اللغةُ والهُويَّة بين الاستلاب الحضاري واستعادة الوعي (1)
أولاً: مقدمةٌ في تمايز الهُويات الحضارية ومشتركاتها
في إحدى قرى داغستان سَمِعَ رسول حمزاتوف- صاحب رواية بلدي- امرأتين تتلاعنان؛ قالت إحداهما:
– ليحرِم اللهُ أطفالَكِ مَن يستطيع أن يعلمهم اللغة!!
فَرَدَّتْ الأخرى:
– بل ليحرم اللهُ أطفالَكِ من يستطيعون أن يعلموه اللغة!!
كانت هذه اللعنة- كما يقول حمزاتوف- أرهب لعنة سمعها في لعنات أهالي الجبال!!
يذكر رسول حمزاتوف أيضاً أن الشاعر الداغستاني أبا طالب ذهب مرةً إلى موسكو، وفي الشارع اضطر أن يسأل عن السوق، وكان أن صادف رجلاً انكليزياً فسأله؛ فلم يفهم الانكليزي أبا طالب؛ فأخذ يستفسر منه بالإنكليزية، ثم بالفرنسية، ثم بالإسبانية.. حاول أبو طالب أن يتفاهم معه بالروسية أولاً، ثم باللاكية، ثم بالآفارية، فالليزغينية، فالدرغينية، فالكومية.. ثم افترقا دون أن يفهم أحدهما الآخر.. أحد الداغستانيين الذين سمعوا الحوار قال لأبي طالب: أرأيتَ قيمة الثقافة يا أبا طالب لو كنتَ مثقفاً أكثر لاستطعت التحدث مع الانكليزي، رَدَّ أبو طالب: ولكن لماذا يجب أن يحسب الإنكليزي نفسَه أكثر ثقافة مني، فهو بدوره لم يكن يعرف أية لغة من اللغات التي حدثته بها!!
***
اللغةُ بذرة الكينونة الأولى وأقدم تجليات الهُوية؛ فكأن العلاقة بين اللغة وأصحابها علاقة وجود وكينونة يتحقق الوجود الحضاري والثقافي بها ويمتنع بعدمها.. وفي القصتين السابقتين تتجلى معان كثيرة عن الكينونة الأولى، والهوية الجامعة، والخصوصية الحضارية، والمشترك الإنساني، وكل هذه المعاني تكاد تجعل من اللغة عنواناً أو جذراً مؤسساً للوجود والهُوية باعتبارها مستودعاً أميناً يختزن مقومات الانتماء وملامح الذات؛ ليحفظ أصحابها من الذوبان في الآخر خلال عملية التفاعل الإنساني حاضراً ومستقبلاً.
ولهذا فإننا نزعم أن اللغة- بما حَمَلَت من أصحابِها وبما حَمَّلت أصحابَها من حمولات ثقافية واجتماعية ودينية ونفسية- هي جذرُ التمايز الأول الذي يساعد الباحثين في معرفة حدود الخصوصية الحضارية لأمة من الأمم ومدى تماهي هذه الحدود مع خصوصية الأمم الأخرى من خلال المشترك الإنساني العام.
المشترك الإنساني والخصوصية الحضارية:
تُمثل الحضارات الإنسانية المختلفة حلقة واحدة في قصة الوجود البشري منذ الإنسان الأول وحتى الإنسان الأخير؛ فكما يَرِثُ الأبناءُ الآباءَ ترثُ الحضارات الحضارات.
ولأنه ليس بالضرورة أن يطابق الأبناءُ الآباءَ؛ فكذلك الحضارات تتعدد ولا تتطابق، وتتمايز ولا تتماثل؛ فتنفرد كل واحدة عن الأخرى بخصائصها الذاتية التي لا تعني بالضرورة أفضليتها على غيرها أو أفضلية غيرها عليها؛ فكأن الحضارات الإنسانية جميعها حبات عقد مختلف ألوانه وأشكاله ينظمها خيطٌ واحدٌ دقيق يؤلف بينها ويجمع أشتاتها؛ كتلك الجينات الوراثية التي تنتقل من الآباء إلى الأبناء؛ فَتَسِمُ الأجيال بميسم واحد وبصمة وراثية واحدة رغم اختلاف نتاجها من الجد إلى الحفيد، ومن الأب إلى الابن.
ومِن هُنا فإنه ليس ثمة حضارة كبرى في التاريخ جاءت قواعدها وأصولها الأولى خالية من تأثير غير أهلها عليها، بل لا يمكن بحال أن تكون البُنى التحتية- مادية كانت أو معنوية- لحضارةٍ ما خالصة لأصحابها؛ لأن هؤلاء لابد لهم من نسقٍ سابق يسيرون عليه ويقلدونه، ثم يزيدون على ذلك النسق ما يبتدعون من ذواتهم وأفكارهم، وما تدفعهم احتياجاتهم لاختراعه وإنشائه؛ بعضُه على مثالٍ سابق وبعضُه على غير مثال؛ ولكنه خاضع لقانون التطور والتدرج الابتكاري حتى يجتمع لهم من إضافاتهم نسقٌ خاص يعرفون به ويعرف بهم.. وحينئذٍ تُسمى حضارتهم باسمهم.
ونحن لو قُدِّرَ لنا أن نعرف الحضارة الأولى في التاريخ الموغل في القدم لما خرجت كيفيةُ تَكُّونِهَا عن هذا الذي ذكرناه. وإذا صح أن الإنسانية الأولى كانت بدائية بلا معارف أو علوم؛ فإن هذا التطور الإنساني الكبير لا بد أنه جاء نتيجة تراكم الخبرات وتراتب المعارف وتعدد التجارب التي أنشأت على مر القرون الحضارةَ الأولى التي قطف أهلُها ثمارَ تلك الخبرات والمعارف والتجارب السابقة ليهذبوها بعد ذلك ويستخلصوا منها أسس حضارتهم الأولى ، ثم يَسِمُوهَا بِمَيْسِمهم الخاص.
فالجميع إذن مشارك في الفعل الحضاري- أخذاً وعطاءً- فلا الآخذ اكتفى بالأخذ دون العطاء، ولا المعطي اكتفى بالعطاء دون الأخذ، وإنما هي سنة التبادل الحضاري بين الأمم والشعوب.. وهذا ما يؤكده روث بيندكت بقوله :” إن التاريخ لا يمكن كتابته كما لو كان ينتمي إلى جماعة واحدة من الناس، والحضارة تم بناؤها تدريجياً نتيجة مساهمات إحدى الجماعات في وقتٍ ما، وجماعات أخرى في أوقات أخرى”.([1])
ولأن الأمم والشعوب ملأت قديماً وحديثاً أقطار الأرض فإننا لا نكاد نجد إقليماً من أقاليم المعمورة لم يعرف شكلاً معيناً من أشكال الحضارة بمعناها الواسع القائم على استنباط واختراع الأدوات التي يحتاجها الناس في معايشهم؛ مِنْ رغيف الخبز إلى القلاع العظيمة، مروراً بالأواني الفخارية والمُدى الحجرية.([2])
فلا فضل إذن لإقليم على إقليم أو جنس على جنس، وإنما التفاضل يكمن في قوة التأثير في مسيرة التاريخ والقدرة على إحداث فروق واضحة لم تكن موجودة من قبل.
والنظريات التي تقصر الحضارة على أجناس خاصة- معتمدة على لون البشرة واعتدال المناخ .. وغيرها من المؤثرات- لا يمكن أن تُقبَلَ عقلاً، وهي وإن قُبِلتْ في فترة تاريخية معينة فإن استمرار قبولها غير ممكن؛ لأن الحضارة بطبعها متنقلة متغيرة تبعاً لسنة التداول الكونية، وليس بعيداً أن يستلم رايةَ الحضارة ذات الجنس الذي قامت نظرية ما على اعتباره غير قابل للتحضر لقسوة مناخه- حرارةً وبرودةً-ولون بشرته.
وقد استطاع أبو حيان التوحيدي أن ينفذ إلى لب القضية عندما سُئل في الليلة السادسة من ليالي كتابه (الإمتاع والمؤانسة) عن رأيه في العرب والعجم أيهما أفضل؟؛ فقال:” الأمم عند العلماء أربع: الروم، والعرب، وفارس، والهند، وثلاثٌ من هؤلاء عجم، وصعبٌ أن يقال: العربُ وحدها أفضل من هؤلاء الثلاثة مع جوامع ما لها وتفاريق ما عندها”.([3])
فانظر إلى تحرز أبي حيان وإشارته إلى صعوبة تفضيل أمة واحدة على أمم مجتمعة تجمعها (جوامع) عامة بينها، وتُميّزها (تفاريقُ) خاصة بها، وهذا الاحتراز دفعه للتفصيل والتأصيل في قضية” من أمهات ما تدارأ الناس عليه وتدافعوا فيه، ولم يرجعوا منذ تناقلوا الكلام في هذا الباب إلى صلح متين واتفاق ظاهر.”([4])؛ فأوضح أن لكل أمة فضائل ورذائل، ولكل قوم محاسن ومساوئ، ولكل طائفة من الناس في أمورِهَا كمالٌ وتقصير؛ وهذا يقضي بأن الخيرات والفضائل والشرور والنقائض مُفَاضةٌ على جميع الخلق مفضوضةٌ بين كلهم.([5])
ثم أخذ في تعداد ما امتازت به كل أمة كبرى في زمنه من ميزات وخصائص فجعل للفرس السياسة والآداب والحدود والرسوم، وللروم العلم والحكمة، وللهند الفكر والرؤية والخفة والسحر والأناة، وللترك الشجاعة والإقدام، وللزنج الصبر والكد والفرح، وللعرب النجدة والقِرى والوفاء والبلاء والجود والذمام والخطابة والبيان.([6])
وهذه الخصائص والميزات ليست قواعد ثابتة وأسساً لازمة لأفراد هذه الأمم رجالاً ونساءً، ولكن أبا حيان يقيس على المشهور في زمنه والمعروف في وقته، ولا يبعد أن تختلف هذه الخصائص مع اختلاف الأزمنة وتقادم العهود؛ ولهذا يقول: ” ثم إِنَّ هذه الفضائل المذكورة في هذه الأمم المشهورة ليست لكل واحد من أفرادها؛ بل هي الشائعة بينها، ثم في جملتها من هو عارٍ من جميعها، وموسوم بأضدادها، يعني أنه لا تخلو الفرس من جاهل بالسياسة خالٍ من الأدب داخلٍ في الرعاع والهمج، وكذلك العرب لا تخلو من جبانٍ جاهلٍ طياش بخيلٍ عيي، وكذلك الهند والروم وغيرهم؛ فعلى هذا إذا قوبل أهل الفضل والكمال من الروم بأهل الفضل والكمال من الفرس، تلاقوا على صراط مستقيم، ولم يكن بينهم تفاوتٌ إلا في مقادير الفضل وحدود الكمال، وتلك لا تخص بل تلم. وكذلك إذا قوبل أهل النقص والرذيلة من أمة بأهل النقص والخساسة من أمة أخرى، تلاقوا على نهج واحد ولم يقع بينهم تفاوت إلا في الأقدار والحدود، وتلك لا يُلتفت إليها ولا يُعار عليها؛ فقد بان بهذا الكشف أن الأمم كلها تقاسمت الفضائل والنقائص باضطرار الفطرة واختيار الفكرة، ولم يكن بعد ذلك إلا ما يتنازعه الناس بينهم بالنسبة الترابية والعادة المنشئية والهوى الغالب من النفس الغضبية والنزاع الهائج من القوة الشهوية”.([7])
قاعدة الإقبال والإدبار في علم الحضارات:
ثم يؤصل أبو حيان لقاعدة ذهبية في علم الحضارات وهي ما يمكن أن نسميها قاعدة (الإقبال والإدبار) حين تتهيأ الظروف والعوامل لحضارة بعينها لتعلو وتتمكن، حتى تصبح كأنها قدرٌ غالب وقضاء نافذ لا مرد له.. يقول:” وهَاهُنا شيء آخر، وهو أصل كبير لا يجوز أن يخلو كلامنا من الدلالة عليه والإيماء إليه، وهو أن كل أمة لها زمان على ضدها، وهذا بين مكشوف إذا أرسلت وهمك في دولة يونان والإسكندر لما غلب وساس وملك ورأس وفتق ورتق ورسم ودبر وأمر وحث وزجر ومحا وسطر وفعل وأخبر، وكذلك إذا عطفت إلى حديث كسرى أنوشروان وجدت هذه الأحوال بأعيانها، وإن كانت في غُلف غير غلف الأول، ومَعَارض غير معارض المتقدم؛ ولهذا قال أبو مسلم صاحب الدولة حين قيل له: أي الناس وجدتَهم أشجع؟ فقال: كل قوم في إقبال دولتهم شجعان. وقد صدق؛ وعلى هذا كل أمة في مبدأ سعادتها أفضل وأنجد وأشجع وأمجد وأسخى وأجود وأخطب وأنطق وأرأى وأصدق، وهذا الاعتبار ينساق من شيء عامٍ لجميع الأمم، إلى شيء شاملٍ لأُمةٍ أمة، إلى شيء حاوٍ لطائفةٍ طائفة، إلى شيء غالبٍ على قبيلةٍ قبيلة، إلى شيء معتادٍ في بيتٍ بيت، إلى شيء خاص بشخصٍ شخص وإنسانٍ إنسان . وهذا التحول من أمة إلى أمة يشير إلى فيض جود الله تعالى على جميع بريته وخليقته بحسب استجابتهم لقبوله، واستعدادهم على تطاول الدهر في نيل ذلك من فضله”.([8])
وهذا الكلام نفيسٌ في بابه ؛ فهو يحفظ دارسي علم الحضارات من الوقوع في التعميم والسطحية؛ فليس هناك أمة أفضل من أمة ولا حضارة أحسن من حضارة، وإنما هو إقبال وإدبار ونهوض وسقوط، والمفاضلة تكون في اتساع المنفعة وعموم الخير وقوة المبادئ، والقياس يكون بين أمتين في زمن واحد (الإقبال أو الإدبار)، ولا يجوز بحال أن نقارن وقت إقبال حضارة ما بوقت إدبار حضارة أخرى؛ لأن في ذلك ظلم بَيِّن وسطحية علمية. ومثال ذلك أن نقيس الحضارة الغربية في هذا الزمن بالحضارة العربية في هذا الزمن أيضاً، وشتان بين العلو والازدهار والنهوض في الأولى، وبين السقوط والانهيار في الثانية، وإنما الأَوْلَى أن نقيس أوليات الأولى بأوليات الثانية، ونهايات الأولى بنهايات الثانية؛ لنعرف بعد ذلك مدى ما قدمته الحضارتان من خير ومنفعة للبشرية، ويكون الميزان بذلك صحيحاً سليماً.
وكلمة أبي مسلم الخراساني فارقة في هذا الباب؛ فأهل كل حضارة في بداية أمرهم وأوائل قوتهم ومبادئ عزهم؛ يكونون أشجع وأقوى وأفضل وأسخى وأجود، حتى كأن الفضائل كلها خُلقت لهم ووجدت بهم، بينما تنحسر هذه الفضائل عن غيرهم الذين كانوا في بدايات أمرهم أشجع وأقوى وأفضل أيضاً. وليس معنى هذا خلو أفراد الحضارة الآيلة للسقوط من الفضائل، بل معناه أن شعلة الحضارة بهتت في نفوسهم وقلوبهم؛ فلم تعد فضائلُهم التي تحلى بها آباؤهم تعني لهم أكثر من أحاديث يفاخرون بها وماضٍ يعيشون عليه ولا يستلهمونه، وكأن الزمن يعرف منهم هذا فيصد عنهم ويُيمم وجهه شطر غيرهم ممن هم أفتى وأقوى وأنضج وأكثر استعدادا. وهذه سنة كونية أشار الله جل وعلا إليها في قوله:” وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ” .
وعليه؛ فإن البناء المعرفي للحضارات هو بناء إنساني مشترك أسهمت فيه الأمم جميعها بنصيب ما؛ فكأنه قطار بشري واحد ترادفت عرباته بعضها وراء بعض، وتسلم قيادها في كل عصر من العصور إحدى هذه الأمم التي استجمعت أسباب القيادة مادية كانت أو معنوية.
وقد أصبح من المُسَلَّم به الآن في أوساط الدارسين والمشتغلين بقضايا التراث الثقافي والحضاري الإنساني أنه ليس ثمة جنسٌ أفضل من جنس ولا عِرق أعلى من عرق، وأن الحضارة الإنسانية ليست سوى نتاج لتفاعل إنساني عام ترابطت حلقاته واكتملت عناصره من خلال إسهامات الإنسان قديماً وحديثاً؛ فهي صرح إنساني كبير اشترك البشر جميعاً في وضع لبناته ، رغم تمايز اللبنات الذي أنتج اتزان البناء.
والقول بالحضارة الخالصة أو الحضارة النقية أو الحضارة الإنسانية الواحدة يشبه القول بأفضلية عِرقٍ على آخر، وهو تعصب مقيت وعنصرية جاهلية لا تستند على أساس علمي راسخ؛ فما من أمة من الأمم أو حضارة من الحضارات إلاَّ وتجمعها روابط تاريخية أو عرقية أو ثقافية مع حضارات أخرى، وقد أدت هذه الروابط إلى تنامي الرصيد الثقافي المشترك الذي يخضع لتطوّرات الزمن وتقلبات العلاقات؛ ليصبح العالم- تبعاً لذلك- منتدى حضارات كبير، تَتَفاعَلُ فيه كلّ حضارات الأمم والشعوب مع تمايز كلّ منها في الخصوصيات المرتبطة بالعقيدة والثقافة والإضافات الحضارية المتباينة؛ مما يدل على أن الحضارة تيار عام دائم التدفق والانتقال من إقليم إلى إقليم.
وقد أكد أزوالد شبنجلر رفضه لنظرية الحضارة الإنسانية الواحدة في قوله:” إن الرأي القائل بحضارة إنسانية واحدة تسير في خط مستقيم ينقسم إلى عهود قديمة ومتوسطة وحديثة؛ رأي صادر عن العقلية الأوروبية الغربية المحدودة ضمن أفقها المحدود، والمعجبة بإنجازاتها، والتي تحصر الحضارة في ذاتها وتنصرف عن الحضارات الأخرى، وتنظر إلى تطورها وكأنه تطور الإنسانية بكاملها وإلى عهودها الحديثة وكأنها أواخر مراحل التقدم أو خاتمتها”.([9])
والعالم لا يمكن أن يكون وطناً حضارياً واحديَّ الرؤى والمعتقدات، ولا يمكن أن يكون أيضاً حضارات منعزلة تماماً ومكتفية بذاتها؛ بل هو كلوحة الفسيفساء الذي يكمن جمالها في تغايرها وتمايزها وتعدد ألوانها وأطيافها، وهي مع ذلك لوحةٌ واحدة يربط بينها خيط من الجمال دقيق.
الخاص والعام في الفكر الإنساني:
والفكر الإنساني فيه ما هو أشبه بالماء والهواء يحتاجه كل أحد ويشترك فيه كل إنسان؛ فلا يخص حضارة بذاتها أو قومية بعينها، وفيه ما هو مرتبط بالشخصية القومية إذا انتقل إلى غيرها أصبح كالجيوش الغازية التي تفرض نهج حضارتها غزواً وقهراً وقسراً؛ فكل العلوم الطبيعية التي تدرس الطبيعة وظواهرها وتبحث في المادة وخصائصها، هي من قبيل المشترك الإنساني العام الذي يتساوى فيه جميع البشر؛ لأن مناهجها تتسم بالحياد العلمي وتقوم على أساس التجربة الملموسة بالحواس الإنسانية؛ فعلوم مثل علوم الطبيعة والرياضة والفيزياء والكيمياء والطب والجيولوجيا لا تختلف مناهجها وقوانينها باختلاف الحضارات إلا فيما يمكن أن نلمسه من تمايز النظريات والمكتشفات الخاصة بكل حضارة، أما الفكر العلمي الذي قامت عليه هذه العلوم فهو واحد لا يختلف باختلاف الأجناس والعقائد والفلسفات ولا يتغاير بتغاير القوميات والحضارات. ويلحق بهذه العلوم الطبيعية العديد من ثمرات التجارب الإنسانية في وسائل الحكم والتشريع والقضاء ومنظومات الخبرات المتراكمة، وطرائق عمل المؤسسات التي ترشد الإنسان وتحسن أداءه في سعيه الدائب إلى تحقيق غاياته ومقاصده، التي تمثل حقائقها وخبراتها العامة فكراً عالمياً مشتركاً .([10])
أما القسم الآخر الذي يدخل في صميم الخصوصية الحضارية لكل أمة فهو ذلك الذي تكون النفس الإنسانية موضوعاً لعلومه وفنونه وآدابه، وما يدور حولها من قضايا مختلفة تحمل بصمات خاصة في السياسة والاجتماع والفلسفة والاقتصاد وسائر العلوم المرتبطة بها، فكما تميزت (المادة البحتة) بالعالمية فغدت قوانينها مشتركاً إنسانياً عاماً؛ تميزت (النفس الإنسانية) أيضاً بالخصوصية الحضارية فغدت منتجاتها وعلومها وثيقة الصلة بطبائع الأمم ومعتقدات الشعوب وطرائقها في الحياة والتفكير.([11])
الخصوصية والهوية :
يعتبر مفهوم (الخصوصية) واحداً من الإشكالات التي تثير جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية، وما ذاك إلا لأن كل منظومة فكرية تعطي لمفهوم الخصوصية مضموناً يتناسب مع مقولاتها وأطروحاتها وأسسها؛ موظفةً هذا المفهوم في صراعاتها مع المنظومات الأخرى المغايرة لها في الاتجاهات والأسس. ومع غياب التأصيل العلمي لمفهوم الخصوصية انتشرت بعض الأفكار الضبابية عن هذا المفهوم واختلطت بمفاهيم أخرى ليست هي في ذاتها وإن كانت تؤدي أحياناً إليها دون أن تنطلق منها؛ فأبسط تعريفات الخصوصية هو:” التمايز عن الآخر والاتصاف بملامح ذاتية تختلف عنه”([12])، وهذا ما يجعلها تختلط بمفهوم الهُوية الذي لا يخرج عن التشخص والشخصية والذي عَرَّفَهُ ابنُ حزم قديماً في معرض حديثه عن التوحيد والتشبيه بقوله:”هو أن كل ما لم يكن غير الشيء فهو هو بعينه؛ إذ ليس بين الهوية والغيرية وسيطة يعقلها أحدٌ البتة؛ فما خرج عن أحدهما دخل في الآخر.”([13])، وهو ما لخصه جميل صليبا بقوله:” المميِز عن الأغيار.”([14]) ، وواضح من هذا المفهوم للهوية أنها تحمل ذات المضمون الفكري الذي تحمله الخصوصية، والذي يعتمد على عناصر التميز للأنا وتصوراتها عن الآخر، وعناصر الاندماج معه وفق موقع الذات الذي يحدد موقع الآخر.
والتداخل بين مفاهيم المصطلحات ليس مرفوضاً في ذاته، خاصة إذا كانت بعض المصطلحات تنبع من منبع واحد لتتفرع فروعاً شتى حسب سياقاتها الفكرية المتباينة، ثم تصب في النهاية في مصب واحد كما هو الحال مع مصطلحي(الهوية، والخصوصية) اللذين يكادان أن يُكَوِّنَا مفهوماً واحداً من حيث اتفاقهما في التعبير عن جوهر السمات والقسمات العامة التي تميز حضارة عن حضارة وثقافة عن ثقافة.
وغالباً ما تكون (الهوية) أشمل وأعمق وأكثر ثباتاً واستمرارية من (الخصوصية) التي تشكل في ذاتها مكوناً أساسياً من مكونات الهوية؛ فالخصوصية لا تعني الشخصية المتفردة كما لا تعني الهوية المتميزة؛ ولكنها أقرب إلى الوعي بالذات وحقيقتها الوجودية وما يرتبط بها من دلالات متعددة السمات والأنساق؛ فهي ليست مجرد ركام من الملامح والمعالم والصفات العَرَضية والجزئية والمؤقتة والمتنافرة التي يمكن أن توجد في مكان بعينه لجماعة بعينها، وهي ليست جينات موروثة ذات طبيعة عرقية أو عنصرية، وليست كتلة صماء لا تتطور ولا تتجدد مع الحراك المجتمعي، ولكنها منظومة متكاملة من الخصائص والسمات المادية والروحية وأسلوب الحياة والأخلاقيات والنظرة إلى العالم ورؤية الذات والآخر؛ تكونت عبر عملية تراكمية وتفاعلية ممتدة عبر الزمان والمكان في مجتمع ذي شروط طبيعية وبشرية معينة، وأتت استجابة لهذه الشروط وتجسيداً لها مجتازةً الكثيرَ من الاختبارات ومواجهة الكثير من التحديات وقادرة على البقاء والصمود بطابعها الثابت المستمر نسبياً.([15])
فالخصوصية مكون جوهري من مكونات المجتمع لا يمكن تصور وجود مجتمع بدونه؛ فهو مشتركُه العام المتوافق عليه والمتناقل عبر الأجيال، وهو الإجابة الوحيدة عن سؤال: من نحن وماذا نملك ؟
بيد أن هذا المشترك العام في الخصوصية والذي يربط المجتمع بمختلف أطيافه ومكوناته وتنوعاته لا ينفي وجود تجليات أكثر خصوصية لدى جماعات معينة، وفي مناطق معينة، وفي فترات زمنية معينة، وفي مجالات معينة داخل المجتمع الواحد؛ مما يعني إمكانية وجود منظومات فرعية داخل المنظومة العامة للخصوصية في المجتمع تنشأ استجابة لأوضاع جغرافية أو اقتصادية أو اجتماعية أو دينية أو مذهبية خاصة، ولكنها تقع ضمن الإطار العام للمنظومة العامة وتُعدُّ إحدى تنويعاتها. وهذا ما يفسر الكثير مما هو عام ومشترك بين المنظومة العامة والفرعية، ويؤكد عدم وجود تناقض عدائي موضوعي بين المنظومتين العامة والفرعية ، بل إن الواحدة منهما تُغني الأخرى وتكملها فتنمو الخصوصية العامة للمجتمع وتغتني بتنوع الخصوصيات الفرعية، ويصبح التنوع مصدر قوة وغنى، مما يدل على أن الخصوصية العامة لا تعني النمطية ولا الرأي الواحد ولا اللون الواحد ولا المظهر الواحد، بقدر ما تعني وحدة ثنائية القطب تجمع بين المتمايزات في تيار ثقافي وحضاري واحد؛ ليكون تجسيداً لحوار المجتمع وتفاعله مع ماضيه وحاضره ومستقبله، وانعكاساً لتفاعل هذا المجتمع مع واقعه وعصره وعالمه. وهي على هذا النحو مفهوم يقبل التفاعل مع الآخر دون الذوبان والتماهي، ويسمح بالتعددية في الذات دون الفوضى والضبابية والاختلال.([16])
الخصوصية الثقافية في مسار العمومية الإنسانية:
ولعل فض الاشتباك بين الخاص والعام في مفهوم الهُوية الحضارية يُقربنا كثيراً من مفهوم الثقافة الذي يمكن أن يكون أكثر فصلاً بينهما؛ فقد أقرت منظمة اليونسكو في مؤتمرها الذي عقدته للثقافة بالمكسيك عام 1982م تعريفاً محدداً للثقافة وذلك بعد أن تعددت تعريفاتها وتفرعت حتى قاربت المائتي تعريف، وهذا التعريف يقوم على كون الثقافة هي:” السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميّز مجتمعاً بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها، وهي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة، كما تشمل الحقوق الأساسيّة للإنسان ونظم القيم، والتقاليد، والمعتقدات”.([17])
وواضح أن هذا التعريف أشمل وأوسع من تعريف المجمع اللغوي بالقاهرة، والذي عرف الثقافة بقوله:”جملة العلوم والمعارف والفنون التي يُطلبُ الحِذقُ فيها”[18]، إلا أن تعريف المجمع العلمي جاء أكثر التصاقاً بمفهوم الثقافة العام من تعريف اليونسكو الذي اختلط بمفاهيم أخرى كالعلم والحضارة والمدنية والتقدم، مما وسع مجال الثقافة لتشمل ما يُختلف على شمولها له.
وكثيراً ما يختلط مفهوم العلم بمفهوم الثقافة فكلاهما معرفة يحصل عليها المتعلم[19]، إلا أن الثقافة تتميز بالتنوع والشمول؛ فمن أحاط بشيء من كل شيء أصبح مثقفاً، وأما العلم فيتميز بالتخصص؛ فمن أخذ كل شيء تقريباً من شيء واحد فقد أصبح عالماً. والثقافة طابعها شخصي تختلف من أمة إلى أخرى لأن كل ثقافة تستمد عناصرها بصورة رئيسة من تصورها الديني، أما العلم فطابعه موضوعي تتحد فيه النتائج حسب مقدماتها. والثقافة تهدف إلى الحفاظ على صبغة الأمة وخصائص كيانها وإثبات ذاتيتها والحفاظ عليها من الذوبان في غيرها أو فقدان هويتها، أما العلم فيهدف إلى الاكتشاف والمعرفة المجردة وتنمية القدرات والملكات والتعرف على الحقائق والأسرار.
ونستطيع أن نجمل المفاهيم المتعددة للثقافة في معنيين اثنين:
الأول: المعنى الإنساني العام (الأنثربولوجي) والذي بمقتضاه تصبح كلُّ فعاليّة إنسانية ونشاط ذهني أو مادي (ثقافة) سواءً كان تراكم خبرات أو صنع أدوات أو ممارسة تصوّرات؛ فهي بهذا المفهوم: الإنسان فاعلاً ومنفعلاً.([20])
الثاني: السمات المميزة لأمة من الأمم في المعارف والقيم وطرائق الإبداع الجمالي والتقني وطرز الحياة ونمط التفكير والسلوك والتعبير والتطلعات للمثل العليا.([21])
وهذان المعنيان يمثلان المشترك والخاص في الثقافة؛ فالأول يشترك فيه البشر جميعاً كلٌ حسب إضافته، والثاني يختص بأمم أمم وجماعات جماعات وشعوب شعوب؛ ليصب بعد ذلك في تيار الحضارة العام موسوماً بوسم أصحابه وبصماتهم؛ فيُعرف بهم من حيث خصوصيتهم، ويُعرفون به من حيث عموميته.
عربية أم إسلامية:
وبهذين المعنيين أيضاً سنخرج من حيز الإشكالية التي تثار بين الحين والآخر عن هُوية الثقافة، وهل هي عربية أم إسلامية؛ فالربط بين السمات الروحية في تعريف الثقافة وبين غيرها من السمات المادية والفكرية والعاطفية يجعل من الدين- أي دين- ركيزة أساسية من ركائز الثقافة لا يمكن أن تنهض الثقافة بدونه، بل إن الواقع التاريخي في جميع الحضارات السابقة ليؤكد على أن أي ثقافة لأية حضارة لم تقم وتنهض أو تتفرد وتتميز إلا باعتمادها على دين ما أو عقيدة ما أو أيدلوجية ما، سواء أكانت هذه الأيدلوجية أو العقيدة صواباً أم خطأً. وقد أشار (ت . س . إليوت) إلى تأثير العقيدة المسيحية في الثقافة والحضارة الغربية بقوله:” في المسيحية نمت فنوننا، وفي المسيحية تأصلت- إلى عهد قريب- قوانين أوروبا، وليس لتفكيرنا كله معنى أو دلالة خارج الإطار المسيحي، وقد لا يؤمن فردٌ أوروبي بأن العقيدة المسيحية صحيحة، ولكن كل ما يقوله ويفعله يأتيه من تراثه في الثقافة المسيحية، ويعتمد في معناه على تلك الثقافة.”، ثم يردف قائلاً :” ما كان يمكن أن تُخرج فولتير أو نيتشة إلا ثقافة مسيحية، وما أظن أن ثقافة أوروبا يمكن أن تبقى حية إذا اختفى الإيمان المسيحي اختفاءً تاماً، ولا يرجع اقتناعي بذلك إلى كوني مسيحياً فحسب؛ بل إنني مقتنع به أيضاً بوصفي دارساً لعلم الأحياء الاجتماعي”([22]). بل إن نيتشه اعتبر الشيوعية امتداداً لثقافة أوروبا المسيحية لأنها أزمة في هذه الثقافة، أو حسب تعبيره: الابنة غير الشرعية للحضارة المسيحية، وأنها ستعود للانتماء لهذه الحضارة يوماً ما([23]).. وقس على ذلك تأثير جميع الأديان السماوية والأرضية في ثقافات معتنقيها قديماً وحديثاً، كالهندوسية في ثقافة الهند، والبوذية في ثقافة الصين، والمزدكية والزرادشتية في الثقافة الفارسية القديمة.
وقد حاول الشعوبيون قديماً والقوميون حديثاً- رغم اختلاف منطلقاتهم وأهدافهم- أن يفصلوا بين العروبة والإسلام فصلاً يستحيل معه اجتماعهما معاً؛ فما زاد عمل الشعوبيين قديماً عن تحقير العرب والحط من قدرهم، وما زاد عمل القوميين حديثاً عن تفضيل العرب والإعلاء من شأنهم، وكلا الفريقين أخطأ الوِجهة وفصل ما لا يُفصل. ومعلومٌ أنه ما من أمة من الأمم إلا وكان لها دين يرفع شأنها ويُعلي ذكرها ويميز حضارتها ويبسط سلطانها ويصبغ تاريخها ويسم ثقافتها، على ما في هذه الأمة من فضائل وقيم نفسية وأخلاقية وعقلية خاصة واستعداد فطري لصنع الحضارة وإنتاج الثقافة. فالفصل بين الأمم وأديانها كالفصل بين الروح والجسد، وإلغاء العقيدة في أمة ما “معناه إبقاؤها على الأرض مجموعة من الناس لا تصلح في سلم ولا حرب، ولا تكترث إلا لملذاتها الفردية.”([24]) ، ولكل حضارة شكل ومضمون، والحضارة العربية عربية الشكل إسلامية المضمون، كما أن الحضارة الغربية أوربية الشكل مسيحية المضمون، على ما في أوربا من أجناس وأعراق لا يستقيم معها- أحياناً- وضع هذه الأجناس تحت مظلة (الأوربية) لأن الأوربية ليست جنساً بل إقليماً وموقعاً جغرافياً.
والعرب هم دماغ الإسلام وقلبه، ومحالٌ وجود إسلام من غير أمة عربية سيدة، ما دام القرآن العربي يتلى آناء الليل وأطراف النهار، وما دام الحديث النبوي العربي يحفظ ويدرس، وما دامت مكة في مكانها من أرض العرب ([25]) ؛ فالعرب والعروبة والعربية أوعية رفع الله قدرها بحفظها وحملها للإسلام وكتابه وشرائعه وأحكامه.
وإذا كان للثقافة عامةً أساسان لا تقوم الثقافة إلا بهما، وهما (الدين واللغة)؛ فإن الفصل بينهما يهدم بناء الثقافة من أساسه؛ فاللغة العربية هي لغة قوم كانت لهم في ذاتهم فضائل استحقوا بها أن يحملوا الرسالة الخاتمة، والدين الإسلامي هو دين عالمي غير مختص بقوم أو جنس، ولكن العرب هم أول من حمله إلى الناس كافة؛ لأن فضائلهم كانت الأقرب إلى فضائله، وعقولهم كانت الأقدر على فهمه، ولغتهم كانت الأنسب لحمل أحكامه وشرائعه ؛ فانتشر بهم وعلوا به وأصبحت الثقافة والحضارة عربية إسلامية أو إسلامية عربية.
على أن الإسلام كدين كان له التأثير الأكبر والأشمل والأعم؛ لأن اللغة العربية لم تستخدم استخداماً حضارياً إلا بعد مجيء الإسلام؛ فهو الذي خلّدها حين نزل بها كتابه العظيم، وحدّث بها رسوله الكريم، وصيرها لغة العلم والحضارة، ونقلها من المحلية الإقليمية إلى العالمية التي لا تعترف بالحدود والحواجز، وربط فهم أحكامه وشرائعه وقراءة قرآنه وأحاديث نبيه بمدى إتقان اللغة العربية
على أن الإسلام كدين كان له التأثير الأكبر والأشمل والأعم؛ لأن اللغة العربية لم تستخدم استخداماً حضارياً إلا بعد مجيء الإسلام؛ فهو الذي خلّدها حين نزل بها كتابه العظيم، وحدّث بها رسوله الكريم، وصيرها لغة العلم والحضارة، ونقلها من المحلية الإقليمية إلى العالمية التي لا تعترف بالحدود والحواجز، وربط فهم أحكامه وشرائعه وقراءة قرآنه وأحاديث نبيه بمدى إتقان اللغة العربية، مع ما لهذه اللغة ذاتها من ميزات وخصائص جعلتها أكثر اللغات اتساقاً وأغناها اشتقاقاً وأجملها بلاغة وأسلسها مخارج حروف. وانطبق الأمر ذاته على الخط العربي الذي انتشر مع اللغة العربية وكثرت أنواعه؛ فظهرت خطوط مثل الخط الكوفي والبصري والأندلسي والنسخ .. وغيرها، وتأثرت الشعوب الإسلامية بهذه الخطوط، فكتبت لغاتها الأصلية به كالأردية والفارسية والتركية والكردية.
أما العرب كجنس فهم لم يكن لهم- رغم فضائلهم الذاتية- كبير ذكر أو شأن إلا بعد مجيء الإسلام؛ فهو الذي علّمهم من جهالة، وهداهم من ضلالة، ووحدهم من فرقة، وجعل لهم رسالة يعيشون بها ويموتون عليها، ويبذلون الأنفس والنفائس في سبيلها، كما غرس في عقولهم أسس التفكير العلمي وأرشدهم إلى طرائق صنع الحضارة، وأحدث في حياتهم ثورة روحية ومادية شاملة نقلتهم من حالة التردي والضياع إلى حالة من التفرد والتميز الحضاري لم تنعم بها أمة من الأمم أو حضارة في منظومة الحضارات الإنسانية من قبل… فالثقافة إذن عربية إسلامية معاً:
عربية بحكم اللغة الأساسية التي كُتبت بها وعبرت عنها، وبحكم روح القرآن العربي السارية في جنباتها، وبحكم تأثير البيان النبوي العربي والأسوة المحمدية في مسيرتها، وبحكم عروبة العنصر الذي نال شرف حملها وتبليغها للناس، وبحكم البقعة الجغرافية التي كانت مهبط الوحي ومنطلق الدعوة. وهي مع ذلك وقبل ذلك ثقافة إسلامية بحكم الأهداف التي تتوخاها، والحوافز التي تدفعها، والتصورات التي تحركها وتفجر طاقتها، ثم بحكم الأجناس والعناصر الإسلامية المختلفة التي شاركت في ازدهارها وتفوقها، والرقعة الواسعة التي كانت مجالاً شاسعاً لها.([26])
وعليه؛ فإن مصادر الثقافة العربية ومقوماتها ومكوناتها تنقسم إلى قسمين:
الأول: مصادر شرعية: وتشمل القرآن الكريم، والسنة المطهرة بأنواعها، القولية والعملية والتقريرية، كما تشمل أيضاً إجماع علماء المسلمين في الأحكام الدينية، وقياساتهم التي أعملوا الفكر من خلالها فيما استجد من أحداث الزمن وتطورات الأيام.
والثاني: مصادر معرفية: وتشمل اللغة العربية وعلومها المختلفة، والتاريخ الإسلامي الذي كان بمثابة السجل الراصد لأعمال الأمة الإسلامية وأحوالها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسلوكية، كما تشمل أيضاً الخبرات الإنسانية النافعة وما أنتجنه العقول من ابتكارات وحضارات ونُظُم وعلوم لا تتعارض مع العقيدة الإسلامية ومنهج الإسلام في الحياة، ولم يوجد في الإسلام ما يقوم مقامها أو يغني عنها.([27])
ومن هنا ندرك مدى عمومية هذه الثقافة وتفاعلها في المشترك الإنساني العام من جهة، وخصوصيتها العربية الإسلامية المميزة لها عن غيرها من الثقافات الإنسانية المختلفة من جهة أخرى.
والواقع التاريخي يؤكد على أن الحضارة الإسلامية كانت مثالاً حياً ورائعاً لتلك اللوحة الفسيفسائية التي امتزجت فيها الألوان والصور عاكسةً بذلك تفاعل الأعراق والثقافات والملل والنحل في تيار حضاري واحد، ضم خير ما في هذه الثقافات المختلفة، وبنى عليها حضارة راسخة قوامها الدين الذي اختص الله العرب بحمله في البداية، والعلم الذي أمرهم هذا الدين باتخاذه سبباً من أسباب بناء حضارتهم.
ولعل العصر العباسي- بما حمل من ازدهار حضاري وثقافي في الأمة الإسلامية- خير مثال يمكن أن نستشهد به على هذا التفاعل بين الثقافات والحضارات في ظل الحضارة الإسلامية الزاهرة.. وهذا ما سنعرفه- إن شاء الله- في المقال القادم عن تفاعل الثقافات في الحضارة العربية الإسلامية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]ـ نقلاً عن : الجذور الشرقية للحضارة الغربية ـ جون إم هوبسون ـ ص15 .
[2]ـ الحضارة دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها ـ د.حسين مؤنس ـ عالم المعرفة ـ الكويت 1978 ـ ص17ـ 20 .
[3]ـ الإمتاع والمؤانسة ـ أبو حيان التوحيدي ـ ضبطه: أحمد أمين ، وأحمد الزين ـ مكتبة الحياة للطباعة والنشر ـ بيروت ـ ج 1ـ ص 70.
[4]ـ نفسه ـ ص 73.
[5]ـ نفسه ـ ص73.
[6]ـ نفسه ـ ص 74.
[7]ـ المرجع السابق ـ ص74ـ 75.
[8]ـ المرجع السابق ـ ص75 .
[9]ـ تدهور الحضارة الغربية ـ أزوالد شبنجلر ـ ترجمة : أحمد الشيباني ـ منشورات دار مكتبة الحياة ـ بيروت 1964م ـ ص 99 .
[10]ـ الغزو الفكري وهمٌ أم حقيقة ـ د. محمد عمارة ـ دار الشروق ـ القاهرة 1997م ـ ط2 ـ ص17ـ 19.
[11]ـ نفسه ـ ص20.
[12]ـ قراءات في مؤشرات الخصوصية الثقافية ـ د . معتز بالله عبد الفتاح ـ بحث مقدم لمؤتمر ( الخصوصية الثقافية : نحو تفعيل التغيير السياسي والاجتماعي ) والذي نظمته كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة في الفترة من (11 – 14 سبتمبر 2006م) .
[13]ـ الفصل بين الملل والنحل ـ ابن حزم ـ تحقيق : محمد سيد كيلاني ـ دار صادر ـ بيروت ـ 1984م ـ ج1ـ ص92.
[14]ـ المعجم الفلسفي ـ جميل صليبا ـ مادة : ( هوية ) ـ دار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر والتوزيع ـ بيروت 1994 .
[15]ـ ما الخصوصية ؟ تأصيل المفهوم ـ د.أديب خضورـ مركز أسبار للدراسات والبحوث ـ شبكة المعلومات الدولية ـ يونيو 2007 م .
[16]ـ المرجع السابق ( نت )
[17]ـ الوثائق الرئيسيّة لإعلان مكسيكو 1982 م نقلاً عن الدكتور محمّد الرميحي في مقالة (واقع الثقافة ومستقبلها في أقطار الخليج العربي)، ضمن كتاب الثقافة والمثقفون في الوطن العربي ـ بيروت 1992م ـ ط1 ـ ص 267 .
18ـ المعجم الوسيط ـ إبراهيم مصطفى وآخرون ـ استانبول ـ دار الدعوة ـ جـ١ ـ ص٩٨.
19ـ المرتكزات الأساسية في الثقافة الإسلامية ـ أحمد صبحي العبادي ـ دار الكتاب الجامعي ـ العين 1412هـ ـ ط1ـ ص٣٢.
[20] ـ العقل المستعار ـ د. صالح الزهراني ـ شبكة المعلومات الدولية ( إنترنت) .
[21] ـ الخطة الشاملة للثقافة العربيّة ـ منشورات المنظمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم ـ تونس ـ ط2 ـ 1996 م ـ ص 18، 19.
[22] ـ ملاحظات نحو تعريف الثقافة ـ ت .س . إليوت ـ ترجمة : شكري عياد ـ المؤسسة المصرية العامة ـ ص 145 .
[23] ـ التراث والحداثة ـ محمد عابد الجابري ـ المركز الثقافي العربي ـ بيروت 1991م ـ ص 90 .
[24] ـ قذائف الحق ـ محمد الغزالي ـ دار القلم ـ دمشق 1991م ـ ط1 ـ ص 73 .
[25] ـ قذائف الحق ـ محمد الغزالي ـ ص 74 .
26ـ الثقافة العربية بين الأصالة والمعاصرة ـ يوسف القرضاوي ـ مكتبة وهبة ـ القاهرة 1994م ـ ط1 ـ ص 16ـ 17 .
[27] ـ الوافي في الثقافة الإسلامية ـ مصلح عبد الحي النجار ـ مكتبة الرشد ـ الرياض ـ2006م ـ ص 39ـ 40 .