مفاهيممناهج ومفاهيم

الربانية والربانيون

من هم الربانيون؟

 

الربانية صفة جميلة ودرجة رفيعة يوصف بها السعداء من عباد الله تبارك وتعالى. ونحن نرى في الدنيا فخر الناس بانتسابهم لجنسية معينة (فيقول قائلهم بملء فيه: أنا مصري أو سعودي أو أمريكي ..) أو الانتساب لبلدة معينة (فيقال سكندري أو بغدادي ..) أو لمهنة معينة (فهذا صيدلاني أو جواهرجي ..) أو لمذهب معين (فهذا شافعي وذاك مالكي …) أو لتيار سياسي أو لمدرسة دعوية أو لحزب أو جماعة أو طريقة أو جامعة أو عائلة أو قبيلة، إلى آخر ما ينتسب إليه الناس. ولكن أن يكون العبد ربانيا منسوبا إلى الرب تبارك وتعالى فهذا انتساب مدهش تتصاغر أمامه كل نسبة أخرى مهما بلغت.

فإذا أراد العبد أن يكون عبدا ربانيا، ماذا عليه أن يفعل حتى يتحقق فيه هذا الانتساب العظيم؟

وما هي صفات الربانيين؟

ولماذا أصاب بعضَهم توبيخ قراني شديد؟

وما هي الهدايات القرآنية لوجود هذه الطائفة المتميزة في واقعنا المعاصر؟

 

دعونا أولا نرى أقوال أهل العلم في معنى الربانية والربانيين ثم نرى كيف ذكرهم الله تعالى في كتابه العزيز.

ذكر أهل العلم أقوالا عديدة في معنى “الربانيين” وإن كانت جميعها تلتقي في إطار واحد. من هذه الأقوال:

  • الرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للمبالغة، وهو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، فكأنه يقتدي بالله تبارك وتعالى في تيسير الأمور.
  • الرباني نسبة إلى الرب على غير قياس كما يقال اللحياني لعظيم اللحية، والشعراني لكثير الشعر.
  • الربانيون أرباب العلم، واحِدهم رباني، من قوله ربه يربه فهو ربان: إذا دبره وأصلحه، والياء للنسب، فمعنى الرباني: العالم بدين الرب، القوي المتمسك بطاعة الله.
  • الرباني هو العالم الحكيم.
  • الربانيون هم المنتسبون إلى الرب، عبادا له وعبيدا، توجهوا إليه وحده بالعبادة، وأخذوا عنه وحده منهج حياتهم.
  • الرباني منسوب إلى ربان، وهو معلم الناس وسائسهم، والألف والنون فيه كما في: غضبان وعطشان.
  • الرباني المنسوب إلى الرب، بمعنى كونه عالما به، ومواظبا على طاعته، كما يقال: رجل إلهي إذا كان مقبلا على معرفة الإله وطاعته وزيادة الألف والنون فيه للدلالة على كمال هذه الصفة.
  • الرباني: هو الإنسان الذي علم وعمل بما علم، واشتغل بتعليم طرق الخير.
  • الربانيون: هم الحكماء العلماء الحلماء الفقهاء.

وهذه الأقوال متقاربة وهي تجتمع في كون الرباني عبدا خالصا لله عالما به مواظبا على طاعته ودالا لغيره على طريق الهداية والطاعة. وقد ذكرت هذه الصفة المباركة في ثلاثة مواضع في القرآن الكريم، وتأملُ مجموع هذه الآيات يقدم إحاطة وافية شافية لهذه الصفة المباركة.

 

الموضع الأول في سورة آل عمران: في قوله تعالى ﴿ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة، ثم يقول للناس: كونوا عبادا لي من دون الله، ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون﴾. والمعنى: أن النبي عبدٌ لله يمتنع ويستحيل عليه أن يوجه الناس لعبادته هو من دون الله، ولا يمكن أن يقول لهم ﴿كونوا عبادا لي من دون الله﴾، فهذا محال في حق الأنبياء، وبداهة أن الله تعالى لا يختار أنبياءه من الكذبة الذين يتجرأون على هذا القول الشنيع وهو ﴿كونوا عبادا لي من دون الله﴾ لأن الأنبياء الذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة يحجزهم خوفهم من الله، وإخلاصهم له، عن أن يقولوا هذا القول المنكر، كما يحجزهم عنه – أيضا – ما امتازوا به من نفوس طاهرة، وقلوب نقية، وعقول سليمة …لأنهم لو فرض جدلا – أنهم قالوا ذلك لأخذهم الله – تعالى – أخذ عزيز مقتدر وهو – سبحانه – القائل عن سيد الأنبياء ﷺ: ﴿ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحد عنه حاجزين﴾.

كل معلم وداع ومربٍ، يدعون إلى معالي الأمور والمراتب والدرجات، وربما يستغرب بعضنا الآن إذا سمع داعيا إلى الله يرغب الناس أن يجتهدوا حتى يصيروا ربانيين، وقد يعتبرون هذا مبالغة أو شططا، مع أنه هدي قرآني مبارك لأهل التعليم والدعوة والتربية

والتعبير بقوله تعالى: ﴿ما كان لبشر﴾ تعبير قرآنى رائع، يفيد نفي الشأن من أصله، وعدم اتفاق هذا المعنى مع الحقيقة المفروضة في الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام. وشبيه بهذا التعبير قوله تعالى: ﴿ما كان لله أن يتخذ من ولد﴾ وقوله: ﴿وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا﴾ وجاء العطف بثم في قوله ﴿ ثم يقول للناس﴾ للإشعار بالتفاوت العظيم بين ما أعطاه الله تعالى لأنبيائه من نِعم، وبين هذا القول المنكر الذى نفاه – سبحانه – عنهم، وهو أن يقولوا للناس: اجعلوا عبادتكم لنا ولا تجعلوها لله تعالى، بل هم يأمرون من آمن برسالتهم بما عليه مدار سعادتهم في الدارين ويقولون لهم ﴿كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون﴾ أي كونوا علماء حكماء حلماء معلمين للناس ومربيهم، بصغار العلم قبل كباره، عاملين بذلك بسبب تعليمكم لغيركم من وحي الله تعالى، وبما تدرسونه منه حفظًا وعلمًا وفقهًا.

وفي أسباب النزول للواحدي، أن ابن عباس في رواية الكلبي وعطاء قال: إن أبا رافع اليهودي والربيس من نصارى نجران قالا: يا محمد، أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ فقال رسول الله ﷺ: ”معاذ الله أن يُعبد غير الله أو نأمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني“، فأنزل الله تعالى هذه الآية[1]. واختيار لفظ العباد في الآية له دلالته، وقد قال الإمام الحافظ ابن عطية في تفسيره المحرر الوجيز كلاما بديعا جدا في معنى “العباد” من قوله ﴿كونوا عبادا لي﴾، فقال: “والذي استقريت في لفظة العباد: أنه جمع عبد متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن؛ وانظر قوله تعالى: ﴿والله رءوف بالعباد﴾ [آل عمران: ٣٠] وقوله ﴿عباد مكرمون﴾ [الأنبياء: ٢٦]، وقوله تعالى ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله﴾ [الزمر: ٥٣] وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض لرحمة الله: ﴿إن تعذبهم فإنهم عبادك﴾ [المائدة: ١١٨] فنوه بهم. وقال بعض اللغويين: إن نصارى الحيرة وهم عرب لما أطاعوا كسرى ودخلوا تحت أمره سمتهم العرب العباد، فلم ينته بهم إلى اسم العبيد، وقال قوم: بل هم قوم من العرب من قبائل شتى اجتمعوا وتنصروا وسموا أنفسهم العباد، كأنه انتساب إلى عبادة الله. وأما العبيد فيستعمل في تحقير، ومنه قول امرئ القيس: قولا لدودان عبيد العصا. ومنه قول حمزة بن عبد المطلب: “وهل أنتم إلا عبيد لأبي” ومنه قول الله تعالى: ﴿وما ربك بظلام للعبيد﴾ [فصلت: ٤٦] لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم، وأنه تعالى ليس بظلام لهم مع ذلك. ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا، ولذلك أنس بها في قوله تعالى: ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم﴾ [الزمر: ٥٣]. فهذا النوع من النظر يسلك به سبل العجائب في ميز فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة.”

الأنبياء حاشاهم أن يكذبوا على الله تعالى، أو يأمروا أتباعهم بعبادتهم، بل يأمرونهم أن يكونوا عبادا لله تعالى، وزيادة على ذلك أن يكونوا “ربانيين”، أي منسوبين للرب، وهو الله تعالى، لأن النسب إلى الشيء إنما يكون لمزيد اختصاص المنسوب بالمنسوب إليه.

وهكذا كل معلم وداع ومربٍ، يدعون إلى معالي الأمور والمراتب والدرجات، وربما يستغرب بعضنا الآن إذا سمع داعيا إلى الله يرغب الناس أن يجتهدوا حتى يصيروا ربانيين، وقد يعتبرون هذا مبالغة أو شططا، مع أنه هدي قرآني مبارك لأهل التعليم والدعوة والتربية.

 

وختام الآية الكريمة فيه إشارة لطيفة لبعض ملامح الربانيين، بقوله تعالى ﴿بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون﴾، إذ فيها بيان واضح بأن التعلم والقراءة مختلفة عن “الدراسة” فالدرس أعمق وفيه نوع تأمل وتكرار ليستقر به العلم. و ﴿تدرسون﴾ معناه تقرأون بإعادة وتمهل وتكرير وتركيز، فأنت تدرس الكتاب إذا قرأته بتمهل وتمعن لفهمه وتدبره. وفي الحديث “ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة …إلخ”، فعطف التدارس على القراءة فعلم أن الدراسة أخص من القراءة. وسَمَّوا بيت قراءة اليهود مِدراسا كما في الحديث: «إن النبي ﷺ خرج في طائفة من أصحابه حتى أتى مدراس اليهود فقرأ عليهم القرآن ودعاهم» إلخ. فهؤلاء الربانيون يدرسون الكتاب، إشارة إلى فهمه وإتقانه. وقوله قبلها ﴿بما كنتم تعلمون الكتاب﴾ سواء على قراءة الجمهور ﴿تَعلمون﴾ بفتح التاء واللام، أو باقي القراء بضم التاء وفتح العين وكسر وتشديد اللام، إشارة مؤكِدة لاختلاف المعنيين: العلم أو التعليم والدراسة.

قال الرازي: دلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيا، فمن اشتغل بذلك لغير هذا المقصد ضاع سعيه وخاب عمله، وكان مثله كمثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ولا منفعة بثمرها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: “نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع”.

ونفهم من هذا أن مَن يهبه الله الحكمة في الدعوة إلى الله وتطبيق شرعه، لن يضيف لهذا المنهج شيئا، وبحكم صدقه مع الله فهو لن يدعي أنه “واصل” بعلم أو أسرار زائدة من الله، بل إنه يكتفي بالدعوة لله وبأن يكون أسوة حسنة.

ومن ترتيب الآية البديع:

  1. قوله: ﴿أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة﴾ إشارة إلى ثلاثة أشياء ذكرها على ترتيب في غاية الحُسن، وذلك لأن الكتاب السماوي ينزل أولا ثم إنه يحصل في عقل النبي فهم ذلك الكتاب وإليه الإشارة بالحكم، فإن أهل اللغة والتفسير اتفقوا على أن هذا الحكم هو العلم، قال تعالى: ﴿وآتيناه الحكم صبيا﴾ [مريم: ١٢] يعني العلم والفهم، ثم إذا حصل فهم الكتاب، فحينئذ يُبلغ ذلك إلى الخلق، وهو النبوة فما أحسن هذا الترتيب.
  2. قال البعض: إن الآية دالة على فساد قول من يقول: الكفر بالله هو الجهل به والإيمان بالله هو المعرفة به، وذلك لأن الله تعالى حكم بكفر هؤلاء، وهو قوله تعالى: ﴿أيأمركم بالكفر﴾ ثم إن هؤلاء كانوا عارفين بالله تعالى بدليل قوله: ﴿ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله﴾، وظاهر هذا يدل على معرفته بالله فلما حصل الكفر هاهنا مع المعرفة بالله دل ذلك على أن الإيمان به ليس هو المعرفة والكفر به تعالى ليس هو الجهل به. والجواب عن ذلك أن من قال: الكفر بالله هو الجهل به، لا يقصد به مجرد الجهل بكونه موجودا، بل يقصد به الجهل بذاته وبصفاته السلبية وصفاته الإضافية، وأنه لا شريك له في المعبودية، فلما جهل هذا فقد جهل بعض صفاته، رغم أنه مقر وعالم بوجوده.
  3. قدمت الآية تعلم علم الكتاب على دراسته لأمرين، أولهما: لا معنى للدراسة دون تعلم النص أولا، والثاني الإشارة لما وقع فيه أهل الكتاب الذين اتجهوا إلى تعليم الناس أهواءهم بدل أن يعلموهم كتاب الله، وهذا قريب مما يفعله بعض ملاحدة اليوم الذين يريدون أن يفهموا القرآن من غير أن يعلموا شيئا، ولا حتى علم اللغة العربية التي نزل بها القرآن العظيم.

 

الموضع الثاني في سورة المائدة: في قوله تعالى ﴿إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور، يحكم بها النبيون الذين أسلموا، للذين هادوا، والربانيون والأحبار، بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء﴾، وفيها أضاف الربانيين إلى الأحبار العلماء وإلى النبيين الذين أسلموا أنفسهم كلها لله، فليس لهم في أنفسهم شيء، ثم كلفهم جميعا بالمحافظة على كتاب الله، وأن يكونوا عليه شهداء، بإقامة شريعة الله بين أقوامهم. فالربانيون والأحبار مُستأمنون على تبليغ دين الله وفقه كتاب الله والعمل به.

قالوا في “المنتخب لعلماء الأزهر” في تفسير الآية:

سكوت الربانيين والأحبار عن مسارعة أقوامهم في الإثم والعدوان وأكل أموال الناس بالباطل، وفيها تحذير لهم أنهم لو قصروا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان هذا أسوأ ما يمكن أن يفعلوه ولكان إيذانا بفساد المجتمع وانهياره، وخيانة لما استُحفظوا عليه من كتاب الله

“إنا أنزلنا التوراة على موسى فيها هداية إلى الحق، وبيان منير للأحكام التي يحكم بها النبيون، والذين أخلصوا نفوسهم لربهم، والعلماء السالكون طريقة الأنبياء والذين عهد إليهم أن يحفظوا كتابهم من التبديل، حرسًا عليه، شاهدين بأنه الحق، فلا تخافوا الناس في أحكامكم، وخافوني أنا ربكم رب العالمين، ولا تستبدلوا بآياتي التي أنزلتها ثمنًا قليلًا من متاع الدنيا، كالرشوة والجاه، ومن لم يحكم بما أنزل الله من شرائع مستهينين بها، فهم من الكافرين.”

والمراد من ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله﴾ من ترك الحكم به جحدا له، أو استخفافا به، أو طعنا في حقيته بعد ثبوت كونه حكم الله بتواتر أو سماعه من رسول الله. وهذا مروي عن ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والحسن، فـ (من) شرطية وترك الحكم مجمل، بيانه في أدلة أخر. وتحت هذا حالة أخرى، وهي التزام أن لا يحكم بما أنزل الله في نفسه كفعل المسلم الذي تقام في أرضه الأحكام الشرعية فيدخل تحت محاكم غير شرعية باختياره فإن ذلك الالتزام أشد من المخالفة في الجزئيات، ولا سيما إذا لم يكن فعله لضرورة ملزمة. وأعظم منه إلزام الناس بالحكم بغير ما أنزل الله من ولاة الأمور، وهو مراتب متفاوتة، وبعضها قد يلزمه لازم الردة إن دل على استخفاف أو تخطئة لحكم الله.

 

ومن ترتيب الآية البديع:

  1. ليس المراد في قوله تعالى ﴿بما استحفظوا من كتاب الله﴾ مجرد الحفظ بالذاكرة، بل الاستحفاظ هنا: الاستئمان، أي أمانة فهم الكتاب حق الفهم بما دلت عليه آياته، ففيه الأمر بإجادة الفهم والتبليغ للأمة على ما هو عليه. ولذلك قال بعدها ﴿فلا تخشوا الناس﴾ لأن الحفيظ على الشيء، الأمين حق الأمانة لا يخشى أحدا في القيام بوجه أمانته ولكنه يخشى فقط الذي استأمنه.
  2. الترتيب في قوله تعالى ﴿يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار﴾، فتقديم النبيين واضح، وأما تقديم الربانيين على الأحبار، فلعله لأنهم الذين يطبقون العلم على العمل، والمقام في الآية هو مقام التطبيق، فالعمل الواضح هو عمل الربانيين؛ لأنهم الذين يحكمون بحكم التوراة، وقد خص الله تعالى الفريقين بقوله تعالت كلماته: ﴿بما استحفطوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء﴾.
  3. الربانيون والأحبار نوعان قد طبقوا حكم التوراة فالأولون صفت نفوسهم وربوها بالعلم والعبادة، والآخرون جمعوا العلم ورتبوه وعرضوه، وعلى هذا التفسير الذي يجعلهم نوعين متغايرين، يتوجه القول فيه بأن الذين قاموا على التوراة صنفان: أحدهما – جمع علمها واستخرج ينابيعها، وأحاط بها، وآخرون طبقوها في الأقضية، أي أن الفقهاء وهم الأحبار قدموا خلاصة ما علموا نقيا محبرا تحبيرا جيدا، والآخرون وهم الربانيون طبقوه مجردين أنفسهم من كل شهوة وهوى، فالضعيف عندهم قوي، حتى يأخذوا الحق له والقوي منهم ضعيف حتى يأخذوا الحق منه، كما يفعل الربانيون من أمة محمد، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم رضي الله عنهم.
  4. الربانيون والأحبار إذن كُلفوا المحافظة على كتاب الله، وكلفوا أيضا أن يكونوا عليه شهداء، فيؤدوا له الشهادة في أنفسهم، بامتثال دين الله كاملا، كما يؤدوا له الشهادة في قومهم بتحكيم وإقامة شريعته بينهم، وهم في هذا أيضا رقباء على تنفيذها، بحيث تُنفذ من غير عوج.
  5. ﴿فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا﴾ الخشية هي الخوف مع تعظيم المَخشي ومحبته، فليست مرادفة لمعنى الخوف؛ لأن الخوف أعم من أن يكون من مرهوب معظم محبوب، أو مرهوب مبغض ذميم، أو فيه مهانة لا عظمة فيه؛ ولذلك عبر عن الأخيار بالنسبة لله تعالى بالخشية دون الخوف، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿…إنما يخشى الله من عباده العلماء…﴾، وقوله تعالى: ﴿…وخشي الرحمن بالغيب …﴾، وقال سبحانه: ﴿…ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب﴾. وأما التعبير عن خوف الناس وملامتهم بالخشية فمن قبيل المشاكلة اللفظية، في مقابل قوله تعالى: ﴿واخشون﴾، أي أن الله تعالى هو وحده الجدير بأن يخشى، كما قال تعالى: ﴿الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله﴾. ولذلك قد يقال إن الخطاب “لا تخشوا”، و “اخشوا” ربما يكون أعلى من أن يكون لليهود الذين عاصروا النبي عليه الصلاة والسلام، فقد وصفهم الله تعالى بأنهم سماعون للكذب أكالون للسحت.
  6. وقوله تعالى ﴿يحكم بها النبيون الذين أسلموا﴾، قد يثير سؤالا عن وصفه ﴿الذين أسلموا﴾ وأن كونهم أنبياء يغني عن وصفهم بالإسلام. والجواب عن هذا أن المقصود من الوصف الإشارة إلى شرف الإسلام وفضله إذ كان دين الأنبياء. والمراد بالنبيين هنا أنبياء بني إسرائيل، موسى والأنبياء الذين جاءوا من بعده عموما، وأن المراد بالذين أسلموا: أي الذين كان شرعهم الخاص بهم كشرع الإسلام سواء، لأنهم كانوا مخصوصين بأحكام غير أحكام عموم أمتهم بل هي مماثلة للإسلام، وهي الحنيفية الحق، إذ لا شك أن الأنبياء كانوا على أكمل حال من العبادة والمعاملة، ولم تكن الخمر محرمة في شريعة قبل الإسلام ومع ذلك ما شربها الأنبياء قط، بل حرمتها التوراة على كاهن بني إسرائيل فما ظنك بأنبيائهم؟ ولعل هذا هو المراد من وصية إبراهيم لبنيه بقوله: ﴿فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾ [البقرة: ١٣٢]، وبدعاء يوسف عليه السلام ﴿توفني مسلما وألحقني بالصالحين﴾ [يوسف: ١٠١].
  7. وعلى كل حال فإن الأقرب في وصف الله تعالى لهم بأنهم: ﴿الذين أسلموا﴾، أي: أخلصوا لله، فالإسلام هنا هو الإخلاص وتنفيذ أحكام الدين، والإذعان للحق، وعدم الالتفاف عليه بتأويل، أو لإرادة مجاملة ومحاباة لشريف، وتشديد وتضييق على ضعيف، على ما اشتهر بعد ذلك عن اليهود من جعلهم للضعيف حكما صارما، وللشريف تهاونا ظالما، فإن خُلق النبيين الإخلاص وهو الإسلام والانقياد وتنفيذ حكم الله تعالى بقلب سليم، فذكر وصف الإسلام للنبيين، لبيان ما أوتوا من شرف الإذعان، وللإشارة إلى أن تنفيذ الأحكام من غير عوج ولا التواء هو خلق كل النبيين، صلوات الله وسلامه عليهم.

 

والموضع الثالث في سورة المائدة أيضا: وهذه الآية معناها أشد وأصعب وأخوف!

ويرى جمهور المفسرين أنها تتكلم عن اليهود حصرا، وحتى على قول بعضهم أنها عن اليهود والنصارى، فإن المعنى العام يظل كما هو. قال تعالى ﴿وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون. لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت ! لبئس ما كانوا يصنعون !﴾،

وفيها نكير شديد على سكوت الربانيين والأحبار عن مسارعة أقوامهم في الإثم والعدوان وأكل أموال الناس بالباطل، وفيها تحذير لهم أنهم لو قصروا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان هذا أسوأ ما يمكن أن يفعلوه ولكان إيذانا بفساد المجتمع وانهياره، وخيانة لما استُحفظوا عليه من كتاب الله. ويذهب بعض المفسرين إلى أن إثم سكوت العلماء من الربانيين والأحبار عن المنكر وعدم نهيهم عنه، هو أشد إثما وجرما من المنكرات التي وقع فيها من وقع. وقالوا: ما في القرآن آية أشد توبيخا منها للعلماء؛ وقال الضحاك: ما في القرآن أخوف منها، ونحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما.

قال في الكشاف: لا يُسمى العامل صانعا ولا العمل صناعة حتى يتمكن فيه العامل ويتدرب وينسب إليه، وفاعل المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره، فإذا فرط في الإنكار على المعصية كان أشد إثما وأعظم جرما من الفاعل لها، اهـ.

والآية بهذا تحذر من آفة تؤدي إلى ضعف المجتمع كله، وتؤذن بفساده وانهياره وغرق سفينته، وهي سكوت القائمين على أمر الشريعة والعلم الديني عما يقع في المجتمع من إثم وعدوان، وبنو إسرائيل ﴿كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه﴾.. فلما تماهى علماؤهم معهم، ولم يبادروا بدعوتهم، كان هذا أول النقص الذي دخل على مجتمعهم، ثم آل أمرهم إلى ما نعرف جميعا، كما بينه رسولنا ﷺ حين قال:

“إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: ﴿لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون﴾،

ثم قال: كلا، والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعننكم كما لعنهم”.

 

فتصور معي – وفقك الله لما يحب ويرضى – أن بني إسرائيل بتاريخهم الحافل بالمآسي والفظائع التي سببوها لأنفسهم ولغيرهم، كان مبتدأها وأول أمرها نكوثهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان “أول النقص” الذي أصابهم وأوصلهم إلى ما أوصلهم إليه.

إن التغير الخطير الذي طرأ على بني إسرائيل استحق هذا التنبيه والتحذير القرآني لهذه الأمة أن تقع فيما وقعوا فيه. وذلك لأن هؤلاء العلماء الذين كان يتبعهم اليهود ويستمعون إليهم ويستجيبون لهم، قد سكتوا عن عملين هما جماع الرذائل التي يمكن أن تصيب أي مجتمع بشري، وهما ﴿قولهم الإثم وأكلهم السحت﴾، لأن الذي يدفع المجتمعات إلى الحضيض قول ذميم يحرض على الفساد ويدفع إليه، ويجري الناس عليه، ويتضمن ذلك ارتكاب الشهوات، بكل أجزائها، لأن منبت وبداية الشر استحسانه، واستحسانه يكون غالبا بالقول المزين له والمحرض عليه، ثم استمرءوا من بعد ذلك بقولٍ يزكيه ويغري به، ويكون من بعد ذلك ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا. والأمر الثاني – طمع لما في أيدي الناس وحسد على ما آتاهم الله من فضله، ووراء ذلك أكل لمال الناس بالباطل، وإشراف على ما في أيديهم، واتخاذ المال ذريعة لإفساد ذات البين بينهم، والتحريض على الشر، والتحكم المرذول. ولعل ذكر عدم نهي الأحبار للعامة عن السحت فيه شيء من التعريض بهم، لأن بعضهم كانوا لا يتعففون عن الرشا بكل أنواعها، وحتى بعد ذلك في أزمنة المحن العظيمة التي نزلت بهم، وروايات ذلك أثناء الحروب الصليبية كثيرة جدا، وكيف ذاق اليهود ويلاتها، بينما كان أحبارهم في أمن وأمان بسبب تواطئهم مع الكنيسة. بل قد يكون ذكر النهي عن قول الإثم أيضا تعريضا آخر بأحوالهم، فإن من قول الزور تحريف الكلم عن مواضعه، والنطق بالزور في الشرع، وكان – وما زال – يقع منهم.

 

ومن ترتيب الآية البديع:

  1. تذييل الآية الأولى عن سلوك العامة من أهل الكتاب: ﴿لبئس ما كانوا يعملون﴾، بينما تذييل الآية الثانية عن سكوت وسلوك الربانيين والأحبار ﴿لبئس ما كانوا يصنعون﴾. إذن، فالله تبارك وتعالى يفرق بين بئس عن صناعة وبئس عن عمل. وبئس الربانيين والأحبار هو بئس الصناعة. والصنع أقوى من العمل؛ لأن العمل إنما يسمى صناعة إذا صار مستقرا راسخا متمكنا، فجعل جرم مرتكبي المعاصي ذنبا غير راسخ، وذنب التاركين للنهي عن المنكر ذنبا راسخا، والأمر في الحقيقة كذلك؛ لأن المعصية مرض الروح، وعلاجه العلم بالله وبصفاته وبأحكامه، فإذا حصل هذا العلم وما زالت المعصية فكأن المرض صعب مزمن شديد لا يكاد يزول، والعالِم إذا أقدم على المعصية دل على أن مرض القلب في غاية القوة والشدة، وهذا يفسر ما تقدم من قول ابن عباس: هي أشد آية في القرآن، وعن الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها!. إن التذييلين يدلان بوضوح على أن تارك النهي عن المنكر ليس بمنزلة مرتكبه؛ لأنه تعالى لم يذم الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد، بل ذم تارك النهي عن المنكر بأشد وأقوى من ذم مرتكبه.
  2. المسألة الثانية وهي أدق وتحتاج لمزيد تأمل، وهي: لماذا استمر وصفهم بالربانية رغم قوله بعدها ﴿لبئس ما كانوا يصنعون﴾؟ لأن الصفة الملازمة تأبى أن يصدر عنها السكوت على المنكرات، حتى يستحق أصحابها هذا التوبيخ الشديد. وقد يقال إن ذكرهم بالصفة فيه تعريض واستخفاف بهم، أي: الذين كانوا ربانيين، أو الذين يزعمون أنهم ربانيون. وهذا قريب من استخفافهم بقولهم الشنيع ﴿وقولهم: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله﴾، إذا لم يريدوا بقولهم ﴿رسول الله﴾ إلا الاستخفاف.

 

وهناك موضع رابع: تجدر الإشارة إليه، لصلته القريبة بواقعنا المعاصر، وهو قوله جل ثناؤه ﴿وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، والله يحب الصابرين﴾. صحيح أن أكثر المفسرين على أن (ربيون) هم الجماعة الكثيرة، لكن بعض أهل التفسير جعلوا معناها المنتسبين لشريعة الرب  تبارك وتعالى (مثل الرباني)، وقال الأخفش: هم الذين يعبدون الرب فنسبوا إليه[2]، وقال الحسن: هم العلماء الصبر كأنه أخذ من النسبة إلى الرب تبارك وتعالى. قال في الكشاف: الربيون الربانيون، وقرئ بالحركات الثلاث والفتح على القياس، والضم والكسر من تغييرات النسب، وقال الخليل: الربى – بكسر الراء – الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء، وهم الربانيون نسبوا إلى التأله والعبادة ومعرفة الربوبية لله تعالى. ومن قال  ﴿ربيون كثير﴾ أي: جماعات كثيرون من أتباعهم، الذين قد ربتهم الأنبياء بالإيمان والأعمال الصالحة، فالمعنى قريب من الاختيار الثاني.

والمعنى الإجمالي للآية فيه تسلية وتثبيت لأهل الحق، وحث على الاقتداء بهؤلاء الربانيين، والفعل كفعلهم، وأن هذا أمر كان قديما، ولم تزل سنة الله جارية به، فقال: ﴿وكأين من نبي﴾ أي: وكم من نبي ﴿قاتل معه ربيون كثير﴾ أي: جماعات كثيرون من أتباعهم، الذين قد ربتهم الأنبياء بالإيمان والأعمال الصالحة، فأصابهم قتل وجراح وغير ذلك.

﴿فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا﴾ أي: ما ضعفت قلوبهم، ولا وهنت أبدانهم، ولا استكانوا، أي: ذلوا لعدوهم، بل على العكس، صبروا وثبتوا، وشجعوا أنفسهم، ولهذا قال: ﴿والله يحب الصابرين﴾. وهذه معلومة تاريخية يثبتها القرآن، أن كثيرا من الأنبياء قاتل معهم مؤمنون صادقو الإيمان من أجل إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه وأصيبوا وهم يقاتلون بما أصيبوا من جراح وآلام، ﴿فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله﴾، أي: فما عجزوا أو جبنوا بسبب ما أصابهم من جراح، أو ما أصاب أنبياءهم وإخوانهم من قتل واستشهاد. لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه، ونصرة رسله.

وقوله ﴿والله يحب الصابرين﴾ تذييل قصد به حض المؤمنين على تحمل المكاره وعلى مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره من أجل إعلاء دينهم حتى يفوزوا برضا الله ورعايته كما فاز أولئك الأنقياء الأتقياء الأوفياء. أي أن الله تعالى يحب الصابرين على آلام القتال، ومصاعب الجهاد، ومشاق الطاعات، وتبعات التكاليف التي كلف الله – تعالى – بها عباده، فطريق الحق ليس مفروشا بالورود، وإنما تحف جانبيه هذه الابتلاءات العظيمة.

 

ولاحظ أن قوله ﴿فما وهنوا﴾ أي الربيون إذ من المعلوم أن الأنبياء لا يهنون، وبالتالي فالقدوة المقصودة هنا، هي الاقتداء بهؤلاء الربانيين أتباع الأنبياء، أي لا ينبغي أن يكون أتباع من مضى من الأنبياء، أجدر بالعزم من المسلمين أتباع محمد ﷺ، فهذا توجيه مهم لنا وسط هذه الأحداث العاصفة بأمتنا، وأن غياب بعض الأكابر والقادة والقدوات لا ينبغي إلا أن يترك أصحاب الحق أكثر ثباتا واستقامة.

 

وعلى ذلك، نتطرق إلى شيء من التفصيل في معاني الآية الكريمة في عدة وقفات:

  • الجمع بين عدم الوهن والضعف، وهما مترادفان تقريبا؛ يشير إلى عدم إصابتهم بأي شيء من هذا القبيل، ولا قريبا من ذلك. فالوهن قلة القدرة على العمل، وعلى النهوض في الأمر، والضعف بضم الضاد وفتحها ضد القوة في البدن، وهما هنا مجازان، فالأول أقرب إلى خور العزيمة، ودبيب اليأس في النفوس والفكر، والثاني أقرب إلى الاستسلام والفشل في المقاومة. ويمكن القول إن الوهن هو اضطراب نفسي، وانزعاج قلبي، يبتدىء من داخل الإنسان، فإذا وصل إلى الخارج كان ضعفا وتخاذلا، وقوله ﴿وما ضعفوا﴾، أي: عن قتال أعدائهم وعن الدفاع عن الذي آمنوا به وقوله ﴿وما استكانوا﴾، والاستكانة هي الخضوع والمذلة للعدو. ومن اللطائف ترتيبها في الذكر على حسب ترتيبها في الحصول: فإنه إذا خارت العزيمة فشلت الأعضاء، وجاء الاستسلام، فتبعه المذلة والخضوع للعدو.
  • وإذا كان هذا شأن أتباع الأنبياء، وكانت النبوة هديا وتعليما، فلا بدع أن يكون هذا شأن أهل العلم، وأتباع الحق، وأنصار الله، أن لا يوهنهم، ولا يضعفهم، ولا يخضعهم، طغيان ولا بطش أهل الباطل، وكم من الأنبياء قاتل مع كل منهم كثيرون من المؤمنين المخلصين لربهم، فما جبنت قلوبهم ولا فترت عزائمهم، ولا خضعوا لأعدائهم بسبب ما أصابهم في سبيل الله، لأنهم في طاعته.
  • ﴿والله يحب الصابرين﴾، وتحصيل محبة الله تعالى يعني سعادة الآخرة، والإشارة الخفية هنا أن هذه السعادة الموعودة لا تنال أيضا إلا بالجهاد والصبر فهي كسعادة الدنيا بإقامة الحق والسيادة في الأرض سنة الله فيهما واحدة فقال: ﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين﴾. وفي صحيح البخاري: «أن خبابا قال للنبي ﷺ لقد لقينا من المشركين شدة ألا تدعو الله فقعد وهو محمر وجهه فقال لقد كان من قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه» الحديث.
  • وقوله تعالى بعدها ﴿وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا …﴾ عطف على ﴿فما وهنوا﴾ لأنه لما وصفهم برباطة الجأش، وثبات القلب، وصفهم بعد ذلك بما يدل على الثبات من أقوال اللسان التي تجري عليه عند الاضطراب والجزع، أي أن ما أصابهم لم يخالجهم بسببه تردد في صدق وعد الله، ولا بدر منهم تذمر، بل علموا أن ذلك لحكمة يعلمها سبحانه، أو لعله كان جزاء على تقصير منهم في القيام بواجب نصر دينه، أو في الوفاء بأمانة التكليف، فلذلك كله ابتهلوا إليه عند نزول المصيبة بقولهم ﴿ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا﴾ خشية أن يكون ما أصابهم جزاء على ما فرط منهم، ثم سألوه النصر وأسبابه ثانيا فقالوا ﴿وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين﴾، فلم يصدهم ما لحقهم من الهزيمة عن رجاء النصر،
  • قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ﴿قُتِل معه﴾ والباقون ﴿قاتل معه﴾ فعلى القراءة الأولى يكون المعنى أن كثيرا من الأنبياء قتلوا والذين بقوا بعدهم ما وهنوا في دينهم، بل استمروا على جهاد عدوهم ونصرة دينهم، فكان ينبغي أن يكون حالكم يا أمة محمد هكذا، ويؤيد هذا ما جاء قبل هذه الآيات من قوله تعالى عما أشيع في غزوة أُحد من قتل رسول الله ﷺ ﴿أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم﴾. وعلى هذه القراءة فإن الوقف على ﴿قتل﴾ حسن ويكون قوله بعدها: ﴿معه ربيون﴾ حال بمعنى قتل حال ما كان معه ربيون، أو يكون على معنى التقديم والتأخير، أي وكأين من نبي معه ربيون كثير قتل فما وهن الربيون على كثرتهم. ومن قرأ ﴿قاتل معه﴾ فالمعنى: وكم من نبي قاتل معه العدد الكثير من أصحابه الربانيين فأصابهم من عدوهم قرح فما وهنوا؛ لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ونصرة رسوله، فكذلك كان ينبغي أن تفعلوا مثل ذلك يا أمة محمد.
  • وأما ما روي عن سعيد بن جبير أنه قال: ما سمعنا بنبي قتل في القتال، فلا يُسلم له، لأن عدم السماع به لا يعني عدم وقوعه، بل إن الافتراض المطروح في قوله تعالى ﴿أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم﴾ على الأقل يؤكد على عدم غرابة هذا.
  • وهناك معنى عقدي مهم في الآية، إذ تشير أن هؤلاء الربانيين المنتسبين إلى الرب تعالى في وجهة قلوبهم وفي أعمالهم، كانت عقيدتهم أن النبيين والمرسلين هداة ومعلمون لا أرباب معبودون، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله أي ما ضعف مجموعهم بما أصاب بعضهم من الجرح وبعضهم من القتل، وحتى إن كان المقتول هو النبي نفسه؛ لأنهم يقاتلون في سبيل الله وهو ربهم لا في سبيل شخص نبيهم، وإنما حظهم من نبيهم تبليغه عن ربهم وبيانه لهدايته وأحكامه ﴿وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين﴾ [الكهف: 56] وما ضعفوا عن جهادهم ولا استكانوا ولا ولوا بالانقلاب على أعقابهم، بل ثبتوا بعد قتل نبيهم كما ثبتوا معه في حياته؛ لأن سبب الثبات في الحالين واحد، وهو كون الجهاد في سبيل الله، يعني في الطريق التي يرضاها الله كحفظ الحق وحمايته وتقرير العدل وإقامته، وما يتبع ذلك ويلزمه. وهذا المعنى الحساس له ضرورة في واقعنا، إذ أن قتل أو غياب أو حتى سقوط الكبار والقادة والرموز لا ينبغي أن يفت في عضد المؤمنين من أهل الحق، فوجهتهم ثابتة في سبيل الله وحده.
  • وقوله: ﴿فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة﴾ إعلام بتعجيل إجابة دعوتهم لحصول خيري الدنيا والآخرة، فثواب الدنيا هو الفتح والغنيمة، وثواب الآخرة هو ما كتب لهم من حسن عاقبة الآخرة، ولذلك وصفه بقوله ﴿وحُسن ثواب الآخرة﴾ لأنه خير وأبقى، وشبيه بقوله تعالى ﴿لمثوبة من عند الله خير﴾ [البقرة: ١٠٣[.

 

إن هذا الملمح من صفات الربانيين بأنهم صادقو الإيمان وكانوا يصابون، والقتال يُصاب فيه المقاتلون بالجروح والدماء، فليس القتال ريحا رخاء سهلا، بل هو عاصفة وملحمة بشرية يدال بين المقاتلين في الميدان، فكانوا بهذه الجراح راضين صابرين لم يهنوا ولم يضعفوا ولم يستكينوا ويذلوا ويخنعوا.

لقد كانت الهزيمة في “أحد”، هي أول هزيمة تصدم المسلمين، الذين نصرهم الله ببدر وهم ضعاف قليل، وهذا الاهتمام القرآني الضخم بأحداث تلك الغزوة اقتضت أن تنزل فيها حوالي ستين آية متتابعة من سورة آل عمران، ترقب حركة القلوب، ومسارات التدافع فيها أثناء المحن والنوازل الكبرى. ويأتي ذكر الربانيين هنا في سياق مهم، برغم الهزيمة والمصيبة التي نزلت بالمسلمين، إذ الإشارة لهذا الثبات والصمود المقاوم، في ساعة العسرة، توجيه قرآني لافت.

 

ومن تريب الآية البديع:

 

  1. مدح الله تعالى هؤلاء الربيين بنوعين: أولا بصفات النفي، وثانيا بصفات الإثبات، أما المدح بصفات النفي فهو قوله تعالى: ﴿فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا﴾ ولا بد من الفرق بين هذه الأمور الثلاثة، قال صاحب ”الكشاف“: ما وهنوا عند قتل النبي وما ضعفوا عن الجهاد بعده وما استكانوا للعدو، وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن والانكسار، عند الإرجاف بقتل رسولهم ﷺ، وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين، واستكانتهم للكفار حتى أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبد الله بن أبي، وطلب الأمان من أبي سفيان، ويحتمل أيضا أن يفسر الوهن باستيلاء الخوف عليهم، ويفسر الضعف بأن يضعف إيمانهم، وتقع الشكوك والشبهات في قلوبهم، والاستكانة هي الانتقال من دينهم إلى دين عدوهم، وفيه وجه ثالث وهو أن الوهن ضعف يلحق القلب. والضعف المطلق هو اختلال القوة والقدرة بالجسم، والاستكانة هي إظهار ذلك العجز وذلك الضعف، وكل هذه الوجوه حسنة محتملة، قال الواحدي: الاستكانة الخضوع، وهو أن يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريد. إذن، قد نفى الله تعالى عن هؤلاء الربانيين ثلاثة أوصاف لا تتفق مع الإيمان:
  • نفى عنهم – أولا – الوهن وهو اضطراب نفسى، وهلع قلبي، يستولى على الإنسان فيفقده ثباته وعزيمته .
  • ونفى عنهم – ثانيا – الضعف الذى هو ضد القوة، وهو ينتج عن الوهن .
  • ونفى عنهم – ثالثا – الاستكانة وهى الرضا بالذل والخضوع للأعداء ليفعلوا بهم ما يريدون .
  • وقد نفى – سبحانه – هذه الأوصاف الثلاثة عن هؤلاء المؤمنين الصادقين برغم أن واحدا منها يكفي نفيه لنفيها لأنها كلها متلازمة – وذلك لبيان قبح ما يقعون فيه من أضرار فيما لو تمكن واحد من هذه الأوصاف من نفوسهم المؤمنة.
  1. وجاء ترتيب هذه الأوصاف في نهاية الدقة بحسب حصولها في الخارج، فإن الوهن الذى هو خور في العزيمة إذا تمكن من النفس أنتج الضعف الذى هو لون من الاستسلام والفشل، ثم تكون بعدهما الاستكانة التي يكون معها الخضوع لكل مطالب الأعداء وإذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة في حياته كان الموت أكرم له من هذه الحياة.
  2. صيغة القصر في قوله ﴿وما كان قولهم إلا أن قالوا﴾ تعبير رائع دقيق، وهو قصر إضافي لرد اعتقاد من قد يتوهم أنهم قالوا أقوالا تنبئ مثلا عن الفزع أو الجزع، أو الهلع، أو الشك في النصر، أو الاستسلام للكفار. وفي هذا القصر تعريض بالذين جزعوا من ضعفاء المسلمين أو المنافقين فقال قائلهم: لو كلمنا عبد الله بن أُبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان. وفي الموطأ، عن رسول الله ﷺ «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي» فقصر قولهم في تلك الحالة التي يندر فيها صدور مثل هذا القول، على قولهم ﴿ربنا اغفر لنا﴾ إلى آخره.
  3. وقدم خبر كان على اسمها في قوله ﴿وما كان قولهم إلا أن قالوا﴾ لأنه خبر عن مبتدأ محصور، لأن المقصود حصر أقوالهم حينئذ في مقالة ﴿ربنا اغفر لنا ذنوبنا﴾، وعلى ذلك يمكن القول أيضا إن القصر هنا حقيقي لأنه لقولهم الصادر منهم، حين حصول ما أصابهم في سبيل الله، فذلك القيد ملاحظ من المقام، نظير القصر في قوله تعالى ﴿إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا﴾ [النور: ٥١] فهو قصر حقيقي مقيد بزمان خاص، تقييدا منطوقا به.

 

خاتمة ومثال:

من يتأمل هذه المعاني في الآيات الثلاث يرى أن من أهم ملامح الربانيين أنهم ينصرون دين الله ويستشعرون أنهم مُستأمنون على شرع الله ويسلكون في ذلك طريق التيسير والتبسيط والتقريب لخلق الله حتى يقبلوا على دينه راغبين طائعين. ولذلك تجد من سمات العلماء الربانيين حرصهم على استفاضة البلاغ لدين الله والسعي لتبسيط وتيسير العلم على عامة الناس ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وأضرب لك هنا مثلا بارزا في طريقة العالم الرباني المحدث الفقيه الإمام النووي رحمه الله، وهو ما جعل كتبه حية متداولة على مر العصور ويصعب تقدير الملايين في كل جيل ممن انتفع بعلمه. انظر مثلا لمقدمة كتابه الأذكار (المسمى بـ حلية الأبرار وشعار الأخيار في تلخيص الدعوات والأذكار) الذي طبق الآفاق، فتراها مقدمة مختصرة يظهر فيها جليا حرصه على ترغيب القارئ وجذبه، ثم يظهر تقديره الشديد لنفرة الناس من تعقيد العلوم وكراهيتهم للمسائل التي لا تناسب إلا طلبة العلم المتخصصين. يقول رحمه الله في مقدمته: “قال اللّه العظيم العزيز الحكيم ﴿فاذْكُرُوني أذْكُرْكُمْ﴾ وقال تعالى ﴿وَمَا خَلقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلا ليَعْبدون﴾ فعُلِم بهذا أن من أفضل ـ أو أفضل ـ حال العبد، حال ذكره ربَّ العالمين، واشتغاله بالأذكار الواردة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سيد المرسلين.

وقد صنَّف العلماءُ رضي اللّه عنهم في عمل اليوم والليلة والدعوات والأذكار كتبًا كثيرةً معلومةً عند العارفين، ولكنها مطوّلة بالأسانيد والتكرير، فضَعُفَتْ عنها هممُ الطالبين، فقصدتُ تسهيل ذلك على الراغبين، فشرعتُ في جمع هذا الكتاب مختصرًا مقاصد ما ذكرته تقريبًا للمعتنين، وأحذف الأسانيد في معظمه لما ذكرته من إيثار الاختصار، ولكونه موضوعًا للمتعبدين، وليسوا إلى معرفة الأسانيد متطلعين، بل يكرهونه وإن قَصُرَ إلا الأقلّين، ولأن المقصود به معرفةُ الأذكار والعمل بها، وإيضاحُ مظانّها للمسترشدين، وأذكر إن شاء اللّه تعالى بدلًا من الأسانيد ما هو أهم منها مما يُخلّ به غالبًا، وهو بيان صحيح الأحاديث وحسنها وضعيفها ومنكرها، فإنه مما يفتقر إلى معرفته جميعُ الناس إلا النادر من المحدّثين، وهذا أهمّ ما يجب الاعتناء به، وما يُحقِّقهُ الطالبُ من جهة الحفاظ المتقنين، والأئمة الحُذَّاق المعتمدين، وأضمُّ إليه إن شاء اللّه الكريم جملًا من النفائس من علم الحديث، ودقائق الفقه، ومهمات القواعد، ورياضات النفوس، والآداب التي تتأكد معرفتُها على السالكين.

وأذكرُ جميعَ ما أذكرُه مُوَضَّحًا بحيث يسهلُ فهمه على العوام والمتفقهين. وقد روينا في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: “مَنْ دَعا إلى هُدىً كانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلَ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذلك مِنْ أُجُورِهِمْ شَيئًا”. فأردت مساعدة أهل الخير بتسهيل طريقه والإِشارة إليه، وإيضاح سلوكه والدلالة عليه.

وأذكر في أوَّلِ الكتاب فصولًا مهمة يحتاجُ إليها صاحبُ هذا الكتاب وغيره من المعتنين، وإذا كان في الصحابة مَن ليس مشهورًا عند مَن لا يعتني بالعمل نبَّهتُ عليه فقلت: روينا عن فلان الصحابيّ، لئلا يُشكَّ قي صحبته. وأقتصر في هذا الكتاب على الأحاديث التي في الكتب المشهورة التي هي أصول الإِسلام وهي خمسة: صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي. وقد أروي يسيرًا من الكتب المشهورة غيرها…، فلهذا أرجو أن يكون هذا الكتاب أصلًا معتمدًا، ثم لا أذكر في الباب من الأحاديث إلا ما كانت دلالته ظاهرة في المسألة.

واللّه الكريم أسألُ التوفيق والإِنابة والإِعانة والهداية والصيانة، وتيسير ما أقصده من الخيرات، والدوام على أنواع المكرمات، والجمع بيني وبين أحبابي في دار كرامته وسائر وجوه المسرّات. وحسبي اللّه ونِعم الوكيل، ولا حول ولا قوَّة إلا باللّه العزيز الحكيم، ما شاء اللّه لا قوَّة إلاَّ باللّه، توكلتُ على اللّه، اعتصمتُ باللّه، استعنتُ باللّه، وفوَّضت أمري إلى اللّه، واستودعتُ اللّه ديني ونفسي ووالديّ وإخواني وأحبائي وسائر من أحسن إليّ وجميع المسلمين وجميع ما أنعم به عليّ وعليهم من أمور الآخرة والدنيا، فإنه سبحانه إذا استُودع شيئًا حفظه ونعم الحفيظ.” ا.هـ.

 

انظر إلى نور هذا الكلام وكم يحمل بين ثناياه من بلوغ العلم إلى عامة الناس، وانظر إلى فهمه الدقيق وهو المحدث الخبير بعلوم الحديث النبوي يقول عن العامة (وليسوا إلى معرفة الأسانيد متطلعين، بل يكرهونه وإن قَصُرَ إلا الأقلّين) .. وهذا من البصيرة.

والعجيب أن هذا الإمام المبارك لم يصنف في كتابه الشهير “رياض الصالحين” بابا للدعوة إلى الله، بل جعل آيات وأحاديث الدعوة في باب (فضل العلم) وباب (فضائل الجهاد)، وهو فهم دقيق بطبيعة هذا الدين وبمهمة العلماء الدعاة الذين يرجون أن يكونوا في زمرة الربانيين.

ولم يكتف الإمام النووي بنصرة الدين وتيسيره على الناس بل سعى قدر استطاعته أن يعيش ويتفاعل مع واقع الناس، وقد ذكر في ذلك مواقف عجيبة منها قضية الحوطة على بساتين الشام. فإنه لما ورد دمشقَ من مصر السلطانُ الملكُ الظاهر بيبرس بعد قتال التتار وإجلائهم عن البلاد، زعم له وكيل بيت المال زورا وبهتانا أن كثيرًا من بساتين الشام من أملاك الدولة، فأمر الملك بالحوطة عليها (لحماية أملاك الدولة في زعمه)، أي بحجزها وتكليف واضعي اليد على شيءٍ منها إثبات ملكيته وإبراز وثائقه، فلجأ الناس إلى الإمام النووي، فكتب إلى الملك كتابًا جاء فيه: “وقد لحق المسلمين بسبب هذه الحوطة على أملاكهم أنواعٌ من الضرر لا يمكن التعبير عنها، وطُلب منهم إثباتٌ لا يلزمهم، فهذه الحوطة لا تحلّ عند أحد من علماء المسلمين، بل مَن في يده شيء فهو ملكه لا يحلّ الاعتراض عليه ولايُكلَّفُ إثباته”. فغضب السلطان من هذه الجرأة عليه وأمر بقطع رواتبه وعزله عن مناصبه، فقالوا له: إنه ليس للنووي راتب وليس له منصب. ولما رأى الشيخ أن الكتاب لم يفِدْ، مشى بنفسه إليه وقابله وكلَّمه كلامًا شديدًا، وأراد السلطان أن يبطشَ به فصرف اللَّه قلبَه عن ذلك وحمى الشيخَ منه، وأبطلَ السلطانُ أمرَ الحوطة وخلَّصَ اللَّه الناس من شرّها.

فهذا مثل عملي لمن نحسبه عالما ربانيا قام بدين الله في نفسه وفي الناس ثم لم يصب من الدنيا إلا قليلا، فلم ينل منها ولم تنل منه.

 

 

 

[1] وضعفه الهلالي في “الاستيعاب في بيان الأسباب”.

[2] معاني القرآن للأخفش 1/ 235.

زر الذهاب إلى الأعلى