من أزمات المعرفة ومراكز البحوث والتواصل: عزل مصادر المعرفة وتجفيف بعدها الإنساني
إن الانفتاح وتحصيل العلوم المعرفية أعمق من مجرد عملية مسح للمعلومات والتقاط للأفكار من مصادرها، ثم السير بها إلى جهة أخرى لتسخيرها دون توقف وبحث مع أو في منبعها، فهذا جزء محدود وشائع من البحث المعرفي، وقد يكافئ مستوى “الترجمة” المسخرة فقط.
لا يمكن أن تنضج المعرفة بطريقة محدودة جافة بعيدًا عن غلافها الكامل، واعتبار ظروف نشأتها ومتعلقاتها البحثية “وإنسانية المعلومة”، وكأنها معرفة صحفية خبرية على شكل الجرائد اليومية.
غالب مراكز الأبحاث في الشرق الأوسط، تعمل بطريقة الالتقاط وتهجين المنسوخ ثم إحالته إلى باحث آخر – قد يكون اسمًا لامعًا يستكتب – كفكرة أو مادة مهمة ليعاد طرحها بغلاف جديد، بدلا من التعب المعرفي ومناقشة مصدرها الأساس وأبعاد متعلقات المعلومة من حيث انقدحت وتمخضت وتغذت.
حينما نتصرف كذلك، فنحن نقطف زهرة من بستان ثم نحاكيها أو نستنبتها بعيدًا عن بيئة فلاحتها وظروف نموها، ثم نظن أن ذلك انفتاح معرفي وعملي كافي.
لقد كان العلماء الجهابذة يرحلون إلى أصحاب المذاهب والعلوم والروايات ويتلقونها عن أعلى سند ما تيسر ذلك، ليتعلموا “علمًا حيًّا” مع بعده “الإنساني التربوي” ثم يقيدونه بالكتابة، ولم يشتهر بينهم عالم تعلم من الكتب المجردة، وكانوا يسمون ذلك “بالمطالب العالية” ويتجنبون “أصحاب الأصحاب” إذا تيسر.
فمثلاً تجربة اكتشاف الطيران، عند تناولها تناولًا بحثيًا ومعرفيًا صحيحًا ينبغي أن لا تأخذ شكل مجرد جمع ملخصات من المجلات العلمية والكتب ثم تحليلها، بل يجب الولوج إلى الجانب الإنساني لرحلة “عباس ابن فرناس” في اكتشافه الذي امتزج بالعامل الإنساني، وكيف وصل به التفكير والخيارات لتجربته مع ما رافقها من تحديات كادت أن تودي بحياته، وهكذا ننتقل إلى محطة “دافنشي” ثم ما بعده مع المحافظة على أصالة منبع المعلومات وعلو سندها ما أمكن … فما سيخبرك به دافنشي أو غيره عن تجربة ابن فرناس ليس أصيلاً أو مكتملاً بالضرورة.
كنت يومًا ما أستمع للبروفيسور سورينسون في واشنطن على مقعد الدراسة – خدم في وزارة الدفاع – وهو يشرح نظرية “توزيع الأحمال الهندسية”، ثم قال: لقد أخذت النظرية من فم الفَرس؛ أي من مخترعها.
وبدأ يشرح لنا كيف طور طريقة الحلِّ، وما يسمى بفلسفة الحلِّ وليس تكنيك الحلِّ، بحيث لو غيرت وعقدت الشكل الهندسي أو التحدي الواقعي ولو كان سياسيًّا أو فقهيًّا، فستستطيع أنْ تحلَّ المسألة، وهذا شبيه بما سمي بعلم “العلل” وقبله “أصول الفقه”، دون نزع “مقاصد الشريعة” عنها والتي بدورها تمثل “البعد الإنساني” في التنزيل الشرعي الأعلى الحاكم لكل فروع الشريعة وعلومها والمعرفة، أي “حفظ الضرورات الخمس” التي بدورها تراعي وضع الإنسان المكلف عند “وضع الحكم” كالإكراه والموانع البشرية.
ما ذكره لنا البروفيسور سورينسون عن ظروف إطلاق ومتعلقات وحلِّ النظرية الهندسية التي أخذها عن صاحبها مباشرة، يقينًا لن نجده في آلاف الكتب التي ذكرت ذات النظرية والحلَّ.
لم يغب ذلك عن “الشاطبي” في عملية الاستقراء العظيمة لمسارات الشريعة العامة “ومقاصدها العليا”، واستطاع ربطها كعلوم ومعرفة بإنسانية الإنسان السوي بالهدي الرباني. هذه الأبعاد المعرفية بهذه الاعتبارات ثبتت (البعد الأخلاقي) المعرفي، وهذا تميز إسلامي حضاري قيمي خاص.
لنا أن نمضي في أي مشروع كمشرع “أسلمة المعرفة”، كما فعل مثلاً المعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن 1981، لينتهي إلى تقريبًا “لا شيء”، بعد عقدين ونيِّف، رغم الميزانيات المفتوحة الخيالية والطاقات الكبيرة وكثرة مصادر المعلومات، والسرُّ في الإخفاق كان في ضعف التواصل مع البعد الإنساني في الشارع المسلم والنخبوية الشديدة حتى فوق المثقفين.
علينا أنْ نلاحظ أننا بغير توقف حقيقي أو إدراك جازم، نعمل (كثيرًا) بهياكل وأدوات جامدة أو سبقتها “الأجيال”، وعقلياتنا تحتاج للتفكيك، فهي “مرهقة” بهواجس شبه نفسية، ونظرات “تحديدية لا شعورية” في التعامل والتواصل مع المحيط الإنساني المعرفي الهائل بشريًّا، حاملين معنا الأفكار بنظرة تتعنى الجانب المادي (أحيانًا) أو حتى الهمَّ المعيشي.
الوضع الصحيح، لا بد أن يكون العكس تمامًا… وذلك حينما نعيد للمعرفة بعدها “الإنساني والشعوري”، حتى في المعرفة المادية والتحليلة أو التاريخية، وهذه وسيلة للتأكد أيضًا من (أخلاقية) أغراض البحوث والمعرفة، وخذ مثالًا “تجارب الكورونا”.
على الباحثين كخطوة أولى كلَّما تيسر أن يستنطقوا منابع “التجارب” والمعرفة مباشرة، فهي تملك “ملابسات المعلومة” وظروفها ومحيطها وبعدها الإنساني، وليس الاكتفاء بالتقاطها كخبر وحكمة ومعلومة أو إحالتها إلى خبير آخر … كمن يأتيك “بدليل تشغيل” سيارة فورد ثم يحيله إلى خبير من شركة كرايزلر ليشرحه لكونه صاحب سنوات خبرة أكثر، أو أقرب شخصيًّا.
هذا المبدأ في المعرفة هو أساس علمي عظيم يسمى:
Know How
لذلك إذا أردنا أن نصمم تصميمًا، فعلينا أن نذهب إلى صاحب “النو هاو”، فعنده كل مراحل البحث وطرق تسخيره والمواءمة والتعديل “والمحاذير” أكثر من غيره.
بداية المخرج :
من الصعب على جيل الكبار منا أن يعدل كثيرًا وسريعًا في طريقة التعاطي المعرفي وما سبق، كوننا لم نتربَّ على هذا البعد كممارسة، وبات داخلاً في بنيتنا اللاشعورية نوعًا ما إلا بالتطويع المستمر
لكن حتما نستطيع أن نفعل أمرين هما :
– تكريس النظرة الصحيحة للتواصل المعرفي في تربيتنا للجيل الجديد والتدريب على ذلك.
– تسريع عملية الإبدال والإحلال بيننا وبين الأجيال، وتمكينهم من حيز أكبر بكثير في الإدارة والتنفيذ.
بهذه الطريقة نستطيع كسر عوائق التواصل المعرفي والإنساني خصوصًا الإسلامي البيني.
من الواضح أن “مراكز البحث” “والهيئات العلمية” التي انتشرت بكثرة في محيطنا، تحتاج في حاضرنا إلى أن تبرر مدى فاعلية وجودها، حتى لا تكون أشبه بمراكز الترجمة والتجميع أو نسخ منغلقة تسجل نفسها كمكاتب تمثيلية حضورية، أو كصالونات ووسائط علاقات فكر عامة ناهيك عن جبرية تموقع العديد من (الهيئات العلمية والدعوية) تحسسًا أو حتى لاشعوريًّا، ميلاً للتكتل النفسي المريح أو ما يسمى بمسافة الأمان النفسي، وهو الذي استطاعت أن تكسره (جماعة الدعوة والتبليغ) من خلال تطبيقها القوي لمفهوم “التواصل الإنساني والمعرفي المباشر” عمليًّا في الشارع العام الواسع والذي يتطلب كثيرًا من نكران الذات والبساطة في التعامل الدعوي والنفسي مع الناس. هذا كله بغض النظر عن بعض حرفيات بروتوكلاتها ومحدودية أهدافها إلا أنها كجماعة هي الأكثر انتشارًا ووصولًا وعملاً ميدانيًا في العالم الإسلامي، حتى لو لم نستقصِ ذلك بسبب عزلتنا اللاشعورية عن الواقع التي قد تغذيها بعض النخبوية أحيانًا.
بقي أن أقول إن البروفيسور سورينسون العسكري كان معروفًا بغلاظته مع المسلمين، وعنَّفني ذات مرة حينما غفيت لبرهة… رغم ذلك كنت أجلس مقابله في أول الصف، لأنني تعلمت أن أواجه المخاوف حتى لا تبقى فوق كاهلي، فالتواصل يكسر حواجز المعرفة والشخوص.
نعم… نحن المسلمين أحرى بكسرها.
إن كنت أيها الفاضل ظننت أنك فهمتني، لطفًا أعد القراءة فهناك معانٍ متوالدة.
والحمد لله رب العالمين