الظاهرة الترمبية: معضلة أمريكا بين النيوليبرالية والشعبوية اليمينية

خلافًا لما يظنه كثرٌ، ما يحدث اليوم في أمريكا خلال العقد الأخير ليس وليد هذه الحقبة، ولا وليد الحالة الترمبية ومحيطها، بل هو نتاج سلسلةٍ متتابعة من التفاعلات المجتمعية والاقتصادية والسياسية بدأت زمنيًّا – وإن كانت جذورها الفلسفية ضاربة – بُعيد أفول “الجيل العظيم” حسب المصطلح الأمريكي، أي جيل الحرب العالمية على حد تعبير توم بركاو، ووليام شتراوس.
ذاك الجيل الذي نعى أفوله ( نيكسون) في آخر كتاب له عام 1994 بعنوان (ما وراء السلام) الذي يُعدّ بمثابة وصيته لأمريكا في القرن 21 كي تبقى في قيادة العالم، ويواصل “النسر” تحليقه، محذرًا فيه أمريكا من انهيار “الحلم الأمريكي” الذي يقوم على مجتمعٍ متماسك ومنتجٍ يحمل التحديات. وقد طاف نيكسون فيه على جميع التحديات الخارجية والداخلية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، داقًّا ناقوس الخطر، بل ومعلنًا اقتراب مفترق الطرق أمام الأمة مع دخول (القرن 21).
ما يحدث اليوم في أمريكا خلال العقد الأخير ليس وليد هذه الحقبة، ولا وليد الحالة الترمبية ومحيطها، بل هو نتاج سلسلةٍ متتابعة من التفاعلات المجتمعية والاقتصادية والسياسية بدأت زمنيًّا – وإن كانت جذورها الفلسفية ضاربة – بُعيد أفول “الجيل العظيم” حسب المصطلح الأمريكي، أي جيل الحرب العالمية
نيكسون ذاته وهو الموسوعي الذي قضى نائبًا لأيزنهاور 8 سنوات وفي المجالس التشريعية قبل ذلك، حاول أن يطلق صيحة نذيرٍ كي يوقف زخم موج التغيير الاجتماعي والمدني الحقوقي الذي أطلَّ في حقبة (الستينيات) من خلال حركات المدنية والمساواة، إذ تأخرت تشريعاتها لدى السود والنساء إلى ما بعد منتصف القرن العشرين، وإن بقيت منقوصة عمليَّا في واقع الحياة والوظائف وبقيت معركة حاضرة. كما شهدت حقبته احتجاجات الحرب الفيتنامية، وتنامي دور النقابات العمالية، والحركات الجامعية، فضلًا عن تغوُّل الإعلام ذي الميول الليبرالية والذي خاض ضد نيكسون والمحافظين معارك دامية. كذلك شهدت هذه الحقبة الدامية بداية “ثورة جنسية”.
كل ذلك حصل، فيما كان الليبراليون وغالب اليهود والأقليات واليسار الإصلاحي – تحول بعدها إلى يسار جديد متنوع ومتحالف رغم سيولته كما سيأتي – في خندق الديمقراطيين. بينما نيكسون الجمهوري المحافظ كان يحاول أن يشدد قبضته على السلطات – أدّت إلى (ووترغيت) والتجسُّس على المشرِّعين وتجاوز السلطات كما يفعل ترمب اليوم – ويحجِّم الطرف الآخر، ويجمع التيار المسيحي الأصولي وسكان الريف من أجل أمريكا المثالية وتقاليد الرجل الأبيض المحافظ.
المحافظون الجدد الذين جاءوا بعد ريغان – كان مع تاتشىر يمثلان سياسة محافظة لكنها متحالفة مع الأسواق وقوى المال – رأوا أن مفهوم السوبر-بور وشرطي العالم ونشر القواعد والأساطيل وإبقاء المجتمع الأمريكي في حالة تجنيد حربي وتصنيع وحرب باردة، يعني أن الرخاء سيبقى للطبقة المتوسطة البيضاء، فيما تزهو الشركات والمصانع لا سيما العسكرية ولوبياتها، والأثرياء.
في المقابل رأى (الليبراليون الجدد) أن انتصار الحرب الباردة، وعصر الثورة الرقمية والعولمة في ظل الفردانية وما بعد الحداثة وهيمنة “سيادة الاقتصاد” على “قيم الهوية والعدالة الاجتماعية” والروابط المجتمعية ونقابات العمال، تعني دخولهم عصر الليبرالية الخالدة و”نهاية التاريخ” والنضوج الأبدي، كما بشَّر (فوكوياما) – وإن انتقد نسخة النيوليبرالية – وروَّج الصحفي (ثوماس فريدمان)، وذلك في نموذجٍ جسَّده أمثال جورج سورس الذي فكَّك أوكرانيا وجعلها مستباحة كغيرها لنهب شركات العولمة والمال كليمان برذرز وغولدمان ساكس وبلاك روك وفانغارد وستيت ستريت، وكذلك فعل روكفلر الابن وبيل جيتس صاحب مشاريع أفريقيا وغيرها.
لكن اليوم مع ظهور ترمب والشعبوية اليمينية في أمريكا وأوروبا والهند وتراجع (النيوليبرالية)، فإن فوكوياما لا يريد أن يعترف بأن رهان الليبرالية الذي أنتج نسخة “النيوليبرالية” – ولو كرهها فوكوياما – يسقط عمليًّا لأسباب بنيوية تكوينية تخص الليبرالية، وأنه لو لم يوجد (ترمب)، فسيتم إنتاج مثيلٍ له، فهو نتيجةٌ وليس سببًا. وإنَّ عالم ترمب لم يظهر دون مقدماتٍ، بل إن الرصد الفلسفي ومحاولات التوجه العملي نحو ما يشبه اليمين الشعبوي اليوم، وُجد أيام المكارثية التخوينية في الخمسينيات.
كذلك ظهرت تنظيرات (هنتنجتون) الهوياتية – كتابه “من نحن” – والتصادمية في نظرية “صدام الحضارات”، فيما قام لاحقًا (ستيف بانون) بوضع ترمب على سكة (الماجا) الشعبوية اليمينية. وقد عنونت صحيفة الجارديان بمقالة توضح أن النبوءة بظهور الشعبوية أو الفاشية أشار إليها مسبقًا عددٌ من المفكرين الكبار – كنعوم نشومسكي والفيلسوف ريتشارد رورتي – لأسباب تُعزى إلى القيم النيوليبرالية الاقتصادية والعولمة وإهانة المواطن على يد النخب السياسية والمالية، واستغلال الشعبوية اليمينية المتوقع لها.
انظر: مقالة الجارديان، 2016
https://www.theguardian.com/us-news/2016/nov/19/donald-trump-us-election-prediction-richard-rorty
إن فوكوياما لا يريد أن يعترف بأن رهان الليبرالية الذي أنتج نسخة “النيوليبرالية” – ولو كرهها فوكوياما – يسقط عمليًّا لأسباب بنيوية تكوينية تخص الليبرالية، وأنه لو لم يوجد (ترمب)، فسيتم إنتاج مثيلٍ له، فهو نتيجةٌ وليس سببًا.
يكتب (فوكوياما) معللًا ظاهرة اليمين الشعبوي كونها مطلبَ كرامةٍ و“سيادة هوياتية” كردة فعلٍ على “سيادة الاقتصاد” لصالح الشركات، لكن فرانسيس فوكوياما يصر على أن العيب ليس بنيويًّا بقدر أن النيوليبرالية تحتاج إلى مجرد تعديلات، فهي نسخة غير جيدة من الليبرالية الكلاسيكية حسب دفاع فوكوياما عن النموذج الليبرالي، وكأن لسان حاله يقول إنها ابنٌ غير شرعيٍّ لليبرالية الكلاسيكية التي لا بديل عنها وهي المنقذ حين الأزمات – كما سيأتي في حوار معه – فالليبرالية ستبقى عنده المصير الخطي للمجد التاريخي الذي راهن عليه قبيل أزمة 2008 المالية الكاشفة.
بينما الحقيقة تبدو في أن الوصول إلى هذه الحالة المجتمعية – عالمي النيوليبرالية والشعبوية اليمينية – أسهم فيها ريغان وتاتشر وكلينتون وبلير وميريكل وأوباما وبايدن وتجلَّت في الأزمة المالية 2008 ثم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. بل كادت أن تنتج كامالا هاريس والمثلي بيت بوتجيج، لتكتمل إهانة الرجل الأبيض العام وشخصيته و”الحلم الأمريكي”.
كل هذا تمّ في عهد هؤلاء الرؤساء – يحسبون على الوال الستريت ومؤسسات كليمان بروذرز وجولدمان ساكس وبلاك روك – بعدما غيبوا اليسار الاجتماعي الذي يعتني بالحقوق والمساواة والنقابات العمالية، لتتسيد الشركات الدولة مقابل إطلاق العنان للعولمة والوال ستريت والحريات والفردانية لتبتلع المساواة والكرامة والهوية والدولة ذاتها… إنها (النيوليبرالية) يا سادة!!
لكن تلك قطعًا لم تكن سياسات الديمقراطيين روزفيلت وترومان وكينيدي وكارتر على تباينٍ فيما بينهم… ولا حتى إصلاحيي حركات الستينيات، بل هي تمثل القوى التي أطاحت بالمرشحين الإصلاحيين والاجتماعيين الديمقراطيين بيرني ساندرز وإليزابيث وارن لصالح هيلاري ثم بايدن وهي قوى نيوليبرالية، بينما انقسم إصلاحيو الستينات ليذوب بعضهم في منظومة النيوليبرالية، بينما تحوصل القسم الآخر في قضايا الحريات والنسوية وحرية الجنس، فيما بقوا غير فاعلين وكانوا بمثابة حالةٍ شبه أكاديمية كمنظرين، فيما عجز اليسار الاجتماعي ممثلًا (ببيرني ساندرز) وما سُمي “بالتقدميين” عن إيجاد توليفة انتخابية قوية داخل (الحزب الديمقراطي) الفاسد الذي اختطف الصوت الأسود على يد أوباما وبايدن عبر توزيع امتيازات لقادة السود، ما أدى إلى كاثة ترشح هيلاري وكامالا على حساب أمثال بيرني ساندرز وإليزابيث وارن، حيث يوجد قبولٌ أكبر بكثير لهما من هيلاري وكامالا هاريس لدى الناخبين المستقلين ثم البيض نوعًا ما ، فضلًا عن فقدان هيلاري وكامالا حماسة الخروج للتصويت لدى قطاع الشباب والطلبة.
على الناحية الأخرى، يبقى الإشكال الجوهري هنا، أن ترمب يمارس ذات سياسة الاختطاف لكن لليمين (الماجا)، فهو يقوم باستغلاله شعبويًّا وتسليمه إلى قوى أخرى دعمته، لا تقلّ شراهةً عن محركات الوال ستريت، وهي خلطة قوى جديدة تتكون من لوبي شركات (وادي السيلكون) مثل شركة إيلون ماسك. بعض هذا اللوبي أنتج نائب ترمب (ج د فانس) عبر مموله بيتر ثيل، وكذلك (حلقة أصولية إنجيلية) رأت في ترمب حصانًا أفضل من بقية المرشحين الجمهوريين، وطبعًا مجموعة (الماجا) أي الطبقة العاملة البيضاء التقليدية الناقمة على اقتصاد النيوليبراليين وكرامتها والتي تعتبر قاعدة التصويت الأهم له.
إن النبوءة بظهور الشعبوية أو الفاشية أشار إليها مسبقًا عددٌ من المفكرين الكبار – كنعوم نشومسكي والفيلسوف ريتشارد رورتي – لأسباب تُعزى إلى القيم النيوليبرالية الاقتصادية والعولمة وإهانة المواطن على يد النخب السياسية والمالية، واستغلال الشعبوية اليمينية المتوقع لها.
بيتر ثيل حليف ترمب كتب مقالًا يرى فيه أن “عودة ترامب إلى البيت الأبيض تنذر بنهاية النظام القديم”، لأنه مرحلة جديدة من التاريخ، تموت فيه الليبرالية الكلاسيكية كسياسة وكفلسفة، وهو يعتبر أن التنوير قد فشل، وأن “الديمقراطية أظهرت عجزها عن كبح جماحها”، لأن العنف لا يرفع من خلال “العقد الاجتماعي” الذي تدافع عنه الفلسفة الليبرالية.
ولتوضيح صورة بيتر ثيل صاحب الفكر المتقلب، يؤكد عالم الاجتماع أرنو سان مارتن أن الخط الفاصل بين العظمة والسخافة رفيع للغاية، وأن “الحياة اليومية لثيل لا تزال تتلخص في التماس المال، لكن هؤلاء الناس يحاولون إعطاء أنفسهم طابعًا فلسفيًّا من خلال إشارات غامضة، وهو يقول أشياء شنيعة، ولكن كلما كنت أكثر ثراءً زاد الأمر سوءًا”.
دعونا الآن في هذه المقالة نتناول بمزيدٍ من التمحيص البنية السياسية الأمريكية وبعض الاشتباكات المجتمعية الحالية وأسبابها التي مهّدت للشعبوية الترمبية كنتيجةٍ، وهي في عدة محاور تشمل: فلسفة النظام الديمقراطي الأمريكي حسب توكفيل، وصدمات النيوليبرالية، ودفاع فوكوياما عن الليبرالية ومناقشته، وشِلل الجمهوريين التقليديين، ثم حالة اليسار.
وفي مقالة أخرى سنتناول، توازن الآباء المؤسسين المفقود اليوم، وماهية السياسات الترمبية، ثم معضلات وتحديات أمريكا الهائلة القادمة.
1– جانب من فلسفة وبنية أسس النظام الديمقراطي الأمريكي حسب توكفيل:
الدور الاجتماعي الأساسي للدين ضمن المجتمعات الديمقراطية:
بالنسبة إلى توكفيل، فإن القرن 19 أعلن بوضوح عن ثورةِ حضارية بالانتقال من المجتمعات الأرستقراطية التراتبية إلى المجتمعات المسماة ديمقراطية.
إن مما يمنح أهمية كبرى لتأملات توكفيل كونه سافر إلى (أمريكا) كردة فعلٍ على الجو الاجتماعي والثقافي الفوضوي السائد في أوروبا في بداية القرن 19. البعض يقول إنّ الوصف الذي يعطيه لهذا السياق يشبه بشكل غريب صورة ما بعد الحداثة:
“هل شابهت كل القرون إذن قرننا ؟ هل كان للإنسان دائمًا أمام ناظريه، مثل أيامنا هذه، عالم لا يترابط فيه شيء، عالم باتت فيه الفضيلة بلا إبداع، وبات الإبداع بلا شرف؛ حيث محبة النظام تختلط مع ذوق الطغاة، وتقديس الحرية يمتزج مع احتقار القوانين، وحيث الوعي لا يقوم إلا بالتشكيك في الأعمال الإنسانية، وحيث يبدو أنه لا شيء يستحق أن يدافع عنه، ولا شيء مباح، أو مستقيم، أو مخزي، أو صادق أو كاذب؟! ” – توكفيل: الديمقراطية في أمريكا، ص49.
من الواضح أن توكفيل يشتكي نوعًا من العدمية في الدولة الفرنسية والشعب وغياب الضمير الأخلاقي الذي مصدره الدين حسبما يرى، ونتيجة لتحليل توكفيل السوسيو-سياسي (لأمريكا)، خَلص إلى أن حضور تقاليد جيدة ضمن جماعة بشرية هو معطًى أساسيٌّ للسير الحسن للمجتمعات الديمقراطية الحديثة.
انظر: دور الدين في حماية الديمقراطية وترقيتها عند توكفيل، إيف بواسفير، ترجمة الحسن مصباح، مجلة أواصر، العدد الثاني، 2017، ص113.
يبدو توكفيل مقتنعًا تمامًا بأن غنى هذه الديمقراطية يرتكز على براعة الشعب الأمريكي الذي عرف كيف يطور مؤسسات سياسية جيدة وقوانين جيدة ومؤسسات اجتماعية جيدة (صحافة حرة، والعديد من الجمعيات الصغيرة، إلخ) وتقاليد جيدة. بالنسبة إليه، فإن حضور الدين في قلب عادات الشعب الأمريكي وتقاليده هو الذي سمح حقًّا للديمقراطية أن تتطور بشكل سليم. فهيمنة الروح الدينية على جميع التقاليد تسمح – في نظره – بحمل الناس على استخدام حريتهم بحكمة وبدون تجاوز الحد المعقول. ويبدو أنه كان يعتقد أن الشعب الأمريكي سيصبح منارةً للديمقراطيات (الأوروبية) الشابة. مثل هذا الشعور بالرضا عن الدين يصعب أن يجد له صدًى إيجابيًّا بين النخبة المحافظة لأوروبا عصر التنوير.
الآثار الضارة للديمقراطية:
بالنسبة إلى توكفيل، فإن قدوم الديمقراطية لا يمكن أن يدرس فقط من منظور سياسي، فالاضطرابات التي تحدثها الديمقراطية أكثر عمقًا، مع ما يصاحبها من آثار اجتماعية وأخلاقية وروحية… إن حلول الديمقراطية يحدث انحرافًا لأحد المبادئ المقدسة للحداثة : أي (الحرية). فلكي يتجذر النظام السياسي الجديد من النمط الديمقراطي، فإن مبدأ المساواة يحجبه مبدأ الحرية. فإقامة الديمقراطية التي لا مفر منها حسب توكفيل، لا يمكن أن تحصل إلا بالاعتراف أن مبدأ المساواة هو حجر الأساس للحضارة الجديدة.
أن ترمب يمارس ذات سياسة الاختطاف لكن لليمين (الماجا)، فهو يقوم باستغلاله شعبويًّا وتسليمه إلى قوى أخرى دعمته، لا تقلّ شراهةً عن محركات الوال ستريت، وهي خلطة قوى جديدة تتكون من لوبي شركات (وادي السيلكون) مثل شركة إيلون ماسك. بعض هذا اللوبي أنتج نائب ترمب (ج د فانس) عبر مموله بيتر ثيل، وكذلك (حلقة أصولية إنجيلية) رأت في ترمب حصانًا أفضل من بقية المرشحين الجمهوريين، وطبعًا مجموعة (الماجا) أي الطبقة العاملة البيضاء التقليدية
ويعتقد توكفيل أن الديمقراطية تجلب معها موجة من التحولات المثيرة جدًّا للاهتمام، ولكنه يحلل أيضًا جانبها المظلم. في الواقع، إذا كان معيار المساواة لديه ميزة كبيرة لخلق مناخ الحماس الشعبي والدينامية المجتمعية، فإنه يمكن أيضًا أن يفرض الآراء وتعميم الابتذال. إن انتشار هذا الجزء المقابل التسطيحي قد يسبب تهديدًا كبيرًا للحرية والذوق السليم.
انظر: المرجع السابق، ص 114-115.
وكما رأينا للتو، “فقد أكد توكفيل دائمًا على تضارب الثورة الديمقراطية. فوفقًا له، فإنه في كل مرة تقوم فيها الديمقراطية بجلب واقعٍ جديد واعدٍ، فإن مأزق الانحراف السريع يهددها في حالة غياب الحد الأدنى من الإشراف. ففي ظل المنطق التوكفيلي، إذا كانت الديمقراطية الحديثة قد جعلت من واجبها تشجيع تنمية الفردية، فإن الإفراط في هذا السعي نحو الاستقلالية سيؤدي حتمًا إلى نمو فردانية فاسدة، تسبب انهيار العلاقات الاجتماعية”.
توكفيل: الديمقراطية في أمريكا، ترجمة أمين قنديل – عالم الكتب، القاهرة، ص 496.
توكفيل وتفوق النظام السياسي الأمريكي على الأوروبيين:
اعتقد توكفيل أن الديمقراطية ينتظرها مستقبلٌ واعدٌ بشرط أن تعرف المجتمعات التي تتبناها كيف تنتظم، ومن هذا المنطلق زار أمريكا لمعرفة ما إذا كان يمكن أن تعطى دروسًا عملية لأوروبا. وهناك، أدرك بسرعة أن الديمقراطية للشعب الأمريكي تتجلى في قدرتها على تنظيم المجتمع انطلاقًا من مبدأ الفصل والوصل بين الفضاءات العامة. وبهذا، يبدو أن المجتمع الأمريكي يشكل تعايشًا متناغمًا بين المجتمع الديني والمجتمع المدني والمجتمع السياسي، فبالنسبة إلى توكفيل، هناك صلة مباشرة بين نوعية أخلاق شعب ما، ونوعية ديناميته المجتمعية ونوعية الديمقراطية، هذا هو الرابط الذي يسمح بتعزيز تنمية إرادة حقيقية للعيش المشترك، والرغبة في العمل معًا.
انظر: دور الدين في حماية الديمقراطية وترقيتها عند توكفيل، ص: 117.
وضمن هذا المنطق الساعي لتحقيق التوازن بين المكونات الاجتماعية تتشكل في أمريكا ثلاثة مستويات من المؤسسات: الكنائس، والجمعيات، والمؤسسات السياسية الفدرالية. وإنشاء هذه المؤسسات يسمح بخروج الفرد الديمقراطي من عزلته؛ لأن هذا التنظيم يعمل على تعزيز المشاركة المباشرة للأفراد في الجمعيات الاجتماعية ومواقع صنع القرار العام ويحفز الدينامية المجتمعية، وتحمّل العديد من المسؤوليات من قبل الفاعلين الاجتماعيين. وهذا يساعد بدوره أيضًا على الحفاظ على العادات المشتركة التي تسهل صيانة الروابط الاجتماعية والضبط الذاتي للسلوكيات.
ويعتقد توكفيل أن أفضل وسيلة للمجتمع للانعطاف نحو ديمقراطية متوازنة يتمثل، كما سبق، هي في أن يكون لديه قوانين ومؤسسات جيدة، ولا سيما تقاليد جيدة، ويمكن تفسير سبب نجاح الديمقراطية الأمريكية مقارنة مع تلك التي تنتشر تدريجيًّا في أوروبا، تحديدًا بسبب اختلاف نوعية التقاليد. فهو يصف التقاليد بكونها العادات والمعتقدات التي يتقاسمها شعب ما”، فهي تبني روحَ ومخيال المواطنين؛ أي هي الحالة الأخلاقية والفكرية للشعب.
انظر المرجع السابق ص 117.
وهكذا كما نلاحظ اليوم أن هذه الروابط ضعفت بصورة متسارعة منذ عهد المحافظين الجدد ثم النيولبرالية، وهي مما سرعت التفكك والانغلاقات المجتمعية في العقد الأخير، وبالتالي صعود الظاهرة الترمبية وتيار اليمين الشعبوي .
وانطلاقًا من منظور ما بعد الحداثة، فإنه يمكننا القول إن توكفيل كان واعيًا بأن رفض الدين من قبل الفلاسفة الحداثيين من شأنه أن يؤدي إلى خيبة الأمل من العالم، وهذا سيقود مجتمعاتنا المعاصرة مباشرة نحو ثقافة عدمية. وعلى هذا المستوى، يقدم توكفيل ذخيرة فكرية مثيرة للاهتمام لما بعد الحداثيين؛ لأن توقعاته تؤكد أقوالهم. لنتذكر فقط هذا النص الذي يصف السياق المحدد لظهور ثقافة ما بعد الحداثة: “عندما يتم تدمير الدين عند شعب معين، فإن الشك يستولي على الأجزاء الأعلى من العقل، ويصاب بشلل نصفي الأجزاء الأخرى كلها…“.
انظر المرجع السابق ص 120.
وها نحن نلاحظ اليوم هذه المظاهر والمخاطر ماثلةً في أمريكا، فقدكان توكفيل يخشى كثيرًا انتشار هذه الثقافة العدمية، وذلك لأنه كان مقتنعًا بأن ذلك يمثل أرضًا خصبةً لظهور العديد من الاضطرابات الاجتماعية التي تفتح المجال لطغاة جدد للاستيلاء على السلطة.
باترسون يرد على التوكفيلية والتحضر السياسي الأمريكي:
توماس سي باترسون – عالم موسوعي مرموق في الإنسانيات سابقًا في جامعة كاليفورنيا، أحدثت كتاباته أثرًا – ممن تقدَّم ليدحض مصطلح الحضارة الغربي وسياستها بصورةٍ جذرية؛ إذ يعتبره خدعةً نفسية وماكينةً طبقية عنصرية ودعايةً إمبريالية استعمارية. وهو ينتمي بذلك إلى طيفٍ من ناقدين غربيين؛ كموريس بونديل وفرانز فانون وغاستون بيرجيه ورجاء جارودي.
اعتمد باتيرسون في كتابه “الحضارة الغربية: الفكرة والتاريخ” على حصادٍ غني من دراساتٍ أكاديميةٍ مدعمةٍ بشهاداتٍ بارزة، أثبتت التمييز العنصري فكريًّا عند الغرب والتي اقترنت بصعود قوى الرأسمالية في عصر الصناعة، واطردت لتكون دعامةً لما يسمى “العالم الحر المتقدم”.
ويعلق باترسون: “يعرض هذا الكتاب موضوع الحضارة التي تعني التراتبيات الهرمية الاجتماعية والثقافية وما تنطوي عليه من عدم مساواةٍ ومظالمَ… ولأن أنصار الحضارة كانوا دائمًا معادين للديمقراطية؛ فقد عارضوا فكرة وجود مجتمعات “لا طبقية” أو تصور علاقات اجتماعية قائمة على مساواة حقيقية…” -انظر “الحضارة الغربية: الفكرة والتاريخ”، توماس باترسون، ترجمة شوقي جلال، ص16-
ونضيف هنا باختصار إلى كلام باترسون أنه – رغم صحة ورصانة تشخيص توكفيل للنظام السياسي الأمريكي وديموقراطيته مقارنةً بأوروبا الغربية ونموذجها التنويري الموغل – لو عاش (توكفيل) عقودًا أخرى لرأى كيف اهتزت أمريكا بالحرب الأهلية الدامية بين الشمال والجنوب، وكيف كادت أن تعصف بالنظام السياسي وأمريكا ذاتها. ولاشك أن الحرب الأهلية كانت من إرهاصات الدستور وشكل النظام السياسي الأمريكي، ولم تفلح توازنات الفيدرالية في تلافيها.
2- تحولات الليبرالية وصدمات النيوليبرالية:
“الفيلسوفة الأمريكية (نانسي فريزر) اختارت الانطلاق من فوز دونالد ترامب بالانتخابات الأمريكية، والتي رأت أنه يعلن نهاية السيطرة النيوليبرالية. لقد جاء فوز ترامب، برأيها، تتويجًا لزلازل سياسية، منها البريكسيت (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، والحملة الانتخابية للديمقراطي بيرني ساندرز ورفض إصلاحات رينسي في إيطاليا والشعبية المتنامية للجبهة الوطنية في فرنسا، وترى فريزر أنه، وعلى الرغم من اختلاف الأيديولوجيات التي تقف خلف هذه الحركات، فإنها جميعها تعبيرٌ عن أمرٍ واحد: رفض للعولمة التي تقودها الشركات الكبرى والنيوليبرالية والنخب السياسية الحاكمة.
لكن انتصار ترامب، لا يمثل برأي فريزر، تمردًا على رأسمالية الأسواق المالية فقط، بل تمردًا بالخصوص على ما اصطلح عليه بـ «النيوليبرالية التقدمية»، وتعني بذلك التحالف القائم بين الحركات الاجتماعية الجديدة، كالنسوية والحركات المعادية للعنصرية، وتلك المنافحة عن التعدد الثقافي من جهة، وأقطاب المجالات الاقتصادية من جهة ثانية. إنه تحالف يقوم في الولايات المتحدة الأمريكية منذ ما يقرب من 3 عقود مع انتخاب بيل كلينتون في العام 1992. فكلينتون، هو من سيقوم بتعويض التحالف القديم بين النقابات والأفرو-أمريكيين والطبقة المتوسطة المدنية، وذلك بتحالفٍ جديدٍ من أرباب الشركات، وأعضاء الحركات الاجتماعية الجديدة، التي تعبر عن تقدميتها عبر دفاعها عن التعدد الثقافي وحقوق المرأة. لقد أسهمت سياسة بيل كلينتون، ودعمه غير المشروط لوول ستريت في تلك السياسة التي سيواصلها خلفه باراك أوباما في سوء الظروف المعيشية لكل العمال، وخصوصًا للعاملين في القطاع الصناعي والزراعي.
وترى فريزر أنه في المرحلة التي كانت فيها الرأسمالية تخضع لرقابة الدولة، أمكن الموافقة بين مصالح الاقتصاد الخاص والتنمية المستدامة، في حين تربط الرأسمالية المنفلتة من عقالها الشعوب والدول، بمصير المستثمرين الخواص”!
انظر: التراجع الكبير، هاينريش غايزلبرغر، مراجعة رشيد بوطيب، لمجلة أواصر، العدد 2، 2017، ص255-256.
ولن تذرف نانسي فريزر دمعة واحدة كما تقول على النيوليبرالية، رغم كل المخاوف من إدراة ترامب العنصرية والمعادية للأجانب وللبيئة، ورغم أنها تؤكد أن إدارة ترامب لن تقدم حلولًا للقضايا المطروحة، فإن الولايات المتحدة تعيش برأيها فراغًا سلطويًّا، لكنه فراغٌ بقدر ما يشكّل خطرًا، فهو يمثل في حد ذاته فرصة برأيها لتأسيس (يسار جديد).
لكن من أجل فهم أفضل “للترامبية”، يتوجب إلقاء نظرة على إسهامات الفيلسوف الفرنسي برونو لاتور، وفيها يؤكد أن الجديد الوحيد الذي جاء به (ترامب)، هو تمكنه من تأسيس حركة سياسية كاملة على أساس رفضه للتغير المناخي. ويرى لاتور أن فرادة ترامب تتمثل في توفيقه بين ثلاثة طرق للهروب:
أولًا: الهروب إلى الأمام، والذي عبره تتم مضاعفة الأرباح وترك بقية العالم لمصيره!
ثانيًا: الهروب إلى الخلف، عبر ربط الشعب بمقولات قومية وإثنية.
وأخيرًا: الإنكار الواضح للمعطيات الجيولوجية والمناخية
من جهته، يقدم عالم الاجتماع الألماني (فولفغانغ شتريك) إسهامًا يُلخص كل ما جاءت به الإسهامات المختلفة في الكتاب، وتحمل عنوانا معبرًا : “عودة المكبوت كبداية نهاية للرأسمالية النيوليبرالية”، إذ يرى شتريك أن المنعطف الليبرالي الذي جاء ليحرر الاقتصاد من تدخل الدولة ومطالب النقابات التي ما برحت تزداد قوة، يقوم على المبدأ القائل: لا يوجد بدیلٌ آخر! ويرى أن عرابي هذا الاتجاه يمتدون من مارغريت تاتشر، مرورًا بتوني بلير وحتى أنغيلا ميركل.
المرجع السابق، ص257.
وفي مقالٍ صدر في جريدة فرانكفورتا الألمانية بتاريخ 26 أكتوبر 2014، يحمل عنوان “يساري عاقل”، كتب الصحفي الاقتصادي راينه هانك عن فولفغانغ شتريك، عالم الاجتماع الألماني الشهير: “يطالبنا شتريك بضرورة الحذر من الطلاق الذي تؤسس له النيوليبرالية بين الاقتصاد والمجتمع”، وما برح يطالب شتريك بإدماج الاقتصاد في المجتمع. وهو يقف على النقيض من (يورغن هابرماس) الذي يعتقد بإمكانية السيطرة على الأسواق العالمية يومًا، ويرى أن الحل يكمن في سلطة المراقبة المرتبطة بالدول الوطنية.
انظر: حين تشتري الرأسملية الزمن: مقابلة مع شتريك، للكاتب رشيد بوطيب، مجلة أواصر،
https://www.awaser.org/dialogues/67550c5b-85ea-4b2b-a36e-6ea6c00d6390
إذن، يمكننا التأكيد على أن المنعطف المدهش والمهدد للديمقراطية سُجل سنة 2016 بتصويت بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي، ووصول دونالد ترمب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، ذلك أنّ الديمقراطية الليبرالية التي اعتمدت فكرة الدستور لصيانة الكرامة الإنسانية والحرية والمساواة؛ أثبتت عجزها أمام استخدام النخب اليمينية للسلطة بقصد الإساءة إلى المؤسسات السياسية والدستورية.
3- وقفة مع نقاشات فوكوياما حول معضلة النيوليبرالية:
لاحظ الاقتصادي جون مينارد كينز – وهو يكتب عن قوة الأفكار- أن “المجانين في السلطة ممن يتوهمون سماع أصواتٍ في الهواء يستخلصون جنونهم عادة من أكاديمي أخرق خربش أفكاره قبيل بضع سنوات”. في هذه الحالة كان السياسيون الأميركيون يعتمدون «سيناريو» قدمه فوكوياما في كتابه الأكثر مبيعًا عام 1992 بعنوان (نهاية التاريخ والإنسان الأخير).
وجادل فوكوياما في الكتاب بأن صراع الأيديولوجيات الذي استمر آلاف السنين انتهى، وأن كل الأمم من الآن فصاعدًا سوف تتبنى اقتصاديات السوق الحر لتجعل مواطنيها أثرياء، وحكومات ديمقراطية لتجعلهم أحرارًا.
وكتب فوكوياما: “قد لا يكون ما نشهده نهاية الحرب الباردة فحسب، أو انقضاء حقبة معينة في تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية، بل نهاية التاريخ بحد ذاته، أي منتهى التطور الأيديولوجي للإنسان وعولمة الديمقراطية الليبرالية الغربية كآخر صيغ الحكومة البشرية وأسماها”.
وفي عام 1996 ذهب توماس فريدمان – كاتب عمود الرأي في صحيفة نيويورك تايمز- إلى أبعد من ذلك بإعلانه «نظرية الأقواس الذهبية لمنع الصراعات». قال فريدمان: «عندما يصل بلدٌ ما إلى مستوى من التطور الاقتصادي، عندما تصبح لديه طبقة وسطى كبيرة بما يكفي لتحمل أعباء افتتاح مطعم ماكدونالد، يصبح ذلك البلد أحد بلدان ماكدونالد، وفي بلاد ماكدونالد لا يحب الناس خوض حروب، بل يحبون الانتظار في طابور منتظم للحصول على سندويتشات البرغر”.
انظر: أسطورة النظام الليبرالي: غراهام أليسون، عرض وترجمة رياض المسيلبي، مجلة أواصر، الموقع الإلكتروني، 09 – 2019
https://www.awaser.org/translations/44b62bab-f069-4ac4-bbf3-16160910e7d1
وهكذا اشتهر فوكوياما بكتابه (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) الذي ظهر على الساحة مع انتهاء الحرب الباردة. كان ادعاء فوكوياما الأساسي هو أن الديمقراطية الليبرالية قد انتصرت في حرب الأفكار وأثبتت نفسها كنظام سياسي مثالي.
بيتر ثيل حليف ترمب كتب مقالًا يرى فيه أن “عودة ترامب إلى البيت الأبيض تنذر بنهاية النظام القديم”، لأنه مرحلة جديدة من التاريخ، تموت فيه الليبرالية الكلاسيكية كسياسة وكفلسفة، وهو يعتبر أن التنوير قد فشل، وأن “الديمقراطية أظهرت عجزها عن كبح جماحها”، لأن العنف لا يرفع من خلال “العقد الاجتماعي” الذي تدافع عنه الفلسفة الليبرالية
وبعد 30 عامًا وعقب الأزمة المالية العالمية، كتب فوكوياما كتابًا جديدًا بعنوان: (الليبرالية ونقادها الساخطون). إنه دفاع عن الليبرالية ونقد لها في نفس الوقت. وقد قام بتصنيف مشاكل الليبرالية، لكنه يجادل أيضًا بأن الليبرالية لا تزال أفضل خيارٍ موجود. وكتب فوكوياما عن بعض التحديات الراهنة، مثل توجه اليمين الأمريكي نحو السلطوية، وعودة ظهور القومية في جميع أنحاء العالم. وفي المحصلة: ليس من الواضح ما إذا كانت الديمقراطية الليبرالية هي حقًّا نهاية التاريخ!
وناقش معه وعد الليبرالية الصحفي شون إلينغ وهل يعتقد أنها فشلت، وعما إذا كان هناك أي شيء يود مراجعته حول أطروحته المتعلقة بنهاية التاريخ!!
ومما قاله فوكوياما في حواره:
“حسنًا، أعتقد أننا في أزمة سياسية كبيرة. إذا نظرت حول العالم، ستجد أن الديمقراطية الليبرالية في تراجع بشكل مطرد طيلة الـ 16 عامًا الماضية. وليست الدول الصغيرة هي التي تشارك في هذا التدهور. إنها دول مثل الولايات المتحدة والهند، أكبر ديمقراطيتين في العالم. وقد رأينا قوى عظمى تنهض، معادية بشكل علني لليبرالية ومعادية للديمقراطية، مثل روسيا والصين”.
لكن فوكوياما يدافع قائلًا عن الليبرالية، قائلاً: “على الرغم من ذلك، أود أن أقول: إن وعد الليبرالية هو معاملة متساوية على قدم المساواة للأفراد الذين يستحقون الاحترام، ولا يوجد مجتمع ليبرالي على الإطلاق يفي بذلك بشكل كامل…
ورأينا تاريخيًّا أن الليبرالية هي الأكثر جاذبية عندما تكون مهددة. لذا، إذا واجهت حروبًا عالمية مروعة كما حدث في أوروبا في القرن 20، أو إذا كنت تعيش في ظل ديكتاتورية رهيبة، فأنت حقًّا ستكون حريصًا على العيش في مجتمع ليبرالي… ولكن بمجرد أن تبدأ في أخذ هذا المجتمع كأمر مسلم به، وقد كان لدينا 75 عامًا من السلام منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تبدأ في أخذ ذلك كأمر مسلم به ثم تتطلع إلى أشياء أخرى. وأعتقد أن هناك حالة من الإعجاب المتعجرف بالنفس أثرت على الكثير من الناس في البلدان الليبرالية المسالمة”.
ثم يضيف فوكوياما:
“في كتاب (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) قلت: إنه إذا لم يتمكن الناس من النضال من أجل العدالة والسلام، فعندئذ سيكافحون ضد العدالة والسلام؛ لأنه جزء من الطبيعة البشرية أننا نريد أن نكافح. نريد احترام مُثُلنا، وأنفسنا. وإذا تم إعطاء ذلك لنا بحرية كبيرة، فسنريد شيئًا آخر، وهذا مصدر عدم الاستقرار في المجتمعات الليبرالية”.
ثم يختزل مشكلة الليبرالية البنيوية على طريقته: “في كثير من النواحي، فإن الكثير من الاستياء والغضب في الولايات المتحدة هو نتاج إغفال الناس ما سيعنيه حقًّا غياب الليبرالية”.
لكن يسأله الصحفي شون إلينغ:
لديك فصل كامل في الكتاب عن الليبرالية الجديدة (النيوليبرالية)، وأنت تحاجج في الأساس بأن الليبرالية قد تم تقويضها بسبب تجاوزات اقتصادات السوق. ولكن ماذا لو فكرنا في الليبرالية الجديدة باعتبارها ليبرالية تحقق منطقها الخاص؟ يبدو أن لدينا أدلة كافية للقول إن مجتمعات السوق تميل نحو تركيز الثروة والسلطة، وهذا يؤدي إلى الفساد السياسي؟
إنَّ النيوليبرالية هي نسخة مطورة من الليبرالية، وهي تطورٌ طبيعي وفلسفي مطرد لمفاهيم الليبرالية الكلاسيكية التي قامت على الشركات العابرة والإمبريالية وحرية تنقل الأموال وسيطرتها على الجغرافيا… وهكذا تطورت تدريجيًّا إلى مؤسسات العولمة ووصاية البنوك وشركات التأمين والخصخصة وسلب الهويات والاستقلالية الوطنية
جواب: لا، هذا صحيح. أتفق مع ذلك. لكي ينجح مجتمع ليبرالي على المدى الطويل، تحتاج إلى ربط الليبرالية بالديمقراطية لأنك بحاجة إلى آلية سياسية للقيام بدرجة معينة من إعادة التوزيع – ليس لتحقيق المساواة تمامًا، ولكن للتخفيف من أنواع عدم المساواة التي ينتجها مجتمع السوق.
سؤال: بعد قراءة كتابك ثم الاستماع إليك الآن، ليس واضحًا تمامًا بالنسبة لي ما إذا كنت تعتقد أن الليبرالية قد فشلت أم أنك تعتقد أننا قد فشلنا في الليبرالية؟
جواب: يعتمد الكثير من هذا على تعريفك لليبرالية، وتعريفي الخاص موسع إلى حد ما. أستطيع أن أرى نسخةً من الليبرالية كانت في الواقع ناجحة تمامًا عند دمجها مع مؤسسات أخرى وخصائص أخرى. أعتقد أنه كان هناك جهدٌ لدفع الأمور إلى التطرف على كل من اليمين واليسار، وهذا غير جوهري في تصميم الليبرالية.
لذلك أعتقد أن (النيوليبرالية) هي تشويهٌ (لليبرالية الكلاسيكية) بمعنى أنها تأخذ أفكار حقوق الملكية ومعاملات السوق وتطيح بها وتشوه صورة الدولة على نحو غير ملائم، وبالمثل، أعتقد أن هناك نسخةً من سياسات الهوية تتحول إلى شيء غير ليبرالي للغاية.
انتهى كلام فوكوياما ودفاعه!
انظر: حوار مع الفيلسوف السياسي الأمريكي فرانسيس فوكاياما، سيبتمبر 2022
Francis Fukuyama on liberal democracy and its discontents
تعليقنا حول كلام فوكوياما:
حاول هنا فوكوياما متعسفًا أن يفصل تمامًا بين (الليبرالية الكلاسيكية) و(النيوليبرالية) نماذجيًّا. لكن يمكن دحض تملصه، فبالإضافة إلى ما سبق من نقود على فوكوياما والليبرالية في مطلع المقالة، يمكن الرد عليه بالتالي:
- إنَّ النيوليبرالية هي نسخة مطورة من الليبرالية، وهي تطورٌ طبيعي وفلسفي مطرد لمفاهيم الليبرالية الكلاسيكية التي قامت على الشركات العابرة والإمبريالية وحرية تنقل الأموال وسيطرتها على الجغرافيا… وهكذا تطورت تدريجيًّا إلى مؤسسات العولمة ووصاية البنوك وشركات التأمين والخصخصة وسلب الهويات والاستقلالية الوطنية. نعم هذا هو وجه النيوليبرالية في الحقيقة.
- إنَّ النيوليبرالية تطورت عبر سياسات ومؤسسات نمت على أيدي تاتشر وكلينتون وتوني بلير وميريكل وأوباما وبايدن، وهي وليدة عقودٍ من رسم السياسات العابرة للقارات وترويج مُثل العولمة والفردانية وما بعد الحداثة، وقد نمت فيها مشاريع فوق سيادة الدول لأمثال جورج سورس لاسيما في أوكرانيا، وبيل جيتس لاسيما في أفريقيا، وروكفلر الابن في كل مكان، وبالطبع مؤسسات مالية عابرة ضخمة (كإينرون) العملاقة – كانت أصولها 65 مليار وعوائدها 101 مليار دولار – التي سقطت بفضيحة مالية وسياسية عالمية كبرى لتفلس عام 2001 بخسائر 11 مليار دولار للمساهمين وسقوط سهمها من حوالي 90 دولارًا إلى 1 دولار، ثم تبعها عام 2002 سقوط شركة (وورلدكوم) بإفلاس أكبر… وصولًا إلى إكبر تفليس في التاريخ لبنك ومؤسسة خدمات (ليمان برذورز ) المالية، لتسهم في أزمة الرهون العقارية وانهيار 2008 المالي.
ولا تزال مؤسسات وبنوك كمورغان ستانلي، وغولدمان ساكس في وال ستريت، المملوكة لمؤسسات مثل بلاك روك وفان-غارد وشركة ستيت ستريت، تقوم يهيمناتٍ شبيهة. وكان كل ذلك من تجليات النيوليبرالية والأزمة المالية العالمية 2008.
ويجدر بنا الذكر بأنه في هذا الحوار الصحفي كرر فوكوياما أفكارًا دفاعية في كتب أخرى هي:
كتاب (الثقة: الفضائل الاجتماعية ودورها في الرخاء) صدر عام 2015، وكتابه ( الهوية: مطلب الكرامة وسياسات الاستياء) صدر عام 2019 ، بالإضافة لكتابه المذكور أعلاه ( الليبرالية ونقادها الساخطون) عام 2022. وجميع هذه الكتب قام منتدى العلاقات العربية الدولية في الدوحة بترجمتها، وكذلك قامت (مجلة أواصر) بعرضها.
4- خطايا الحزب الجمهوري:
اجتمعت عدة تحوّلات سياسية واقتصادية وثقافية داخل أمريكا في إيجاد المناخ والتربة الملائمين لنمو ظاهرة ترامب واختراقه صفوف الحزب الجمهوري، الذي أصبح أعضاؤه التقليديون يتساءلون عن مصير تركة زعمائه الكبار مثل أبراهم لنكون (1861-1865)، وتيودور روزفلت (1901-1909)، ورونالد ريجان (1981-1989). ولم يأتِ صعود نجم ترامب من فراغ، ولا يمكن أن يُعزى تنامي شعبيته إلى حنكته السياسية أو برنامجه الانتخابي في ظل ما استعرضته هذه الدراسة، بل ينبغي أن ندخل في الحساب قدرته على استغلال مجموعة أخطاء ارتكبها زعماء الحزب الجمهوري استراتيجيًّا وسياسيًّا منذ عدة سنوات، سواء إزاء مسألة التعددية أو عدم الانفتاح على الأقليات.
ظل زعماء هذا الحزب يكرّسون الاهتمام بمصالح الطبقة الثرية وأرباب العمل والمضاربين في وول ستريت بدلًا من اعتماد رؤى استباقية تحول دون حدوث قطيعة مع الطبقة العاملة. ولا غرابة أن يجسّد نجاح ترامب فشل نخبة الحزب أو مؤسسة الحزب التي يفاخر ترامب بأنه ليس منها ولا يتعاون معها، بل يريد أن يستولي على زعامة الحزب بحكم الأمر الواقع لـ”تصفية المستنقع”.
وفي هذا السياق، يعكس نجاح ترامب أزمة حقيقية في مسار الحركة المحافظة في الولايات المتحدة، وربما احتضار الحزب الجمهوري العجوز الذي لم ينجب حفدة من السلاسة السياسية للينكون أو روزفلت أو ريجان. وظل قادة الحزب يرفضون الإقرار بتلك المشاكل، فضلًا عن التعثرات التي وقع فيها الحزب خلال رئاسة بوش الابن بتوصية من نائبه آنذاك ديك تشيني، وعزوا مثل هذه الانتقادات إلى ما يعتبرونه انحياز وسائل الإعلام التي تظل في اعتقادهم ليبرالية المنحى. وبعبارة أخرى، وجد المرشح دونالد ترامب الظروف مهيأة لنجاحه أكثر من الاعتماد على عصاميته أو ألمعيته السياسية
انظر: رئاسة دونالد ترمب: اليمين المترنح ونهاية الاستثناء الأمريكي، محمد الشرقاوي، مجلة أواصر، الموقع الإلكتروني
https://www.awaser.org/files/7d16e055-ed68-4011-ad19-145ce0109931
5- أزمات اليسار:
في عام 2010، أي قبل ستّ سنوات من فوز ترامب في انتخابات الرئاسة، استشعر الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي نعوم تشومسكي (Noam Chomsky) بعض المتاعب الحقيقية في أمريكا بسبب “الإحباط والسخط والغضب المبرّر وغياب أي استجابة متماسكة”. وأعرب وقتها عن قلقه إزاء بعض الاتجاهات الاجتماعية والنفسية المتنامية بسبب “المزاج العام المخيف”، فيما “لم يتم تصريف مستوى الغضب والإحباط والكراهية إزاء المؤسسات بطريقة بناءة. وشكّل هذا توجُّهًا نحو أوهام تنمُّ عن التدمير الذاتي”.
قدّم تشومسكي وقتها رؤية متشائمة لمستقبل أمريكا، وهي رؤية رفضها كثيرون آنذاك، لكنها أثبتت صوابها الاستشرافي أواخر عام 2016. وحذر آنذاك من مغبة نجاح أيِّ “شخصية كاريزمية” إذا سعت إلى الترشح للانتخابات، “ووعدت بعلاج أمراض المجتمع في برنامجها بما سيجلب إليها السلطة”. والمثير هنا مدى أوجه التشابه بين هذه الشخصية وشخصية ترامب بداية بالمناداة برفع مستوى القوة العسكرية (ترامب يثني باستمرار على الجيش ويقوي ميزانيته)، ونهاية باستخدام المهاجرين غير الشرعيين كبش فداء.
وفي تسعينيّات القرن الماضي، صدر للفيلسوف البراغماتيّ الأمريكي ريتشارد رورتي كتاب بعنوان: Achieving Our) (Country، مذيّلًا بعنوان فرعيٍّ هو الفكر اليساريّ في أمريكا القرن العشرين، وهو عبارة عن محاضرة ألقاها رورتي وتحدّث فيها عمّا رآه تحوّلًا ضخمًا أصاب اليسار الأمريكيّ في ستينيّات القرن العشرين.
تقوم فكرة الكتاب الأساسيّة على المقارنة بين يسارَينِ؛ الأوّل يسمّيه رورتي: “اليسار الإصلاحيّ”، ويعني به اليسار الممتدّ منذ مطلع القرن إلى ستّينيّات القرن العشرين وثورات الشّباب التي شكّلت بدايةً للنمط الثاني من اليسار، الذي يسمّيه “اليسار الجديد” أو “اليسار الثقافي”.
حسب رورتي، فاليسار الأوّل يشملُ جميع من شغلوا أنفسَهم بالعدالة الاجتماعيّة، وحاولوا تحقيقَها بسائر السبل، خصوصًا من خلال النظام السياسيّ القائم، وذلك بالانخراط في العمل النّقابي والحزبيّ، والوصول إلى السّلطة من أجل تغيير النّظام من داخله في اتّجاه قوانين تؤسّس لمجتمع أكثر عدالة.
انتصار ترامب، لا يمثل برأي فريزر، تمردًا على رأسمالية الأسواق المالية فقط، بل تمردًا بالخصوص على ما اصطلح عليه بـ «النيوليبرالية التقدمية»، وتعني بذلك التحالف القائم بين الحركات الاجتماعية الجديدة، كالنسوية والحركات المعادية للعنصرية، وتلك المنافحة عن التعدد الثقافي من جهة، وأقطاب المجالات الاقتصادية من جهة ثانية
أما اليسار الجديد فهو حسب رورتي يسارٌ فقد الإيمان بإمكان إصلاح النظام، بل فقد الإيمان بأمريكا نفسِها، حيثُ شكّلت حرب فيتنام بالنّسبة لكثير من شباب تلك الفترة تشوّهًا دائمًا في روح أمريكا، وذنبًا اقترفته لا يمكن أن يُغتفَر. لذا، عزف هذا اليسار عن الانخراط السياسيّ بشكله المؤسّسي متمثّلًا في النقابات والأحزاب ومحاولة تسلُّم السلطة، وعزف بالتّزامن مع ذلك عن قضيّة العدالة الاجتماعيّة في شكلِها الطّبقيّ، وانغمس عوضًا عن ذلك في ثورة ثقافيّة تبحث عن عدالة من نوع آخر: عدالة ذات مضمون ثقافيّ، يجدُ فيها الجميع متّسَعًا لأنفسهم ولأصواتِهم ولتوجّهاتهم على اختلافِها، سواءٌ أكانت هذه التوجّهات توجُّهات اجتماعيّة في نمط الحياة، أم توجُّهات جنسيَّة، أم توجُّهات جندريَّة، وفي هذا السياق ظهرت حركة حقوق المرأة، وحركات حقوق ذوي السلوك الجنسيّ المثلي، وظاهرة استخدام الماريغوانا والمهلوسات، وغيرها.
يرى (رورتي) أنّ هذا اليسار استعاض جزئيًّا بفرويد عن ماركس، وتخلَّى بالتَّالي عن مشروع العدالة الاجتماعيّة ومحاربة الأنانيّة لصالح مناهضة الساديَّة بدلًا من الانخراط في العمل السياسيّ والنقابي لإقرار قوانين أكثر عدالة وتغيير النظام لصالح الفقراء والأقل حظًّا، انخرط هذا اليسار في العمل الأكاديمي وطفق ينظِّر لأسباب الساديَّة التي تتعاطى بها الفئة المحظيَّة -الرجال البيض المسيحيُّون غيريّو التوجّه الجنسيّ – تجاه الفئات الأقلّ حظًّا – النساء والسُّود والملوَّنون وذوو السلوك الجنسيِّ المثليِّ والأقلَّيات الدينيّة – وانكبّ اليسار بالتّالي على مشروع تربية صارم وحثيث وجدَ قلعتَه في الأكاديميا، وطفق منذ الستّينيات يُعلِّم الرجال كيف يحترمون النّساء، والبيض كيف يتجاوزون عقدة تفوُّقهم على السود والملوّنين، وغيريّي التوجه الجنسي كيف يتقبلون المثليّين. كان اليسار الإصلاحي يُريد للون والجنس والتوجّهات والتفضيلات ألا تكون مرئيّة، فليس هنالك ما يجب أن يصرفَ النّظر عن التّفاوت الطبقيّ. وتمكينُ الفئات المستغلّة والأقلّ حظًّا يكون أساسًا بالقضاء على التّفاوت وبتحقيق العدالة الاجتماعيّة، أمّا اليسار الثقافي فأراد للون والجنس والتوجّهات أن تُصبحَ مرئيّة جدًّا، وأن يُعترَف بها، ويُتحدّث عنها، ويُفرَضَ احترامُها.
لكنّ رورتي، مستعينًا بتحليل إدوارد لوتواك في كتابه (الحلم الأمريكي المهدَّد)، أطلقَ نبوءةً عمّا سيؤول إليه الحال في الولايات المتّحدة إثر تخلّي اليسار عن مشروع العدالة الاجتماعيّة، فهؤلاء الذين أمضى اليسار عقودًا في تعليمهم كيف يتحدّثون بتهذيب، وكيف يحترمون الأقلّيات، وكيف يقدّرون المرأة، سيجدون أنفسَهم يُعانون اقتصاديًّا، وسيجدون أنّ دخولهم لا ترتفع، وأوضاعهم الاجتماعيّة تسوء، وليس هنالك من يُناضلُ من أجلهم ويمثّلهم. عندها، يقول رورتي، شيءٌ ما سيتصدَّع، وهؤلاء الرجال البيض المنسيُّون سيفقدون ثقتَهم بالنّظام، وسيوصلون إلى السلطة من يقنعهم أنّه رجلٌ قويّ قادر على إنقاذهم واستعادة حقوقهم وتعويضهم عن الخذلان الذي نالهم، وسيجدُ هؤلاء في هذا الرجل فرصة للانتقام من خريجي الأكاديميا المتمدّنين الذين انشغلوا لعقود بتعليمهم اللياقة واحترام المرأة وتقبّل الآخر، وستخسر هذه الفئات المهمّشة كثيرًا من مكاسبِها التي حققتها في فترة انشغال اليسار بالعدالة الثقافية وسياسات الهويّة.
انظرمقالة: سياسات الهوية: خافضة اليسار ورافعة اليمين، همام يحيى، مجلة أواصر
https://www.awaser.org/files/8d061ed6-2bb7-47e3-a827-0a1fa32b7fab
ثم ماذا بعد، وإلى أين يتجه ترمب ويمينه بأمريكا ؟!
ستظل حقبة ترامب في البيت الأبيض رهينة الانقسام السياسي والثقافي غير المسبوق بين مؤيديه – أغلبهم من البيض – وبين المدافعين عن أمريكا التعددية والتنوع العرقي والثقافي. ويمكن اختزال هذا النزاع المتفاقم في أنه نزاع هويات مفتوحٌ على مصراعيه، أكثر منه ردّ فعل على المضاعفات السلبية للأزمة المالية عام 2008 وتصاعد معدلات البطالة وقتها.
اليوم يقف ترمب ومن يرعاه أمام تحديات ضخمة تفرض نفسها على مستقبل أمريكا، هي حتمًا ومهما كانت النتيجة، تضع أمريكا على سكة جديدة، ولن تعود أمريكا كما كانت.
وفي المقالة التالية سنتناول: توازن الآباء المؤسسين المفقود اليوم، وماهية السياسات الترمبية، ثم معضلات وتحديات أمريكا الهائلة القادمة.