تقدير موقفقراءة الحدث

حول علاقة الدين بالحياة وقفات مع كلمة السيسي في مؤتمر الشباب

 

“أهل الدين مش حاسين إنو فيه مشكلة، مش شايفين إنو فيه مشكلة في فهمنا للدين”.

“من ست سبع قرون الدنيا تغيرت خالص مش حنخلي الظهر ركعتين ولا حاجة هو التوحيد والصلاة والصوم والحج وكده لكن فيه مفاهيم أخرى، يا ترى رأي الدين في الذي نشر كذب زي كده نقول له إيه”.

“الكلام دا هو الكلام الجديد إلي أنت محتاج تتكلم فيه في تطور المجتمع وتطور الفنون والثقافة والعلم والتكنولوجيا .. الدين بيقول فيها إيه”.

“أنا عاوز أقول لكو إحنا فعلاً إذا لم نتصد فكرياً للمسألة دييت حتفضل عبارة عن واحد عندو جرح بينزف .. “.

عبارات رددها السيسي في مؤتمر الشباب الأخير الذي انعقد بالقاهرة يوم السبت الرابع عشر من سبتمبر عام 2019م، ولنا معها وقفات خمس:

أولاً: الوقفة الأولى متعلقة من حيث موضوعها بعلاقة الدين بالحياة، والدعوة إلى تجديد الخطاب الديني، وعند التأمل فإنه لا إشكال البتة أن يطرح هذا الموضوع على طاولة النقاش والبحث والدراسة والمراجعة في أي مرحلة زمنية؛ لأمرين:

1-الدين من حيث أصله إيمان بالله يعمر دنيا الناس، وعقيدة تنشئ حضارة، وعبادة تربي مجتمعاً، فالدين بهذا الاعتبار: انطلاق للحياة والسلوك والتشريع دون أن ينحصر في مجموعة من الكلمات والتقاليد والمظاهر الجامدة المتنافية التي تضمها الأوراق وتتناولها الشفاه، هو دين للحياة، ودين للواقع، فحينما نثير هذا التساؤل حول علاقة الدين بالحياة، فإننا نقصد تفعيل الدين في هذه الحياة بوصفه منهج هداية أنزله الله ليطبق في واقع الناس بمختلف مظاهره.

2-أن التجديد من حيث هو مفهوم شرعي نص عليه الخطاب النبوي كما جاء في الحديث: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”.

وإنما المحذور الذي وقع في كلمة السيسي وأمثالها أن طرح هذا الموضوع جاء من غير أهله وفي غير محله، ولا نقصد هنا الدعوة إلى جعل الدين كهنوتياً، وإنما مقصودنا أن يكون الحديث عن الدين والتجديد وما يتعلق بهما من قبل أهل الشرع المتخصصين به، وليس هذا رؤية شخصية بل هو تأصيل معتبر شرعاً، والدليل على هذا قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[النحل: آية 43]، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾[النساء: آية 83]، وقوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾[التوبة: آية 122].

    وهنا الإشارة القرآنية الدقيقة إلى أن شأن الاستنباط الشرعي مرجعه أهله ذوو التحقيق والتدقيق والنظر، وإذا كان الأمر كذلك، فما هو التحصيل الشرعي الذي يؤهل السيسي وأمثاله للخوض في هذه الموضوعات؟!! ويكفينا جواباً في هذا المجال قوله عليه الصلاة والسلام: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا”.

ثانياً: الوقفة الثانية متلازمة مع سابقتها من جهة من الذي تصدى للخوض في مفاهيم شرعية دقيقة من أمثال التجديد ودور الدين في الحياة وتفعيله فيها، ذلك أن الملاحظ في العقود الأخيرة أن الذي تصدى لها صنفان من الناس، الأول أهله المتحققون به وهم علماء الشريعة ومجتهدوها، والصنف الثاني الذين يطالبون بالتجديد وإعادة النظر في دور الدين في الحياة، وهؤلاء أربعة أنواع: أرباب السلطة وطالبوها، العلمانيون، الغرب، علماء السلطان، وشتان بين الصنفين، فالأول يستنطق الشريعة ويثورها ويجتهد في فهم خطابها لاستخراج الأحكام الشرعية في المسائل الحادثة والوقائع النازلة، ويثبت للشريعة حيويتها وفاعليتها في استيعاب حاجات الناس ومعاشهم ما تطاول الزمان وتغير، فهم في حقيقتهم يقفون على الدواعي الحقيقية للتجديد، وأما الصنف الثاني، فإنهم يسيئون لمفهوم التجديد ويوقفونه على دواعي موهومة، وعلى هذا الأساس يلزم التمييز بين الدعوة الحقيقية للتجديد والدعوة الزائفة.

ويبقى السؤال هنا: في أي نوع من الأنواع الأربعة يمكن تسكين السيسي وخطابه؟ وليس صعباً تسكينه في دائرته الأولى المتمثلة بأرباب السلطة، فإذا كان في دائرة السلطة بوصفه متغلباً عليها بعد الانقلاب على الشرعية، فإن الدوائر الأخرى لا تخطئه كذلك، فإن خطاب السيسي يتناغم كثيراً مع الخطاب العلماني الذي صدَّع الرؤوس بضرورة مراجعة الدين وتغيير مساره وتجديده، ولكن على أي أساس وفي أي مجال وإطار يطالبون بذلك؟!! ويتماهى بكل ما أوتي من قوة مع ما يطرحه الغرب من دعوات لتحجيم الدين الإسلامي وتغييبه عن حياة الناس بحجة الدعوة إلى الإصلاح، إنه يتماهى معهم؛ لأنه يعلم يقيناً أن بقاءه في السلطة رهن بهذا التماهي وهذا الانبطاح، وليس غريباً ولا بعيداً أن نسمع الرئيس الأمريكي ترمب ينادي “أين دكتاتوري المفضل؟”.

ثالثاً: الوقفة الثالثة متعلقة بتساؤل حول مقاصد السيسي وأهدافه من تكرار حديثه عن تجديد الدين؟ وحتى نستطيع أن نقارب في الإجابة عن هذا التساؤل لا بد وأن نضع كلمته هذه في سياق أمثالها من الكلمات التي سبقت، فالملاحظ أن السيسي جعل الدين في دائرة الاستهداف سواء على سبيل التقمص في الوصول إلى أغراض شخصية كما هو الشأن أيام تسمنه لوزارة الدفاع إبان حكم الرئيس محمد مرسي رحمه الله، أو على سبيل النقض والاختطاف للدين.

لقد أضحت كلمات السيسي وتصريحاته لا يخلو فيها كلام عن الدين، بل ويضمن كلامه دعوات إلى الناس بأن يراجعوا مواقفهم من الدين على الوجه الذي يريده السيسي وليس الشرع، ومن أمثلة ذلك قوله: “أنا عايز أقولكم، إن لقيت في الإسلام اللي بيتقدم لك حاجة خوفتك، حاجة أفزعتك توقف قدام ده وراجع الموقف. أقول تاني؟ لو لقيت الإسلام اللي أنا بأقدمه لك حاجة تخوفك أو تفزعك أو ترعبك راجع الإسلام بتاعي ده… لأن الإسلام عمره ما كان كده .. عمره ما خوف حد ولا فزع حد.. سواء كان اللي.. باتكلم معاه ده صالح ولّا غير صالح. أنا مش هاتكلم في الدين بعد فضيلة المفتي مش هاتكلم في ده، أنا بأقول بس إشارة عابرة كده”، ومعنى هذا الكلام أن المعيار في النظر إلى الدين الإسلامي هو إحساس الفرد به، فمن خلاله يميز بين الفكر الصحيح والفكر المنحرف بناء على ارتياح الإنسان له نفسياً، وأظن أن هذا المثال يكفي في فهم كلمة السيسي التي نحن بصددها.

إننا إذا أردنا أن نقف على غايات وأهداف السيسي من خطاباته هذه، فإنه يسعنا -بعيداً عن التعسف- أن نحدد من خلال تحليلها جملة من الأهداف:

1.المساس بالمرجعية الإسلامية وتشوييها وتحريفها والمتاجرة بها توسلاً بالهجوم على التيار الإسلامي، وهذا قد بدا واضحاً في طريقة الخطاب التي تعاطاها السيسي كما تدل عليه كلماته، ولا يخفى أن المساس بالمرجعية والتيار الإسلامي مقصوده القضاء على التيار الذي يقاوم حملات التدجين للدين وتفريغه من محتواه وجعله عرضة للأهواء والرغبات والمصالح الشخصية والفئوية، فضلاً عن التماهي مع الدعوات العلمانية والغربية في ذلك.

2.ضمان دوام الاستئثار بالحكم والسلطة من خلال الدعم الذي تقدمه له المؤسسة الدينية الرسمية وأمثالها، لتكون ظهيراً دينياً لشرعنة سياساته.

3.تقديم صكوك الإذعان والاستسلام للغرب الذي يرى فيه وسائل تثبيت حكمه، ودعمه مادياً ومعنوياً منه مباشرة أو من خلال وكلائه في المنطقة.

4.استمرار تحكمه في مقدرات البلاد وتوظيفها في تقوية نظامه واستغلالها في أغراضه الشخصية، وإنما يحقق ذلك بالقضاء كلياً على أي محاولة لنقده أو معارضة سياساته، ولذلك استخدم وسائل الاعتقال والتعذيب والإعدام وغيرها في إسكات صوت المعارضين، واستعان بترسانة كبيرة من الإعلام والقنوات الفضائية وجيش من الذباب الألكتروني في مواقع التواصل الاجتماعي.

رابعاً: الوقفة الرابعة مع مضامين كلمته، والمتأمل فيها يقف على تقريرات يراها السيسي أنها من المسلمات التي يلزم أهل الدين كما سماهم أن يدركوها ويعملوها في تجديد الخطاب الديني، وأخطرها:

1.أن هناك مشكلة في فهم الدين لم يقف عليها أهل الدين منذ ستة أو سبعة قرون، وأرجع إشكالية الفهم إلى أن هناك كثيراً من المفاهيم تغيرت وتحتاج إلى مراجعة من أهل الدين حتى يواكبوا عصرهم الذي يعيشون فيه، وهناك مغالطة واضحة في كلام السيسي من جهة محاولته تطويع الدين لفهمه هو بعيداً عن فهم مقصود الشارع أصلاً، فالقرون الستة أو السبعة الأخيرة من عمر الإسلام التي انتقدها السيسي لم يتعب نفسه مثلاً لاستقراء الفهوم التي دارت حول الشريعة من قبل علماء الإسلام بمختلف تخصصاتهم من أجل تنزيل الشريعة في واقع الناس، خاصة وأن الاجتهاد كما يرى المستشار طارق البشري لم يتوقف في تاريخ الإسلام حتى في العصور التي قرر الكثير من العلماء أن الاجتهاد قد أغلق فيها، مع اعترافنا وتقريرنا بأن هناك اختلالات وقعت فيها الأمة أدخلتها في دائرة الخير الذي فيه دخن ودخل أبعدتها عن الهدي النبوي الأول، هذا من جهة ومن جهة أخرى لم يقف السيسي نفسه على الجهد العلمي الذي بذله علماء الإسلام المعاصرون من أجل النهوض بالأمة من جديد لتكون فاعلة في واقع الناس اليوم ليرجع لها ظهورها على الدين كله، وهو جهد اتسع واستوعب لكثير من الأبواب، ومنها ما ذكره السيسي في كلمته (تطور المجتمع، تطور الفنون، الثقافة، العلم، التكنولوجيا)، وليس أدل على ذلك -إذا أردنا أن نأخذ مثالاً قريباً من السيسي ذاته- ذلكم التراث الذي تركه الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى وضمنه رؤيته وفكره وجهده في تجديد الخطاب وتفعيل دور الدين في حياة الناس وطرق أبواباً متعددة يعيد من خلال حيوية الدين الإسلامي في العقيدة والأخلاق والدعوة والفكر وغيرها.

2.تضمينه في كلمته نقداً لاذعاً لأهل الدين، والحقيقة حينما يصف أهل الدين، فإنه يقصد الدين الإسلامي، فإن المدار الذي تدور في إطاره دعوات تجديد الخطاب الديني ومنها دعوة السيسي، إنما يقصد بها دين الإسلام، وإلا فأين هي دعوات تجديد الخطاب العلماني، وتجديد الخطاب الكنسي؟!! إن نقد السيسي لأهل الدين يحمل في طياته تهويناً من مكانتهم وتحقيراً لهم؛ ليسقط هيبتهم في نفوس الناس، ولا شك أن إسقاط أهل الإسلام مفضٍ إلى إسقاط الدين نفسه، ليعيد التاريخ نفسه حين قال أحد الزنادقة قديماً “إننا أردنا أن نسقط الناقلة لنسقط المنقول”، ومقصوده الشريعة، إننا إذا سلمنا جدلاً أن هناك خللاً وإشكالاً في فهم الدين لدى أهل الإسلام، أما كان يسع السيسي خلال سنواته الست من عمر تغلبه على السلطة أن يغير كثيراً من مظاهر الاختلال هذه طالما هو يمتلك أدوات التغيير ووسائل الإصلاح -كما يزعم- على أقل تقدير داخل البيئة المصرية؟ إنه بنقده لأهل الدين إنما يبتغي توظيفهم واستغلالهم لشرعنة استبداده وتسلطه من خلال تأميم الدين والزحف عليه؛ ليكون أداة بيد المستبد يوظفها كيف يشاء، وقد قال الكواكبي في طبائعه: “اللهم إن المستبدين وشركاءهم قد جعلوا دينك غير الدين الذي أنزلت، فلا حول ولا قوة إلا بك!”.

خامساً: الوقفة الخامسة تدور مع أهمية تحرير المفاهيم الشرعية من الأفهام السقيمة ومحاولات حرفها عن مقصود واضعها لإدخالها في دائرة التحريف والتغيير، وتكون عرضة لكل هوى، ومنها ولا شك مفهوم التجديد، إننا مع التجديد في الخطاب ولكن على أساس ووفق أي ضوابط؟ وبعيداً عن الدعوات الزائفة للتجديد، فإننا نرى أن التجديد يكمن في الآتي:

1.إحياء ما اندرس من معالم الدين الإسلامي في حياة الأمة حينما كانت مفاهيم التوحيد والأمة والشريعة والقيم حاكمة في حياة المسلمين جعلتهم قادة الأمم فأسسوا بها حضارتهم وعالميتهم.

2.حراسة الشريعة ونصوصها من التغيير والتحريف فتبقى صحيحة نقية مع ضبط فهمها وفق مقصود الشارع دفعاً لأفهام موهومة سقيمة.

3.الاجتهاد في الأمور المستجدة وإيجاد الحلول لها.

4.تجديد وإحداث الوسائل في توصيل الخطاب وتبليغه إلى الناس وعرضه عليهم.

5.تفعيل دور الشريعة في التأصيل والتأسيس لأحكام شرعية تستوعب بها حياة الناس ومعاشهم.

6.إظهار شمولية الدين الإسلامي بوصفه منهج حياة يتسع لمختلف المظاهر، في الحكم والسياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها.

7.دور الدين الإسلامي في دفع الفساد والاستبداد عن حياة المسلمين من خلال منهج التوحيد الذي يغرس في العقلية المسلمة الاعتزاز بالحق والمطالبة بالعدل والحرية وعدم الإكراه؛ ليكون الإنسان عبداً صالحاً لله وليس لغيره.

 

زر الذهاب إلى الأعلى