كتبمراجعات

دولة الجيتو: نقاوة جنسية أم ثمار أخلاط؟!

 المقدمة:

على الرغم من كثرة الكتب التي تناولت الظاهرة الصهيونية تفكيكاً وتحليلاً، إلا أن أبرز إشكالياتها يكمن في كونها تتعامل مع الظاهرة وشخوصها وكأنها معطيات مفروغ منها، تفرض -في رأيهم بحكم الواقع- أخذها بنظر الاعتبار في السياق المعرفي والفعلي، فتكون والحالة هذه مسلَّمات لا يُتعرض إلى أصلها، وعندها يتم التعاطي معها والإنشغال بأجزائها وأعراضها مقاومة تارة، ومساومة تارة أخرى، إلا بقايا من أهل الحق والنظر العميق الذين لم يقنعوا بالركون إلى الحالة الراهنة، فتجاوزوها إلى حالة من النفير العام الذي ينذر بسوء العاقبة إن لم يتداع الناس إلى نصرة الحق وإزهاق الباطل.

ومن هؤلاء القلة التي انتصبت نُذُراً وخشية من ضياع الحق وعجز أهله في مواجهة باطل اليهود المثافن للقوة -بنوعيها الصلب والناعم- العلامةُ الدكتور جمال حمدان، حيث انطلق من هذه الإشكالية المنهجية في دراسة الظاهرة الصهيونية في كتابه: “اليهود أنثروبولوجياً“؛ قاصداً تفكيكها والغوص في سياقاتها التكوينية، مستعرضاً جذورها في السياق التاريخي والأنثروبولوجي، مبطلاً عند المفتَتَح والمختَتَم تقريرات جاءت على لسان قادة العرب وهماً أو جهالة أو غيرها، أن اليهود والعرب أبناء عمومة، وأنه ليس ثمة تعارض واضح في الصفات المميزة لهما، فجسدت بسببها -أي التقريرات- حالة من التماهي مع الظاهرة الصهيونية باعتبارها أمراً واقعاً يلزم قبوله، متجاوزين بها الحق الذي لا يسقط بالتقادم، وإزاءها انبرى هذا العَلَم بما أوتيه من صدق الانتماء إلى هذه الأمة، وزاده الله بسطة في العلم والفكر جعلته ظاهرة علمية ومعرفية خارج السياق المثبِّط، الذي لم يستطع حتى هذه اللحظة أن يعي قيمتها ومكانتها، وأما هو، فقد كان مدركاً لها بحكم دائرة الوعي التي تكمن فيه وينطوي عليها، ولذلك وصف نفسه مواسياً لها بقوله الذي اشتهر عنه: لو كان جمال حمدان أوروبياً أو أمريكياً، لتحولت مقولاته إلى مزامير تتلى صباح مساء، ولكانت مقولاته ورؤاه الاستراتيجية عنواناً عريضاً لدى معظم الباحثين ومراكز الدراسات.

ومن هنا تأتي مراجعتنا لهذا الكتاب مع كتب أخرى قسيمة له موضوعاً وهدفاً وغاية وإن تغايرت منهجاً وصياغة؛ نقصد بها تشكيل حالة وعي للأمة في إطارين:

الأول: إثبات حقها الكامل في الأراضي المغتصبة من قبل الكيان الصهيوني.

والثاني: إحياء فكر الرواد ممن تصدى لهذا الكيان فكراً ونهجاً من أمثال العلامة الدكتور جمال حمدان .. في غيره، ثم تسكين هذه الحالة في سياق فعل لازب يتجاوز ردود الأفعال في هبوبها ثم خمودها.

اليهود والعرب: الإشكالية والموقف:

ينطلق جمال حمدان في كتابه الذي يغلب عليه البعد التثقيفي من إشكالية ذات شقين متلازمين بحكم أصلهما:

الأول: طرحه في سياق سؤال محوري قوامه الأساس الجنسي المزعوم الذي يُدَّعى بسببه أن اليهود والعرب أبناء عمومة، متسائلاً عن الأساس العلمي والدليل التاريخي الذي يثبت ذلك وينهض به.

والثاني: حالة الغموض التي انتابت الكتابات العربية حول الظاهرة اليهودية وتعاملها معها وفق صبغة سياسية تنساق معها على أنها واقع قائم وكم معلوم، بعيداً عن البحث في أساس الكيان وتركيبته الجنسية من حيث الأصل، حتى صورته وكأنه شبح جاء بشكل غامض من يهود الشتات، وهؤلاء بدورهم جاؤوا من يهود فلسطين التوراة، وبهذا تنفذ الظاهرة في جسد الأمة بموجب الحق التاريخي الذي يدعيه الصهاينة.

وهو ما دفع حمدان استنفاراً إلى وضع دراسة علمية تقتنص هذا الشبح ثم تجسده وتشرحه في سياقه التاريخي والجغرافي والأنثروبولوجي، فجاء كتاب: “اليهود أنثروبولوجياً“، وهذه هي أركانه الثلاثة التي تحاول مراجعتنا أن تقتنص أبرز مضامينها ومقوماتها:

أولاً: في السياق التاريخي:

    يقف حمدان عند مرحلتين تاريخيتين رسمتا الصورة المجملة لليهود في هذا السياق:

 الأولى: المرحلة التكوينية.

 والثانية: مرحلة الشتات.

ففيما يتعلق بمرحلة التكوين؛ أول وجود لليهود في فلسطين مرتبط بإبراهيم عليه السلام الذي ستتأصل من نسله الأسباط أو القبائل الشهيرة في التاريخ والتوراة.

 ولكن هذه الحقيقة لم تكن لتجعل لليهود أساساً ثابتاً فيها؛ لأمرين:

الأول: أن اليهود في الأصل حينما أتوا إليها وجدوها أرض كنعان، نسبة إلى سكانها الكنعانيين، وهم أول من سكن فلسطين على أرجح الآراء.

 والأمر الثاني: أن هجرتهم إليها لم تكن في إطار موحد، بل كانت على دفعات ومراحل زمنية متباعدة، هذا فضلاً عن الهجرات العكسية التي قاموا بها، كما هو الحال في هجرة يعقوب عليه السلام وأبنائه إلى مصر بسبب القحط الذي أصابهم في فلسطين.

وهناك ملمحان أساسيان لوجود اليهود في فلسطين في هذه المرحلة:

الأول: حالة الصراع المستمر مع الكنعانيين وغيرهم من سكان البلاد، ثم الهجرات المعاكسة من فلسطين لم تجعل منهم سكاناً أصليين فيها.

وهذا جعل وجودهم فيها-وهو الملمح الثاني– قصيراً من حيث المرحلة الزمنية؛ إذ لم تزد إقامة اليهود المتصلة في فلسطين على ستة قرون.

وأما مرحلة الشتات، فيميز فيها بين ثلاث دورات تاريخية في التاريخ القديم، وما آلت إليه أمور اليهود في العصور الوسطى، بالإضافة إلى دورة رابعة في التاريخ الحديث:

أ-الشتات الأول: هو الشتات البابلي، الذي قام فيه نبوختنصر بنقل أغلبية اليهود أسرى إلى بابل، واستوطن اليهود بسببه في العراق، وتجاوز عددهم فيه المليون، ولكن بعد الطوفان المغولي هوى عددهم إلى بضعة آلاف، علماً بأن يهود العراق هم الذين شكلوا نواة الشتات في جهة الشرق.

ب-الشتات الثاني: يتعاصر مع المرحلة الهللنية، والاتجاه العام في هذا الشتات هو اتجاهه نحو الغرب هذه المرة، فإن الكثيرين منهم انتشروا بمصر وسوريا، ولكن المركز الرئيسي في هذا الشتات هو: البلقان وسواحل البحر الأسود الشمالية، ومرجع هذا الشتات هو تماهي الكثير من اليهود مع الصبغة الهللنية بالرغم من المقاومة التي أبداها بعضهم ضدها؛ ليثبت بشريتهم التي تعكس استجابة إنسانية لأوضاع حضارية اجتماعية.

ج-الشتات الثالث: هو الشتات الروماني الذي أخذهم بعيداً إلى العالم الروماني، وسببه الثورات اليهودية ضد الحكم الروماني، الذي رد عليها بتخريب القدس والهيكل وإبادة اليهود على الرغم من كونهم أقلية قياساً لسكان فلسطين.

والأماكن التي انتشر فيها اليهود هي إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وألمانيا حتى الراين، واللافت للنظر في رأي حمدان أن اليهود في الشتات ضاعفوا عددهم في الإمبراطورية الرومانية بين أربعة إلى سبعة ملايين أي أنهم تضاعفوا نحو سبعة بالمائة من مجموع السكان، علماً أن بقايا اليهود في فلسطين ممن خرجوا في هذا الشتات يبلغ أربعين ألفاً فقط، وفي هذا إشارة واضحة إلى تأثير البيئة في تزايدهم بغض النظر عن وسليته.

وفي العصور الوسطى التي شهدت الحروب الصليبية، كان اليهود -كما هو الحال بالنسبة للمسلمين- أحد أهداف الصليبيين، فتعرضوا إلى الاضطهاد الديني الذي أفضى إلى عمليات إبادة وطرد، تغير بسببها توزيعهم في أوربا، وخاصة يهود ألمانيا وإسبانيا الذين سيستمد منهم التقسيم الثنائي الرئيسي الذي يفرق بين يهود شمال أوربا من ناحية، وجنوب أوربا وحوض البحر المتوسط من ناحية أخرى، والمقصود ثنائية الأشكناز والسفاردي.

د-الشتات الرابع: وهو الشتات الحديث، وأبرز خطوطه العريضة تتمثل في:

أولاً: الانتشار في العالم الجديد بمعناه الواسع وهو الولايات المتحدة.

ثانياً: المرحلة النازية في ألمانيا التي شهدت خروجاً وهروباً من أوربا الوسطى عموماً، فكانت عملية تفريغ يهود وسط أوربا وتكثيف يهود الولايات المتحدة، كما كانت بداية عملية لجريمة زرع الكيان الصهيوني، وهذه الجريمة الأخيرة نفسها هي دورة جديدة في شتات اليهود، غير أنها اختزلت وكثفت كل تاريخ اليهود في الاضطهاد وعكسته على أهل فلسطين الشرعيين، ومن بين كل التيارات اليهودية في العالم كان التيار الأوربي هو السائد في صنع الكيان الصهيوني.

ثانياً: في السياق الجغرافي:

بعد التطواف التاريخي الذي قام به حمدان -وقد أجملت في هذه المراجعة-، وقف عند نظرة عامة على صورة اليهود الحالية، ورأى أنهم ثلاث طوائف شكلوا الهجرة الصهيونية، وهم: الأشكناز وكانت نسبتهم النصف.

والنصف الآخر من السفارديم والشرقيين، فالأشكناز يشملون يهود غرب ووسط وشرق أوربا بالإضافة إلى خلاياهم في العالم الجديد بقارتيه.

ويشمل السفاردي يهود البلقان والشرق الأدنى بالإضافة إلى مستعمرات وجاليات مبعثرة على شواطئ البحر المتوسط الشمالية والجنوبية.

وأما اليهود الشرقيون فإليهم تنتمي مستعمرات في شمال أفريقيا وفلسطين، ثم في مستعمراتهم في العراق واليمن، ثم القوقاز وإيران وتركستان وكذلك الهند والصين.

ولأجل الوصول إلى حكم جامع حول اليهود يضع حمدان التوزيع الراهن لليهودية العالمية تحت المجهر قبل دراستها أنثروبولوجياً، فيقف عند لقطتين لهذا التوزيع:

الأولى: في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، حيث قدر عدد يهود العالم نحو ستة ملايين ونصف، منهم خمسة ملايين ونصف في أوربا، وأما حوالي نهاية القرن فقد قدر عددهم بنحو ثمانية إلى تسعة ملايين، من هؤلاء كان ستة إلى سبعة ملايين يتوزعون في أوربا، وفي 1905 قدر عدد يهود العالم بأكثر من أحد عشر مليوناً، نصفهم في روسيا ورومانيا، وثلثهم في ألمانيا والنمسا، والسدس في بقية العالم، وهذه الأرقام تعطي دلالة واضحة بأن ملامح الصورة العامة لليهود تكمن في أن أوربا هي عملياً الوطن المطلق لليهودية العالمية، وما يوجد خارجها ليس بالمقارنة إلا شظايا.

واللقطة الثانية: في عام 1939 قدر عدد يهود العالم بنحو خمسة عشر مليوناً، في أوربا عشرة ملايين، وفي أمريكا أربعة ملايين ونصف، وآسيا ثلاثة أرباع المليون، وفي عام 1966 قدر عددهم بنحو ثلاثة عشر مليوناً وأربعمائة ألف نسمة، وهذا له مغزى في رأي حمدان، وهو أن اليهود في الإطار الكوكبي يبدون شيئاً ضئيلاً بالغاً حد القزمية في ديمغرافية العالم.

والحقيقة الكبرى التي يثبتها حمدان بعد تتبعٍ واستقراء أن نصف يهود العالم جميعاً يعيشون في العالم الجديد في أمريكا الشمالية والجنوبية، وتناقص بشكل كبير وجودهم في أوربا، أما آسيا وأفريقيا، فلا تجمعان إلا خمس اليهودية، وهذا أيضاً شذوذ طارئ جديد؛ لأن النسبة الكبرى منهم تتشكل من صهيونية إسرائيل الدخيلة الغاصبة.

لا يكتفي حمدان بالنظر إلى التوزيع العالمي لليهود، بل يقف كذلك عند التوزيع القطري على مستوى الديمغرافيا اليهودية، ففي الكتاب السنوي اليهودي الأمريكي نشر عام 1966 تقديراً لليهود، حيث قدر يهود الولايات المتحدة الأمريكية بخمسة ملايين، ويهود الاتحاد السوفيتي ما يقرب من مليونين ونصف، وفي فلسطين المحتلة ما يقرب من مليونين وثلاثمائة ألف؛ بسبب الهجرة إليها بعد النكبة عام 1948م، وهذه هي الدول الثلاث الكبار في اليهودية العالمية، وما سواها لا يشكل اليهود سوى رشاش متطاير بحسب توصيف حمدان يتحول أحياناً إلى تراب رمزي بحت، وعندها يقف عند النتيجة البالغة الأهمية، وهي أن أكثر من سبعين بالمائة من اليهود يحتشدون في ثلاث من دول العالم.

وفي سياق نمط التوطن اليهودي يقف حمدان عند قضية يراها في غاية الأهمية ومن خلالها تُدرك الحقيقة كاملة عن اليهود، وهي أن اليهود سكنى مدن، فهم بالدرجة الأولى سكان مدن، وسكان مدن كبرى، ثم هم إلى ذلك سكان عواصم بالتفضيل والامتياز.

وهذه حقيقة طاغية وأبدية طوال تاريخ اليهود قديماً وحديثاً وتزداد وضوحاً في وقتنا، والأمثلة تغني عن الحصر، ولعل أوضحها في الذهن المثال الأمريكي المجسد في مدينة نيويورك، وعند تركيزه على نطاقهم المدني الجامع رأى حمدان أن توزيعهم الجغرافي جعل منهم أقليات مهمة أو خطرة في بيئاتهم المدنية؛ بسبب ما تنطوي عليه حياتهم المهنية، فاليهود ارتبطت حياتهم بالتجارة والمال والسمسرة والربا أبداً، ويكرهون العمل اليدوي، وهم أبعد الناس عن الزراعة، ثم عن الصناعة، مما يفسر سيطرتهم المادية والسياسية من ناحية، ويضخم شعورهم بالذات من ناحية أخرى، وبالتالي يفاقم من شدة التعصب ضدهم والاضطهاد من ناحية ثالثة.

ويتساءل مع هذه الصورة: إلام ترد هذه الظاهرة المميزة: إلى غريزة طفيلية استغلالية في طريقة الحياة اليهودية، أم إلى قوى ضغط خارجية؟

يرى البعض أن قوانين العصور الوسطى حرمت على اليهود امتلاك الأراضي وفرضت عليهم حياة الجيتو.

والبعض الآخر يرى أن اليهودي مرتبط بالمال، ويكره بذل الجهد الجسماني بعامة، ويفضل أن يعيش بعقله لا بعضله.

إلا أن حمدان في موضع سابق يقف عند دليل ظاهر يثبت أن حياة اليهود تأثرت بشكل كبير بالبعد الجغرافي الحاضن لهم، فذكر أن تحولاً جذرياً طرأ على اليهود بعد تعرضهم للإبادة عدة مرات في تاريخهم القديم، فبعد أن كان تاريخهم القديم تاريخاً دموياً متصفاً بالشراسة والعنف، تحولوا إلى شخصية مستضعفة خانعة تحقق أغراضها بالوسائل الناعمة والملتوية وبالتزلف والمكر والخديعة، وهذا يجعلها متأثرة بمحيطها وبيئتها الجغرافية، فطوال عصور التاريخ وفي كل البلاد والأقاليم التي وجدوا فيها ارتبط اليهود بلا استثناء بالعزلة السكنية في حي خاص من المدينة، أبرز مسمياته: الجيتو كما يقال في أوربا وأمريكا، أو حارة أو حي اليهود.

وغالباً ما تحاط هذه الوحدات السكنية بحائط خاص داخل المدينة، وأحياناً كان الحي برمته يقام خارج أسواء المدينة إمعاناً في العزل، ويرجع حمدان سبب هذا العزل إلى أحد عاملين:

الأول: قوانين الدول والشعوب التي يعيش اليهود بين ظهرانيها، حيث يفرضون عليها هذا النمط من العيش؛ ليكونوا تحت سيطرتهم.

الثاني: يرجع إلى صنع اليهود أنفسهم؛ سعياً منهم كأقلية مسحوقة إلى التركز والاحتشاد في نقطة واحدة.

ثالثاً: في السياق الأنثروبولوجي:

يثير حمدان في هذا السياق جملة من السؤالات التي قصد الإجابة عليها أصلاً في دراسته هذه عن اليهود: وأهمها: ما العلاقة بين يهود التوراة ويهود اليوم وهل ثمة نقاوة جنسية يمتاز بها اليهود؟ وما مدى الصحة في القول بأنهم والعرب أبناء عمومة؟

وبداية يلفت حمدان النظر إلى أن هناك علاقة حتمية بين الدراسة الأنثروبولوجية الصرفة وبين الجانب السياسي، حيث تُسَخِّر الصهيونية السياسية الأبحاث الأنثروبولوجية وترتب نتائجها مسبقاً بما يخدم دعاواهم الاستعمارية في فلسطين، وفيها يركزون بؤرتهم على النقاوة الجنسية لليهود، وقصدوا بذلك إثبات أن خروج اليهود من فلسطين إلى الشتات لم يغير من هذه النقاوة شيئاً، بمعنى أنهم بقوا بمنأى عن الاختلاط الدموي مع الشعوب التي انتشروا بينها.

    وبسبب هذه الدعاوى ظهرت نظريتان من مدرستين:

الأولى: نظرية النقاوة، التي ترى أن اليهود متميزون مختلفون في صفاتهم الجنسية.

والثانية: نظرية الاختلاط، التي ترى اليهود صورة مقربة من السكان المحيطين في كل مكان وانعكاساً لتركيبهم وتكوينهم الجنسي.

وقبل سوقه لأدلة وبراهين المدرستين ينقل الإجماع بين الإنثروبولوجيين على أن يهود عصر التوراة في فلسطين هم مجموعة سامية من سلالة البحر المتوسط بصفاتها المعروفة، وهي سمرة في الشعر، وتوسط في القامة، وطول إلى توسط في الرأس، وهم قد اختلطوا مع الجماعات الأخرى السابقة لهم واللاحقة بهم، من كنعانيين وعموريين وفلسطينيين، فأصبحوا بذلك مجموعة مركبة من السلالة الجنسية المتوسطية.

وبعيداً عن الجدل الواقع بين المدرستين حول اليهود جنسياً، فإن حمدان يقف على جملة من الحقائق مستنداً فيها على قرائن ظاهرة علمياً تثبت عدم نقاوة اليهود، ومن أهمها:

أولاً: لا توجد هناك وحدة لونية للشعر بين يهود العالم، بل هم متأثرون بشكل أو بآخر بالسكان المحيطين بهم وبيئاتهم الجغرافية، فشعورهم دائرة بين السمرة والشقرة بحسب البيئات التي يعيشون فيها.

ثانياً: الفروق بين اليهود من جهة لون البشرة نفسها ليست أقل حدة، وليس ثمة نمط موحد البتة، فالسفارديم والشرقيون بيض مشربون بسمرة خفيفة، وفي التركستان يشبهون في لونهم لون جيرانهم الطاجيك، والأشكناز لا يختلفون عن الأوربيين في لون البشرة، كما أن هناك اليهود السود.

ثالثاً: لا يعرف لليهود وحدة أنفية أكثر مما يعرفون الوحدة اللونية، فمن المستحيل أن نتكلم عن نمط أو شكل يهودي بعينه من الأنف.

رابعاً: على مستوى العيون ليس هناك عيون خاصة باليهود، وما يقال عن امتلاء الشفاه مع بروز الشفة السفلى مدلاة إن لم تكن مقلوبة حقاً، ليس شائعاً أو شرطياً بين اليهود.

خامساً: سحنة الوجه ليست صفة جسمانية تميز اليهود بقدر ما هي تعبير اجتماعي مكتسب من البيئة الاجتماعية، من صنع الجيتو وحياة التشرد والاضطهاد والصراع ضد الأخطار المستمرة، إنها باختصار من فعل الانتخاب الاصطناعي لا الوراثة والبيولوجيا، تثبت عن طريق التزاوج الداخلي والانتخاب الجنسي والانتخاب الاجتماعي والمهني.

وبعامة يرى حمدان أن اليهود بمختلف طوائفهم متأثرون ببيئتهم الجغرافية، فالسفارديم أشبه بعنصر البحر المتوسط، والأشكناز أشبه بالصقالبة الشماليين، كما أن الدراسات السيرولوجية أثبتت تماماً أن اليهود يبدون فيما بينهم معدل تفاوت كبيراً جداً في فئات الدم مما ينفي تجانس الأصل.

وأكثر من ذلك لا تبدي تلك الفئات أي علاقة بفئات الدم عند اليهود السامريين، مما يؤكد عمق انفصالهم جنسياً عن الأصل القديم، ولذلك يعد الحديث عن وحدة جنسية بين اليهود ككل لا محل له من حقيقة أو علم على الإطلاق، وأن اليهود لا يعرفون الوحدة الجنسية.

وواضح بالتالي أن النقاوة الجنسية المزعومة لهم إنما هي محض خرافة، وهي قضية لم تعد موضع جدل عند العلماء، فقد نقل حمدان عن رينان أن المغزى الأثنولوجي لكلمة يهود قد انتهى منذ أمد طويل، وكما قال ربلي من بعد: ليس اليهود جنساً بل مجرد ناس بكل بساطة.

 والخلاصة الموضوعية أن يهود العالم اليوم مختلطون في جملتهم اختلاطاً بعد بهم عن أصول إسرائيلية فلسطينية قديمة، حتى لم تعد هذه تمثل في تكوينهم إلا قطرة في محيط.

ويسوق حمدان أدلة تاريخية تثبت اختلاطهم أو تخليطهم بالبيئات التي عاشوا فيها، وأبرزها:

أولاً: اختلاط يهود فلسطين التوراة في عقر دارهم مع جيرانهم من الفلسطينيين (كما تدل عليه قصة شمشون اليهودي ودليلة الفلسطينية)، ومع جيرانهم من العموريين والحيثيين، وبوجه عام منذ بداية التاريخ كان رفض اليهود للزواج المختلط بين اليهود وغيرهم لم يكن قط جنسياً بل دينياً.

ثانياً: في العصور الوسطى أصدرت المجالس الكنسية قرارات بمنع زواج المسيحيين باليهود، وأغلب الكتاب يفسرها على أنها دليل على خطورة المدى الذي كان الزواج المختلط قد وصل إليه بالفعل.

ثالثاً: في عصرنا الحديث تتوافر الأدلة والأحداث الثابتة التي تؤكد التزاوج والتحول على حد سواء.

ومن الأدلة القاطعة بل والمثيرة على مدى اختلاط اليهود في العصور الوسيطة والحديثة في أوربا ما كشفت عنه التجربة النازية في ألمانيا، فقد كان على المرء الذي يبغي إثبات الدم الآري فيه أن يقدم نسباً يخلو لعدة أجيال من العناصر غير الآرية يعني هنا اليهودية بالتحديد، ولكن المفاجأة أن التجربة كشفت أن عدداً ضخماً من الحالات من الألمان إلى أقصى حد ثبت أن أجدادهم وأجداد أجدادهم تجري في عروقهم الدماء اليهودية.

خاتمة جامعة مانعة:

وفي سياق الخاتمة، يقف حمدان على جملة نتائج وضعها تحت عنوان: “أفكار خاطئة“، تعد بجملتها إجابات على الأسئلة التي طرحها في كتابه:

أولاً: الخطأ الشائع الفاحش إن لم يكن المغالطة الكبرى العامدة في تسمية اضطهاد اليهود “بضد السامية” فنحن في الحقيقة إزاء “ضد اليهودية” ببساطة وبلا تعقيد.

ثانياً: تسقط ببساطة وتلقائية أي دعوى قرابة دم بين العرب واليهود، حتى لو قال بها ملوك العرب، فليست إلا من قبيل أوهام العوام، بل جهالات الملوك.

ثالثاً: يسقط أي ادعاء سياسي للصهيونية في أرض فلسطين، فبغض النظر عن أن القانون الدولي يتكفل بشجب وتفجير ادعاءاتهم على أي أساس تاريخي أو ديني، فإن الإنثروبولوجيا تبدد أي أساس جنسي قد يزعمون في هذا الصدد، فيهود اليوم هم أقارب الأوربيين والأمريكيين، بل هم في الأعم الأغلب بعض وجزء منهم شريحة لحماً ودماً، وإن اختلف الدين.

رابعاً: اليهود من ناحية ليسوا قومية ولا شعباً أو أمة، بل هم مجرد طائفة دينية تتألف من أخلاط من كل الشعوب والقوميات والأمم والأجناس، ومن ناحية أخرى فلا علاقة لهم جنسياً أو أنثروبولوجياً بفلسطين، فهم حين يغتصبونها لإقامة الكيان الصهيوني على أرضها، فليست هي عودة الابن القديم بعد رحلة طالت عبر الزمان والمكان، وإنما هي غزو الأجنبي الغريب بالإثم والعدوان.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى