فكريةندوات

(العلاقة مع الآخر: المشترك الثقافي)

 

عقد مركز رؤيا للبحوث والدراسات ندوته الشهرية عبر تطبيق الزوم تحت عنوان: (العلاقة مع الآخر: المشترك الثقافي)، يوم السبت 23/صفر/1442هـ الموافق 10/أكتوبر/2020م، وكان استدعاء هذا العنوان مبنياً عل ضرورة مراجعة الموقف من الآخر ومسارات العلاقة معه في ضوء ما تثيره إشكاليات الواقع المعاصر، وما تمر به أمتنا الإسلامية، وأهمية إثارة هذه الموضوعات؛ تأسيساً للوعي الحضاري وإعادة تشكيل العقلية المسلمة بالجمع بين الأصالة التي تشعر المسلم بانتمائه الإسلامي وهويته، والمعاصرة التي تتطلب نظراً دقيقاً في الواقع ومقتضياته وحاجاته ومستجداته في ضوء مرجعية كلية حاكمة، ولأهمية الموضوع فإن زوايا النظر فيه وفي مضامينه لا تقف عند بُعد موضوعي واحد، بل تتجاوزه إلى أبعاد موضوعية أخرى، فيتراوح ما بين ثقافي وسياسي واجتماعي .. في غيرها، ولمناقشة هذا الموضوع الشائك فقد استضاف المركز فضيلة الشيخ الدكتور حسن الحُمَيْد الأستاذ المشارك بجامعة أم القرى سابقاً والمفكر الإسلامي لتسليط الضوء على هذا الموضوع الهام، وقد شارك في اللقاء مجموعة من الأساتذة والمفكرين والمهتمين بالسؤال الحضاري والثقافي في الأمة، وتضمن برنامج الندوة مداخلة رئيسة للدكتور حسن الحُمَيْد ثم فتح مجال النقاش لبقية المشاركين.

أولاً: مداخلة الدكتور حسن الحُمَيْد:

وفي الآتي محاورها وأبرز ما تضمنتها من أفكار ورؤى:

(1) أشار الحُمَيْد في مقدمة مداخلته إلى أهمية التعريف ب(نحن) عند الحديث عن المشترك الإنساني والثقافي في العلاقة بين الأنا والآخر، وذكر أن المشترك الثقافي هو ما يؤمن به أهل كل دين أو الثقافة والقيم التي يتبناها أهل كل تجمع، فالمشترك الثقافي وفقاً لهذا المعيار هو المشترك الإنساني مع الخصوصية الثقافية، فتكون فيه العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق بمعناها الأوسع هي المميزة لكل تجمع ولكل أهل دين.

(2) ثم استفاض في بيان ظاهرة الانقسام الحضاري التي ترتبط بالمشترك الثقافي، وأن هذا الانقسام نوعان، الانقسام الأكبر والانقسام الأصغر، فالأكبر منهما هو الانقسام على مستوى الحضارات ويشكل كليات الجامعة (الدنيا)، وهذا الانقسام مطلوب شرعاً وواقع قدراً؛ لأن من مقتضى الرسالات انقسام الناس على قسمين، مؤمنين بها ومناوئين، وهذا الانقسام قاسم مشترك بين حضارات التاريخ، ويعد في ذاته ظاهرة صحية.

وأما الانقسام الأصغر، فهو الانقسام داخل كل حضارة، وهذا الانقسام لم يكن في أصلها وإنما جاء في ثاني الحال، وهذا ينطبق على كل الحضارات، فالنصرانية فيها الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية، والمسلمون كذلك شهدوا انقساماً على مستوى عقائدي وفقهي وحركي، وهي انقسامات واقعة قدراً ولكنها غير مطلوبة شرعاً؛ لأنها انقسام على الفكرة الأساسية، فضلاً عن كونها انقسامات اختيارية وليست إجبارية من قبل الخالق سبحانه، ومهما يكن من أمر، فإن من الأهمية إدراك خارطة العالم والمكونات الأساسية فيها والانقسامات داخلها.

(3) المسلمون في كل مراحل التاريخ كان فيها ضمير (نحن) موجوداً على تفاوت في وجوده وفاعليته، وإنما يقوَّم هذا الوجود من زاوية القيم الأساسية التي يؤمن بها المسلمون أنفسهم في بيئتهم الأصلية، ومن زاوية كذلك مدنيتهم التي ترجموها على الأرض، وعلى هذا الأساس فإن المشترك الثقافي يلزم تقويمه في بيئته الأصلية، وليست في بيئته المهجرية، ومرجع ذلك أن القلة في المهجر مشدودة إلى الأصل، وهي تدفع ثمن تدهور القيم في موطنها الأصلي، وعليه فإن تقويم المسلمين إنما يكون في مهدهم وبيئتهم الأصلية وجغرافيتهم، والقاعدة أنه لا يقوَّم أي دين في غير بيئته إذا فشل في موطنه الأصلي، وفي الموطن الأصلي يُركز على تحرير المبدأ وصيانته والتأكد من سلامة التطبيق لقيم الإسلام في بيئات المسلمين.

(4) وقد ركز المحاضر على قضية أساسية في سياق المشترك الثقافي، وهي أن وجود القيم لا يعني فاعليته في الواقع، فإن المسلمين يقومون على قيم عليا وهي ذات جودة لم تتيسر عند غيرهم بحكم ما يقومون عليه من مرجعية كلية جامعة حاكمة، فهناك فارق بين القيم وبين إدارة هذه القيم، كما أن هناك فرقاً بين الإسلام وتطبيق الإسلام، وجودة القيم في الأصل تساعد في حسن إدارتها؛ لأن المنتج الجيد يساعد في تسويقه ويقلل تكليفه، ولكن هذا لا يكفي بل لا بد أن يكون مقترناً اقتراناً متلازماً بإدارة القيم، وعند التأمل في هذا السياق -بحسبه- يمكن إدراك أن التحلي بجودة القيم بمعزل عن إدارتها قد ينتج أفراداً ذوي قيمة، ولكن لا ينتج بالضرورة مجتمعاً قيمياً، في الوقت الذي تنتج فيه إدارة القيم عند التحقق بها مجتمعات قيمية، فالعبرة من حيث الفاعلية القيمية وتأثيرها راجعة إلى إدارة المجموع حتى وإن وجد فيها أشخاص ليسوا كذلك، فإذاً جودة القيم يشوهها ضعف إدارتها أو عدم وجودها أصلاً.

(5) وفي معادلة جودة القيم وحسن إدارتها يلزم التنبيه على أن النصر أو الهزيمة في هذه المعادلة إنما يبدأ من داخل أسوار الحضارة وداخل دولها التي تعد بيئة هذه القيم ومحضنها الأصلي، وعليه فإن عدم انتصار المسلمين داخل بلدانهم حضارياً وقيمياً إلى القدر الذي يجعلهم في دائرة البطالة والعطالة الحضارية، فإنه يعد في ذاته الهزيمة الكبرى لهم ولحضارتهم، وهنا يعرض سؤال كبير يرتبط بمعادلة القيم وفاعليتها الحضارية، وهو:

لماذا ينجذب المسلمون اليوم أفراداً وأجيالاً نحن الآخر ولا يحدث العكس؟ ولماذا يعيش المسلمون في جغرافيتهم حيث موطن الإسلام وقيمه حالة استبداد وانسداد أفق مع أنهم متفوقون قيمياً؟

والإطار الذي يمكن الإجابة فيه عن هذا السؤال متعلق بقوانين الاجتماع، فالمسلمون في حالة صدام معها، ويمكن التقرير بأن خطاب الوحي وقوانين الاجتماع في اتجاه، وممارسات المسلمين المدنية في اتجاه آخر، وهنا ينبغي على المسلمين أن يدركوا أن روح الحضارة واحدة، فإذا تمزقت هذه الروح تمزق الجسد، ولا يعني ذلك موت هذه الحضارة، ولكنها قد تضعف إلى حالة من الوهن الذي يشبه الموت السريري. إن تفتيت وتفكيك روح الحضارة وإنسانها هو عمل متقابل؛ لأن هذا التفكيك إنما يتم على يد إنسان الحضارة ذاته، وبالتأمل في مسارات هذا التفكيك والتفتيت فإنه يرجع في حقيقته إلى معادلة القيم وإدارتها، وأن ضعف إدارة القيم هو المشكل الأكبر عند المسلمين.

(6) وقد أثار المحاضر سؤالاً آخر له ارتباط وثيق بسابقه، وهو: ما موقف المسلمين من أسئلة الوجود وأسئلة الحضارة؟ والإجابة عليها والموقف منها تعرِّف المسلمين بموقعهم الحضاري والقيمي في خارطتها: وإجابة على هذا السؤال وقف عند تصنيف القيم وفقاً لطبيعة هذه الأسئلة، وأشار إلى أن القيم نوعان:

قيم وجودية: وهي الأسئلة التي تطرح على البشر دائماً: من الذي خلقنا؟ لماذا خلقنا؟ ما المصير بعد الموت؟ وقيم مدنية حضارية، وهي العدل، والشورى، والحرية، والكرامة.

وهذه كلها قيم كبرى، ولكن هناك قيم تأسيسية، وقيم تطبيقية، ومرجع طرح السؤال نفسه هو أن الأسئلة الوجودية يتحقق بها الفرز بين المؤمنين وغيرهم، وكذلك بين المؤمنين بها إيماناً صحيحاً وبين غيرهم، وأما القيم المدنية والحضارية، ويمكن توصيفها كذلك بأنها الأسئلة الاستراتيجية، فهذه الأسئلة تظهر موقع الإنسان من العدل والكرامة والشورى والحرية. إن أسئلة الحضارة هي أسئلة ملحة لكل إنسان يعيش في الواقع، وهذه الأسئلة هي التي تمنح المجتمع والدولة صفة الفاعلية والإيجابية والاستقرار والازدهار، وتمنح كذلك الإنسان صفة الكرامة والحرية، وإذا عدمت، فإنها تدمغ الدولة والمجتمع والحضارة بوصف التخلف والاستبداد والتبعية.

ومن الإشكاليات المتعلقة بهذه الأسئلة بنوعيها أن الناس عبر التاريخ يزهدون بالأسئلة الوجودية؛ بسبب انحراف الإنسان ضد أخيه الإنسان في الإجابة على الأسئلة الحضارية والاستراتيجية، ومن هنا تشوه القيم والحضارة، ويشوه  الإسلام الذي يملك حتى اليوم وإلى قيام الساعة أنقى وأصفى إجابة على الأسئلة الوجودية، وبالتالي تشوه الدعوة إلى اعتناق هذا الدين بسبب المسلمين وعدم قدرتهم على الإجابة العملية عن الأسئلة الاستراتيجية والحضارية.

والحقيقة التي ينبغي ألا يُتغافل عنها أن المسلمين يعيشون حالة إخفاق في الإجابة عن الأسئلة الحضارية، وتاريخهم القريب وحاضرهم يشهدان بأنهم إما مختلفون اختلاف تضاد، وإما أنهم منشغلون بقضايا هامشية ثمرتها وأهميتها أقل من دائرة القضايا الحضارية، وسبب جعلها خارج دائرة الاهتمامات أن الإجابة على الأسئلة الاستراتيجية والحضارية مكلفة من حيث تطبيقها على الأرض، فإنها تتطلب حرية وعدالة وشورى وإجماعاً وشروطاً أخرى.

(7) وإزاء ذلك ما هو المطلوب –بحسب الحُمَيْد- حتى يتسنى للمسلمين الارتقاء أو الاقتراب من الإجابة على الأسئلة الحضارية؟ وإجابة على ذلك:

أولاً: الحاجة ملحة إلى قدر من الاجتماع الذي لا يمكن تصحيح الواقع من دونه، فالانقسام على الآخر يستلزم تحقيق الاجتماع مع الذات والاجتماع مع شركاء القيم وهم المسلمون، وهذا مستند أساساً إلى قيم التعايش زائداً القيم الخاصة التي جاء بها الإسلام. إن الحديث عن محورية اجتماع مكونات الحضارة والدولة هو مصلحة عليا لا يمكن فعل أي شي فاعل من دونه، وكل الجهود حين تتخطى محورية الاجتماع المقدور يجعل المسلمين منشغلين بهوامش الأمور بعيداً عن جواهرها.

إن تصفح التاريخ يظهر أن الخلل في المجتمعات عموماً، والمجتمعات المسلمة خصوصاً يبدأ من القيادات الفكرية والسياسية والدينية، وعند النظر إلى مواقف الشعوب واستجاباتها لاتجاهات التغيير سلباً أو إيجاباً يكون الأمر مغايراً، فإن الشعوب أكثر مرونة وأسرع استجابة وأوسع تضحية وأقل فائدة، وإذا كانت عقدة الأمر مرتبطة بالاجتماع ومحوريته في الإجابة على الأسئلة الحضارية والاستراتيجية، فإن هناك ظواهر تعد في ذاتها نواقض ونواقص تقف في وجه تحقيق هذا الاجتماع، وأبرزها:

-قصر النظر عند المكونات السياسية والفكرية والدينية.

-البطء والتردد في تحقيق الاجتماع يفضي إلى تفويت فرصه.

-الأنانية وغياب روح التعاون.

-الإعجاب بالرؤية والرأي والمشروع والبرنامج الذاتي.

ثانياً: يلزم أن يكون الفضاء الذي يعمل فيه المسلمون -حتى يحققوا فيه اجتماعهم المحوري- فضاء مرناً، شورياً، متمحوراً حول أهداف كبرى جامعة:

فالمرونة تستدعي الآتي:

-الترفع عن الجزئيات؛ لأنه يسهم في تخفيف وتجفيف منابع الاختلاف.

-التنازل عن الخصوصيات الذاتية المتعلقة بالجماعة والحزب والحركة.

-وضع حد للإقصاء العرقي والثقافي والجغرافي.

-النظر إلى المستقبل المشترك.

والشورى تستلزم:

-أن تكون قضايانا العامة شورية، بحيث نحترم الشورى ومخرجاتها.

-توسيع دائرة المشاركة والمشترك.

-ثقافة الحوار، فالشورى ثمرة للحوار، وهي طريق للتطبيق العملي.

والأهداف الكلية الجامعة تعني أن يكون العامة والناس مؤمنين بها وبضروريتها، وهي أهداف تتسم بالوضوح والأهمية، وضابطها ألا يختلف عليها أكثر الناس، وهي أهداف مدنية قيمية تتجاوز الشعارات الحزبية والدينية.

(8) وأخيراً أشار المحاضر إلى أن الإغراق في التفاصيل والجزئيات على حساب الكليات يحدث الآتي:

-منح تيار الغلو فرص الظهور والجاذبية في أوساط الشباب بوصفه بديلاً منقذاً.

-الانشغال عن مطالب الناس الحقيقية.

-انشغال المسلمين بعضهم ببعض عن الهدف الكلي.

-اتساع دائرة الإحباط في أوساط المجتمعات.

-تشويه منظومة القيم والقدوة الحسنة في أوساط الأجيال الجديدة.

-تراجع موقع الدين وقدرته في حل المشكلات الواقعية.

-تحسين صورة الاستبداد الذي كان الأسوأ في الأذهان إلى وقت قريب، ومنح مبررات العودة إليه بوصفه منقذاً بعد أن كان المشكلة الكبرى التي ثار عليها الناس.

ثانياً: اتجاهات النقاش:

اتجه النقاش نحو بعض القضايا التي أثارتها المداخلة الرئيسة حول العلاقة مع الآخر ودور المشترك الثقافي فيها، وأبرز تلكم القضايا ما يأتي:

-حول خطورة الاختلاف الفكري والاختلاف الأخلاقي، وأشار المحاضر في جواب سؤال حولهما أن الاختلاف الفكري من حيث تأثيره على الفكرة الجامعة يعد أخطر؛ لأن الاختلاف الفكري له امتداداته السلبية، فهو لا يقف عند حدود إبداء الرأي، ولو كان الأمر كذلك، لكان ظاهرة صحية، ولكن الواقع بخلاف ذلك، فعند النظر إلى العناوين الفكرية المطروحة في الساحة نرى استقطاباً حاداً للكتلة الصلبة من المسلمين باتجاه هذه العناوين تفريقاً وتفتيتاً، فهناك تجمعات حركية ومذهبية وسياسية عامة في سياق متقابل، والمسألة الأخلاقية لها أبعادها الخطيرة كذلك، فالفساد الأخلاقي يرعى ويتمدد في الاختلاف الفكري؛ لأن الأخير شغل المسلمين بأنفسهم، حيث انساقوا في صراعات بينية بعيداً عن إصلاح النفس والواقع.

-القضية الثانية مرتبطة بالبعد العملي في تفعيل القضايا التي أثارتها المداخلة بشقيها الإنساني والثقافي، والهمة قائمة في جعل هذه اللقاءات ممتدة ومستمرة في هذا الاتجاه، كما أن إثراء الموضوع بآراء وأفكار أخرى يسهم إلى حد كبير في إحداث وعي عميق لدى أجيال الأمة بضرورة الاهتمام بالعلاقة مع الآخر في سياق المشترك الإنساني والثقافي، وأهمية النظر إليه بعيداً  عن مؤثرات البعد السياسي، وضرورة الاهتمام بتجديد الخطاب الإسلامي في بعده الوسائلي، والتأكيد على جودة المحاضن التربوية والتعليمية؛ لأن بها وفيها يمكن تحقيق النجاح في معادلة إدارة القيم في الواقع الإسلامي.

 

زر الذهاب إلى الأعلى