العقل اليهوديملفـات

أين كان الجيش الإسرائيلي في 7 أكتوبر

عرض تحقيق استقصائي للنيويورك تايمز عن أحداث ٧ أكتوبر وانطلاق طوفان الأقصى

 

في مخبأ عميق تحت الأرض (يُسمى الحفرة The Pit)، يقع أسفل القيادة العامة للجيش الإسرائيلي في تل أبيب، وفي حوالي السادسة صباح ٧ أكتوبر، اجتمع عدد من قادة الجيش في محاولة لفهم التقارير التي بدأت ترِد عن إطلاق حماس مئات الصواريخ باتجاه جنوب إسرائيل.

في هذه الأجواء المتوترة، وصل اتصال هاتفي من أحد قادة فرقة غزة المتمركزة على السياج الحدودي المحيط بالقطاع، كانت مكالمة استغاثة مقتضبة، قال فيها ذلك القائد: قاعدتنا تتعرض لهجوم، ونطلب كل الدعم الذي يمكن توفيره وإرساله إلى الجنوب.

لم يذكر ذلك الضابط أي تفاصيل عن حجم أو مدى اتساع الهجمات التي يتعرضون لها.

في الساعات القليلة التالية، كانت القيادة العامة للجيش تزداد ارتباكا وتوترا، إلى الحد أنها كانت ترسل أوامر متتابعة لوحدات برية وجوية للتوجه إلى الجنوب دون تحديد أهداف معينة، بل وبلغ الأمر إلى حثها على تتبع الأخبار على منصة تيليجرام، لتعرف المواقع التي تستغيث أو تتعرض لهجمات!

 

كان يوم السابع من أكتوبر – أو كما يسميه الإسرائيليون السبت الأسود – يوما فارقا في تاريخ المنطقة، وقد تستمر آثار تداعياته لسنوات قادمة. كلما طفت على السطح بعض تفاصيل أحداث ذلك اليوم، تبين أن ما نعرفه قليل – وربما هامشي – بالنسبة لحجم الحدث وتفاصيل ما وقع فيه.

أجرت صحيفة النيويورك تايمز تحقيقا استقصائيا موسعا[1] في أحداث ٧ أكتوبر، استغرق أكثر من ثمانين يوما، وشارك فيه سبعة صحافيين[2] غطوا مواقع في تل أبيب والقدس وبلدات وكيبوتسات غلاف غزة، واشتمل التحقيق على آلاف ساعات من فيديوهات كاميرات المراقبة وكاميرات خوذات جنود الجيش، ومقاتلي حماس، تم نشر التحقيق في ٣٠ ديسمبر ٢٠٢٣، وتوصل إلى نتيجة رئيسية عنوانها:

(على جميع الجبهات: فشل الجيش الإسرائيلي في 7 أكتوبر)

 

أهمية الصحافة الاستقصائية:

الصحافة الاستقصائية تركز على توثيق المعلومات والحقائق بشكلٍ منهجيٍّ وموضوعيٍّ من أجل الكشف عما وراء الأحداث من أمور يتم إخفاؤها عمدًا، أو تُحجب دون قصدٍ بسبب الظروف التي تؤدي للالتباس. وقد يقضي الصحفي الاستقصائي أو فريق الصحفيين عدة شهورٍ، وأحيانًا سنواتٍ في البحث في موضوعٍ واحدٍ، وإثبات فرضياتهم على شكل تقاريرَ إخباريةٍ أو تحقيقاتٍ متسلسلة تنشر عند الوصول للهدف، على عكس التقارير التقليدية التي يعتمد فيها الصحفيون على التقارير الفورية والآنية[3].

التحقيق الذي بين أيدينا جعلت النيويورك موضوعه الأساسي: أسباب وكواليس الفشل الإسرائيلي العسكري الشامل في ٧ أكتوبر، وعليه فمن المفترض أن يؤدي التحقيق إلى:

  1. الكشف عن الحقائق والمعلومات التي يسعى الجيش الإسرائيلي إلى إخفائها عن الرأي العام.
  2. الكشف عن حقائق ومعلومات تثير الانتباه إلى مواطن الخَلَل في المنظومة العسكرية الإسرائيلية.
  3. مراعاة القواعد العلمية والمهنية في البحث والتحرِّي والتَّحُقُّق من المعلومات واختبار الفرضيات.
  4. العُمْق في معالجة المعلومات والحقائق باعتماد مناهج مختلفة (تاريخية، اجتماعية، نفسية، ثقافية، دينية..).
  5. المساءلة النقدية وتحديد المسؤولية عن التَّصرُّفات التي أدت إلى هذا الفشل الذريع.

تعريف بصحيفة النيويورك تايمز:

تصدر صحيفة نيويورك تايمز اليومية في مدينة نيويورك، وتوزع عالميا أيضا. وقد أسسها هنري رايموند وجورج جونز سنة ١٨٥١، وأصدرت نيويورك تايمز اليومية (new york times daily) أول أعدادها سنة١٩٥١، لتقوم بتغير اسمها بعد ذلك إلى نيويورك تايمز سنة ١٩٥٧.

وتعتبر شركة نيويورك تايمز إحدى أكبر المؤسسات الإعلامية في العالم، حيث تمتلك أكثر من ٢٠ صحيفة في أنحاء مختلفة من الولايات المتحدة منها الإنترنشيونال هيرالد تريبيون وبوستن جلوب، بالإضافة إلى ثماني محطات تلفزيونية في ولايات مختلفة منها قناة ديسكفري، وقد حصلت على 113 من جوائز بولتزر المشهورة.

تعتبر الصحيفة ذات توجه ليبرالي وهي قريبة من الديمقراطيين عموما، وفي السياسة الخارجية مؤيدة تماما لإسرائيل، وكتاب الأعمدة فيها يتراوحون بين التأييد المطلق لإسرائيل والتأييد المخفف لها. كانت الصحيفة تسوق من قبل للحرب على العراق وتروج لمقولة أسلحة الدمار الشامل، لكنها تراجعت عن ذلك وقدمت اعتذارا لقرائها بعد اتضاح عدم صحة ذلك. ومنذ انطلاق طوفان الأقصى اتخذت الصحيفة موقفا متطرفا في تأييد إسرائيل[4]، وحتى هذا التحقيق الاستقصائي ظهر وكأنه خدمة نوعية للجيش الإسرائيلي للوقوف على مواضع الخلل والفشل في منظومته.

نستعرض في هذا العرض:

  • ملخص تفاصيل التحقيق وأهم جوانبه والنتائج التي توصل إليها
  • نقد وتقييم لمنهجية التحقيق ونتائجه
  • انعكاسات نتائج التحقيق على ما يمكن توقعه لمستقبل الحرب المستعرة

 

أولًا: ملخص تفاصيل التحقيق وأهم جوانبه ونتائجه

يبدأ التحقيق برسم صورة حية للغزو، حيث اخترقت حماس حدود إسرائيل في أكثر من 30 موقعًا، وقامت بتعطيل المدافع الرشاشة الآلية، والسيطرة على الطرق الرئيسية، مع الهجوم على القواعد العسكرية، وغزو الأحياء. كان الغائب بشكل ملحوظ عن هذه المشاهد هو الجيش الإسرائيلي، مما يثير السؤال المركزي: أين كان الجيش الإسرائيلي خلال هذا الحدث الحاسم؟

 

الفوضى وعدم الاستعداد:

يكشف التحقيق أن الجيش الإسرائيلي كان غير منظم، خارج مواقعه، ويفتقر إلى خطة شاملة لمثل هذا الهجوم الضخم لحماس. وحتى مع تطور الوضع، كانت القوات تعتمد على مجموعات WhatsApp ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى للتواصل واستهداف المعلومات، ومن المثير للصدمة أن الجيش الإسرائيلي لم يكن لديه أي خطة جاهزة مسبقا للرد على هجوم واسع النطاق لحماس، وفقًا للجنود والضباط الذين تمت مقابلتهم، وكان غياب خطة الاستعداد الدفاعي – على نقيض العقيدة العسكرية الإسرائيلية القديمة – عاملًا حاسمًا في الفشل.

 

أخطاء استخباراتية:

سلط التقرير الضوء على الإخفاقات الاستخباراتية التي أدت إلى وقوع الهجوم، وعلى الرغم من حصول إسرائيل على معلومات تشير إلى خطط قتالية بغزو وشيك، إلا أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية استخفت بها، وتشبثت بوجهة النظر المتفائلة بأن حماس تفتقر إلى القدرة والاهتمام لتنفيذ مثل هذه العملية واسعة النطاق، وأدت هذه الثقة المفرطة إلى خفض التنصت على اتصالات حماس، وهو القرار الذي ثبت أنه خطأ فادح.

 

التحديات الجيوسياسية:

استهدفت حماس مواقع رئيسية بشكل استراتيجي، فقامت بإغلاق الطرق السريعة والسيطرة على تقاطعاتها، مما ترك الجنود الإسرائيليين غارقين في المعارك والكمائن عاجزين عن الوصول إلى البلدات المحاصرة، وقد أدى حصار حماس لقاعدة ريعيم[5] العسكرية (وفيها قيادة فرقة غزة) في جنوب إسرائيل إلى مزيد من الشلل في مركز القيادة الإقليمي للجيش، مما أعاق الرد الفعال.

 

الإخفاقات في التعبئة العسكرية:

قامت الحكومة الإسرائيلية بتعيين ما يُعرف باسم كيتات كونينوت، كخط دفاع أول في البلدات والقرى القريبة من الحدود، ومع ذلك، كان لدى الحراس مستويات مختلفة من التدريب مع عدم الاستعداد بشكل كافٍ للتعبئة السريعة، مما أدى إلى التأخير وعدم وجود استجابة منسقة. تناول التحقيق أيضا دور وحدة النخبة من كوماندوز ماجلان[6] في الهجوم، حيث تم تفعيل الوحدة المتخصصة في العمليات خلف خطوط العدو، دون توجيه واضح، مع الافتقار إلى التدريب اللازم للقيام بغزو واسع النطاق، كما قلل الكوماندوز في البداية من خطورة الصراع، ولجأوا إلى الاستعانة بمصادر خارجية للمعلومات.

 

تحركات استراتيجية لحماس:

استغلت حماس الأخطاء التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي، فأغلقت بشكل استراتيجي تقاطعات الطرق السريعة الرئيسية واستهدفت الدبابات والمروحيات الإسرائيلية، كما قامت باستهداف قاعدة (ريعيم) العسكرية التي تشرف على جميع العمليات العسكرية في المنطقة وكانت حماس مستعدة جيدًا، ومسلحة بالأسلحة الثقيلة وقاذفات الصواريخ والألغام الأرضية، بينما وجد الجنود الإسرائيليون أنفسهم غير مجهزين لخوض معركة واسعة النطاق.

 

يرسم التحقيق الذي أجرته صحيفة نيويورك تايمز صورة شاملة لفشل الجيش الإسرائيلي خلال هجوم حماس في 7 أكتوبر، ومن الأخطاء الاستخباراتية إلى انقطاع الاتصالات والتحركات الاستراتيجية لحماس، يعرض التقرير بالتفصيل سلسلة من الأحداث التي أدت إلى نتيجة كارثية.

يرى التحقيق أن غياب خطة واضحة المعالم، إلى جانب الرضا عن النفس والثقة المفرطة، لعب دورًا مركزيًا في عجز الجيش عن حماية أرواح الإسرائيليين خلال هذا الهجوم غير المسبوق. يُعد هذا التحقيق بمثابة فحص نقدي للقضايا النظامية داخل الجهاز العسكري الإسرائيلي التي أدت لمثل هذه الإخفاقات الهائلة.

 

النتائج الرئيسية للتحقيق:

عدم الاستعداد العسكري الإسرائيلي: كان الجيش الإسرائيلي غير منظم، وخارج مواقعه، ويفتقر إلى خطة لغزو واسع النطاق من جانب حماس، وتبين أن القوات تعاني من نقص في الاستعداد والتجهيز الدفاعي لمثل هذه العملية.

 

الرد العسكري البطيء: كان القادة العسكريون بطيئين في فهم وإدراك حجم الهجوم، حيث صدرت تعليمات الانتشار الأولى بعد أكثر من ساعة كاملة من بدء الهجوم. أدى هذا الرد البطيء للجيش إلى ترك المواطنين يدافعون عن أنفسهم لساعات طويلة، مما أدى إلى سقوط ما يقرب من 1200 قتيلا وبضعة آلاف من الجرحى.

 

قضايا الاتصال والتنسيق: تواصل الجنود من خلال مجموعات مرتجلة على تطبيق واتساب، واندفعت قوات الكوماندوز إلى المعركة دون إعداد كافٍ. أُمِر طيارو طائرات الهليكوبتر بالاعتماد على التقارير الإخبارية وقنوات Telegram للحصول على معلومات الهدف.

 

عدم وجود خطة للمعركة: كان الكشف الأكثر إدانة هو أن قوات الدفاع الإسرائيلية لم يكن لديها خطة للرد على هجوم واسع النطاق لحماس على الأراضي الإسرائيلية. وحتى لو كانت هناك خطة، فإن الجنود لم يتدربوا عليها، ولم يتم اتباعها أثناء الهجوم.

 

أخطاء استخباراتية قاتلة: استخفت الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية باستمرار بالتهديد، معتقدة أن حماس لم تكن مهتمة أو قادرة على القيام بغزو واسع النطاق. واستمرت هذه النظرة المتفائلة حتى عندما كشفت الاستخبارات عن خطط حماس القتالية لمثل هذا الهجوم. كشف التحقيق أيضا عن فقدان الجيش الإسرائيلي للبدائل الاستخباراتية اللازمة في أوقات الأزمات، وعندما تم ضرب فرقة غزة بهذه السرعة والحسم، وصل الأمر لدرجة الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي المفتوحة لاختيار الأهداف، ما مثل تدهورا كبيرا في الإسناد الاستخباراتي المفترض.

 

الميزة الجغرافية والتكتيكية لحماس: استخدمت حماس جغرافية إسرائيل بشكل استراتيجي ضد جيشها، حيث أغلقت تقاطعات الطرق السريعة الرئيسية ونصبت الكمائن على طول الطرق. وكان الهجوم على قاعدة ريعيم العسكرية، موطن فرقة غزة، مؤثرا بشكل خاص، حيث ترك الجنود يقاتلون من أجل حياتهم بدلا من تنسيق الرد.

 

القراءة الخاطئة للوضع: لقد أخطأ الجيش في قراءة الوضع بشكل كبير، حيث قدر أن حماس، في أحسن الأحوال، سوف تخترق السياج الحدودي الإسرائيلي في أماكن قليلة. وفي الواقع، اخترقت حماس السياج في أكثر من 30 موقعًا، وسرعان ما توغلت في عمق جنوب إسرائيل.

 

رد فعل وحدة كوماندوز ماجلان: تلقت وحدة كوماندوز النخبة ماجلان، المتخصصة في العمل خلف خطوط العدو، القليل من التوجيه ولم يكن لديها مهام محددة، وقيل للجنود أن “يحملوا السلاح فحسب” وأن “ينقذوا الناس”، معتمدين على وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على معلومات في الوقت الفعلي.

 

باختصار، يرسم التحقيق صورة لجيش إسرائيلي سيئ الإعداد وغير منظم، ويسلط الضوء على الإخفاقات في الاستخبارات والتخطيط والاتصالات والاستعداد العام لغزو واسع النطاق لحماس في 7 أكتوبر.

 

ثانيًا: نقد وتقييم لمنهجية التحقيق ونتائجه

اتبع التحقيق منهجية مهنية من حيث أدوات الاستقصاء، حيث استخدم ست أدوات مهمة:

مراجعة الوثائق: اعتمد التحقيق على وثائق حكومية إسرائيلية داخلية ومراجعة لمخبأ المواد العسكرية المعروف باسم “باندورا”، ويتضمن هذا المخبأ عشرات الآلاف من مقاطع الفيديو، بما في ذلك لقطات من الكاميرات التي يرتديها مقاتلو حماس.

 

المقابلات: أجرى الصحفيون مقابلات مع العشرات من الضباط والمجندين وشهود عيان ممن لديهم معرفة مباشرة بالأحداث، تحدث بعض الأفراد بشرط عدم الكشف عن هويتهم، على الأرجح بسبب القيود المفروضة على التحدث علنًا عن العمليات العسكرية.

 

تحليل الوسائط المتعددة: قامت التايمز بتحليل محتوى الوسائط المتعددة، بما في ذلك لقطات من كاميرات الجسم، ومقاطع فيديو دعائية من حماس، ولقطات من كاميرات لوحات القيادة، ومقاطع فيديو من الهواتف المحمولة.

 

الوصول إلى المعلومات الداخلية: استفاد التحقيق من المعلومات الداخلية داخل المجتمع العسكري والاستخباراتي، مما سمح للصحفيين بالحصول على نظرة ثاقبة لعمليات صنع القرار، والتقييمات الاستخباراتية، وحالة الاستعداد العامة.

 

التعاون مع صحفيين إسرائيليين في مواقع مختلفة: بما في ذلك تل أبيب والقدس والبلدات والكيبوتسات في جنوب إسرائيل. من المحتمل أن هذا النهج التعاوني ساعد في الحصول على وجهات نظر متنوعة وتغطية شاملة.

 

طلب بيانات رسمية: قام الصحفيون بالتواصل مع قوات الدفاع الإسرائيلية والسلطات الأخرى ذات الصلة للحصول على بيانات رسمية وردود على بعض القضايا المثارة في التحقيق.

هذه الأدوات الفعالة وفرت مزايا كبيرة للتحقيق للوصول إلى معلومات واسعة النطاق.

 

في المقابل افتقد التحقيق إلى جوانب أصيلة في مثل هذا التحقيق، أضعفت نتائجه، أهمها:

  1. إغفال سردية حماس: تماما عن أحداث ٧ أكتوبر، فخرج التحقيق كأنه ينظر بعين واحدة. وقد استطرد التحقيق طويلا في تحليل أسباب الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي، وكان محقا فيها، لكنه أغفل أيضا الشق الآخر الفلسطيني، وخاصة خطة التمويه والخداع الكبرى التي اتبعتها حماس قبل سنتين على الأقل من ٧ أكتوبر، بحيث أوقعت الاستخبارات الإسرائيلية في تقديرات خاطئة تماما استبعدت بها أي احتمال لغزو واسع النطاق على غرار ما وقع بالفعل.
  2. إغفال أهم اتهامين لحماس: وهما ضحايا الحفل الموسيقي في غلاف غزة، وما أثير عن انتهاكات مزعومة باغتصاب للنساء وقطع رؤوس عشرات الرضع والأطفال، برغم توفر تحقيقات قامت بها جهات إعلامية إسرائيلية عن هذين الحدثين. فقد نشرت صحيفة هآرتس مقتطفات من تحقيقات للشرطة الإسرائيلية فيما حصل في الحفل الموسيقي الذي كان يقام في غلاف غزة، بالتزامن مع هجوم المقاومة الفلسطينية وبعد أكثر من 40 يوما من ترديد مسؤولين إسرائيليين وغربيين أن حماس هم من ارتكبوا مجزرة في الحفل، توصلت الشرطة الإسرائيلية لمعلومات مغايرة تماما لهذه الرواية. وخلص تحقيق أولي للشرطة إلى أن طائرة حربية إسرائيلية قصفت على ما يبدو إسرائيليين قرب ريعيم بغلاف غزة أثناء محاولة استهداف مسلحين. ونبه ذلك التحقيق إلى أن وجود جثث متفحمة يؤكد ما خلص إليه تحقيق الشرطة، لأن كتائب القسام لا تملك أسلحة حارقة، وبالتالي فإن الطيران الإسرائيلي هو من قتل المحتفلين. وبالرغم من تعمق صحفيي التايمز في أحداث هذا اليوم إلا أنهم لم يأتوا على أي ذكر لهذا الحدث والذي وقع في الساعات الأولى لليوم. وأما الشائعات التي انطلقت من اليوم الأول تتهم حماس بقطع رؤوس الأطفال، والذي بلغ حد تصريحات للرئيس الأميركي جو بايدن أعرب فيها -خلال اجتماعه مع زعماء الطائفة اليهودية في البيت الأبيض- أنه لم يكن يعتقد أنه “سيرى صورا لإرهابيين وهم يقطعون رؤوس الأطفال”، والذي لم يثبت صحته بأي شكل من الأشكال والدلائل، وعند بحث عن أصل الموضوع وجد أن الكثير سمع بالأمر ونقله دون أي رؤية فعليه.
  3. وجهات نظر بديلة: في حين أن التحقيق يتضمن وجهات نظر الجنود والضباط وشهود العيان، فإن البحث عن وجهات نظر الفلسطينيين، الذين يقدمون رؤى أو تفسيرات مختلفة، كان سيوفر فهمًا أكثر دقة للأحداث.
  4. غياب تحليل الخبراء الخارجيين: كان من الممكن أن يؤدي الاستعانة بخبراء أو محللين عسكريين وأمنيين خارجيين إلى إضافة عمق للتحليل. ومن الممكن أن تقدم أفكارهم تقييماً مستقلاً لاستعداد الجيش واستجابته واستراتيجيته الشاملة، مما يوفر تقييماً أكثر توازناً.
  5. فقدان التحقق المتبادل من المعلومات: في حين أن محتوى الوسائط المتعددة بمثابة أدلة قيمة، فإن التحقق المتبادل من المعلومات مع مصادر متعددة وإسنادها إلى البيانات الرسمية أو غيرها من الروايات الموثوقة يمكن أن يعزز المصداقية العامة للتحقيق.
  6. غياب استقصاء الخطاب المصاحب للحدث من الجهتين: تجاهل التحقيق ذكر خطابات حماس وقادتها التي تم إذاعتها في صباح ٧ أكتوبر والتي توضح رؤيتهم وأسبابهم للقيام بهذا الهجوم، وبالأخص خطاب قائد القسام محمد الضيف الذي أشار إلى أن عملية “طوفان الأقصى” تأتي في ظل الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني وتَنكر الاحتلال للقوانين الدولية وفي ظل الدعم الأميركي والغربي والصمت الدولي، وأوضح الضيف “أن قيادة القسام قررت وضع حد لكل جرائم الاحتلال، وانتهى الوقت الذي يعربد فيه دون محاسب”، وفق تعبيره. كما تجاهل التحقيق خطاب نتنياهو من مقره العسكري في تل أبيب مساء ٧ أكتوبر وإعلانه أن: “إسرائيل في حالة حرب، وليس مجرد تحرك أو عملية عسكرية”.
  7. تجاهل سرعة “إعلان الحرب” في نفس يوم الهجوم: من الغريب أن التحقيق تجاهل إعلان إسرائيل رسميا أنها في حالة حرب بعد ساعات قليلة من بدء حماس لهجومها، رغم أن إعلان حرب كهذا لم يحدث منذ نصف قرن. نعم، سبق وشنّت إسرائيل حملات عسكرية سواء في غزة أو لبنان، وكانت بالفعل تصف تلك الحملات بالحروب، ولكن من دون أن تعلن رسميا أنها في “حالة حرب” كما فعلت هذه المرة. لقد هيأ الإعلان السريع لحالة الحرب الرأي العام الإسرائيلي لاحتمال سقوط أعداد كبيرة من القتلى، كما منح الإعلان حكومة إسرائيل صلاحيات واسعة، من بينها: استدعاء قوات الاحتياط وتسخير الموارد اللوجستية ووضْعها تحت تصرُّف الجيش.

 

  1. ​غياب رصد ردود الفعل الإقليمية والدولية الصادرة في ٧ أكتوبر: لم يتطرق التحقيق إلى استعراض ردود الفعل الدولية والإقليمية والتي خرجت في نفس يوم الهجوم، والتي تراوحت ما بين معارض و بشدة كالحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي والعديد من الدول الأوربية كفرنسا وألمانيا وبريطانيا وألمانيا واليونان وغيرهم والذين لم يكتف بعضهم بالمعارضة فقط بل وأعلنوا وقوفهم بجانب إسرائيل واستعدادهم لمساندتها في هذه المحنة، وما بين مؤيد شعبيا ومحايد رسميا مع بعض الإدانات كأغلب الدول العربية في تناقض كبير حيث أظهرت كثير من الاستطلاعات أن الأغلبية الساحقة في الشارع العربي ترفض الاعتراف بإسرائيل، كما أن الشارع العربي يرى أن سلبية الحكومات العربية واتفاقيات التطبيع من العوامل التي تشجع الاحتلال على استمرار عدوانه على قطاع غزة. لقد كان لردود الأفعال المتصاعدة ضغط على الجهود العسكرية الإسرائيلية في مراحل الحرب المختلفة لاحقا.
  2. إهمال وجهات نظر حقوق الإنسان: إن تضمين وجهات نظر منظمات حقوق الإنسان أو الخبراء القانونيين يمكن أن يوفر نظرة ثاقبة حول آثار الإجراءات العسكرية على السكان المدنيين والانتهاكات الصارخة للقانون الإنساني الدولي.
  3. السياق الجيوسياسي: إن استكشاف السياق الجيوسياسي الذي أدى إلى الهجوم، بما في ذلك التوترات الإقليمية أو التطورات السياسية أو أي تحذيرات استخباراتية محددة، يمكن أن يوفر فهمًا أوسع للعوامل التي ربما أثرت على مستوى استعداد الجيش.
  4. قياس الرأي العام: أغفل التحقيق دراسة ردود الفعل والمشاعر العامة، سواء للفلسطينيين أو الإسرائيليين أو على المستوى الدولي، مما أفقد التحقيق رؤية أكثر شمولية لتأثير الأحداث على مختلف أصحاب المصلحة.

 

ثالثًا: انعكاسات نتائج التحقيق على ما يمكن توقعه لمستقبل الحرب المستعرة

 

  1. القدر الذي تبين من أحداث ٧ أكتوبر كشف تحولا كبيرا في القدرات العسكرية والاستخباراتية للمقاومة الفلسطينية، ما يجعلنا نتوقع تماسكا وصمودا طويلا للمقاومة أمام الضغط العسكري الإسرائيلي المستمر منذ حوالي أربعة أشهر (حتى كتابة هذا العرض). النجاح الاستخباراتي الكبير لابد أن يؤكد تقديرات المقاومة لرد الفعل الإسرائيلي لهذه الضربة الموجعة، وبالتالي الاستعداد الكافي للتصدي لها.
  2. في المقابل، أصاب ٧ أكتوبر هيبة الجيش الإسرائيلي وثقته في نفسه لدرجة تجعل استمرار الزخم العسكري لوقت طويل سيكون بالغ الصعوبة وباهظ التكلفة. إن ظلال هزيمة ٧ أكتوبر ستخيم على الجهود العسكرية بحيث يتراجع سقف أهدافها الاستراتيجية بمرور الوقت.
  3. ٧ أكتوبر غير الواقع الإقليمي والدولي لقيمة ومكانة القضية الفلسطينية، بحيث فرضت القضية نفسها من جديد بعد أن كادت تُنسى وتنزوي. هذا من شأنه زيادة الضغط على إسرائيل وداعميها – وخاصة الولايات المتحدة – لإيقاف الحرب والشروع في مسار سياسي قد يستغرق سنوات.
  4. ٧ أكتوبر وضع حواجز وكوابح قوية أمام قطار التطبيع العربي الإسرائيلي لإبطائه أو حتى إيقافه. لقد بلغ الأمر ببعض المسئولين الأمريكيين للقول بأن هدف طوفان الأقصى هو إيقاف التطبيع. وعلى كل حال فإن هذا من شأنه تمثيل ضغوط أخرى على إسرائيل وهي ترى جهودها العسكرية تقوض نجاحاتها السابقة في التطبيع مع محيطها العربي الرسمي. الأنظمة العربية في غالبها لا تعبأ كثيرا بالرأي العام لشعوبها وتعاطفهم الكبير مع الحقوق الفلسطينية، لكنها في نفس الوقت ترى الهالة الكبيرة التي كانت تراها في إسرائيل من القوة والسيطرة تتصدع في ٧ أكتوبر، ما يجعل جاذبية وإغراء التطبيع يضعف ويتراجع.
  5. قد يفرض الواقع الجديد بعد انتهاء الحرب قيودا جديدة على إمكانية تسليح المقاومة أو ترميم وتجديد ترسانتها في ظل الصدمة الضخمة التي مثلها ٧ أكتوبر، لكن من المتوقع أيضا أن تبدع المقاومة في إيجاد سبل جديدة خاصة في التزود بالإمكانيات التقنية والاستخباراتية، مع السهولة النسبية للحصول على المسيرات وأنظمة الاتصالات المغلقة والقاذفات المحمولة ونحوها، مما يمكن وصوله للقطاع.
  6. إن دراسة متأنية للعواقب طويلة المدى لـ ٧ أكتوبر، مثل التغييرات في العقيدة العسكرية، أو إعادة الهيكلة التنظيمية داخل الجيش الإسرائيلي، أو تعديلات السياسة، يمكن أن تلقي الضوء على التأثير الدائم لهذا الحدث الضخم.

 

 

[1] رابط التحقيق: https://www.nytimes.com/2023/12/30/world/middleeast/israeli-military-hamas-failures.html?auth=login-google1tap&login=google1tap&referringSource=articleShare&smid=nytcore-ios-share&unlocked_article_code=1.J00.uGrp.Sb0tdZH5ytNo

[2] وهم: Adam Goldman, Ronen Bergman, Mark Mazzetti, Natan Odenheimer, Alexander Cardia, Ainara Tiefenthäler and Sheera Frenkel

[3] يقول محمود الحسن (الصحافة الاستقصائية، ص ١٣): ويبدو التعريف الذي يُقَدِّمه رئيس المركز الدولي للصحفيين، ديفيد نابل (David Nabeul)، جامعًا لهذه العناصر؛ إذ يرى العمل الصحفي الاستقصائي سلوكًا منهجيًّا مؤسساتيًّا صرفًا، يعتمد على البحث والتدقيق والاستقصاء حرصًا على الموضوعية والدقة وللتأكد من صحة الخبر وما قد يخفيه انطلاقًا من مبدأ الشفافية ومحاربة الفساد، والتزامًا بدور الصحافة ككلب حراسة على السلوك الحكومي، وكوسيلة لمساءلة المسؤولين ومحاسبتهم على أعمالهم خدمة للمصلحة العامة ووفقًا لمبادئ قوانين حق الاطلاع وحرية المعلومات.

[4] هنا تحقيق تفصيلي للإنترسبت حول تغطية النيويورك تايمز للحرب على غزة: https://theintercept.com/2024/01/09/newspapers-israel-palestine-bias-new-york-times/

[5] قاعدة ريعيم العسكريّة بها مقر قيادة فرقة غزة المسئولة عن تأمينِ كل الحدود مع مصر من شرقي رفح إلى السودانية، وصولا إلى مستوطنة زيكيم. تضم الفرقة قوات من جميع التشكيلات العسكرية الإسرائيلية.

[6]

زر الذهاب إلى الأعلى