مراجعات

قراءة في مفهوم “الفكر”

وتزداد أهمية تحديد المفاهيم والمصطلحات كلما تنبهت الأمة إلى ضرورة تحديد الأرضية الثقافية والفكرية التي ينبغي الوقوف عليها، وهي تحاول قدر الإمكان استئناف النظر في مداخل النهضة والتقدم، بنقد كل ما من شأنه تعطيل هذا النظر، وكذا النهوض المعاق، بفعل عدة عوامل يطول شرحها الآن.

ومن يراجع قواميس اللغة والدراسات المنطقية والعلمية التي عرّفت الفكر وتحدثت عنه، يجد أن للفكر تحديداً واضحاً وتعريفاً دقيقاً في هذه الدراسات والعلوم، ومن المفيد هنا أن نعرض مفهوم الفكر في اللغة والمعاجم الحديثة، ثم ننظر إليه من خلال وضعه في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ثم لدي عدد من المفكرين والأكاديميين.

1- الفكر في اللغة:

عرف ابن منظور في لسان العرب الفكر بقوله: والفكر: إعمال الخاطر في الشيء، والتفكر اسم التفكير، ومنهم من قال فكري، ورجل فكير: كثير التفكير، وقال الجوهري: التفكر: التأمل.(1)

وعرفه الفيروز آبادي بقوله: الفكر، بالكسر ويفتح، إعمال النظر في الشيء كالفكرة.(2)

وعرفه الراغب الأصفهاني بقوله: “الفكرة قوّة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكّر جولان تلك القوّة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلاّ فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب”(3).

ولهذا روي: (تفكّروا في آلاء الله، ولا تفكّروا في الله).

قال تعالي: {كذلك يُبيّنُ اللهُ لكُمُ الآيات لعلكّم تتفكّرون}(4).

وقال بعض الأدباء:” الفكر مقلوب عن الفرك، لكن يستعمل الفكر في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلباً للوصول إلى حقيقتها”.

2- الفكر في المعاجم الحديثة والمعاصرة:

يقول جميل صليبا: “وجملة القول إن الفكر يطلق على الفعل الذي تقوم به النفس عند حركتها في المعقولات، أو يطلق على المعقولات نفسها، فإذا أطلق على فعل النفس دل على حركتها الذاتية، وهي النظر والتأمل، وإذا أطلق على المعقولات دل على المفهوم الذي تفكر فيه النفس”(5).

وعرفه صاحب (المعجم الوسيط) بقوله: “الفكر إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة المجهول، ويقال لي في الأمر فكر نظر ورؤية، [و] الفكرة: الصورة الذهنية لأمر ما”، ومنها: أفكر في الأمر، فكر فيه، فهو مفكر.

وأفتكر تذكر، وفي الأمر أعمل عقله فيه، ومنها تفكر، والتفكير إعمال العقل في مشكلة للتوصل إلى حلها، ومنها الفكير: الكثير التفكير(6).

أما صاحب الموسوعة الفلسفية فقد ذكر عدة تعريفات منها: الفكر [هو] النتاج الأعلى للدماغ كمادة ذات تنظيم عضوي خاص، وهو العملية الإيجابية التي بواسطتها ينعكس العالم الموضوعي في مفاهيم وأحكام ونظريات (…) هو الشرط الجوهري لأي نشاط آخر، طالما أن هذا النشاط هو نتيجته المجملة والمتمثلة، والكلام هو صورة الفكر”(7).

وتري الموسوعة الحرة(8) أن :

الفكر هو مجموع العمليات العقلية التي تمكن البشر من نمذجة العالم المحيط بهم، والتالي التعامل معه بفعالية حسب أهدافهم، خططهم، ورغباتهم النهائية. من المصطلحات المتعلقة بالفكر: الإحساسية sentience، الوعي consciousness، الأفكار ideas، المخيلة imagination.

الفكر أو التفكير هي مجموع العمليات الذهنية التي تمكن الإنسان من نمذجة العالم الذي يعيش فيه، وبالتالي يمكنه من التعامل معه بفعالية أكبر لتحقيق أهدافه وخططه ورغباته.

هناك العديد من المصطلحات المرتبطة بمفهوم الفكر، أهمها: الإدراك، الوعي، شدة الإحساس، الأفكار، الخيال.

عملية التفكير تتضمن أيضاً التعامل مع المعلومات، كما في حالة صياغتنا للمصطلحات، والإسهام في عملية حل المشكلات، والاستنتاج واتخاذ القرارات.

يعتبر التفكير أعلى الوظائف الإدراكية التي يندرج تحليلها وتحليل العمليات التي تسهم في التفكير ضمن إطار علم النفس الإدراكي cognitive psychology.

الفكر أيضاً اتجاه يرتبط به الإنسان بعد تفكير لاختيار توجه يقيم على أساسه نهج حياته والقيم الإنسانية التي يسير عليها، والاتجاهات الفكرية تتقاطع فيما بينها بشكل كبير، كما أنه يمكن لأي إنسان اتخاذ مجموعة من المباديء التي لا تنتمي لتوجه فكري معين واعتبارها توجهاً فكرياً خاصاً.

من أشهر التوجهات الفكرية التي أثرت في الناس:

الفكر الليبرالي ، الفكر الماركسي ، الفكر اللينيني الماركسي ، الفكر الشيوعي، الفكر الديني، الفكر الإسلامي، الفكر الإلحادي ، الفكر الرأسمالي، الفكر الميكافيلي، الفكر الوطني.

وهناك أنواع للتفكير كالتفكير التجريدي Abstract thinking ، التفكير النقدي Critical thinking، التفكير الإبداعي Creative thinking.

التفكير الحرفي Lateral thinking ، إطار الذاكرة-تنبؤ Memory-prediction framework

ذاكرة ، التفكير الصوري Picturethinking.

3- الفكر في القرآن الكريم

احتل الحث على استخدام العقل، والدعوة إلى التفكر، والتدبر، والنظر، مساحة واسعة في القرآن الكريم. فقد جاءت مشتقات العقل في تسع وأربعين آية كلها بالصيغة الفعلية، مثل يعقلون، وتعقلون، ونعقل، وعقلوه، ويعقلها، بينما لم ترد كلمة العقل بالصيغة الاسمية في القرآن، وان وردت مرادفاتها بهذه الصيغة، مثل: اللبّ، والحلم، والحجر، والنهى، والقلب، والفؤاد، التي جاءت بمعنى العقل.

اشتمل القرآن على أكثر من ثلاثمائة آية تتضمن دعوة الناس الى التفكر أو التذكر أو التعقل

واشتمل القرآن على أكثر من ثلاثمائة آية تتضمن دعوة الناس إلى التفكر أو التذكر أو التعقل، أو تُلقِّن النبي ـ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ـ الحجة لإثبات حق أو لإبطال باطل، أو تحكي الحجة عن أنبيائه وأوليائه. ولم يأمر الله تعالى عباده في كتابه ولا في آية واحدة أن يؤمنوا به أو بشي‏ء مما هو عنده أو يسلكوا سبيلاً على العمياء وهم لا يشعرون، حتى أنه علل الشرائع والاحكام التي جعلها لهم.

ويمكن القول إن تلبس العقل في تمام الموارد التي جاء فيها في القرآن بالصيغة الفعلية، يوحي بتوجيه العقل نحو النهوض بوظيفته التي خلق لأجلها، وهي العمل باستمرار على التفكر، والتدبر، والتبصر، والنظر، والتذكر، والتفقه، وهذه كلها أفعال تتطلب فعالية دؤوبة متوثبة للعقل بنحو متواصل.

لقد وردت مشتقات الفكر في القرآن الكريم في عدة مواضع، وحسب المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم لمحمد فؤاد عبد الباقي وردت الكلمة في ثمانية عشر موضعاً بصيغة الفعل، وهذه الصيغ هي : فكر/تتفكروا/تتفكرون/يتفكروا/يتفكرون بصيغة الفعل، ولكثرتها نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى :

أ- {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(9).

ب- {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ}(10).

ج- {لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(11).

يقول القاضي عبدالجبار في معني “ينظرون” إنه التفكر بالقلب، قال الله: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} أفلا يفكرون في خلقها… ويضيف بأن “النظر إذا قيد بالقلب لا يحتمل إلا التفكير، ثم إن النظر بالقلب له أسماء من جملتها: التفكير، والبحث، والتأمل، والتدبر، والرؤية وغيرها”(12).

4- الفكر في الحديث النبوي الشريف

وردت الكلمة في عدة مواضع، وفيما يلي بعض الأمثلة :

أ- وردت الكلمة في صحيح البخاري في أربع مواضع، واحدة بلفظ البخاري، والباقي بلفظ القرآن الكريم، منها الباب الذي أفرده البخاري لما تحت كتاب الصلاة : “باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة”.

ب- وردت الكلمة في صحيح مسلم في موضعين، واحد منهما بلفظ مسلم في باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة والمراقبة، والثاني في كتاب الزهد والرقائق.

5- الفكر عند بعض العلماء والمفكرين قديماً وحديثاً

نظراً لطبيعة المعرفة في البيئة الإسلامية الأولى، ودخول العلماء والمفكرين ميدان استنباط العلوم والمناهج والأدلة، وبروز إشكالات من قبيل ما هو كلامي أو فلسفي في الثقافة المعرفية الإسلامية، كان لهذا المفهوم حضوراً في مجموع السجلات والتأليفات، وإن لم يكن في كثير من الأحيان بصيغة الفكر، وإنما جاء في كثير من المرات بصيغة: العقل والتأمل والتدبر والنظر.

وفيما يلي بعض التعريفات لهذا المفهوم :

يقول قاضي القضاه عبدالجبار الهمذاني في كتابه الشهير “شرح الأصول الخمسة(13)“الفكر هو المعنى الذي يوجب كون المرء متفكراً، والواحد منا يجد هذه الصفة من نفسه، ويفصل بين أن يكون متفكراً أو بين أن لا يكون متفكراً، وأجلى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه”.

ويقسم القاضي النظر إلي نوعين: أولها النظر في أمور الدنيا، كالنظر في العلاجات والتجارات، والثاني النظر في أمور الدين، وذلك على قسمين: أحدهما النظر في الشُبه لتحل، والثاني النظر في الأدلة ليتوصل بها إلى المعرفة.

ويرى الإمام أبو القاسم جار الله الزمخشري في كتابه المنهاج في أصول الدين أن “النظر هو التأمل والاستدلال: ترتيب علوم أو ظنون ليتوصل بها إلى علم أو ظن، كمن رأى دخاناً فعلم أن تحته ناراً، فالذي تُوصِّل به إلى هذا العلم ترتيب علمين قبله وهما: علمه أن الدخان لا يكون إلا عن نار، وعلمه أن ما رآه دخان.(14)

يقول الإمام أبو حامد الغزالي: “اعلم أن معنى الفكر هو إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة”(15). وقد جعل الفكر مرادفاً للتأمل والتدبر.

وبالنسبة لإمام الحرمين الجويني، يدل الفكر على النظر، يقول : “والنظر في اصطلاح الموحدين هو الفكر الذي يطلب به من قام به علماً أو غلبة ظن ؛ ثم ينقسم النظر إلى قسمين: إلى الصحيح وإلى الفاسد”(16).

ويعرفه التهانوي بقوله: “ولا شك أن النفس تلاحظ المعقولات في ضمن تلك الحركة، فقيل: الفكر هو تلك الحركة، والنظر هو الملاحظة التي في ضمنها، وقيل لتلازمهما إن الفكر والنظر مترادفان”(17).

وعرفه عبد الرحمن الزنيدي: “والفكر في المصطلح الفكري -والفلسفي خاصة- هو الفعل الذي تقوم به النفس عند حركتها في المعقولات، أي النظر والتأمل والتدبر والاستنباط والحكم، ونحو ذلك. وهو كذلك المعقولات نفسها، أي الموضوعات التي انتجها العقل البشري.(18)

وعرّف المرحوم الشيخ عباس القمّي الفكر بقوله: “اعلم أنّ حقيقة التفكّر طلب علم غير بديهي من مقدمات موصلة إليه. وقيل التفكّر سير الباطن من المبادئ إلى المقاصد، وهو قريب من النظر، ولا يرتقي أحد من النقص إلى الكمال إلا بهذا السير”(19).

وعرف الشيخ محمد رضا المظفر الفكر بقوله: “تعرف مما سبق أن النظر -الفكر- المقصود منه إجراء عملية عقلية في المعلومات الحاضرة لأجل الوصول إلى المطلوب”.

والمطلوب هو: العلم بالمجهول الغائب؛ وبتعبير آخر أدق: أنّ الفكر هو حركة عقلية بين المعلوم والمجهول.(20)

وعرفه د.طه جابر العلواني بقوله: “الفكر اسم لعملية تردد القوى العاقلة المفكرة في الإنسان، سواء أكان قلباً أو روحاً أو ذهناً بالنظر والتدبر، لطلب المعاني المجهولة من الأمور المعلومة، أو الوصول إلى الأحكام أو النسب بين الأشياء”.(21)

أما د. محمد عابد الجابري فيفرق في كتابه (إشكاليات الفكر العربي المعاصر) بين ثلاثة مستويات من الفكر:

الفكر كأيديولوجيا بمعناها الواسع العام.

والفكر كأداة.

والفكر كمحتوى.

ويعرف الفكر كأيديولوجيا بمعناها الواسع بأنها “مضمون الفكر ومحتواه، أي جمله الآراء والأفكار التي يعبر بواسطتها هذا الشعب أو ذاك عن مشاكله واهتماماته، عن مثله الأخلاقية ومعتقداته المذهبية وطموحاته السياسية والاجتماعية، وأيضاً عن رؤيته للإنسان والعالم”.

ويعرف الفكر كأداة بأنه: “أداة لإنتاج الأفكار سواء منها تلك التي تصنف داخل دائرة الأيديولوجيا أو داخل دائرة العلم، هو أداة بمعنى أنه جملة مبادئ ومفاهيم وآليات، تنتظم وتترسخ في ذهن الطفل الصغير منذ ابتداء تفتحه على الحياة لتشكل فيما بعد “العقل” الذي به يفكر، أي الجهاز الذي به يفهم ويؤول ويحاكم، ويعترض، وهي عبارة عن عناصر متداخلة ومتشابكة بصورة تجعل منها بنية: أي منظومة من العلاقات الثابتة في إطار بعض التحولات، الأمر الذي يعني أن الفكر أداة تعمل بثوابت معينة وأن عملها ذاك لا يخترق حدوداً معينة كذلك، هي الحدود التي تنتهي عندها التحولات والتغيرات التي تقبلها تلك الثوابت، أي التي لا تمسها في ثباتها وتماسكها”(22).

يعرف الفكر كأداة بأنه “أداة لإنتاج الأفكار سواء منها تلك التي تصنف داخل دائرة الأيديولوجيا أو داخل دائرة العلم

والفكر كمحتوى هو: “جملة من الأفكار والآراء والنظريات تنتظمها عناصر ترتبط بعلاقات بنيوية، علاقات تجعل منها أجزاء تستقي دلالتها ووظيفتها من الكل الذي تنتمي إليه، وهي بنية من التصورات، ومن الآراء والأفكار والنظريات”(23).

ويربط الجابري بين الفكر كأداة والفكر كمحتوي ويقول” المبادئ والمفاهيم والآليات الذهنية التي يفكر العربي بواسطتها هي علي الرغم من طابعها كلي إنساني، ذات طابع خصوصي أو فيها جوانب من الخصوصية تسمح وتبرر وصف الفكر الأداة الذي تشكله بأنه “عربي”، تماماً مثلما أن الآراء والأفكار والنظريات التي ينتجها المثقف العربي المؤطر بمحيطه العربي، الاجتماعي الثقافي، تشكل محتوى فكريًّا “عربيًّا” ليس فقط لأنه يتناول قضايا عربية أو قضايا إنسانية في بعدها العربي بل أيضاً لأنه نتيجه قراءة تتخذ المحيط الاجتماعي الثقافي العربي إطاراً مرجعياً لها…وإذاً فالفكر العربي هو في آن واحد أداة ومحتوى أو بنية عقلية وبنية أيديولوجية (بالمعني العام والواسع لكلمة أيديولوجيا)(24).

المستفاد من التعريفات والتحديدات السابقة:

بالنظر في مجموع ما تم تقديمه من أمثلة، وغير ذلك مما تركناه تفادياً للتطويل، يستفاد ما يلي:

أ- الفكر بمعنى إعمال النظر والتأمل في مجموعة من المعارف، بهدف الوصول إلى تحقيق معرفة جديدة.

ب- الفكر بمعنى الثمرة التي تنتج عن عملية التفكير.

ج- إن التفكر عملية عقلية تستخدم فيها كل الوسائل المساعدة للوصول إلى حقيقة الدنيا والآخرة.

د- الفكر مرادف للنظر، وهو إعمال العقل في الأمور المختلفة للوصول إلى أمر جديد.

هـ- التفكير تمرثه التذكير.

و- استعمال المسلمين للمفهوم اتفق مع المقصود القرآني والنبوي له بصورة أو بأخرى.

وهكذا تتضح حقيقة التفكّر، وتشخيص معناها، وبأنها: حركة عقلية وقوّة مدركة يكتشف الإنسان عن طريقها القضايا المجهولة لديه والتي يبحث عنها ويستهدف تحصيلها، فتنمو معارفه وعلومه وأفكاره في الحياة.

وهكذا يضع هذا الفريق من الأعلام بين أيدينا الإيضاح والتعريف لكلمة (الفكر والتفكر).

ويرتبط بمفهوم الفكر مفاهيم أخري تشكل منظومة مترابطة ومتناسقة مع بعضها البعض بداية من المفهوم الرئيسي والجذري (الفكر) والمفاهيم النابعة منه، والتي تعطي قدراً من التفاعل والمفاعلة كمفهوم: المفكر والمنظر والفيلسوف والكاتب والمجتهد والمفسر، وهذا المفهوم أنتج مفاهيم فرعية أخري كـ: النظر والتأمل والإدراك والتمحيص والتفكير والجدل وإعمال العقل والاستنباط والاستنتاج، والبحث والتدبر والخاطر والعلم والدراية والفقه والفهم، والفطنة والحس والمعرفة والتبصر والتذكر.

هذه المفاهيم تنتمي إلى أسرة واحدة و إلى منظومة معينة، فكلها مفاهيم فرعية ولدت من مفهوم أُم/رئيس، أو أنهار فرعية تصب في النهاية في بحيرة جامعة.

ويأتي عكس هذه المفاهيم مفاهيم من قبيل: التجمد والتيبس والتقليد والتحجر، والبلادة والركود والجمود والجهل، والنسيان والغفلة والسهو.

إن البحث بالعقل كمنتج للتفكير والبحث بهما معاً لإنتاج النهوض الحضاري والاستمرار بعيش الأمة عيشاً حضارياً ومحاولة تفاعل حضارة وثقافة الأمة بالحضارات الأخرى تأثيراً وتأثراً، وجعل حضارتنا قائمة وباستمرار على الإنجاز في الاكتشاف والاختراع والإبداع وتوجيه الاكتشافات والاختراعات والإبداعات لخير الأمة وزوال شقاء العالم كل ذلك ليس بحثاً في التفكير العادي أو الذاتي؛ فالإنسان ما دام حياً ويقظاً أي ليس نائماً أو غافياً أو ساهياً هو مفكر. تدفعه إلى إعمال النظر والتأمل والنظر والتفكر والاستنتاج والبحث، فيما يتعلق بعلوم الشريعة وقضايا العقيدة والقيم والاتجاهات الحضارية والاجتماعية، وبقضايا العلوم التجريبية، وغيرها، كل ذلك من وجهة نظر إسلامية مؤسسة على خليفة عقدية ثابتة: القرآن الكريم والسنة النبوية.

فالفكر عندما يكون إسلامياً يضم كل ما أنتجه العقل الإسلامي وينظر بشمولية إلى التجربة التاريخية للأمة، في كل المجالات وبخصوص كل الإشكاليات والقضايا المرتبطة بالوجود والطبيعة والعلاقات والحياة… ولكن من وجهة إسلامية، أي خاضعة للمنهجية الإسلامية التي حددتها الشريعة الإسلامية ابتداء؛ وبذلك يتم إخراج كل الفلسفات والأفكار والمفاهيم التي تعتمد خلفية عقدية أو فلسفية غير إسلامية.

نخلص من ذلك إلى نتيجة هامّة وهي: أنّ الإسلام حينما دعا إلى التفكر إنّما دعا إلى العلم والمعرفة واكتشاف قوانين الفكر والطبيعة والمجتمع والحياة. وبذا أعطى الحياة والحضارة والمعرفة الإسلامية صفة الحركية وهي سر النمو والتطور والفاعلية والبقاء المؤثر في مسيرة البشرية، كما أنهّا حصانة من السقوط والتوقف والركود والغياب والفعل التاريخي.

إنّ الإسلام حينما دعا إلى التفكر إنّما دعا إلى العلم والمعرفة واكتشاف قوانين الفكر والطبيعة والمجتمع والحياة

وإذا كان هذا هو التفكّر بصورة عامّة، وأن نتاج عملية التفكير ومحصلته العلمية يمكن أن نسميها (الفكر)، فلنقف إذن عند قضية أساسية في حياة الأمّة الإسلامية وأجيالها المتعاقبة وفي حياة البشرية، وهي قضية (التفكير الإسلامي) و(الفكر الإسلامي)، وماذا نقصد بكل منهما:

أ- التفكير الإسلامي:

وبناء على ما قدمنا من تعاريف للفكر والتفكر نأتي هنا فنعرّف التفكير الإسلامي، وبما أنّ لكل عمل عقلي ونشاط فكري منهجه ومنطلقاته وأهدافه، وبما أنّنا قد فهمنا أنّ التفكير حركة عقلية تبدأ من المعلوم لتنتهي إلى اكتشاف المجهول، فإذن هذه الحركة العقلية إذا ما مارست دورها في مجال المعارف الإنسانية كالفلسفة والتشريع وعلم الأخلاق والتوحيد ونظريات الاقتصاد والسياسة والأدب وعلم النفس الاجتماعي وفلسفة التأريخ…إلخ، ستمارس عملها كالآتي:

1 ـ تنطلق من مبادئ ومقدّمات محدودة المعالم حسب المجال الفكري الذي تتحرّك فيه.

2 ـ تسير وفق منهج وطريقة معينة تتناسب ونظرة المفكّر وطريقته في التفكير.

3 ـ تنتهي إلى نتائج فكريّة محدودة الصفة والهوية.

فإن كانت هذه العملية الفكرية تنطلق من منطلقات ومقدّمات فكرية إسلامية أو منسجمة مع الخط الإسلامي، وسارت وفق منهج تفكير إسلامي، واستهدفت تحصيل نتائج وفق هذه المقدمات وطريقة التفكير التي اعتمدتها، مستهدفة الحصول على نتائج فكرية ذات طابع وهوية إسلامية، سيكون هذا التفكير تفكيراً إسلامياً. وأما إذا لم يجر التفكير وفق تلك المبادئ الإسلامية الثلاثة، فلن نصفه بأنّه تفكير إسلامي، لأنّه انطلق من مقدمات غير إسلامية، وتحرّك وفق منهج تفكير غير إسلامي، وانتهى بصورة حتمية إلى نتائج غير إسلامية.

وإذن نستطيع أن نعرّف التفكير الإسلامي بأنّه: “كل حركة عقلية تجري على أسس إسلامية مستهدفة تحصيل فكر إسلامي ملتزم”.

المراجع:

    • ابن منظور، لسان العرب، مادة فكر.
    • الفيروز آبادي، القاموس المحيط، مادة فكر.
    • الراغب الأصفهاني، معجم مفردات ألفاظ القرآن، مادة فكر.
    • (البقرة /219).
    • جميل صليبا، المعجم الفلسفي ج2/ص156، (دار الكتاب اللبناني-بيروت-1982).
    • إبراهيم أنيس وآخرون، المعجم الفلسفي،ج 1، مجمع اللغة العربية –ط 2- مصر.
    • نخبة من الباحثين السوفيات،الموسوعة الفلسفية، ترجمة سمير كرم، ص 333، دار الطليعة بيروت-1987، الطبعة 6.
    • سورة الجاثية- آية 13.
    • المدثر/18.
    • الحشر/21.
    • القاضي عبدالجبار الهمذاني، شرح الأصول الخمسة، مكتبة وهبة، ص45، الطبعة الخامسة، 2006.
    • المرجع السابق.
    • جار الله محمود بن عمر الزمخشري، المنهاج في أصول الدين، مكتبة مركز بدر العلمي والثقافي – صنعاء، ص14.
    • أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين،ج4/ص 425، دار الندوة الجديدة- بيروت.
    • أبو المعالي عبد المالك الجويني: كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، تحقيق أسعد تميم، ص25، مؤسسة الكتب الثقافية –بيروت- ط 1- 1985.
    • محمد بن علي التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، ج 3ص1121 –دار صادر-بيروت.
    • أبو زيد عبد الرحمان، حقيقة الفكر الإسلامي، ص 10، دار المسلم- الرياض- ط 1-1415.
  • انظر موقع بلاغ كتاب الفكر الإسلامي:

http://www.balagh.com/matboat/fbook/122/tb0vjy1z.htm

    • المرجع السابق.
    • طه جابر العلواني، الأزمة الفكرية المعاصرة ، ص 27، المعهد العالمي للفكر الاسلامي –هيرندن- ط 1.
    • محمد عابد الجابري، إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثانية، ص 51.
    • المرجع السابق ص52.
  • المرجع السابق ص 53.
زر الذهاب إلى الأعلى