اختطاف الإسلامملفـات

نهاية التاريخ وصدام الحضارات

نهاية التاريخ وصدام الحضارات

(الإسلام في دائرة الاستهداف)

مقدمة:

كتبت كارين أرمسترونج في قراءتها التاريخية والمعاصرة للعقلية الغربية في تعاملها مع الحضارة الإسلامية في مواضع عدة من كتابها: (سيرة النبي محمد) توصيفاً دقيقاً عما يستبطن هذه العقلية ويسكنها، فكتبت قائلة: “لدينا في الغرب تاريخ طويل من العداء للإسلام، ويبدو أنه راسخ الجذور مثل عدائنا للسامية، وهو العداء الذي شهد صحوة تدعو للقلق في أوربا على مدى السنوات الأخيرة .. ولكن الكراهية القديمة للإسلام تواصل ازدهارها على جانبي المحيط الأطلسي، ولم يعد يمنع الناس أي وازع عن مهاجمة ذلك الدين حتى ولو كانوا لا يعرفون عنه إلا القليل. ولهذا العداء أسبابه المفهومة؛ لأنه لم يحدث -قبل ظهور الاتحاد السوفيتي في القرن الحالي- أن واجه الغرب تحدياً مستمراً من دولة أو من منهج فكري يوازي التحدي الذي واجهه من الإسلام”[1].

وقالت في موضع آخر: “وظل الإسلام يمثل تحدياً لا يتوقف للغرب حتى القرن الثامن عشر، أما الآن فيبدو أن حرباً باردة ضد الإسلام توشك أن تحل محل الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي”[2]، وقالت أيضاً: “لقد دأبنا على وضع أنماط وقوالب جديدة للتعبير عن كراهيتنا للإسلام التي يبدو أنها أصبحت راسخة في وجداننا”[3].

هذه الصورة النمطية للغرب كما في توصيف أرمسترونج تصلح لأن تكون منطلقاً لبحث أطروحتي نهاية التاريخ وصدام الحضارات في سياق استهدافهما للإسلام؛ وهما أطروحتان بالرغم من كونهما جاءتا في سياق دراسات في العلاقات الدولية، إلا أنهما في حقيقة الأمر تدوران حول دائرة معرفية وفكرية أوسع مدى وأخطر تأثيراً من دائرة العلاقات الدولية، بل تعد الأخيرة إحدى تجلياتها في الواقع المنظور، وأعني بالدائرة هنا مفهوم ما يسمى رؤية العالم.

وينبغي ونحن نحاول تفكيك هاتين الأطروحتين في نطاق بحثنا المحدد -وهو استهداف الإسلام- ألا ينصرف ذهن القارئ نحو عقلية المؤامرة التي قد تتعرض لها بعض الدراسات ذات الاهتمام المقارب لما نحن بصدده، فلا ينبغي أن تغيب حقائق المؤامرة التي يواجهها الإسلام وأهله في خضم لغط من المجافاة والمغالاة أو بين تهوين وتهويل، فالمنهج العلمي يفرض التوازن في الرؤية والتعاطي مع الحقائق التاريخية عن حجم المؤامرة والتعاطي الطبيعي معها بدون عدسات محدبة أو مقعرة[4].

رؤية  العالم ومسوغات التسكين:

إن تسكيننا لأطروحتي نهاية التاريخ وصدام الحضارات في البنية المفهومية لرؤية العالم يجلي لنا المنظومة الفكرية والمرجعية التي تنتميان إليها؛ ذلك أن مفهوم رؤية العالم بالرغم من حداثته من حيث زمنه إلا أنه من المفاهيم التي تعبر عن نمط من التفكير يرتبط بجملة من الأنساق الحضارية في تطورها وانعكاساتها المعرفية، ومن هنا فإن إشكالية رؤية العالم بحسب الدكتور سيف الدين عبدالفتاح تثير جملة من الإشكالات الفرعية، منها ما يتعلق بماهية رؤية العالم من حيث ما تحتضنه من مفاهيم كلية، ومنها ما يتعلق بمصادر رؤية العالم من حيث تصنيف هذه الرؤية ومرجعيتها دينياً أو وضعياً، ومنها ما يتعلق بالغاية الكلية التي ترتبط بالاستفادة من تأصيل رؤى العالم، وغاية الأمر أن رؤى العالم بتصنيفاتها وتكويناتها المختلفة إنما تعبر عن دراسات ما ورائية في عالم الأفكار والمعارف، وتعبر عن الفلسفة الكامنة خلفها وفقاً لهذه الرؤية وانعكاساتها في الحركة والموقف زماناً ومكاناً[5].

وهذه البنى الفكرية والإشكاليات المرتبطة بها تظهر بوضوح في مضامين نهاية التاريخ وصدام الحضارات؛ بوصفهما انعكاساً للرؤية الكونية التي يستبطنها أربابهما، ولئن كانت هاتان الأطروحتان من حيث وضعها وصياغتها مرتبطة بأشخاص معينين، فإن إطارهما المرجعي وبنيتهما والمؤسسات الخادمة أو الموظفة لهما تثبت كلها أنهما رؤيتان تعكسان بعداً ثقافياً ومعرفياً لحضارة معينة وهي الحضارة الغربية وقواها، ومن خلال مفاصل هذا البحث من حيث بيان منهجية الاستهداف وبواعثه وقواه ووسائله وأهدافه ستُجلى الخطوط العريضة التي انبنت عليهما هاتان الأطروحتان.

بواعث الاستهداف:

أولاً: الرؤية الكونية الحضارية التي يقوم عليها الإسلام ومنهجيته القرآنية، وهي رؤية توحيدية غائية أخلاقية إعمارية خيرية حضارية تعبر عن الفطرة الإنسانية السوية، وهي بذلك رؤية سننية تسخيرية تهدف إلى جعل عناصر الفطرة الإنسانية السوية في بؤرة الوعي الإنساني؛ لتهتدي مسيرة الحياة الإنسانية، وترشدها، كي يحقق الإنسان ذاته السوية في أبعادها الفردية والجماعية ويستجيب في وسطية واعتدال لحاجاتها ومتعها، على مدى أفق الوجود الإنساني بكل أبعاده الروحية والإبداعية العمرانية، قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[النحل: آية 97]، ولما كانت هذه الرؤية القرآنية هي كذلك، فهي بالضرورة رؤية تزود الإنسان بالدافعية والطاقة الوجدانية اللازمة لبناء الحياة الخيرة والحضارة وإعمار الأرض[6].

    إن الرؤية القرآنية فضلاً عما تتميز به من شمولية، وتوازن ووظيفية، تتميز كذلك وبشكل معجز ببنائها النسقي وكليتها التركيبية الجامعة، وهي الكلية التي بمقتضاها يرتبط عالم الشهادة فيها بعالم الغيب، ويتفاعلان ولا ينفكان بحال، مثلما تتصل في كنفها حقائق الكون والحياة والإنسان، بحقيقة الألوهية، وهذه الرؤية الكلية للعالم، كما يستبطنها القرآن المجيد تؤكد أن الدين الإسلامي إنما تنزل لا ليغير المعتقدات والتصورات والمفاهيم، والمشاعر والشعائر لدى من اختاروا الإيمان به فحسب، وإنما كذلك ليغير واقعهم التاريخي والحضاري .. وذلك عبر تحريرهم من كل الوصايات والأغلال، وتمكينهم من تلقي تصوراتهم، وقيمهم، ومعاييرهم، وأحكامهم، ومقاصدها الكلية من المرجعية القرآنية الحاكمة والهادية[7].

وهذه الرؤية بما أوتيت من مقومات وهدايات نظر إليها على أنها من مهددات النظام العالمي الذي تهيمن عليه القوى الكبرى برؤاها الكلية المتصارعة مع الكون والإنسان بل ومع الله تعالى، وبمنظومتها غير المتماسكة وغير المتناسقة التي لم تستطع ولن تستطيع إدراك اليقين بوجهات تفرق عن سبيل الحق وتخرج عن صراطه، وهذا ولا شك يجعل استهداف الإسلام ورؤيته الكونية الحضارية موضع استهداف من قبل المنظومة الصراعية وقواها الكبرى.

ثانياً: المنهجية الاختزالية والصراعية التي استحكمت بالعقل الغربي على مستوى فكره وحركته في ظل ما يسمى فكر النهايات الذي دفع ولا زال باتجاه استهداف الإسلام، ذلكم أن افتراض وجود تطابق بين الهوية الإنسانية وهوية الإنسان الغربي، وكذلك بين هوية التاريخ وهوية الحضارة الغربية، بحيث يتجاهل المساهمات البناءة التي قدمتها الحضارات الأخرى عبر التاريخ، ويغض الطرف أيضاً عن إمكانية تلكم الحضارات في صياغة بدائل نظرية أو عملية في المستقبل، فهذا كله لا يعد بطبيعة الحال إلا اختزالاً وتحيزاً وتطرفاً؛ لكونه منهجاً يؤدي إما إلى تجاهل قلب تلك الحقائق الراسخ والواقعي، وإما إلى اختزال جوهر الاستمرارية التاريخية إلى عامل سائد وحيد هو فكرة الصراع[8].

ومن هنا فإن أزمة الحضارة الغربية الراهنة تكمن في وصولها إلى مرحلة متطرفة من الاستعلاء وإنكار الحضارات الأخرى وثقافاتها على النحو الذي تعبر عنه نظريات النهاية (نهاية الدين، ونهاية الأيديولوجيا، ونهاية التاريخ)، كما أن مبادئ التعددية الثقافية والسياسية والقيم الخاصة بحقوق الإنسان والتسامح والحريات العامة ليست ذات مضمون إنساني عام ومحايد ينطبق على جميع البشر، بقدر ما هي متحيزة -نظرياً وتطبيقياً- للإنسان الغربي على حساب إنسان آخر لا ينتمي للغرب أو يرفض أن يكون تابعاً لحضارة الغرب[9].

قوى الاستهداف ووسائلها:

كما أشرنا من قبل بأن المنظومة الغربية كانت لها رؤيتها الكونية التي من خلالها تؤسس أطرها الفكرية ونموذجها المعرفي،  وكان من أفرادها تلكم الأطروحات التي شهدها الحقل المعرفي ذو الصلة بالعلاقات الدولية منظوراً وحركة، وبحكم ما استبطنته هذه الأطروحات من رؤى صراعية تعكس في الأصل عقلية التنميط التي تستحوذ على الغربي فتدفعه باتجاه تفسيرات تعسفية تفضي به إلى اتخاذ مواقف ضد الآخر المخالف له -وأعني به العالم الإسلامي- على مستوى علاقاته بحكم الحاجة الملحة التي تفرض عليه بناء مثل هذه العلاقات ولكن في إطار حالة من التمركز على الذات تجعله يرى نفسه نموذجاً لازم التعميم في المحيط العالمي، وهي رؤية تفرض عليه النظر إلى الآخر في دائرة التهميش والتبعية.

وفي سياق هذه الرؤية المسكونة في العقل الأوربي جاءت أطروحتا نهاية التاريخ وصدام الحضارات، والضرورة المنهجية تقضي التعرض لهما بإجمال من حيث بيان المرتكز الذي شكل قوامهما وأساسهما الفكري وإطارهما المعرفي، ثم تشفع بالقراءة النقدية من حيث تعلقها بموضوع بحثنا وهو استهداف الإسلام، والبعد المنهجي في تناول هاته الأطروحات يثير سؤالاً محورياً وإشكالياً في ذات الوقت، وهو:

-ما وجه ظهور هاتين الفكرتين في هذا الوقت -أواخر ثمانينات وأوائل تسعينات القرن الماضي-؟!

وجواب هذا السؤال الإشكالي يمكن أن يكون منطلقه ما ذكره محمد عابد الجابري في سياق آليات صنع صورة العرب والإسلام في الخطاب الغربي، فيشير إلى  أن العقل الغربي لا يعرف الإثبات إلا من خلال النفي، وبالتالي لا يتعرف على الأنا إلا من خلال الآخر، ومن هنا فهو لا يستطيع التفكير في المستقبل إلا من خلال سيناريوهات يرسم فيها لنفسه الآخر  الذي يراه العدو المنتظر[10].

وهذه الرؤية التي رسمها الجابري عن العقلية الغربية تعبر بعمق عن حقائق هذه العقلية وتجلياتها في الأبعاد الحضارية والسياسية، وتظهر بجلاء في صورتها الأمريكية، فقد وجد الغرب نفسه بعد سقوط الاتحاد السوفيتي -العدو المشترك- أما فراغ كبير أصبحت معه خلافاته وصراعاته الداخلية من دون سقف رادع، ووجدت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها فجأة دولة، بل معسكراً وترسانة من الأسلحة، بل تحالفاً دولياً بنى سياسته واقتصاده واستراتيجيته وثقافته ورؤاه المستقبلية على أساس أنه يواجه عدواً يتربص به، فإذا بالعدو ينسحب بل يختفي.

ومن هنا جاءت نظرية وجوب اختراع عدو بديل، حيث وجد المنظرون الاستراتيجيون في الإسلام ضالتهم، وتمت صناعة صور العدو البديل على المستوى الفكري كما كان مع نظريتي نهاية التاريخ لفوكوياما وصدام الحضارات لهانتجتون؛ فالغرب بهيمنته الأمريكية لا بد له من عدو يجسد الشر، فإذا لم يكن موجوداً، يفقد الخير المفترض مبرر وجوده، وهذا ما يدفع باتجاه صناعة واختراع العدو[11].

نهاية التاريخ:

تستند أطروحة نهاية التاريخ التي نادى بها فرانسيس فوكوياما[12] على أن الديمقراطية الليبرالية تشكل نقطة النهاية في التطور الأيديولوجي للإنسانية، والصورة النهائية لنظام الحكم البشري، وبالتالي هي تمثل نهاية التاريخ بعد أن لحقت الهزيمة بالأيديولوجيات المنافسة مثل الملكية الوراثية، والفاشية، والشيوعية[13].

وفي إطار رؤيته حول الإسلام ومنظومته الحضارية والتاريخية يرى فوكوياما أن الإسلام يشكل أيديولوجيا متسقة ومتماسكة شأن الليبرالية والشيوعية، وأن له معاييره الخاصة به، ونظريته المتصلة بالعدالة السياسية والاجتماعية، كما أن له جاذبية يمكن أن تكون عالمية، داعياً إليه البشر كافة باعتبارهم بشراً لا مجرد أعضاء في جماعة عرقية أو قومية معينة. وقد تمكن الإسلام في الواقع من الانتصار على الديمقراطية الليبرالية في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي، وشكل بذلك خطراً كبيراً على الممارسات الليبرالية حتى في الدول التي لم يصل فيها إلى السلطة بصورة مباشرة.

غير أنه بالرغم من القوة التي أبداها الإسلام في صحوته الحالية، فبالإمكان القول: إن هذا الدين لا يكاد يكون له جاذبية خارج المناطق التي كانت الأصل إسلامية الحضارة، وقد يبدو أن زمن المزيد من التوسع الحضاري الإسلامي قد ولى .. بل إنه قد يبدو أن العالم الإسلامي أشد عرضة للتأثر بالأفكار الليبرالية على المدى الطويل من احتمال أن يحدث العكس، حيث إن مثل هذه الليبرالية قد اجتذبت إلى نفسها أنصاراً عديدين وأقوياء لها من بين المسلمين على مدى القرن ونصف القرن الأخيرين. والواقع أن أحد أسباب الصحوة الأصولية الراهنة هو قوة الخطر الملموس من جانب القيم الغربية الليبرالية على المجتمعات الإسلامية التقليدية[14].

ويرى فوكوياما أن العالم سينقسم إلى جزء ما بعد تاريخي يضم الدول الديمقراطية الليبرالية، وجزء آخر يظل دائماً في التاريخ ودورته المفتوحة، ويشمل الدول غير الديمقراطية الليبرالية، إلا إذا انتقلت هذه الأخيرة إلى جنة الديمقراطية الليبرالية، وعندها ترقى إلى الجزء المابعد التاريخي، أما العلاقات بين العالمين، فسوف تتوافر لها محاور عديدة يتصادمان فيها، وستظل متسمة بالحذر والخوف المتبادلين بحيث تبقى الكلمة الفصل للقوة، وتظل الإمبرالية -بما هي هيمنة مجتمع على مجتمع آخر بالقوة- والحرب تمثلان ثابتين في الدول التاريخية، ووسيلتين تتحقق بهما غريزة التسلط والاستبداد، التي تشكل السبب الرئيس لنشوب الحروب والصدامات بين البشر وبين الدول[15].

وعلى إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر ازداد إصرار فوكوياما على اعتبار الإسلام المنظومة الثقافية الوحيدة التي تعادي الحداثة وقيم الليبرالية؛ حيث يؤكد على أن الإسلام يوجد فيه شيء ما يجعل المجتمعات الإسلامية معادية للحداثة، فمن بين جميع الأنظمة الثقافية المعاصرة يحتوي العالم الإسلامي -حسب رأيه- أقل عدد من الديمقراطيات، ولا يحتوي على أية أمة استطاعت الانتقال من وضع دول العالم الثالث إلى العالم المتقدم[16].

وهناك ملحظان في تحليل هذه الأطروحة ونقدها، وهما:

  1. إن إشكالية نهاية التاريخ من حيث قوامها الفلسفي كما يراها المسيري إشكالية كامنة في كثير من النظم الفلسفية، ولكنها تحولت إلى موضوع أساسي في الحضارة الغربية المعاصرة منذ عصر النهضة، مع هيمنة النموذج المتمركز حول الطبيعة، ومقتضى أطروحة فوكوياما إعلان نهاية الإنسان وانتصار الطبيعة/المادة، أي الموضوع اللاإنساني على الذات الإنسانية، ومعناه تحول العالم بأسره إلى كيان خاضع للقوانين الواحدية المادية التي تجسدها الحضارة الغربية، والتي لا تفرق بين الإنسان، والأشياء، والحيوان، والتي تحول العالم بأسره إلى مادة استعمالية، فنهاية التاريخ هي في واقع الأمر نهاية التاريخ الإنساني وبداية التاريخ الطبيعي[17].
  2. وأما في بعدها السياسي، فإن نظرية نهاية التاريخ لفوكوياما والتي تؤكد انتصار الديمقراطية الليبرالية غير المشروط واعتباره المرحلة الأخيرة من مراحل التطور الأيديولوجي الإنساني، تلك النظرية -التي لا تتعدى حيز التكهن- دعمت القوى المهيمنة بما تحتاجه من مبررات نظرية لإعادة هيكلة النظام العالمي، والتأثير فيه والسيطرة على مقدراته بالقوة[18]، وما يؤكد هشاشتها وعدم تماسكها أن صاحبها نفسه كما يقول الجبوري قد تراجع في كتابه (التمزق الكبير) الذي أصدره عام 1999م عما توصل إليه من نتائج في كتابه السابق (نهاية التاريخ) حول السيادة المطلقة للنموذج الغربي على العالم ككل، ورغم أن الفاصلة الزمنية بين صدور الكتاب الأول والثاني تتعدى العشرة أعوام، إلا أن ما شهدته تلك المرحلة التاريخية القصيرة، والتي لم تتضح بعد كل معالمها وآفاقها وتجلياتها، يبدو من الأهمية والخطورة بمكان بحيث إن صياغة استنتاجات نهائية حسامة يعد أمراً ينطوي على الكثير من التسرع واللاواقعية[19].

صدام الحضارات:

تستند أطروحة هانتجتون[20] من حيث إطارها النظري إلى أن الصراع العالمي هو صراع ثقافات وأديان وليس صراع مصالح، وعلى أن تفسير تقدم الدول وتأخرها هو بحسب الحالة الثقافية والانتماء الديني، ويرى أن الثقافة تشكل مصدراً للصراعات الرئيسة بين البشر، ويلخص هانتجتون كتابه ذا الفصول الخمسة في أوله هذه الفرضية مبيناً أن الموضوع الرئيس لهذا الكتاب هو أن الثقافة والهويات الثقافية والتي هي على المستوى العام هويات حضارية، هي التي تشكل أنماط التماسك والتفسخ والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة، مشيراً إلى جملة من الأفكار الفرعية منها[21]:

-شهود التاريخ المعاصر تعدداً في أقطاب السياسة الدولية وتعدداً في الحضارات، مشيراً إلى تمييزه بين الحداثة والتغريب، وأن التحديث لا يؤدي إلى تغريب المجتمعات غير الغربية.

-ميزان القوى بين الحضارات يتغير، والغرب بدوره يتدهور في تأثيره النسبي، والحضارات الآسيوية تبسط قوتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، والإسلام ينفجر سكانياً مع ما ينتج عن ذلك من عدم استقرار بالنسبة للدول الإسلامية وجيرانها.

-مزاعم الغرب -بحسب ترجمة الشايب- تضعه بشكل متزايد في صراع مع الحضارات الأخرى وأخطرها مع الإسلام والصين.

-بقاء الغرب يتوقف على الأمريكيين بتأكيدهم على الهوية الغربية، وعلى الغربيين عندما يقبلون حضارتهم كحضارة فريدة وليست عامة، ويتحدون من أجل تجديدها والحفاظ عليها ضد التحديات القادمة من المجتمعات غير الغربية.

الإسلام الخطر الحقيقي على الغرب:

وفي سياق تركيزه على الخطر الإسلامي، يرى هانتجتون أن المشكلة بالنسبة للغرب ليست الأصولية الإسلامية بل الإسلام نفسه[22]، ولهذا يمثل الإسلام في رأيه خطراً عظيماً على الغرب، حيث تفشل الحركات الديمقراطية الليبرالية في المجتمعات الإسلامية فشلاً ذريعاً بسبب طبيعة الثقافة الإسلامية والمجتمع الإسلامي الرافض لمفاهيم الغرب الليبرالية مما يجعلها في صدام مع الغرب[23].

ويعترف هانتجتون أن هناك جملة من العوامل التي زادت من الصراع بين الإسلام والغرب في أواخر القرن العشرين، منها الصحوة الإسلامية التي أعطت ثقة متجددة للمسلمين في طبيعة وقدرة حضارتهم وقيمهم المتميزة مقارنة بتلك التي لدى الغرب، وكذلك جهود الغرب المستمرة لتعميم قيمه ومؤسساته من أجل الحفاظ على تفوقه العسكري والاقتصادي، والتدخل في الصراعات في العالم الإسلامي تولد استياء شديداً بين المسلمين[24].

وبحسب روبرت جرين فإن نظرية هانتجتون كانت متكئاً يستند عليه صانعو السياسة الأمريكية؛ ذلك لأنهم كانوا -حسب رأيه- تائهين في البحث عن معالم نظام جديد بعد الحرب الباردة من دون العثور على أية مؤشرات ملموسة لها، بل فوجئوا بلطمة الأحداث في كثير من مناطق العالم، ولم يتمكن هؤلاء من وضع استراتيجية يمكن اتباعها عند التعامل مع الأحداث؛ ولهذا لجؤوا إلى التحذير من حقبة حالكة، إلا أنهم وجدوا ضالتهم في نظرية هانتجتون[25].

وهو تقرير يبدو غريباً لأول وهلة؛ بل ويتعارض مع الفكرة التي طرحها نعوم تشومسكي إذ يقول: “المبادئ الأساسية للاستراتيجية الإمبريالية الكبرى، المعلنة في أيلول/سبتمبر 2002، تعود إلى مطلع الحرب العالمية الثانية. فحتى قبل أن تدخل الولايات المتحدة تلك الحرب، خلص المخططون والمحللون على أعلى المستويات إلى ضرورة أن تسعى الولايات المتحدة في عالم ما بعد الحرب، إلى امتلاك قدرة لا ريب فيها وأن تعمل على ضمان حدود معينة لأية ممارسة سيادية من جانب دول قد تعيق مخططاتها العالمية”[26]، ولكن يظهر أن هذا التحليل الذي ساقه جرين يتناغم مع ما ذكرناه أولاً من أن الغرب عنده هوس بصناعة العدو؛ لإثباته وجوده وليعرف الأنا التي عنده، ولكن بعد انهيار الخطر الأحمر، وجد في الإسلام وعالمه ضالته فوجه جهوده نحو جعله عدواً.

وفي سياق القراءة التحليلية لهذه الأطروحة يلاحظ الآتي:

  1. عند النظر النقدي لهذه الرؤية ومدى قربها وبعدها من أطروحة نهاية التاريخ يشير بعض المحللين السياسيين إلى أن أطروحة هنتنجتون هي عكس أطروحة فوكوياما، على اعتبار أن الأول يعلن تصاعد الصراع بين الحضارات، بينما يعلن الثاني انتهاء الجدل والتدافع والتاريخ، والأمر هو بالفعل كذلك لو تم الاقتناع بالمستوى التحليلي السياسي وبنقل الأفكار، أما عند التعمق والنظر الدقيق، فإنه يمكن الخروج برؤية مفادها أن النظريتين تصبان في بوتقة واحدة ومقصد واحد.

والملاحظ أن العناصر الأساسية التي تفضي إلى اختلاف الحضارات عند هنتنجتون هي التاريخ، واللغة، والحضارة، والتقاليد، ولكن أهم العناصر طراً هو الدين، ولا شك أن الحضارة التي ينتمي إليها ويحاول الدفاع عنها وعن قيمها هي الحضارة الغربية، ودينها يتمثل في: الديمقراطية، والاقتصاد الحر، وفصل الدين عن الدولة، والليبرالية، والدستورية، وحقوق الإنسان، دون أن يكون لها قطيعة عن نصرانيتها المنحرفة، ولكون الحضارة الغربية تمثل الحالة الطبيعية، فإن كل مخالف لها لا بد من تقويمه ووضعه على المسار الصحيح الذي تمثله حضارته، وعلى هذا الأساس يتمسك بنظريته في الصدام، ولا يخفى أن التعددية التي يستند عليها لا تمثل في الحقيقة إلا ثنائية صلبة، فالعالم في رأيه ينقسم على قسمين: الغرب من جهة، وبقية العالم من جهة أخرى[27].

  1. في السياق القيمي تفرض هذه الأطروحة تصادماً في القيم، فهي أسوة بقسيمتها نهاية التاريخ تعبر عن الحضارة الغالبة، ونسق من القيم يقوم في سياق المغالبة والمصادمة، وتعبر بمقولاتها عن مكونات ثقافية وأطر قيمية ظاهرة كامنة، قائمة على تزكية النسق القيمي الغربي وتعميمه وكوننته وعالميته، بينما في المقابل تبحث في تهميش الأنساق القيمية الأخرى أو افتراض عناصر مواجهة شبه محتومة بين الحضارات وأنساقها القيمية[28].
  2. في سياق ملاحظاتها على أطروحة صدام الحضارات تتساءل الدكتورة نادية مصطفى عن الجديد الذي أضافته هذه الأطروحة حتى يتصدر الاهتمامات دراسة ونقداً، ومرجع تساؤلها وتعجبها أن الأطروحة تتساوق مع العديد من الدراسات في مجالات معرفية مختلفة التي تثبت أن الصراع هو منهج الغرب ذاته تجاه العالم وتجاه المسلمين بصفة خاصة؛ لأنه يرى فيهم وفي الإسلام تهديداً ذا طابع خاص، وتنبع هذه الرؤية من كيفية إدراك الأبعاد الحضارية الثقافية الكامنة في الأمة المسلمة.

ثم في شق آخر من السؤال ألا يعني التصريح بالبعد الحضاري في الصدام أن الهيمنة الغربية لن تكتمل بالهيمنة السياسية والاقتصادية فقط ولكن يلزم لاكتمالها الهيمنة الحضارية أيضاً وفي قلبها الهيمنة الثقافية؟ هذا فضلاً عن كون التهديد الذي يشير إليه هانتجتون مصدره الغرب نفسه وليس المسلمين، فالعامل الرئيس الذي يفجر الصراع هو تلكم الهيمنة الغربية في صدام الحضارات[29].

وهذا الذي أثارته الدكتورة وخاصة في إطار الرؤية الكلية التي تسكن فيها أطروحة هانتجتون وأمثالها يعد حقيقة لا مراء فيها، فلو تأملنا أطروحات وأفكار غير هانتجتون ، لدل على الصورة النمطية عن الإسلام والمسلمين، وعلى سبيل المثال يقول نيكسون: “معظم الأمريكيين ينظرون نظرة موحدة إلى المسلمين على أنهم غير متحضرين، وسخين، برابرة، غير عقلانيين، لا يسترعون انتباهنا إلا لأن الحظ حالف بعض قادتهم وأصبحوا حكاماً على مناطق تحتوي على ثلثي الاحتياطي العالمي المعروف من النفط”[30].

الاستهداف بالاختطاف:    

لا يقف الاستهداف عند حدود النقد والنقض لمقومات المنظومة الإسلامية منهجاً وحضارة وتاريخاً، بل يتجاوزها إلى محاولة بناء أجيال من المسلمين يخنعون ويخضعون للهيمنة الغربية وسطوتها، وهو نوع من التأثير النفسي الذي تعكسه علاقة الغالب بالمغلوب، فبحكم الغلبة التي حققته الحضارة الغربية على مثيلتها الإسلامية في هذا العصر، يحرص الغرب على إعادة تشكيل العقلية المسلمية بما يتوافق مع أهدافه وخططه في الهيمنة والتحكم بمقومات الأمة وأجيالها مادة ومعنى؛ وذلك عبر بعث رسائل مفادها أن الإسلام اليوم لا يقوى على مواجهة الغرب ومنتوجاته على مستوى الفكر والمادة، فيرسم في أبناء وأجيال الأمة وعقولهم صورة الخنوع والاستسلام والقبول بالخضوع في حالة من الهوان والمهانة على الوصف الذي جاء في حديث التداعي على الأكلة، ورسم هذه الحالة لا يعدو كونه نوعاً من أنواع الاختطاف الذي استهدفته المنظومة الغربية وقواها الفاعلة.

وسائلهم في استهداف الإسلام:

اتخذ الغرب بما أنه مستهدف للإسلام وسائل متعددة لمواجهته:

أولاً: شن الحروب:

ظاهر أن هناك جملة من العوامل والأسباب التي تجعل السياسة الغربية سياسة صراعية، أولها أن المنطق الذي يحكم هذه السياسة في علاقاتها الخارجية هو منطق الصراع والحرب، ومرجع ذلك الدين ذاته هذا فضلاً عن الإرث والثقل التاريخي المستحكم في هذه العقلية، وكما يذكر الدكتور عبدالرزاق المقري أن تاريخ الحروب الصليبية أثر تأثيراً كبيراً في تشكيل معالم النظر الغربية للإسلام، فإبقاء هذا الدين في أدنى مستوياته الحضارية يعد بالنسبة للضمير الغربي بمثابة الواجب الذي لا يمكن التخلي عنه[31].

ولا شك أن الأحداث التي أصابت الأمة المسلمة على إثر حادثة الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها من مواقف غربية في التعاطي معها تثبت من حيث الدليل والبرهان صدقية هذا المستوى من النظر والتحليل بعيداً عن عقلية المؤامرة، فمن غير المستغرب أن يصدر معهد القيم بالولايات المتحدة الأمريكية في فبراير 2002م بياناً وقع عليه ستون شخصية من كبار المفكرين والفلاسفة والشخصيات الاعتبارية الأمريكية بعنوان: “على أي أساس نقاتل”؛ قاموا فيه بتسويغ وتبرير وتمرير الحرب الأمريكية المقبلة ووصفوها بالحرب العادلة! وهو مصطلح له دلالاته في الخلفية والذهنية التاريخية والفكرية لدى الغرب، وكان من الموقعين صامويل هانتجتون وفرانسيس فوكوياما[32].

ومما جاء في البيان الذي يمد السياسين والعسكريين الأمريكان بغطاء من المشروعية الأخلاقية: “إنا نعلم بمقتضى العقل، ومن خلال التأمل الدقيق في الأخلاق أنه في بعض الأحيان يكون أول وأهم ما يقام به لمواجهة الشر هو إيقافه، وفي بعض الأوقات لا يكون الشروع في الحرب جائزاً فحسب، بل واجباً أخلاقياً”، وهذا التوجه يتسق تماما مع العقيدة النصرانية اليهودية المتطرفة، والتي يعتقد أربابها في أمريكا وأوربا اليوم أن العودة الثانية للمسيح والحكم الألفي الذي ورد في سفر الرؤيا سوف تسبقها حروب مدمرة تنتهي بحرب هرمجدون في فلسطين، وأن هذه الحروب أمر حتمي كي يعود المسيح عليه السلام ويحكم الأرض[33].

ثانياً: استغلال المنظمات الدولية والهيمنة عليها:

عمل الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية على توظيف المنظمات الدولية وتوظيف ما يسمى بالشرعية الدولية بما يخدم مصالحها عن طريق سيطرتها على مجلس الأمن الذي يختص بإصدار قرارات تشرع للولايات المتحدة الأمريكية استخدام القوة في سياساتها الخارجية، واستغلال الصراعات الإقليمية لتحقيق أهداف استراتيجية مماثلة في السياق ذاته، ولعل ما حدث في حرب الخليج الثانية إبان أزمة الكويت يعد مثالاً ظاهراً في التوظيف الأمريكي للمنظمة الدولية لتحقيق أهداف أمريكية[34].

وكذلك ما حدث في الأزمة البوسنية فقد أكدت الأحداث السياسية التي وقعت في مطلع التسعينات من القرن الماضي بشكل لا يقبل الجدل صحة التكهنات التي وردت في بعض الأبحاث السياسية، حينما تم تدمير التراث والهوية الإسلامية في قلب القارة الأوربية باستخدام أساليب بربرية من التطهير العرقي، مما برهن على تفاقم الاختلالات التي ينوء بها النظام العالمي، تلك الاختلالات التي اجترحتها يد الحضارة الغربية[35].

ثالثاً: فرض مشاريع الهيمنة:

بعد انطلاق آلة الحرب الأمريكية برفقة حلفائها الغربيين في أفغانستان والعراق، كان لا بد لاكتمال حلقات المكر السياسي أن تنطلق مشاريع أخرى على الصعيد السياسي، وكان هذا فيما عرف بمادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية، وهذه المبادرة أطلقها وزير الخارجية الأمريكي آنذاك كولن باول في 12/12/2002م، وذلك في إثر وثيقة الشروط الأمريكية التي صدرت من مكتب مستشارة الأمن القومي آنذالك كوندليزا رايس، وقد اجتمعت على صياغة هذه المبادرة فرق عمل متعددة وخبراء متخصصون في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية، وعني ريتشارد هاس مدير إدارة التخطيط بوزارة الخارجية الأمريكية بوضع قواعدها التأصيلية، وعنيت رايس بترتيب بنودها، وعمل باول على إعداد خارطة الساحة التنفيذية للمبادرة، وقد هدفت المبادرة تنفيذياً إلى عدة أمور، منها[36]:

-محاربة ما يسمى الإرهاب.

-تغيير أنظمة ومناهج التعليم في البلاد العربية والإسلامية.

-العناية بالتدريب الموجه من خلال عقد دورات تدريبية وبرامج متعددة لتشكيل العقل المسلم وفقاً للرؤية الأمريكية والغربية.

-استغلال الأقليات غير المسلمة.

-العبث بملف المرأة.

-إحداث الفوضى الخلاقة.

رابعاً: الإعلام وتكنولوجيا المعلومات:

تلعب وسائل الإعلام الغربية المرئية والمقروءة دوراً خطيراً في تشويه صورة الإسلام للرأي العام الغربي والعالمي، من خلال وصم الإسلام بالإرهاب والتطرف والأصولية، بالاستفادة من أحداث العنف التي تحصل في أكثر من أي بلد عربي وإسلامي، ولأغراض توظيفية أخذت هذه القضية حيزاً كبيراً في الإعلاميات الغربية، تقول: المستشرقة الألمانية آني ماري شميل: “إن من أكبر المصائب ميلنا الدائم إلى أن نساوي الإسلام باليوم بما يسمى بالأصولية والإرهاب، وهذا يعود إلى فهمنا الخاطئ للدين، إلى جانب جهلنا بالإسلام يجعلنا نحكم على المظاهر التي تقدمها لنا وسائل الإعلام بشكل صور دامية تسلب منا كل قدرة على الموضوعية”، ونتيجة الابتذال والسطحية وانعدام الموضوعية التي تقدمها وسائل الإعلام الغربية في علاقة الإسلام والغرب، ظهرت أصوات في الغرب تنقد هذه الطريقة ولا تثق بها، ومن هذه الأصوات ما جاء على لسان الوزير الألماني السابق للثقافة في مقاطعة بافاريا، الذي يعتقد أن من الغبن أن لا ننظر إلى الإسلام إلا من زاوية ما تقدمه لنا معظم وسائل الغربية على أنه عنف وتطرف وأصولية[37].

خامساً: مراكز البحوث والدراسات:

سعت مراكز البحوث الفكرية الغربية المهتمة بالشرق الأوسط إلى تقديم العديد من التوصيات والبحوث والدراسات لإداراتهم السياسية في مشاركة فاعلة لتوجيه المعركة الفكرية مع العالم الإسلامي أسوة بقسيماتها المعارك العسكرية والاقتصادية، وأظهرت الأعوام الأخيرة وجود اتجاهين فكريين بين هذه المراكز فيما يتعلق بتوجيه السياسة الغربية تجاه العالم الإسلامي وخاصة في صورتها الأمريكية، وكلا الاتجاهين يؤكدان على المواجهة مع التيارات الإسلامية، ولكنهما يختلفان حول طريقة إدارة هذه المواجهة.

ويرى الاتجاه الأول أنه يمكن إشراك بعض الإسلاميين من المعتدلين ضمن آليات الحكم والتأثير في العالم العربي والإسلامي؛ بشرط موافقتهم الكاملة على اللعبة الديمقراطية واشتراكهم بها، والتأكيد على التسليم بقواعد تلك اللعبة ونتائجها، ومن المراكز الفكرية التي تتبنى هذا الاتجاه مركز كارنيجي ومركز بروكينجز، بينما يرى الاتجاه الثاني بضرورة مواجهة الخطر الإسلامي من خلال تحجيم مؤسسات العمل الإسلامي، ووصمها بالإرهاب والتطرف، وإقصائها ما أمكن عن الحياة العامة وقنوات التأثير الفكري والإعلامي، ومن أهم المراكز الفكرية التي تتبنى هذا التصور مؤسسة راند[38]، وظاهر أن التأثير والفاعلية في صناعة القرار السياسي بحكم الوقائع ومجريات الأحداث كانت للاتجاه الثاني.

وبوجهة نظر غربية وحسب ريتشارد هاس فإن هذه المؤسسات تؤثر على صانعي السياسة الخارجية بخمس طرق: توليد الأفكار والخيارات المبتكرة في السياسة، وتأمين مجموعة جاهزة من المختصين للعمل في الحكومة ، وتوفير مكان للنقاش على مستوى رفيع، وتثقيف مواطني الولايات المتحدة عن العالم، إضافة إلى اعتبارها وسيلة مكملة للجهود الرسمية الدولية للتوسط وحل النزاعات[39].

سادساً: التمويل الموجه والمشروط:

تعد المساعدات آلية من آليات الغرب لفرض منظومات القيم والأفكار التي تشكل مضامين الاختراق الثقافي والحضاري، تنقض بها المنظومة الإسلامية ومرجعيتها بالاستبعاد تارة وبالتشويه تارة أخرى، وهذا ينعكس بالضرورة على البنية المجتمعية المسلمة بالفساد والانحراف على مستوى التنشئة بمختلف أبعادها: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية[40].

سابعاً: الاختراق الثقافي والسياسي (الوكلاء والجماعات الوظيفية):  

يقول المسيري في توصيف هذا الاختراق: “من الظواهر التي تستحق الاهتمام، وبخاصة من الدارس العربي، ما نسميه (الدولة الوظيفية). ونحن نذهب إلى القول بأنه يمكن إعادة إنتاج نمط الجماعة الوظيفية على مستوى الدولة في أشكال مختلفة … يمكن تحويل اتجاه دولة ما بحيث تنحو منحى وظيفياً عن طريق تحويل النخبة الحاكمة إلى جماعة وظيفية تدين بالولاء للاستعمار الغربي. وتنظر للمجتمع الذي تنتمي إليه نظرة تعاقدية باردة فتنعزل عنه وتشعر بالغربة ويزداد ارتباطها العاطفي والثقافي والاقتصادي بالمركز الإمبريالي”[41]، وهو اختراق لا يسع ويستوعب النخب الحاكمة فحسب، بل يتجاوزه إلى غيره من أبناء هذه الأمة.

وقد ارتبطت هذه الظاهرة أساساً بالغزو الفكري الذي جعل من وسائله ما أسماه حبنكة الميداني التفريغ والملء، الذي يقوم على تفريغ الأفكار ثم ملئها بمخترعات فكرية وعاطفية مزورة ومزيفة تخدم غايات العدو ، ثم القيام بهدم كل مقوم من مقومات الأمة العقدية والخلقية والتاريخية ومحاربته[42].

وسائل واستراتيجيات المواجهة:

يغلب على النظر في إطار الوسائل واستراتيجيات المواجهة البعد الفكري والنظري؛ وهذا مرجعه طبيعة البحث ومضمونه كونه يخوض في إطار أطروحات فكرية ولها انعكاساتها في المجال العملي من سياسات ومشاريع وغيرها، ولكن لا شك أن هناك وسائل عملية يلزم استدعاؤها في مواجهة هذا الاستهداف أسوة بالحضانة الفكرية والمنهجية التي يلزم التأسيس عليها في هذا الإطار، ومن هنا فإن هناك شقين في موضوع المواجهة هنا، شق تنظيري يراعي بيان الأهمية في تحصين العقل المسلم ومنظومته المرجعية من الاستهداف والاختطاف، ثم هناك شق عملي في بيان أهم الوسائل العملية في تحقيق هذه المواجهة وكيفية إنجاحها:

أولاً: إشاعة التحصين بالمنهج القرآني، ولا يخفى أن هذا المنهج قد أصل جانب التحصين من الأفكار الدخيلة والهجينة؛ بغية حماية المسلم وعقليته من الدخن والدخل، وعند التأمل في السياق القرآني يدرك المسلم المتدبر لكتاب الله هذا الأمر بصورة جلية عند التعرض لقوله تعالى مثلاً قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ[البقرة: آية 11]، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾البقرة: آية 42]، وقوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾[البقرة: آية 96] .. في آيات أخر، والناظر في مفاصل الآيات وغيرها فإنها توقفه على جملة من الخصائص والسمات التي تنطلق على النموذج الغربي؛ وأبرزها الحيدة عن المنهج الحق من خلال: الإفساد في الأرض، وإلباس الحق بالباطل، وتحقيق المصالح الضيقة بالحرص على الحياة، والصراع من أجلها.

ومن أفراد ذلك في بعدها العملي ضرورة تحقيق الوعي الثقافي وتشكيل العقلية المسلمة بإعادة بناء عالم الأفكار، وذلك بوضع استراتيجية ثقافية تتجاوز مرحلة الرسم بالفراغ التي ساهم في تكريسها الموروث الضار والغزو الثقافي، ويبقى المطلوب دائماً المزيد من التأكيد على المسألة الثقافية؛ لكونها تعد الأساس في الحفاظ على البنية الحضارية للأمة.

والدعوة إلى إعادة تشكيل العقل المسلم ذات بعدين[43]:

تصحيح التصور الذي يضمن رؤية متوازنة تمكن العقل المسلم من قراءة الظواهر الاجتماعية بإحكام وفقاً للمنهج السنني الذي تستبطنه المنهجية الإسلامية؛ كونها تصدر عن تصور شامل للكون والحياة والإنسان، فلا يقع المسلم فريسة للتفسيرات المنحرفة التي تفرضها الرؤى الكونية الغربية.

تخليص العقل من النظر الجزئي خارج سياق الرؤية الكلية، وإبعاده عن إشكالية التبعيض؛ وهذا يكفله البناء الكلي للثقافة الإسلامية في رؤيته الجامعة للكون والحياة والإنسان، ومن هنا كان من الضروري التأكيد على أهمية المنهج ودوره في حركة الإنسان الفكرية والحضارية، فليس ثمة طريق يوصل إلى الأهداف مهما بذل من جهد وقدم من عطاء إلا من خلال المنهج.

ثانياً: ويتحقق هذا أيضاً بالعودة إلى الأصول والثوابت التي تضمن وتؤمِّن مجابهة التخريب والإفساد بشقيه المادي والمعنوي الذي يطرأ على رؤيتنا للعالم، فالقرآن بما يثيره سياقه النصي والموضوعي يندد بكل عمل أو نشاط من شأنه أن يؤول إلى الفساد والإفساد في الأرض وإلى إبطال الإيمان والعمل الصالح. إن من شأن التمسك بالأصول والثوابت الحفاظَ على مسار الإصلاح في الأرض وإعمارها وتحقيق الاستخلاف الذي يضمن الفاعلية الحضاري والجهاد الحضاري.

ثالثاً: الإسلام كان ولا يزال يحتفظ بقدرة ثقافية حضارية فاعلة مع كل ما أصاب العالم الإسلامي من هزائم ونكسات وتدمير دفعت به نحو التراجع والتخلف الشامل، فهو لم ينهزم ثقافياً من أي قوة عسكرية أو اقتصادية أو حضارية في كل مراحل التاريخ، والسر أن الإسلام يكتسب هذه القدرة وهذه المكانة من كونه رسالة سماوية هي خاتمة الديانات، وقد تعهد الله سبحانه وتعالى بحفظها من التزييف والتحريف والزوال، وهو القائل سبحانه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر: آية 9]، ولهذا تجد القرآن متصفاً بالمعالم المنهجية التي يستوعب بها حاجات البشرية زماناً ومكاناً، وهذه المعالم هي: الاستيعاب والتجاوز، والهيمنة والتصديق، والشمول والعموم، والإطلاق، وهو ما انعكس على ما اتصف به الإسلام من خصائص بكامل منظومته، منها: العالمية والإنسانية والتوازن والتكامل والشمولية[44].

رابعاً: في إطار الحديث عن الأزمة الحضارية واسعة النطاق بعد نشوء العديد من الاختلالات التي تعتري الأسس التكوينية لنموذج الحضارة الغربية، تظهر جملة من المخارج في كيفية التعاطي مع هذه الأزمات وفقاً للدكتور أحمد داود أوغلو، ومن أهمها في رأي الباحث:

-الإصلاحات العلمية من داخل البنية الغربية نفسها بعد النقد الذي وجه إليها من قبل كثير من المفكرين الغربيين، فقد شكلت تلك الكتابات وأمثالها تياراً نقدياً داخل النموذج الحداثي الغربي؛ إذ انطلق أصحابها في نقدهم من الأسس الفلسفية التي شكلت النموذج الحداثي وأدت إلى أزمته الراهنة، وهذا يساعد المسلمين في تحويل الوجهة من دائرة الدفاع  إلى دائرة الهجوم[45].

    ومن أفراد ذلك التأكيد على الطابع العنصري في البنية العقلية الغربية، فما ردده مثلاً فوكوياما من أن النموذج الغربي والليرالية المتوحشة هي نهاية التاريخ، وكذلك ما ردده هانتجتون من أن الحضارة الغربية حضارة فريدة، بل وترديده أن الهوية الأمريكية هوية بيضاء، ما هي في الحقيقة إلا ادعاءات عنصرية وفكر فلسفي عنصري[46]، يلزم نقده ونقضه بالحجج والبراهين الفكرية والعقلية والحسية على حد سواء، وهذا الفكر والطابع العنصري ليس بعيداً عن خطابات الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترمب ودعوته إلى الطبيعة البيضاء للهجرة.

-تقديم الإسلام على أنه بديل حضاري من خلال استثمار القابلية على التمسك بالهوية الإسلامية في أحلك الظروف؛ ذلك أن إعادة إحياء الهوية الإسلامية تعد من صيغ التحولات الحضارية، ويمكن أن يقدم بديلاً حضارياً متكاملاً باستطاعته أن يتحدى الحضارة الغربية بدلاً من أن يكون مصدر تهديد سياسي لها.

    وهنا أثار فون جرونباوم سؤالاً مهماً في مقال كتبه حول سر صمود المقومات الأساسية في الحضارة الإسلامية وقدرتها على الاستمرار، قال: “إن الأمم تتألف وتتفكك، والحضارات تزدهر وتندثر، لكن الإسلام بقي صامداً وقادراً على احتواء أهل الحضر، وأهل المدر، ومستوعباً بناة الحضارات داخله وأولئك الذين يدمرونها؛ فما هذه إذن العوامل التي جمعتهم كأمة واحدة، وما الذي جعلهم يتجهون بوعي أو بدون وعي صوب المحافظة على خصوصيات شخصيتهم المتفردة، في الوقت الذي راحوا يوطدون فيه علاقاتهم مع دين إسلامي عالمي ويعتبرونه أثمن ممتلكاتهم الروحية؟”، إن انهيار الإمبراطورية السوفيتية وظهور الوعي الإسلامي في الأراضي التي خضعت ردحاً من الزمان للسوفيت الملحدين يؤكد عمق المغزى الذي يشير إليه سؤال جرونباوم عن سر خلود الحضارة الإسلامية وتحديها لعوادي الزمن[47].

    وهذا الذي أثاره الدكتور أوغلو في حقيقته يأخذ بالحسبان بيان القيمة العليا التي تستبطنها الرؤية الإسلامية للعالم، فتوحيدية الإسلام في هذه الرؤية تنعكس في نطاقه الفكري والقيمي والذاتي على رؤيته في النظر إلى الإنسان في العالم كله، وليس هذا فحسب بل ينصرف كذلك صراحة إلى رؤية الإنسان فيما وراء عالم الشهادة، أعني به امتداد هذا العالم ومساره في الآخرة، فينعكس هذا بالضرورة على الفعل الإنساني من خلال التنبيه على وظيفيته في هذه الحياة وهي الاستخلاف الذي يلغي ازدواجية العالمين بوحدة الدنيا والآخرة، وعلى هذا الأساس تأخذ هذه الرؤية الكونية التوحيدية أبعاداً ثلاثة في كيفية النظر إلى العالم، وهي: عالمية الوحي والرسالة والدعوة، ثم نفي الإكراه، وأخيراً إقرار تعددية الأديان[48].

خامساً: من الوسائل المهمة في مواجهة الاستهداف إشاعة الوعي بخطورة هذه الأطروحات وما يترتب عليها من مشاريع وسياسات تستهدف العالم الإسلامي، والمنهج القرآني من خلال آياته وما تتضمنه من هدايات وبصائر في بيان موقف اليهود والنصاري وأمثالهم من الإسلام وأهله يستلزم استحضارها واستدعاؤها للوقوف على الحقائق بشأن هؤلاء؛ لأن القرآن جلى مواقفهم من هذا الدين ظاهراً وباطناً، فقال سبحانه: ﴿وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾[البقرة: آية 120]، وقال أيضاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾[آل عمران: آية 118]، وهذا ما يدفعنا دائماً مهما تغايرت وتنوعت الوظائف والمهام والتخصصات إلى استحضار منهجية تثوير القرآن في معالجاتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها.

سادساً: وبناء على سابقه، فإن الرؤية النقدية لأمثال هذه الأفكار والأطروحات تعد بحد ذاتها واجباً كفائياً يضطلع به المفكرون والمتخصصون ثقافياً وسياسياً، ومن مضامين الرؤية في سياقها النقدي لنهاية التاريخ وقسيمتها صدام الحضارات[49]:

-البعد الثقافي ضمن الرؤية الصراعية التي ينطوي عليها الغرب على الصورة التي تعبر عنها أطروحات نهاية التاريخ وصدام الحضارات ما هو إلا قنابل دخان ومقولات اختبارية يطلقها الغرب لتغليف مصالح سياسية أو استراتيجيات استئثارية، ولذلك أمثال هذه المقولات في حقيقتها لا يمكن أن تحافظ على تماسكها في سياقها الفكري إلى الدرجة التي يمكن أن يطلق عليها لفظ النظريات.

-وبموجب هذه الهشاشة التنظيرية في مقولتي فوكوياما وهانتجتون فإنهما لا تمثلان صعوداً للتحليل الثقافي من الناحية البحثية والعلمية، وإنما هما اتخاذ الثقافي غطاء وأداة لسياسات مصلحية وحروب استباقية، وإسناذ ثقافي لتوجهات سياسية تصور لحتمية الانتصار الحضاري للغرب، أو للدفع باتجاه مشروعات تسوغ لحروب قادمة تحت عنوان صدام الحضارات.  

سابعاً: في البعد العملي الذي يمثل أحد أوعية الشق النظري، ومن خلال استعراضنا لأبرز وأخطر الوسائل التي تتبعها المنظومة الغربية في استهداف الإسلام، تبرز عندنا جملة من الوسائل:

-ضرورة بناء القوة الإسلامية والإعداد لها بشتى تجلياتها المادية والمعنوية، وهذا الذي يثيره قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾[الأنفال: أية 60].

-بناء السياسات التعليمية الحافظة والضامنة للبنية الإسلامية من الاختراق الثقافي وغيره، وإعادة صياغة مناهج التعليم وفقاً للرؤية الإسلامية، وضرورة النظر إلى التخصص العلمي في سياق المنهجية التوحيدية في المعرفة، وهذا معناه أن يتضمن التخصص المعني أهم وأبرز القواعد والرؤى الإسلامية في النظر إلى الوجود والكون والإنسان، وهذا يسع جميع المناهج بشتى التخصصات.

-إنشاء وتكوين مراكز للبحوث والدراسات وبناء الاستراتيجيات وأكاديميات التكوين والتدريب ومراصد المعلومات، تعنى بمفاصل العلاقة بين الإسلام والغرب ودراسات الاستغراب ورؤى العالم واستشراف المستقبل.

-بناء السياسات الإعلامية التي لها تأثيرها المتبادل سواء في دائرة النخب بمختلف أنواعها أو في دائرة العلاقة بين الحكام والعامة من المسلمين، وأهمية العناية بالرسائل الإعلامية في توجيه العامة وتوعيتها وبيان الحقائق ما أمكن على مستوى البنية الداخلية أو على مستوى علاقة الداخل بالخارج.

-الحرص على الاكتفاء الذاتي في بعده الاقتصادي؛ لكونه يجنب حين تحقيقه سياسات الإملاء والتوجيه والأمر التي تصاحب التمويل والمساعدات الغربية للبلاد الإسلامية.  

خاتمة:

كان قوام هذه الورقة مبنياً على بحث أطروحتين وهما نهاية التاريخ وصدام الحضارات، وقد أحدثتا صدى في الدائرة المعرفية الأكاديمة والدائرة السياسية وخاصة فيما يتعلق بالعلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة في أوائل تسعينات القرن الماضي، وجرى التركيز في سياق هاتين الأطروحتين في بيان توظيفهما من خلال القوى الفاعلة في المنظومة الغربية -بحكم كونها منتجة لأمثال هاته الأطروحات- في استهداف الإسلام كما جرى التصريح بذلك من راقميها ومؤلفيها، وانبنى هذا الاستهداف على جملة من القيم الغربية الحاكمة ذات الطبيعة الصراعية، وهو ما انعكس على المواقف والسياسات والمشاريع في علاقة الغرب مع الإسلام، وانساق الغرب في إيجاد وسائل معينة على تحقيق أهدافه من هذا الاستهداف الذي جعل الإسلام في بؤرته، يحاول تارة إضعافه بالأوهام العرية عن الحجج والبراهين وتارة باستهدافه بالقوة المسلحة في عقر داره.

ولأجل تجلية بعض مفاصل هذه المنظومة من خلال هاتين الأطروحتين تعرض الباحث في مضامين هذه الورقة -التي تنضوي في إطار مشروع مواجهة اختطاف الإسلام- إلى الحديث عن القوى الفاعلة وقد تمثلت في المنظومة الغربية، والوسائل التي جندتها في سبيل تحقيق ما ترجوه من الاستهداف، وصولاً إلى الوسائل والاستراتيجيات التي تضمن وتكفل مواجهة هذا الاستهداف ومنظومته الغربية، علماً أن البحث لم يغط الأطروحتين من حيث أفكارهما ولا يمكن ذلك، وإنما يسعه أن يقف على المنبهات التي تجعل المسلم يقف عند مفاصل هذا الخطاب واستراتيجيته الفاعلة ووسائله، وينبه بالضرورة على القيم الحاكمة للمنظومة الغربية في رؤيتها للعالم وتعاملها وعلاقاتها مع الإسلام والمسلمين، وكان لزاماً على الباحث -كما يراه- التعرض إلى الرؤية الكونية الحضارية التي تقوم عليها المنظومة الإسلامية ومرجعيتها وصلاحيتها لأن تكون بديلاً حضارياً لتلكم المنظومة الصراعية التي عاثت في الأرض فساداً.

[1] كارين أرمسترونج، سيرة النبي محمد، القاهرة، سطور، ط2، 1998م، ص17-18.

[2] المرجع السابق، ص36.

[3] المرجع السابق، ص67.

[4] د.محمد بن عبدالله السلومي، الإسلام والغرب بين المنافسة والصراع، الرياض، مركز الفكر الغربي، 1438هـ/2017م، ص233، وانظر في بحث عقلية المؤامرة إثباتاً ونفياً: د.علي بن إبراهيم النملة، هاجس المؤامرة في الفكر العربي بين التهوين والتهويل، الرياض، مطبعة سفير، ط1، 1430هـ/2009م.

[5] د.سيف الدين عبدالفتاح، رؤى العالم والإنسان: وثيقة التنوع الثقافي الخلاق وحقوق الإنسان الثقافية رؤية نقدية تحليلية مقارنة من منظور إسلامي، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، ص491، وانظر له أيضاً: رؤية العالم عند الأستاذ الإمام دراسة تحليلية نقدية، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، ص8-9.

[6] عبد الحميد أبو سليمان، الرؤية الكونية الحضارية القرآنية: المنطلق الأساس للإصلاح الإنساني (المختصر)، هرندن – فرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1435هـ/2014م، ص24.

[7] د.أحمد عبادي (تقديم)، القرآن الكريم ورؤية العالم مسارات التفكير والتدبير، الرباط، الرابطة المحمدية للعلماء، ط1، 1436هـ/2015م، ص14.

[8] د.أحمد داود أوغلو، العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، ط1، 1427هـ/2006م، ص21-22.

[9] المرجع السابق، من مقدمة الدكتور إبراهيم البيومي غانم للكتاب، ص6.

[10] د.محمد عابد الجابري، مسألة الهوية العروبة والإسلام … والغرب، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط4، 2012م، ص182.

[11] يوسف العاص طويل، حملة بوش الصليبية على العالم الإسلامي وعلاقتها بمخطط إسرائيل الكبرى، بيروت، مكتبة حسن العصرية، ط1، 1435هـ/2014م، ج2ص71-72.

[12] أصلها محاضرة ألقيت في جامعة شيكاغو ونشرت في مجلة (المصلحة القومية) الأمريكية صيف عام 1989م، وقد فصل أطروحته فيما بعد في كتاب (نهاية التاريخ وخاتم البشر) بحسب الترجمة العربية.

[13] فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ وخاتم البشر، القاهرة، مركز الأهرام للترجمة والنشر، ط1، 1413هـ/1993م، ص8.

[14] المرجع السابق، ص56-57.

[15] د.عبدالخبير محمود عطا، البعد الديني في دراسة العلاقات الدولية: دراسة في تطور الحقل، في: د.أماني صالح، ود.عبدالخبير عطا، العلاقات الدولية البعد الديني والحضاري، دمشق، دار الفكر، ط1، 1429هـ/2008م، ص103.

[16] د.محمد سعدي، مستقبل العلاقات الدولية من صراع الحضارات إلى أنسنة الحضارة وثقافة السلام، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2006م، ص52.

[17] د.عبدالوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، دمشق، دار الفكر، ط1 معادة، 1423هـ/2003م، ص155-161.

[18] أحمد داود أوغلو، مرجع سابق، ص10.

[19] عادل الجبوري، الإسلام والغرب قراءات معاصرة، بيروت، دار الهادي، ط1، 1424هـ/2003م، ص39.

[20] أصلها مقالة نشرت في مجلة (شؤون خارجية) الأمريكية صيف عام 1993م، ثم وسعها المؤلف في كتاب تحت عنوان: (صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي) بحسب الترجمة العربية.

[21] صمويل هنتنجتون، صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي، القاهرة، سطور، ط2، 1999م، ص37.

[22] المرجع السابق، ص352.

[23] المرجع السابق، ص188-189.

[24] المرجع السابق، ص342.

[25] د.محمد سعدي، مستقبل العلاقات الدولية من صراع الحضارات إلى أنسنة الحضارة وثقافة السلام، مرجع سابق، ص79.

[26] نعوم تشومسكي، الهيمنة أم البقاء: السعي الأمريكي إلى السيطرة على العالم، بيروت، دار الكتاب العربي، 2004م، ص23-24.

[27] د.عبدالوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، مرجع سابق، ص162-167.

[28] د.سيف الدين عبدالفتاح، العولمة والإسلام: رؤيتان للعالم، دمشق، دار الفكر، ط1، 1430هـ/2009م، ص108-109.

[29] د.نادية محمود مصطفى، التحديات السياسية الحضارية الخارجية للعالم الإسلامي: بروز الأبعاد الحضارية الثقافية، حولية أمتي في العالم، الكتاب السادس: الأمة في قرن تداعي التحديات والاستجابات والانتفاض نحو المستقبل، القاهرة، مركز الحضارة للدراسات السياسية، مكتبة الشروق الدولية، 1423هـ/2002م، ص112-115.

[30] د.محمد بن عبدالله السلومي، الإسلام والغرب بين المنافسة والصراع، مرجع سابق، ص242.

[31] د.عبدالرزاق المقري، صدام الحضارات محاولة للفهم: أبعاد وأسباب ومآلات العدوان الأمريكي على الأمة الإسلامية، المنصورة، دار الكلمة، ط1، 1425هـ/2004م، ص35-38.

[32] د.محمد يسري إبراهيم، ولتستبين سبيل المجرمين: قراءة في الاستراتيجية الغربية لحرب الإسلام بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001م، القاهرة، دار اليسر، ط2، 1432هـ/2011م، ص87-88.

[33] المرجع السابق، ص88-89.

[34] د.علي زياد العلي، القوة الأمريكية في النظام الدولي: تداعياتها وآفاقها المستقبلية، القاهرة، المكتب العربي للمعارف، 2015م، ص122-124.

[35] د.أحمد داود أوغلو، العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية، مرجع سابق، ص10.

[36] د.محمد يسري إبراهيم، ولتستبين سبيل المجرمين، مرجع سابق، ص92-100.

[37] المرجع السابق، ص58.

[38] د.باسم خفاجي، استراتيجيات غربية لاحتواء الإسلام: قراءة في تقرير راند 2007م، القاهرة، المركز العربي للدراسات الإنسانية، 1428هـ/2007، ص5.

[39] ريتشارد هاس، مؤسسات الفكر والرأي وسياسة الولايات المتحدة الخارجية: وجهة نظر أحد صانعي السياسة، ضمن: دور مؤسسات الفكر والرأي في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، مجلة إلكترونية تصدرها وزارة الخارجية الأميركية، نوفمبر، 2002م، ص4.

[40] د.علي ليلة، الإطار الاجتماعي للتنشئة السياسية، بحث منشور في: مجموعة مؤلفين، موسوعة التنشئة السياسية الإسلامية: التأصيل والممارسات المعاصرة، القاهرة، دار السلام، ط1، 1434هـ/2013م، ج1ص283.

[41] عبدالوهاب المسيري، الجماعات الوظيفية اليهودية نموذج تفسيري جديد، القاهرة، دار الشروق، ط2، 2002، ص39-40.

[42] عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني، أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها، دمشق، دار القلم، ط8، 1420هـ/2000م، ص253.

[43] عمر عبيد حسنة، من مقدمته لكتاب: حول إعادة تشكيل العقل المسلم للدكتور عماد الدين خليل، قطر، كتاب الأمة، ط1، 1403هـ، ص10.

[44] زكي الميلاد، الإسلام والغرب هل من منظور معرفي جديد لعلاقات مستقبلية إيجابية؟، في: زكي الميلاد وتركي علي ربيعو، الإسلام والغرب الحاضر والمستقبل، سلسلة نحو حوارات لقرن جديد، دمشق، دار الفكر، ط2، 1421هـ/2001م، ص65-66.

[45] د.أحمد داود أوغلو، العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية، مرجع سابق، ص59.

[46] د.محمد عمارة، رؤية نقدية للحضارة الغربية والحضارة الإسلامية (محاضرة)، القاهرة، مركز الدراسات المعرفية، 2002، ص6.

[47] المرجع السابق، ص117.

[48] انظر للتوسع في بيان الرؤية العالمية للإسلام: د.سيف الدين عبدالفتاح، العولمة والإسلام رؤيتان للعالم، مرجع سابق، ص156 فما بعدها.

[49] د.سيف الدين عبدالفتاح، توطئة: التحليل الثقافي التوظيف والتسييس، مقدمة كتاب: البعد الثقافي في العلاقات الدولية: دراسة في الخطاب حول صدام الحضارات، د.أماني غانم.

زر الذهاب إلى الأعلى