندما بدأ بالنطق صار يوجّه لأمه الكلام بالعامية ويوجّه إليّ الكلام بالفصحى، وقد سجلت كثيراً من كلامه على أشرطةِ تسجيلٍ بلغت اثني عشر شريطاً.. عندما بلغ باسل الثالثة من العمر أصبح قادراً على التواصل بالفصحى المعربة دون خطأ, وله شريط فيديو مسجلٌ ظهر على تلفزيون الكويت منذ أن كان عمره ثلاث سنوات وخمسة أشهر.. نجحت تجربة باسل وكتبتُ عنها بحثاً علمياً ألقيتُه في ندوة الإبداع الفكري الذاتي في العالم العربي المنعقدة في الكويت من 8 إلى 12 مارس 1981م، وقد نشرتُ بحثاً في مجلة جامعة دمشق، حزيران (يونيه) 1986م بعنوان” الإبداع واللغة العربية في المناهج الدراسية” تحدثتُ فيه أيضاً عن نجاح تجربة باسل.. ولقد كررت التجربة على ابنتي (لونه) التي تصغر باسلاً بأربعة أعوام، ونجحت كذلك نجاحاً تاماً, وقد سجلت كلامها على أشرطة تسجيل منذ أن كان عمرها سنةً ونصفاً. وحتى الآن نحن الثلاثة في البيت نتكلّم بالفصحى فيما بيننا ونكلّم أفراد الأسرة الآخرين بالعامية تلقائياً.. دخل باسل ولونه إلى المدرسة وكان لإتقانهما الفصحى قبل السادسة أثر عجيب على مدى حبّهما للكتاب وإتقانهما للعلم، لقد اكتشفا أن الكتاب يتكلم لغتهما فصارا صديقين للكتاب، وبهذا أصبحا قارئين ممتازين، أتقنا التعلّم الذاتي واتقنا الرجوع إلى الكتاب، وتفوقا في المواد العلمية كلها، وتَكَوَّن لديهما إحساسٌ راقٍ بجماليّة اللغة.”([17])
معسكرات حمزة علي لتعليم اللغة العربية للفتيات بتركيا:
تُعتبر هذه التجربة من أنجح التجارب المجتمعية في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، وقد أقيمت في مدينتي (اسطنبول) و(طرابزون) على شكل معسكر خاص للفتيات مدته خمسة وأربعون يوماً.
قامت الفكرة على استحداث بيئة عربية مصغرة لا يُتكلم فيها بغير اللغة العربية الفصيحة من خلال التفاعلات اليومية بين المعلمات العربيات والطالبات التركيات؛ حيث يعشن الحياة اليومية بتفاصيلها متحدثاتٍ بالعربية الفصيحة؛ فتتحول الحياة كلها إلى بيئة عربية كاملة في قاعات الدرس وقاعات الطعام والمسجد ومهاجع النوم والحدائق.. وفي كل خطوة تخطوها الطالبة ستجد من يسألها عما تريد فعله فإن استطاعت التعبير عن رغبتها بالعربية وإلا سألت فأُجيبت.
ومن مميزات هذا المشروع أن لم يتبع منهجاً معيناً بكتب مطبوعة وإنما اختيرت الموضوعات وفق واقع الحياة اليومية الطبيعية في المدرسة حتى تسهل عملية الفهم والكلام بالعربية.
كذلك ركز المشروع على استعمال الكلمات المشتركة بين اللغتين العربية والتركية كأساس أول حتى تنجذب الطالبة إلى هذه النقطة مما يسهل إقناعها بسهولة تعلم اللغة وعدم إهمال مزجها بالكلمات الشائعة في اللغة العربية.
وجاء التطبيق الميداني فارقاً في التجربة حيث تقوم إدارة المشروع بعمل رحلات ترفيهية للطالبات بأخذهن إلى الحدائق والمتنزهات التي يرتادها العرب والطلب منهن إدارة أحاديث تعارفية بينهن وبين السيدات العربيات لمدة ساعتين على الأقل في كل رحلة، حتى تتمكن الطالبة من تذوق طعم الحديث بالعربية مع أهلها.
وقد حقق هذا المشروع نجاحاً كبيراً في المحادثة الطبيعية وإن لم يركز على تعلم القواعد؛ لأن تعلم القواعد يأتي في مرحلة تالية، بل إن كثيراً من الطالبات يعرفن القواعد مسبقاً ولكن لا يستطعن إدارة محادثة ناجحة؛ فجاء هذا المشروع لسد هذا العجز..
كما أقيم مشروع آخر- في تركيا أيضاً- نسج على هذا المنوال، اسمه (قرية اللغة العربية)، وقد حقق أيضاً نجاحات ملحوظة في المحادثات والقواعد معاً.
وسائل مقترحة لمواجهة اختطاف اللغة:
سيكون من العبث أن نجمع توصيات مؤتمرات الحفاظ على اللغة العربية ونُثبتها هنا كوسائل مقترَحة لمواجهة اختطاف اللغة العربية؛ لأننا نعلم- يقيناً- أن هذه التوصيات إنما هي توصيات مكرورة مملولة منزوعة الدسم في كل مؤتمر مذ كانت المؤتمرات؛ لأنها- وببساطة شديدة- لا تملك قوةَ الفرض بالقرار السياسي السيادي.
وعبثاً نخدع أنفسنا حين نُغفل محورية القرار السياسي العربي المختطف من قِبل عملاء الغرب وأذنابه الذين يسيطرون على مقاليد الأمور في دوائر صنع القرار العربي، وتلاميذ دنلوب الذين يسيطرون على وسائل التعليم والثقافة في وزارات الثقافة والتعليم والإعلام العربية!!
بيد أن المجتمع يمتلك- غالباً- من أدوات التغيير ما بمثله يستطيع مواجهة السلبية السياسية غير المتعمدة، أو قصدية القرارات السياسية المتعمدة، وتجربة (الدكتور عبد الله مصطفى الدنان)، وتجربة (معسكر حمزة علي)، وتجربة (قرية اللغة العربية) أمثلة مجتمعية واضحة تدل على قوة فاعلية المجتمعات في استدراك آثار السلبية المتعمدة وغير المتعمدة للأنظمة السياسية، وما على أهل الرأي والعلم سوى إشاعة أهمية اللغة العربية في المجتمعات العربية والإسلامية ليقتنع الفاعلون في هذه المجتمعات بضرورة المحافظة على اللغة العربية التي هي شهيقهم وزفيرهم وأرواحهم التي يحيون بوجودها ويموتون بعدمها.
ونحن حين نذكر مثل هذه التوصيات ووسائل مواجهة اختطاف اللغة؛ لا نخترعها من عندياتنا اختراعاً؛ بل نجمعها جمعاً من توصيات المؤتمرات الكثيرة التي أقيمت للحفاظ على اللغة أو إصلاح شأنها.. ومن هذه التوصيات والمقترحات:
– إصلاح وسائل تعليم اللغة العربية والتجديد فيها.
_ منع تعليم اللغات الأجنبية في المرحلة الأولية منعاً باتاً.. وإن مما يحز في النفس أن قلعة اللغة والعلم في العالم الإسلامي (الأزهر الشريف) يفرض الآن اللغة الأجنبية على التلاميذ في المرحلة الأولية!!
_ الاهتمام بالمعلم نفسياً واجتماعياً وعلمياً.
– الحد من ازدواجية اللغة داخل البيئة التعليمية وخارجها.
– إقامة دورات صيفية للطلاب والطالبات يكون غرضها التحدث باللغة العربية الفصيحة فقط.. ويُرَكَّز في هذه الدورات على الطالبات أكثر لأنهن أمهات المستقبل؛ واستقبال الطفل من الأم أكثر من استقباله من الأب.. والأفضل أن تُكرر هذه الدورات أثناء الفصل الدراسي باختيار يومٍ يُسمى (يوم العربية) ويكون ذلك أسبوعياً أو نصف شهري.
– وقف المد الإعلامي العامي.. وفي هذه النقطة تحديداً وصل الأمر ببعض القنوات الفضائية التي يمتلكها بعض نصارى العرب في مصر والشام إلى قراءة النشرة الإخبارية باللهجات المحلية!!
– العناية بتعزيز مهارات العاملين في وسائل الإعلام المرئي والمسموع للتحدث بالفصحى الميسرة، وتنمية مهاراتهم في هذا الاتجاه.
– التصدي لطغيان اللهجات العامية، والاستعلامات العامية والأجنبية المتفشية في أقطار الوطن العربي.
– ربط وسائل الإعلام بالمجامع اللغوية وجمعيات حماية اللغة العربية، وتكاتف جهود الجميع من أجل تطوير اللغة تطويرا سليماً بعيداً عن الجمود الفوضى.
– الإعلاء من شأن اللغة العربية في وسائل الإعلام، باعتبارها محدداً للهوية، ووسيلة للإبداع ورافداً للحضارة العربية، وزرع الاعتزاز بها في نفوس القراء والمتلقين.
– إقامة دورات تدريبية دائمة للمحررين في وسائل الإعلام، تبصرهم بالأساليب العربية القويمة، وتنبههم حول الأخطاء الشائعة، وبدائلها الصحيحة.
– بذل أقصى جهد ممكن لضمان أن يتحدث أهل التربية والإعلام والسياسة بالعربية الفصحى.
– تقديم برامج للأطفال باللغة العربية السليمة من خلال الإعلام المسموع والمرئي.
– الاجتهاد في ربط مفردات اللغة بالمخترعات الحديثة.
– يجب ألا يشغل وظيفة إعلامي، ونعني به الصحفي والمذيع في الراديو والتلفاز إلا من كان جديرا بهذا العمل؛ وذلك باجتيازه امتحانات جادة تبين عن شخصيته وقدراته.
– إصدار معجم إعلامي شامل: يضم الأعلام العربية والأعجمية، والألفاظ والعبارات التي يحتاج إليها الإعلامي أكثر من غيرها، وكذلك الأخطاء التي تشيع بين الإعلاميين، مع بيان علة الخطأ وصورة الصواب.
– مراقبة الإعلانات مراقبة جادة، وعدم السماح بعرضها إلا إذا كانت بالعربية الفصحى ملتزمة بعدم الخروج عن ديننا، وقيمنا الروحية والأخلاقية.
– تطوير البرامج التعليمية المقدمة من التلفاز بصفة خاصة، والحرص على بعدها عن النمطية المملة.
– الاهتمام بالملاحق الأدبية في الصحف، وتخصيص مساحة منها لنصوص تراثية ودروس نحوية، وعرض الأخطاء الشائعة، ويكون ذلك بصفة دائمة ثابتة.
– تطوير برامج محو الأمية التي تعرض في التلفاز بخاصة، وتعميمها على مستوى الوطن العربي، بصورة عصرية جذابة.
– نشر دراسات المجامع اللغوية على أوسع نطاق حتى لا تبقى هذه الدراسات حبيسة الكتب والمجلات المتخصصة التي لا يسمع بها إلا الأقلون. وعلى وسائل الإعلام أن تتلقف كل جديد يصدره المجمع من ألفاظ الحضارة وتقدمه للناس بصورة دائمة منتظمة.
– يجب تصدير اللغة العربية لدول العالم، وخاصةً الدول التي ترتفع فيها نسبة المسلمين، ويكون ذلك عن طريق برامج تعليمية مخطط لها بدقة تذاع عبر وسائل التواصل المختلفة.
– استحداث (هيئات رقابة لغوية) مهمتها الأصلية رصد استشراء العامية والسوقية واللغة المبتذلة في الفضائيات العربية وتوقيع العقوبات المناسبة على من يخالف منها.
– إشاعة الكتابة باللغة العربية الفصيحة في وسائل التواصل الاجتماعي والحث عليها، والدعوة إلى كتابة أسمائنا في تلك الوسائل باللغة العربية لإشاعة الحرف والاسم العربيين.
– منع وتجريم كتابة أسماء المحال والمؤسسات والشركات التجارية وغيرها بأسماء غير عربية.
***
وختاماً.. فإن هذه التوصيات والوسائل، وغيرها كثير؛ لن تدخل دائرة التنفيذ والتطبيق ما لم يتهيَّأ لها القرارُ السياسي الذي يفرض تنفيذها فرضاً، أو يتنبه المجتمع إلى خطورة اختطاف اللغة فيهب الأفذاذ من أبنائه لاستدراك آثار هذا الاختطاف التجهيلي المتعمد.. وإذا كانت الشرعية في النظام الإسلامي تُستمد من رضا الناس- بعد رضا الله- ثم الحرص على مقومات ومقدرات وعقيدة الأمة؛ فإن اللغة العربية هي الوعاء الحافظ لهذه العقيدة بحفظها لكتاب العقيدة الأول (القرآن الكريم)، ثم السنة المطهرة، ثم التراث الذي يمثل جزءاً من الهُوية الجامعة لهذه الأمة؛ فالتهاون في شأن العربية تهاون في شأن العقيدة والهُوية، يستتبع- في الأمم المحترمة- سقوط أنظمة وقيام أنظمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]ـ دراسات في اللغة والأدب والحضارة ـ محمد الربداوي ـ القسم الأول ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت 1980م ـ ص 33 .
[2]– أثر اللغة العربية في اللغات الأخرى ـ فرحان السليم ـ مقال في منتدى مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية 5/9/ 2018 بتصرف
[3] ـ تاريخ الطبري ـ ج 5 ـ ص 45.
[4]ـ أباطيل وأسمار ـ محمود شاكر ـ ص157،158.
* ـ عنوان كتاب للأستاذ / عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني .
[5]ـ انظر كتاب: (مملكة الحيوان) لكوفييه ، و(مقالة في التفاوت بين العروق الانسانية) لغوبينو ، و (عروق الانسان السوداء) لروبرت نوكس ، و(القوانين النفسية لتطور الشعوب) لغوستاف لوبون . وتهدف هذه الكتب وغيرها إلى القول بأن الشرق ينتمي بيولوجياً إلى عرق محكوم وينبغي له أن يُحكم، وهذا قدره ومصيره .
5ـ الصعوبات المفتعلة على درب التعريب ـ د.جميل الملائكة ـ مجلة المجمع العربي العراقي ـ ج2 ـ م37، 1986م ـ ص57، 58 .
[7] ـ اللغة والبحث العلمي ـ د. أحمد عبد الستار الجواري ـ ص 66 – 67.
20ـ مبحث اللغة والبحث العلمي ـ د.أحمد عبد الستار الجواري ـ مجلة المجمع العلمي العراقي ـ ج3 ـ م37ـ 1986 ـ ص66 – 67.
21ـ لسان العرب ـ ابن منظور ـ ج1ـ ص 4 .
22ـ اللغة العربية لغة العلوم والتقنية ـ د.البدراوي زهران ـ مجلة المنهل ـ ع : 504 ـ م :54 ـ أبريل ومايو 1993 .
[11] ـ تاريخ آداب العربية ـ الرافعي ـ ج1 ـ ص 146
[12] ـ التعريب بين التفكير والتعبير ـ د.كمال بشر ـ مجلة الدارة ـ ع : 4 ـ 1414هـ ـ ص188 .
254ـ اللغة ـ فندريس ـ ترجمة : د.عبد الحميد الدواخلي ، ومحمد القصاص ـ كطبعة لجنة البيان العربي ـ القاهرة1950م ـ ص421.
[14] ـ من كلمته التي ألقاها بمناسبة حصوله على جائزة الملك فيصل العالمية ـ مجلة تراثيات ـ ع 5- يناير2005م .
27ـ اللغة الشاعرة ـ العقاد ـ ص6.
[16] ـ تجربتي في تعليم الطب باللغة العربية ـ زهير أحمد السباعي ـ نسخة إليكترونية.
[17]ـ انظر تجربة الدكتور عبد الله مصطفى الدنان في الشبكة المعلوماتية.