تقدير موقفقراءة الحدث

مذبحة مسجد الروضة.. قراءة متأنية

‏تعرض مسجد بلال بمدينة بئر العبد بشمال سيناء لمذبحة دموية، يوم الجمعة الموافق ٢٤ نوفمبر ٢٠١٧، أثناء صلاة الجمعة، مما أسفر عن مقتل 305 شخص، وإصابة 128 آخرين، ثم توفي ثمانية آخرون متأثرين بإصابتهم ليرتفع عدد المتوفين 312([1]). ما يعد أكثر الوقائع دموية بعد فض اعتصام رابعة العدوية في أغسطس ٢٠١٣م، والأول من نوعه في تاريخ مصر أن يُقتل مصلون في المسجد بالمئات.

 

↩ معلومات عن العملية ومكانها

أكد شهود عيان أن مسلحين يقدر عددهم ما بين خمسة عشر إلى عشرين فردًا قد أتوا بسيارات دفع رباعي قبل أذان الجمعة بقليل، وانتظروا خارج المسجد حتى يصعد الخطيب المنبر، وبعد صعود الخطيب أطلقوا النيران على المصلين وألقوا القنابل على من يهرب من المصلين خارج المسجد ونجح بعض المصلين بالخارج في الفرار([2])، وقد فتحوا النيران على المصلين في الخمس دقائق الأولى على الأكثر من بداية خطبة الجمعة([3])، وعند محاولة أعداد من المصلين بالداخل الفرار من نوافذ المسجد قامت عناصر مسلحة بإطلاق النار عليهم([4])، وأشعل المسلحون النيران في السيارات الموجودة بمحيط المسجد، قبل أن يلوذوا بالفرار. وقد أغلق الطريق بعض الأفراد التابعين للمسلحين بسيارتين دفع رباعي ودراجتين ناريتين لتأمينهم خلال استهداف المسجد([5]). والمسلحون كانوا ملثمين ويرتدون “ملابس الجيش” على حد تعبير شاهدي عيان([6]).

رسم تخيلي للمذبحة، قناة On Live

 

يبلغ عدد الذكور البالغين بقرية الروضة 1200 شخص، أي أن الذين استشهدوا يمثلون ربع عدد الرجال، و”لا توجد امرأة بالقرية إلا ولها شهيد أو مصاب”([7]).

يقع مسجد بلال بقرية الروضة التي تبعد عن مدينة العريش بمسافة سبعة وأربعين كيلو متر، وهي تابعة لمدينة “بئر العبد” في محافظة شمال سيناء، ويعد مسجد بلال أكبر مسجد في القرية التي تقع على الطريق الدولي الواصل بين القنطرة والعريش، وكانت ملجأ للأسر النازحة والمهجرة من مناطق “الشيخ زُويد” و”رفح”، بسبب الإخلاء القسري الذي قام ويقوم به الجيش المصري للسكان، بالإضافة إلى تصاعد المواجهات بين الجيش وعناصر “تنظيم ولاية سيناء” التابع لـ”تنظيم الدولة الإسلامية”. وينتمي سكان القرية الأصليون إلى عشيرة “الجريرات” من قبيلة “السواركة” التي تعد من أكبر قبائل سيناء.

مسجد بلال هو المسجد الرئيسي للطريقة الجريرية في شمال سيناء، وهي جماعة صوفية أسسها الشيخ عيد أبو جرير المتوفى عام 1971، وهو أحد أبناء قبيلة السواركة من عشيرة الجريرات، ودفن في قرية سعود بمحافظة الشرقية([8]). وقد أطلق عليه تنظيم ولاية سيناء لقب: “الطاغوت الهالك”([9]).

‏الطريقة الجريرية وقبيلة السواركة في المجمل، مقربتان من الجيش المصري وتتعاون معه بالمعلومات، وبمندوبيها الذين يرافقون الحملات العسكرية لقتال تنظيم “ولاية سيناء” في شمال المحافظة.

↩ رد الفعل الرسمي

عقد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اجتماعاً عقب الحادث، بحضور وزراء الدفاع والداخلية ورئيس المخابرات العامة، اختتمه بكلمة أعلن فيها الحداد الرسمي في البلاد، مجدداً الحديث عن قدرة مصر على الانتصار على الإرهاب واجتثاثه تماماً بفضل صمود الشعب والتضحيات، وأن القوات المسلحة والشرطة “مكلفتان بالثأر للشهداء” واستعادة الأمن والاستقرار، وتوعد بأن يرد بـ”قوة غاشمة”. ووجّه القوات المسلحة لإنشاء نصب تذكاري للضحايا.

وفي الجمعة التالية للعملية الدامية أدى شيخ الأزهر أحمد الطيب ووزير الأوقاف صلاة الجمعة في مسجد الروضة، بعد ترميمه وإصلاحه، واستبدلت لجنة مديرية أوقاف شمال سيناء اسم مسجد الروضة ليصبح “مسجد روضة الشهداء”.

وأعلن الجيش المصري أن القوات الجوية قامت بمطاردة “العناصر الإرهابية” واكتشاف وتدمير عدد من العربات “المنفذة للهجوم الإرهابى الغاشم” وقتل من بداخلهم فى محيط منطقة الحدث، فضلاً عن استهداف عدد من “البؤر الإرهابية” التى تحتوي على أسلحة وذخائر خاصة “بالعناصر التكفيرية”. ولم يعلن الجيش عن أسماء من قتلهم ولا أي معلومات تخصهم، على الرغم من فداحة الحدث وترقب الرأي العام لمعرفة الجناة.

وأصدر السيسي توجيهاته للحكومة بصرف تعويض مادي قدره 200 ألف جنيه لأسرة كل شهيد، و50 ألف جنيه لكل مصاب، إضافة إلى صرف مبلغ 10 آلاف جنيه لأسرة كل شهيد ومبلغ 5 آلاف جنيه لكل مصاب. غير صرف 500 ألف جنيه تعويضات مالية مُقدمة من إحدى الجهات الحكومية([10]). مع معاش دائم يسمى “معاش الشهيد”، يمنح لأسر الشهداء المدنيين من ضحايا الحوادث الإرهابية، وهذا المعاش قيمته 1500 جنيه([11]). فيما يعد الضعف تقريباً مقارنة بأعلى تعويض دفع في أحداث مشابهة، وكان لضحايا تفجير كنيستي الإسكندرية وطنطا، وكان للقتيل تعويض قيمته 100 ألف جنيه([12]).

 

↩ موقف التنظيمات المسلحة

لم تعلن أي من التنظيمات الجهادية المسلحة مسؤوليتها عن العملية؛ بل استنكرها تنظيم “حسم”، و”أنصار الإسلام”، و”جند الإسلام”.

أما تنظيم “ولاية سيناء” فلم يصدر أي بيانات حول تبني العملية، على عكس عادته من تبني العمليات التي يقوم بها، وفي نفس الوقت لم يستنكر التنظيم قيامه بهذه المذبحة رغم الاتهامات الواسعة التي وجهت إليه عقب حدوثها.

↩ من المسؤول عن المذبحة؟

 

1- هل هو تنظيم ولاية سيناء؟
كان تنظيم “ولاية سيناء” قد أصدر إصداراً مرئياً بعنوان “نور الشريعة” سلط الضوء فيه على نشاط التنظيم في “إنكار المنكر”، مثل حرق عبوات السجائر، وهدم القبور المرتفعة، وقطع نبات التبغ، وتكسير أجهزة التلفاز وأجهزة استقبال القنوات الفضائية، وغير ذلك، وقد صرح في الإصدار المشار إليه أن صوفية سيناء “مشركون” و”مرتدون”.

وقد اختطف التنظيم بعض الصوفية بسيناء لتخييرهم بين ترك التصوف أو القتل، قال “أبو مصعب المصري” أحد عناصر التنظيم في الإصدار المشار إليه: “رفعنا أمر كل من وقع في الشرك إلى المحكمة الشرعية، من أجل الحكم فيه إما بالقتل أو بالاستتابة”.

وأجبر “ولاية سيناء” المختطفين على التوقيع على ورقة يتعهدون فيها بالتوقف عن “الشرك”، ثم أفرجوا عنهم.
واختطف التنظيم الشيخين “سليمان أبو حراز” و”قطيفان منصور”، وجاء في الإصدار أن التنظيم قد حكم عليهما بالقتل بسبب “الردة”، وقاموا بقطع رقبتهما بالسيف([13]). وقال “أمير الحسبة” في تنظيم ولاية سيناء في مجلة النبأ -الناطقة باسم تنظيم الدولة حول العالم-: “إن الطريقة الجريرية أشد كفراً ولهم علاقة بالرافضة”، وقال: “علاقة الطريقة الجريرية بالأنظمة الطاغوتية الحاكمة وطيدة جداً،  وكثير من الضباط والمسؤولين يحبون هذه الطريقة، ويتبع لهذه الطريقة الدجال الهالك سليمان أبو حراز”.

صورة لمجموعة من عناصر تنظيم ولاية سيناء. من إصدار “نور الشريعة”.

 

وأضاف مهدداً: “نقول لجميع الزوايا الصوفية شيوخاً وأتباعاً في داخل سيناء وخارجها، اعلموا أنكم عندنا مشركون كفار، وأن دماءكم عندنا مهدورة نجسة”.

وجاء في المجلة المذكورة عن الطريقة الجريرية أنها “تمركزت في الزوايا الثلاث… “سعود” و”العرب” و”الروضة”، والتي سوف تقضي عليها الدولة الإسلامية فور تمكنها من ذلك”([14]).

على صعيد آخر يرى مراقبون أن مكان “الحضرة” التي يتجمع فيها الصوفيون لم يكن في المسجد وإنما في مكان مجاور له. والمسجد يرتاده رواد “الحضرة” وباقي سكان القرية، فلو كان الأمر في سياق مواجهة الصوفيين، كان المنطقي أن يستهدف مكان إقامة الحضرة وحده دون تحمل نتيجة الهجوم على مسجد، وقتل أشخاص آخرين لا علاقة لهم بالصوفية، الأمر له معنى آخر، المقصود به هو قبيلة السواركة التي ينتمي لها سكان القرية؛ فالتنظيم أراد القول إن أي قبيلة، حتى لو خرج منها قيادات عملوا مع التنظيم نفسه -حيث انتسب عدد من قبيلة السواركة إلى التنظيم- ليست بعيدة عن الاستهداف حال تعاونت مع أجهزة الدولة… هناك رسالة أخرى تخص التنظيم نفسه يوجهها إلى داخله، أن التنظيم لا يزال قويًا، وأن الدولة غير قادرة على حماية المتعاونين معها وأنها ما زالت ضعيفة أمام قوة وقدرة التنظيم([15]).

ولكن في لقاء لأحد المصادر مع أحد أعيان قبيلة السواركة، قال إن مذبحة المسجد ليست من فعل الجماعات المتطرفة.

على مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات الجهادية على شبكة الإنترنت، حدثت نقاشات محتدمة بين أنصار التنظيم حول جواز العملية من عدمه، وحدث تراشق بين المؤيدين للعملية والمعارضين لها واتهامات متبادلة.

لقد اشتمل تاريخ تنظيم “الدولة الإسلامية” على تفجيرات سابقة في بلاد مختلفة، استهدفت “الصحوات” السنة المتعاونين مع الجيش، ومساجد وحسينيات الشيعة، وكنائس المسيحيين، ولكن لم يشمل تاريخه استهداف مسجد يصلي فيه الصوفية وفيه أطفال بالعشرات؛ مما جعل البعض يستبعد مسؤولية التنظيم إذا ضُم هذا إلى عدم تبنيه للعملية.

بعض الخبراء يرى أن من قاموا بتلك العملية هم “الحازميون” – نسبة إلى الشيخ السعودي أحمد عمر الحازمي – وهم جماعة منشقة عن تنظيم ولاية سيناء، وأصحاب هذا الفكر مغالون أكثر في التكفير، لدرجة وصلوا معها إلى تكفير قيادات في التنظيم نفسه، ويكفرون أي أحد يعذر الواقعين في “الشركيات” بجهله، فيما اشتهر بمسألة “تكفير العاذر”.

ووفق أحد شهود العيان الناجين من الحادث، أنه قد سمع أحد المسلحين يقول لأحد الضحايا أنه: “لازم يطلع من هنا موحد لله”. وسمع مسلحاً آخر يقول: “آدي جزاء اللي يهين المجاهدين”. وذكر وغيره أن المسلحين كانوا يرفعون رايات سوداء مكتوبة عليها الشهادتان[16].

لكن هذه العبارات بالطبع سهل أن يتلفظ بها بعض الجناة لإلصاقها بغيرهم؛ فلا تصح أن تكون دليلاً، ولكنه يظل شاهداً نسوقه.

 

2- أم تنظيم مسلح آخر مرتزق؟

وقد يكون من وراء الحادث تنظيم مسلح مرتزق، يدار من أحد الأجهزة الاستخباراتية، لا سيما الاستخبارات الصهيونية التي تسعى إلى تفريغ سيناء من سكانها، وحرق أكبر مراحل ممكنة لتنفيذ ما يدعى بـ”صفقة القرن”، وقد صرّح السياسي المقرب من النظام مصطفى الفقي إن “الحديث عن توطين الفلسطينيين في سيناء، يشير إلى ضلوع جهات دولية في حادث مسجد الروضة”[17].

وهذه ليست المرة الأولى التي تحدث فيها حادثة قتل جماعي والفاعل مجهول، فقد حدث هذا في عملية رفح عام 2012 التي قتل فيها ستة عشر من الجيش المصري، ثم استولى المهاجمون على مدرعتين عسكريتين وعبروا الحدود فقصفتهما طائرة إسرائيلية، وحتى الآن لم تتبن هذه العملية أي جهة من الجهات.

أما الحادثة الأخرى فقد وقعت في قرية (بير بدا) بجنوب قرية الخريزة في سبتمبر 2015 خلال حفل زواج، حيث هاجم مسلحون الحفل، مما أسفر عن مقتل 12 من الأهالي وإصابة 4 آخرين، وأكد الشهود أن المسلحين أطلقوا النار من أسلحة متطورة وكاتمة للصوت. وأشار الشهود إلى أن العناصر التي شنت الهجوم لهجتهم غير مألوفة، وخطفت العناصر المسلحة أحد المواطنين من قبيلة التيهي، واقتادوه إلى جهة غير معلومة[18].

وقد أصدر تنظيم “ولاية سيناء” بياناً أكد فيه أن هذه مؤامرة كبيرة من الأعداء المتربصين وأنها لن تكون الأخيرة، ودعا التنظيم قبائل سيناء ألا ينجروا وراء أي قول يتهم “المجاهدين” بأنهم وراء الحادثة[19].

 

3- أم المسؤول هو النظام المصري؟
يرى مراقبون إمكانية تورط النظام المصري بمذبحة مسجد الروضة في سيناء، خاصة بعد عدم تبني الحادث من قبل أي جهة أو جماعة، ويقول هذا الرأي إن من عادة الجماعات المسلحة أن تعلن مسؤوليتها، خاصة تنظيم “ولاية سيناء” الذي لا يجد أي غضاضة في تبني أبشع العمليات دموية، ولكن نوقش ذلك بأن التنظيم يخشى أن تنفض بعض حاضنته من حوله إذا أعلن مسؤوليته عن المذبحة، خاصة وقد قتل فيها مصلون وأطفال.

أما عن مصالح النظام التي يذكرها هذا الرأي من وراء الحادث، أن النظام يهدف كما يبدو من سياساته في سيناء إلى إخلائها وتهجير أهلها، تمهيدًا لما يُسمى بـ”صفقة القرن” بالاتفاق مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وذلك “بإقامة دولة فلسطينية في سيناء بدلًا من الضفة الغربية وقطاع غزة… فقد ربطت صحيفة “فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ” بين التخطيط منذ عقود لتحقيق هذا الهدف وبين الإهمال المتعمد من نظام الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك لتنمية شمال سيناء. وقالت إن اهتمام الرئيس المعزول محمد مرسي بتنمية هذه المنطقة كان أحد أسباب الانقلاب عليه من وزير دفاعه آنذاك والرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي الذي أعاد شمال سيناء لدائرة التهميش مجددا… وأن مجمل السياسات التي ينفذها نظام السيسي بشبه الجزيرة المصرية، تؤشر لإعداد هذه المنطقة لإقامة دولة فلسطينية فوقها”[20].

فحادث ضخم دموي مثل الذي حدث بمسجد الروضة، من شأنه أن يدفع المزيد من أهالي سيناء لهجرها، إضافة إلى أنه يذكي نار الحرب على الإرهاب وحالة الرعب في سيناء، بحيث لا تستقر الأوضاع هناك.

جانب من جثث الضحايا إثر مذبحة مسجد الروضة

 

يقول متبنو هذا الرأي أيضاً إن حادث دموي كالروضة يحقق حالة من الفوضى في مصر كلها، مما يضفي تقليلاً من فكرة أن يترك الجيش الحكم، والبلاد في حالة حرب لا يجدي معها إلا رئيس عسكري – وهو السيسي بالطبع – وبالتالي تمر الانتخابات بصورة هزلية بلا أي رفض أو اعتراض، بحجة أنه لا صوت يعلو فوق صوت معركة الإرهاب، ومن يرى خلاف ذلك ويردد شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية ورجوع الجيش إلى ثكناته سيوضع مباشرة في خانة الخيانة ودعم الإرهاب.

الحادث أيضاً من شأنه أن يحشد القبائل السيناوية وتسليحها لمواجهة التنظيم، خاصة بعد أن فقدت عدداً كبيرًا من أبنائها في مجزرة المسجد، ويشار هنا إلى قبيلة السواركة وهي من أكبر القبائل السيناوية والتي ينتمي أغلب الضحايا إليها، بالإضافة إلى قبيلة الترابين التي كانت هدفاً سابقاً لتنظيم ولاية سيناء.

 وبالتالي إحداث حرب تحقق المطلوب دون تورط الجيش بشكل مباشر، وقد قال شيوخ من كبار القبائل البدوية بشمال سيناء إن حادث استهداف مسجد الروضة جاء كالقشة التي قصمت ظهر البعير، ليعلن قرب نهاية التنظيمات الإرهابية في سيناء. وأكد مصدر أمني أن كبار مشايخ القبائل بدأوا بالفعل التواصل مع أجهزة الأمن من أجل التنسيق لوضع خطط مواجهات مع التنظيمات الإرهابية في سيناء[21].

ومعروف أن قبيلة السواركة التي ينتمي أغلب الضحايا إليها مستهدفة من تنظيم “ولاية سيناء”، ومع ذلك لم يعمل النظام على تأمين أفرادها المستهدفين بالخصوص، فقد استهدف التنظيم سابقاً أحد كبار القبيلة وهو خلف المنيعي وولده عام 2012 بسيناء، ثم اغتال التنظيم ولده خالد خلف المنيعي بعدها بثلاث سنوات في 2015 بالقاهرة.

إضافة إلى التهديدات الأخرى الصريحة التي وُجهت إلى القبيلة؛ فهل كان هناك تعمد لعدم تأمين القبيلة لتسهيل استهدافها فتزيد سيناء اشتعالاً؟ سؤال من الصعب أن يُجاب عنه بـ(لا).

من الشواهد التي يذكرها أصحاب هذا الرأي على تورط النظام المصري، أن طريق القنطرة-العريش يقع بين القرية المنكوبة، ومعسكر لقوات الجيش على الضفة الأخرى من الطريق، وعلى بعد 500 متر تقريباً من المسجد الذي شهد الواقعة، ومع ذلك القوات التابعة للمعسكر لم تتدخل لصدّ منفذي العملية، وفق روايات شهود العيان[22]. إضافة إلى أن سيناء صارت منطقة عسكرية مغلقة وليست مفتوحة، مما يزيد المسؤولية تجاه النظام المتحكم فيها، وقد تحدّث بعض المراقبين عن وجود كمين عسكري متحرك يقع في نطاقه مسجد بلال وقرية الروضة ومع ذلك لم يواجه المذبحة التي استمرت لنصف ساعة.

أما عن المسؤولية التي لا يمكن إعفاء النظام عنها على الأقل وبصورة مؤكدة، فهي المسؤولية الأمنية والسياسية، فالنظام مسؤول عن المذبحة بصفته المسؤول عن الأمن خاصة وأنه موجود في شمال سيناء بقواته بشقيها، الخارجية و الداخلية، المتمثلة في الجيش والشرطة المدنية، ومسؤول من الناحية السياسية أيضاً لما يقوم به في شمال سيناء من تهجير لأهلها ونسف بيوتهم بحجة منع التهريب وهدم الأنفاق، وعدم تمليكهم لأراضيهم، وتعمد إهمال وتهميش مواطنيها ومعاملتهم معاملة الخائنين لوطنهم كما هي النظرة السائدة في حقب الحكم العسكرية السابقة، إضافة إلى النظر إلى بدو سيناء على أنهم مواطنون درجة ثانية أو ثالثة، وبعضهم ليس معه الجنسية المصرية أو بطاقة الرقم القومي حتى الآن، وغير ذلك من الانتهاكات.

وبعد مرور شهر على تلك المذبحة الدموية المروعة لا يزال الجناة غير معروفين، وزعْم النظام أن قواته الجوية تتبعت الجناة وقصفتهم وقتلتهم لا يوجد عليه أي دليل خاصة مع عدم ذكر أي معلومات عن القتلى، وقد سبق وصرح قبل ذلك أنه قتل مجموعة من “الإرهابيين” في اشتباك مسلح، ثم تبين عن طريق فيديو مسرب أن الضحايا مقبوض عليهم سلفاً من بيوتهم ومقار عملهم، ثم أحضرتهم قوات الجيش وأعدمتهم ميدانياً ووضعت أسلحة بجانبهم، ثم التقطت الصور كأنهم “إرهابيون” قد قتلوا في اشتباكات مع قوات الجيش المصري[23].

تكررت هذه الحوادث عدة مرات، أن يصرح المتحدث الإعلامي العسكري بقتل مجموعة من “الإرهابيين” ثم يتبين أنهم مختفون قسرياً ومعتقلون في أماكن مجهولة منذ عدة شهور، مما يبدو أنه كبش فداء لفشل الجيش الأمني في سيناء، حتى يظهر المعركة أنها متوازنة.

إن رواية النظام الرسمية بتعقبه للجناة وقتلهم، رواية مشكوك فيها، فلو فرضنا جدلاً أن النظام قد قتلهم، فمن هم؟ ما أسماؤهم؟ إلى أي محافظة ينتمون؟ ومع أي تنظيم أو أجهزة يعملون؟ هل حدث جلل كبير كهذا قُتل فيه أكثر من ثلاثمائة إنسان وأصيب أكثر من مائة، ألا يستحق أن يُوضح للرأي العام هوية مرتكبيه؟ أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟

وينطبق منطق كبش الفداء الذي يتعامل به النظام على حادثة إعدام خمسة عشر من أهالي سيناء في 26 من الشهر الجاري بحكم من محكمة عسكرية، وقد جاءت تلك الإعدامات بعد هجوم مسلح استهدف وزيري الدفاع والداخلية بمطار العريش أثناء زيارتهما لشمال سيناء، والذي أسفر عن مقتل ضابط وإصابة آخرين وتدمير جزئي لطائرة مروحية، وقد أعلن تنظيم “ولاية سيناء” مسؤوليته عن العملية.

فجاءت الإعدامات فيما يبدو كرد على استهداف قوات الجيش بسيناء، رغم أن المتهمين بحسب حقوقيين قد قبض عليهم في وقت لاحق للواقعة المدانين بها في 2013، ولا يعرف بعضهم بعضاً، سوى اثنين أشقاء واثنين أبناء عم، والقضية ليس بها أحراز، وليس بها سوى تحريات المخابرات[24]. ولم يسمح لذوي المتهمين بمقابلتهم قبل إعدامهم كما ينص قانون الإجراءات الجنائية في مادته 472، بل فوجئوا بخبر إعدام أبنائهم، وقد أدان إعدامهم العديد من المنظمات الحقوقية[25].

ومما يثير الشكوك حول مسؤولية النظام عن هذه مذبحة الروضة التغافل الإعلامي عن الحادث، فـ”منذ بداية الحادث وجميع نشرات القناة الأولى في التلفزيون المصري الحكومي تخلو من الإشارة إلى قسوة الفظائع التي ارتكبها مجرمو حادث مسجد الروضة، بل وتخلو حتى من عرض شهادات الناجين أو المصابين أو شهود العيان (نشرتا الجمعة يوم الحادث 5م و 9م، ونشرات السبت اليوم التالي 12 منتصف الليل و 12ظ  و5م و9م وكذلك نشرات الأحد 26 نوفمبر  12منتصف الليل و 12ظ و 2ظ و 5م و 9م) – والاستثناء الوحيد كان فيديو مدته أقل من دقيقة في نشرة التاسعة مساء الأحد 26 نوفمبر لطفل مصاب في المستشفى و كلمات والدته التي استشهد زوجها في الحادث”[26].

 

الخلاصة

النظام المصري مسؤول بصورة أو بأخرى عن تلك المذبحة البشعة، وأن هناك تعتيماً يبدو أنه مقصود على هذه المجزرة التاريخية، على مستوى أجهزة الدولة المختلفة، الجيش والشرطة والإعلام وغيرها. حتى على صعيد محاسبة المسؤولين نرى أنه لم يُعاقب أو يُعزل من منصبه أحد بسبب هذه الخسارة البشرية الهائلة. في ظل احتمال تكرار تلك الفاجعة مرة أخرى، فما الذي يمنع تكرارها ما دام لم يحاسَب أحد، ولم يعاقَب ولو مسؤول واحد، ولم يكشَف الجناة؟

حادث بهذه الدموية حال وقوعه في دولة أخرى من شأنه أن يكون في دائرة الضوء باستمرار، ويتصدر الصحف دوماً، وتُحدّث معلوماته ونتائج التحقيق فيه للرأي العام كل مدة زمنية محددة، إلى أن يُكشف الجناة، وعند ذلك تُنشر أسماؤهم وعناوين سكنهم، ووظائفهم، وإلى أي جهة ينتمون، وغير ذلك من التفاصيل.

ولكن الذي حدث في الواقعة التي بين أيدينا هو العكس تماماً، مجرد تعويضات ووعود تكررت كثيراً دون تنفيذ بالقضاء على الإرهاب، مع أخبار مبهمة بالقضاء على مرتكبي الحادث، دون أن يعرف الرأي العام من هم وإلى أي جهة ينتمون، مما يلقي بظلال من الشك على تلك الروايات الصادرة عن المتحدث العسكري الرسمي، ومما يغري البعض أيضاً باتهام النظام بالمسؤولية المباشرة عن الحادث نتيجة غياب الشفافية، فلم تعد تكفي مزاعم رأس النظام أو الإعلام التابع له بكون الإرهاب أصبح طبيعياً وموجوداً في كل بلاد العالم، وأن “مصر تواجه الإرهاب نيابة عن المنطقة والعالم كله”[27].

فالنظام في الحقيقة لا يواجه الإرهاب كما ينبغي وكما تواجهه الدول الأخرى، ولا يعد ذلك سبباً لتبرير الفشل المتكرر بصورة مذهلة، فبعد مذبحة مسجد الروضة حدثت هجمات على قوات الجيش التي من المفترض أنها مَن ستقضي على هذا “الإرهاب” في ثلاثة شهور، أبرز تلك العمليات كانت محاولة اغتيال وزير الدفاع ووزير الداخلية بمطار العريش، واغتيال الحاكم العسكري بمدينة بئر العبد، العقيد أركان حرب أحمد الكفراوي إضافة إلى المقدم محمد البشير وخمسة جنود[28]، وذلك في نفس المدينة التي يوجد بها مسجد الروضة أيضاً.

لقد “أمر” السيسي عقب مذبحة مسجد الروضة  بالقضاء على الإرهاب في غضون ثلاثة أشهر وأنه سيرد بقوة “غاشمة”، الأمر الذي لم ينجح فيه طيلة أربع سنوات، فالمتوقع أن سيناء ستشهد حالة من التوتر المتزايد، حالة تجعل المحافظة مرشحة للإصابة بحوادث مأساوية جديدة، في ظل فشل على الصعيد السياسي والأمني، وفي ظل انتخابات رئاسية على الأبواب يسعى النظام من خلالها إلى تثبيت أركانه بشكل أقوى، وفي ظل ترتيبات تجري على قدم وساق لن تكون فيما يبدو في صالح القضية الفلسطينية، وذلك لإيجاد تسوية ما لها، لن تكون في الغالب سيناء بعيدة عنها.

لا تزال الخطوات التي تجعل سيناء آمنة معروفة، تعميرها وتنميتها، واحترام حقوق أهلها، وتعويض أهلها عما صدر ضدهم من انتهاكات واستلاب لحقوقهم، وضبط الأمن بها، وتمليك الأراضي والعقارات لأهلها، وبقية الإجراءات التي لا يتوقع المضي فيها بجدية في عهد النظام الحالي، مما ينبئ بتفريخ متجدد للحانقين على النظام، بعضهم لن يتوانى عن الانضمام إلى أي تجمع مسلح مناوئ له، وهو الأمر الذي يصب بدوره في استمرار حالة الفوضى وعدم الاستقرار.

وأخيراً تظل جميع السيناريوهات السالف ذكرها محتملة لتحديد المسؤول المباشر عن ارتكاب هذه المذبحة المروعة، ولكنها كلها لا تعفي مسؤولية الدولة المصرية الأمنية والسياسية.. على أقل تقدير.

 

 

[1] “ارتفاع عدد شهداء الروضة لـ 312 شخصًا بعد وفاة مُصاب بالإسماعيلية”، موقع مصراوي، 17-12-2017م، “استشهاد آخر مصابى الهجوم الإرهابى على مسجد الروضة متأثرا بإصابته”، 31-12-2017، موقع اليوم السابع.

[2] وفق شاهد العيان الثاني في مقابلة مع “بوابة أخبار اليوم”.

[3] وفق شاهد العيان مجدي رزق، وأحمد عمر. ومحمد عمر سيد ومحمد عبد الفتاح رزيق إمام وخطيب مسجد الروضة.

[4] وفق شاهد العيان محمد عمر سيد .

[5] وفق شاهد العيان الثالث في مقابلة مع “بوابة أخبار اليوم”.

[6] يوتيوب: شاهد عيان يروى كيف قتل ابنه أمام عينه في مسجد الروضة بالعريش، ٢٤-١١-٢٠١٧م.

[7] تصريح لغادة والي، وزيرة التضامن الاجتماعي، جريدة الوطن، 28-11-2017م.

[8] عيد أبو جرير، موسوعة ويكيبيديا. وصورته المرفقة بنفس المصدر.

[9] جريدة النبأ، التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، العدد 58، ص8.

[10] الوفد، 22-ديسمبر2017.

[11] وكالة أونا، 18-12-2017م.

[12] الفجر، 25-12-2017.

[13] إصدار “نور الشريعة”، تنظيم ولاية سيناء، موقع أركايف.

[14] مجلة النبأ، العدد الثامن والخمسين.

[15] مدى مصر، 28-11-2017م

[16] يوتيوب: تفاصيل مذبحة مسجد الروضة بالعريش ، على لسان أحد الناجين، ٢٤-١١-٢٠١٧م.

[17] “الفقي الحديث عن توطين فلسطينيين بسيناء يشير لضلوع جهات دولية بحادث مسجد الروضة“، موقع وطني، 29-11-2017م.

[18] دنيا الوطن، 14-9-2015م.

[19] بيان تنظيم ولاية سيناء رقم 15.

[20] كاتب ألماني: صفقة القرن أساسها دولة فلسطينية بسيناء، الجزيرة نت، 17-12-2017.

[21] قبائل سيناء تتوعد مرتكبي حادث مسجد الروضة، مصراوي، 25-11-2017.

[22] بحسب محمد عبد المعطي المحمد، من يقف وراء مجزرة مسجد الروضة، جريدة المدن، ٢٥-١١-٢٠١٧.

[23] ينظر تقرير منظمة العفو الدولية: فيديو عن عمليات إعدام خارج نطاق القضاء يقدم لمحة عن انتهاكات مستترة على أيدي الجيش في شمال سيناء، 21-4-2017.

[24] عربي21، 26 ديسمبر 2017م.

[25] مدى مصر، 26 ديسمبر 2017م.

[26] محمد أحمد أبو أحمد، جريمة مسجد الروضة قد تتكرر، أوبن ديموكراسي 13-12-2017.

[27] سبوتنيك عربي، 24-11-2017.

[28] العربية نت، 28-12-2017.

زر الذهاب إلى الأعلى