المقدمة:
ليس من اليسير أن تقف عند مجامع الحكم وأنت تتعامل مع أنموذج -في بعده الذاتي والشخصي- تعددت أوجه نشاطه وتفاعله، وتشكَّل عقله ووعيه في سياقين مؤثرين، هما الحاضنة المرجعية والثقافية، وواقع معيش، وأيضاً حجم القراءات المتباينة التي أحاطت به في تقويمه وكيفية النظر في تسكين دوره وفعله وحركته في أي دائرة من دوائر الفكر والحركة على الأقل في سياق واقعه الذي عايشه وعاصره؛ بسبب التباين الذي أثارته مواقفه إزاء ما شهده واقعه من وقائع ونوازل، وشخصية من مثل شكيب أرسلان تستحق بالفعل طرح مثل هذا المشكل الذي أحاط بشخصه ورافق تكوينه وما أعقبه من أدوار؛ ولذلك يلزم عند مراجعة سير الأعلام استحضار زمانها ومكانها والظروف التي أحاطت بأصحابها؛ بغية تسكينها في سياقها وفهمها في إطاره، فالأحكام لا يمكن تعميمها إلا بعد الاستقراء والتأصيل.
الكتاب من حيث معماره قائم على قراءة الموقف الفكري والحركي لدى الجيل الأخير من العرب العثمانيين الذين شهدوا التحولات السياسية الكبرى التي لحقت بالدولة العثمانية، وما آلت إليه أجزاؤها العربية
أهمية الكتاب:
وتأتي أهمية الكتاب من زوايا متعددة، أهمها في نظرنا:
أولاً: أنه يعد تسجيلاً لذاكرة تاريخية هامة جمعت بين شاهد ومشهود في بعد زمني تاريخي لا يختلف في كثير من قسماته عن واقعنا المعاصر من حيث داوئر الأزمات التي أحاطت بهما؛ إذ شهدت الأمة المسلمة إبانه تحولات في سياقاتها السياسية والفكرية أعادت بموجبها رسم خارطتها التي لا زالت مؤثرة في مسارات الأمة من حيث وجودها ومآلاتها.
ثانياً: أنه جاء ثمرةَ قراءة غربية لأنموذج من هذه الأمة من نسق حضاري مغاير عنها، يطلع القارئ من خلالها على بعض القراءات المنهجية في كيفية التعاطي مع الأمة المسلمة ورموزها وشخوصها، وتعطي مؤشراً لمن كان في دائرة الوعي أن الغرب قبل أن يخوض في سياق التأثير، يستقصي ويتتبع دوائر الوعي في الأمة؛ ليأتي عليها بالإبطال بمختلف الوسائل المتاحة، ولكل عصر وسائله وأدواته، ولا شك أن شكيب كان من المؤثرين في تشكيل وعي الأمة باتجاه المخاطر التي أحاطت أو تلبست بها.
ثالثاً: الكتاب من وجهته المنهجية تسكين للجزئي في دائرة الكلي؛ لكونه مبنياً على التتبع والاستقراء، وهو منهج ترتكز عليه في الغالب دراسات السير بمختلف صورها، وفوائده تكمن في توسيع دائرة الرؤية لدى الباحث والخروج من الأطر الضيقة على مستوى التفكير وقراءة الموقف، ومن جهة أدوات المؤلف المنهجية نقف على كم كبير من المصادر والمراجع التي تجعل الكتاب ذا قيمة في الميزان المعرفي.
رابعاً: مؤلف الكتاب هو وليام كليفلاند، أمريكي متخصص في دراسات الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، ألف بالإضافة إلى هذا الكتاب الذي نراجعه كتابين: الأول: تاريخ الشرق الأوسط الحديث، وهو كتاب جامعي طبع عدة مرات، أولى طبعاته كانت عام 1986م، والثاني: ساطع الحصري من الفكرة العثمانية إلى العروبة، وطبعته الإنكليزية صدرت عام 1971م، ومنهجيته في كتبه قائمة على رصد مسار الفكر في العالم العربي والإسلامي، ويرى أن هناك شخصيتين كان لهما دور في تكوين التوجهات الفكرية في العالم العربي، الأول ساطع الحصري وخطابه القومي العربي، والثاني هو شكيب أرسلان الذي يعد حسب المؤلف مؤسساً لموقف إسلامي معارض لظاهرة الاحتلال الغربي للبلاد الإسلامية والعربية.
قراءة الذات وقراءات أخرى:
استدعاء ما كُتب عن شكيب أرسلان يضفي على المراجعة بعداً معرفياً في دراسة شخصيته أكثر وضوحاً مما لو اقتصر على دائرة مفردة في النظر، وفي هذا السياق وُضعت قراءات متعددة حاولت أن تسبر في أعماق شخصيته من خلال استنطاق آثاره وحركته في الواقع، وتبرز في هذا الإطار القراءة الذاتية لشكيب أرسلان نفسه، تحت عنوان: سيرة ذاتية، وقد كان الدافع لكتابتها كما ضمنه في مقدمة سيرته ما استشرفه لبعض قسمات المستقبل في كيفية تعاطي الخلف مع تراثه في أن يفضي جولانهم في تاريخ حياته سواء في ذلك المادح والذام إلى التخبط والزيادة والنقص بغير علم، ولكن هذه السيرة التي رقمها شكيب عن نفسه، لم تستوعب كما هو ظاهر من مضامينها أواخر سني حياته الخمس عشرة؛ إذ كان قد كتب هذه السيرة في جنيف ما بين آذار وأواخر عام 1931م.
كما سلطت دراسات أخرى الضوء على هذه السيرة، آخذة بجوانب كثيرة من حياته، متفاوتة في طريقة وحجم التناول لها، وفي هذا السياق يشار إلى ثلاث دراسات في دائرة الإجمال يقف عندها المراجع مثالاً لا حصراً:
الأولى: دراسة الدكتور محمد سامي الدهان، وأصلها محاضرات ألقاها الدكتور الدهان في معهد الدراسات العربية بمصر عام 1958م، عنوانها: الأمير شكيب أرسلان: حياته وآثاره، وطبعت عام 1960م، وكانت الدراسة مقتربة من أدب شكيب أكثر من اقترابها من دوره السياسي، وإن كان له نصيب منها في جزئها الأول.
الانطباع الذي توصل إليه المؤلف بعد دراسته لسيرة الأمير، أنه كان ذا شخصية بارزة مؤثرة في واقعه، وكاتباً متميزاً في مجال التقاليد الإسلامية والإصلاحية، ومؤرخاً للفتوحات العربية في أوربا وأعاد إلى الذاكرة صور عظمة الماضي، ومتمسكاً ومتشبثاً بالمفاهيم الإسلامية للدولة والمجتمع ومحرضاً لجموع المسلمين في كل مكان، وكان أكثر نزاهة واستقامة مما عزا إليه منتقدوه، وأشد دهاء مما يعتقد مؤيدوه، ولكن هذا التوصيف بمجموعه لا يجعله مفكراً مؤسساً لظاهرة فكرية
الثانية: دراسة الدكتور أحمد الشرباصي، وتمثلت في كتابين، الأول: رسالة ماجستير قدمت إلى معهد الدراسات العربية عام 1963م وطبعت في العام ذاته، عنوانها: أمير البيان شكيب أرسلان، تقع في جزئين كبيرين، وهي ذات بعد أدبي ظاهر، استعرض في الجزء الأول حياته باختصار بمختلف مظاهرها، ثم بسط القول في أدبه وأساليبه، وفي الجزء الثاني استعرض كتبه ومؤلفاته، وختم رسالته بملحقين، الأول ضمنه خمساً وخمسين رسالة من رسائل شكيب أرسلان إلى صديقه الشيخ محمد رشيد رضا، والملحق الثاني استعرض فيه قصائد وأبيات لم تنشر في ديواني شكيب أرسلان، والكتاب الثاني: دراسة أخرى ضمنها جوانب من حياة أرسلان، لم يكن قد وقف عندها طويلاً في رسالة الماجستير، عنوانها: شكيب أرسلان: داعية العروبة والإسلام، وقد صدرت طبعتها عام 1963م، ودراستا الدهان والشرباصي ينقصهما -بحكم الدراسة التخصصية- العمق في بيان موقف الأمير ذي البعد العروبي الإسلامي.
وفيما يتعلق بوليام إل كليفلاند فلم يفته الاطلاع على دراستي الشرباصي والدهان، بل قد أفاد منهما كثيراً كما ذكر ذلك في مقدمته، متفقاً معهما في كثير من التأويلات، ولكن أخذ عليهما في سياق النقد الممارسة الانتقائية التي تفرضها دراسات السيرة أحياناً، إذ دفعتهما حسب رأيه إلى التستر على أكثر جوانب سيرة الأمير إثارة للجدل، وهي علاقاته مع جمال باشا خلال الحرب العالمية الأولى، وصلاته بإيطاليا وألمانيا أواخر الثلاثينات من القرن العشرين، ولكن قد يعذرا في ظن المراجع أنهما من خلال صنيعهما قصدا الوقوف عند النتاج الأدبي للأمير، فضلاً عما تحتمله هذه الجوانب المثيرة للجدل من تأويلات يلزم أخذها في سياق واقعها التاريخي.
الثالثة: دراسة ذات قيمة لم يقف عندها وليام كليفلاند؛ لتأخرها عن كتابه، وهي دراسة الدكتور ناصر الحكيم، عنوانها: جدلية الفكر والعمل عند الأمير شكيب أرسلان، وأصلها أطروحة لنيل درجة الدكتوراه من كلية الآداب في الجامعة اللبنانية عام 1992م، وهدف دراسته كما تضمنته مقدمتها هو الكشف عن أبرز نشاطات ومواقف شكيب أرسلان العملية والسياسية في نصف قرن، وبيان الجذور الفكرية والثقافية لهذه المواقف، وما انتهى إليه الجدل النظري والعملي حولها، دون أن يكون قصده استقصاء نشاطه في هذا السياق.
مسار الكتاب وبناؤه:
الكتاب من حيث معماره قائم على قراءة الموقف الفكري والحركي لدى الجيل الأخير من العرب العثمانيين الذين شهدوا التحولات السياسية الكبرى التي لحقت بالدولة العثمانية، وما آلت إليه أجزاؤها العربية، من خلال نموذج الأمير شكيب أرسلان الذي يتمحور حوله الكتاب، ويتعرض لمفاصل حياته باعتباره ممثلاً لعصرين تغايرت قسماتهما وخارطتهما، وتركا في نفس الأمير أثراً بالغاً انعكس على مواقفه، لكن لم يكن هذا الأثر برأي المؤلف ليغير من وجهته الفكرية والمنهجية، فبدلاً من أن تجعله هذه الوجهة أثراً دارساً منسياً كشأن الفكرة التي تبناها والدولة التي دافع عنها، جعلته قوة هائلة في سياسات عصره في الفكر العربي الإسلامي على مختلف الأصعدة، وعلى الرغم من أن الكتاب ركز اهتمامه في سيرة أرسلان في مرحلة ما بين الحربين، إلا أن صوابية الحكم عليه حسب المؤلف تقتضي الإحاطة بموقعه داخل المنظومة العثمانية ورأيه فيها.
ولأجل قراءة هذه التطورات في حياة أرسلان وواقعه، جعل المؤلف بناء كتابه قائماً على مقدمة وثمانية فصول، خصص الفصل الثامن منها للخاتمة، وقد سلك في صياغتها المنهجية طريقاً تداخل فيه الزمان والمكان، أما المقدمة، فقد وقف فيها المؤلف عند محطات تاريخية ممهدة للتكوين الفكري والعقلي عند شكيب أرسلان، والفصول الثلاثة الأولى ذات بعد زمني، حيث بحثت في حياة أرسلان حتى عام 1925م، والفصلان الرابع والخامس اتخذا بعداً مكانياً، حيث خصصهما المؤلف لاستكشاف دور الأمير وكتاباته عن المشرق العربي وشمال أفريقيا على التوالي في ثلاثينات القرن العشرين، والفصل السادس أفرده المؤلف للإسهام الفكري الذي قدمه أرسلان في المرحلة الزمنية ما بين الحربين العالميتين، والفصل السابع ناقش الحقبة نفسها ولكن في سياق المبدأ الناظم للعلاقة بين أرسلان وكل من إيطاليا وألمانيا، وأما الخاتمة، فتضمنت بعضاً مما استنتجه المؤلف في أثناء تجواله في هذه السيرة.
ومراجعتنا للكتاب ستكون عبر ثلاثة محاور: الأول: التكوين والمسار، والثاني: أبرز البنى الفكرية التي تضمنها مشروع أرسلان الفكري والثقافي، والثالث: حول بعض الإشكاليات والمواقف التي جعلت الأمير شكيب أرسلان موضع جدل لدى معاصريه ولاحقيهم على مستوى التأييد والمعارضة.
المحور الأول: التكوين والمسار: ويأخذ هذا المحور بمجامع المقدمة والفصول الخمسة الأولى، فأما بالنسبة للمقدمة، فقد جعلها المؤلف في ملامح نشأة الأمير وخصائصه الذاتية، ومؤثرات الظرف التاريخي في تشكيل عقله وفكره الذي انعكس على مواقفه وحركته، كما ضمنها مسوغات ومبررات البحث المنهجي في سيرة الأمير، وأبرز ما تضمنته من أفكار:
أولاً: شكيب أرسلان على خلاف كثير من أبناء جيله لم يكن متماهياً مع التطورات التي لحقت عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى، بل على العكس سعى مستعيناً بكل الوسائل التي أتيحت له إلى تشكيل الحقبة التي عايشها، فقد كانت إسلاميته موجهة له في مساره في نصرة التضامن الإسلامي، والمظاهرة للدولة العثمانية.
ثانياً: كان تجاهل الباحثين الغربيين لأرسلان وأمثاله في دراسة أفكارهم ومواقفهم مرجعه أنهم لم يفتحوا آفاقاً جديدة تتوافق مع التطورات والتحولات السياسية والفكرية التي شهدها العالم العربي والإسلامي، في إشارة واضحة من المؤلف إلى أن التصور الإسلامي ومنهجه الذي تبناه أرسلان كان سبباً في هذا التجاهل.
ثالثاً: الانطباع الذي توصل إليه المؤلف بعد دراسته لسيرة الأمير، أنه كان ذا شخصية بارزة مؤثرة في واقعه، وكاتباً متميزاً في مجال التقاليد الإسلامية والإصلاحية، ومؤرخاً للفتوحات العربية في أوربا وأعاد إلى الذاكرة صور عظمة الماضي، ومتمسكاً ومتشبثاً بالمفاهيم الإسلامية للدولة والمجتمع، ومحرضاً لجموع المسلمين في كل مكان، وكان أكثر نزاهة واستقامة مما عزا إليه منتقدوه، وأشد دهاء مما يعتقد مؤيدوه، ولكن هذا التوصيف بمجموعه لا يجعله مفكراً مؤسساً لظاهرة فكرية؛ ومرجع ذلك حسب المؤلف أن فكره مزيج من فكر الأفغاني ومحمد عبده، وكانت قدرته على توجيه الأحداث محدودة.
وفيما يتعلق بالفصل الأول: وضع له المؤلف عنواناً سيقف عند مضمونه في كيفية تعاطي الأمير مع التقاليد الغربية من حيث مظاهرها، فعنوان الفصل: تشكيل الجنتلمان العربي العثماني، فيه إشارة إلى حالة التباين بين مظهر الأمير ومخبره، ففكره الذي تبناه وملأ الدنيا به لا يتناسب مع مظهره ذي السمة الغربية الواضحة، وما الصورتان اللتان وضعهما المؤلف في أثناء الفصل إلا دليلاً على ذلك فيما يظهر لنا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى قصد المؤلف بهذا الفصل إبراز الشخصية العثمانية في الأمير شكيب أرسلان، وعلى هذا الأساس انطلق من قاعدة منهجية صائبة في دراسة السير، قوامها ضرورة تفسير البيئة الاجتماعية من حيث النشأة والتكوين؛ ليتسنى للمؤرخ عندها من فهم الظاهرة وتفسيرها، ومرجع تأكيده على هذه القاعدة أنه رأى أن البيئة الاجتماعية التي نشأ فيها أرسلان كل مفاصلها تعد عوامل قصور في النشأة، باعتبارها محدودة التأثير باتجاه بناء الفكر وتوسيع آفاقه، وهذا ظاهر من جهتين: الأولى: كون الأمير من محيط ريفي محدود التأثير على مستوى التعليم وفرص العمل، والثانية: درزيته من حيث تدينه مانع من الانفتاح بسبب الانغلاق الطائفي الذي يتميز به الدروز.
ولكن الذي ساعد أرسلان على جعل بنيته الفكرية مغايرة لما عليه المألوف من أبناء طائفته جملة عوامل ساقها المؤلف متفرقة في أثناء الفصل، وهي:
1)المعاهد التعليمية التي التحق بها كانت متعددة طائفياً، ومتغايرة منهجياً، وهي المدرسة الأميركية في منطقة الشوف، ومدرسة الحكمة في بيروت، وكلتا المدرستين مسيحيتان، وقد اكتسب منهما اللغتين الإنكليزية والفرنسية، وساعد وجوده في بيروت على توسيع أفقه الاجتماعي؛ لانتقاله من البيئة الريفية إلى البيئة المدنية، ثم دراسته -وهذا الأهم- في المدرسة السلطانية العثمانية؛ لأجل اكتسابهم العلوم الإسلامية واللغة التركية، ولا شك أن للوالد أثراً في تحديد الوجهة، وهذا يتماشى مع ما قاله بعض الباحثين من أن والد أرسلان كان متديناً على منهج أهل السنة، وهو الذي أكدته مراسيم جنازته التي كانت سنية.
2)رعاية أستاذه الإمام محمد عبده له أثناء وجود الإمام منفياً في بيروت، وكان لهذه الرعاية تأثير حاسم في حياة أرسلان الفكرية ومواقفه الحركية، وما زاد ذلك عمقاً وتأثيراً أيضاً لقاؤه بجمال الدين الأفغاني في اسطنبول، وعلى الرغم من التقلبات التي طرأت على حياة أرسلان جميعها على مدى العقود اللاحقة، فإنه ظل راسخ الاعتقاد في أنه الوريث المخلص لرسالة الإصلاح الإسلامي والفاعلية السياسية اللتين تلقاهما مباشرة من أستاذيه.
3)رحلاته التي قام بها ما بين 1890م-1892م، فقد وسعت آفاق رؤيته للعالم، وعرفته إلى مجمتع القاهرة وإسطنبول، وأقنعته بأن دور أرسلان التقليدي في الشويفات يتنافى والآفاق التي فتحت له.
4)المناخ السياسي الذي عاش فيه أرسلان جعله يتجاوز دائرته المحلية، وساعده على ذلكم التجاوز، وظيفته في دائرة الأسرة خاصة بعد وفاة والده، ومسوؤليته حيال حماية مصالح الطائفة الدرزية في سياقها السياسي، ثم الولاء للإمبراطورية العثمانية وطموحاتها الإسلامية العالمية، والأخيرة هي التي استرعت اهتمامه في نهاية المطاف، وحددت ولاءاته.
وعند الحديث عن المسار بعد التكوين يقف المؤلف عند قضية يرى أنها أثرت في الأمير، وهي أن فكرة الجامعة الإسلامية التي تبناها السلطان عبدالحميد الثاني دفعته باتجاه تعزيز ارتباط مكتب السلطنة بالخلافة، وذلك لتعزيز الإمبراطورية العثمانية من الداخل عبر توحيد شعوبها الإسلامية المختلفة، لا سيما العرب والأتراك، وهو ما حمس أرسلان إلى تبني هذه الفكرة، وبقيت حاضرة في ذهنه وفكره وحركته، بحيث أحال مستقبله السياسي -حسب المؤلف- إلى مسألة إحياء الخلافة العثمانية، ولكن في ذات الوقت لم يكن تبنيه لهذه المسألة لذاتها، بل كان الإسلام بالنسبة إلى أرسلان أساساً ومرتكزاً لتأييد السلطة العثمانية، ولهذا كان اعتقاده بأن خليفة الإسلام ينبغي أن يحظى بالسلطة في المناطق التي يعيش فيها المسلمون.
ولم يكن للانقلاب الذي أفضى إلى إحكام قبضة الاتحاديين على الحكم في إسطنبول عام 1913م ليغير من مسار الأمير الفكري، بل دعمه بكل قوة، ورحب بوجود حكومة قوية تحافظ على الإمبراطورية العثمانية في مواجهة الاحتلال الأوربي الذي يسعى إلى تفتيتها، ونتيجة لمواقفه تلك غدا أرسلان المتحدث الفعلي باسم نظام الحكم الجديد، وأثار المؤلف إشكالية عند انتقاله إلى الفصل الثاني الذي جاء تحت عنوان: الحرب والمنفى، وهي أن ممارسة أرسلان لدور الوسيط في الدفاع عن القومية العثمانية قد تجعله معرضاً للخطر، بسبب اقتران هذا الدور بالممارسات التعسفية التي قام بها جمال باشا على وجه الخصوص، الأمر الذي خلف انطباعاً عند كثيرين بأن سلوك أرسلان في غضون السنتين الأوليين من الحرب العالمية الأولى كان ينظر إليه بوصفه متعاوناً مع الاتحاديين في تنفيذ سياستهم القومية بسبب موقعه القريب من السلطة وصنع القرار، وهي تهمة لاحقت أرسلان على مدى ما تبقى من حياته، والمؤلف هنا حاول أن يفسر غموض موقف أرسلان في تحركاته ومساراته بأنه رجل مشاركة، لا يمكن أن يتخذ موقفاً سلبياً وقتَ الأزمة، ولكن بالرغم من الدفاع الذي أبداه هو ذاته عن نفسه، وما قام به مؤيدوه على مر السنين، لم يخرجه عن دائرة النقد، وهو ما دفع ببعض الباحثين إلى وصفه بأنه رجل المواقف الملتبسة.
وعند اندلاع الثورة العربية الكبرى على يد الشريف حسين كان له موقف معارض منها؛ بل كان ساخطاً على الشريف حسين؛ لأنه لم يكن في وسعه تقبل اندلاع ثورة عربية ضد الكيان الذي كان ينظر إليه بوصفه الخلافة الإسلامية الشرعية، إلا أن هذا الموقف لم ينطلق من كونه مناهضة للعرب، بل بوصفه داعماً للرابطة الإسلامية، ولم يكن موقفه الداعم للاتحاديين إلا من هذه الجهة، ثم جاءت هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى وسقوط دولتهم لتشكل تحولاً سياسياً وفكرياً خطيراً في تلكم المرحلة، ولم تكن هذه الفاجعة لتترك الأمير خارج دائرة التأثر، فقد أضحى وضعه مضطرباً بسببها، ووجد التكيف مع الظروف المتغيرة من الصعوبة بمكان، وكان بطيئاً في إدراك حقيقة أن انهيار العثمانيين نهائي لا رجعة فيه، وتراكبت عنده اضطرابات الهوية الشخصية الناجمة عن كونه وجد نفسه مواظباً على التعلق بعهد مضى وانقضى إلى غير رجعة مع الاختلالات الطبيعية الناجمة عن العيش في المنفى الاختياري.
ولكن اللافت للنظر في سياق تحركاته لأجل القضية العربية أنها اصطدمت بالخلافات والانقسامات داخل المنطقة العربية نفسها، بحيث انعكست على سياسات وتحركات منظمات المنفى، وازدادت كثافة بفعل الطموحات الفردية
وبانتقاله إلى الفصل الثالث الذي جاء تحت عنوان: تبني القضية العربية، يقف المؤلف عند جزئية منهجية في دراسة تاريخ الشرق الأوسط الحديث وكيفية قراءته، وهي أن التحولات السياسية التي شهدها تعد منعطفاً حاسماً، فبعد أن كانت الإمبراطورية العثمانية للنخب العربية الاجتماعية والسياسية تمثل حقيقة من حقائق الحياة، وكان السلطان الخليفة بالنسبة لهم مركز ولائهم، أضحت هذه الحقيقة في دائرة التاريخ، وبات لزاماً على هذه النخب أن تتكيف مع تلاشي الإمبراطورية العثمانية، وعلى خلاف غيره من النخب لم يكن موقف أرسلان في هذا الإطار سهلاً في تكيفه مع الأوضاع الجديدة؛ بسبب ارتباطه الدائم والثابت مع النظام العثماني القديم، لكن سهل تحول ولائه النهائي في رأي المؤلف أمران: الأول: انهيار حركة جمعية الاتحاد والترقي، فلم يعد ثمة وجود لدولة وحكومة عثمانية يمكن أن تستعاد، والثاني: موقف أتاتورك في تبني القومية التركية وإلباسها لباساً علمانياً والبعد بها عن المحضن الإسلامي، وبناء على ذلك كان مدفوعاً إلى البحث عن هوية عربية، ولكن وفقاً لما حدده الإسلام، ودعا من خلال ما يدليه من تصريحات وبيانات تتعلق بالمسائل العربية إلى تأسيس جامعة عربية يكون من شأنها مكافحة الضعف المتأصل في دول عربية عديدة لكل منها كيان مستقل ومنفصل عن الدول الأخرى، ودعوته لذلك لم تكن لتلقى قبولاً كبيراً لدى قادة العرب ونخبهم بعد مواقفه إبان الحرب، ورفضه الدعوات العربية في الاستقلال عن الدولة العثمانية، ولكن كان لظهور شخصية محمد رشيد رضا في حياة الأمير دوره في إعادة إدماج أرسلان في بوتقة القادة العرب الذين شعروا بالتهميش بسبب تلكم المواقف.
وجاءت مساهمته الفعلية في السياق العربي في إطارين: الأول: مقالاته في تلك المرحلة عن العروبة كما يفهمها هو في سياقها الإسلامي، والثاني: تحركه السياسي، وقد تزامن مع كون الأمير مقيماً في جنيف/سويسرا، ومع فرض سياسة الانتداب الفرنسي على سوريا عقب الاحتلال، وكان المؤتمر السوري الفلسطيني أواخر عام 1921م في جنيف أول مظهر من مظاهر الاحتجاج وقد انتخب فيه الأمير أميناً عاماً، وأهم مخرجاته تشكيل وفد أوربي دائم من أجل تمثيل الشعبين السوري والفلسطيني أمام عصبة الأمم، واختير له الأمير شكيب أرسلان وإحسان الجابري، والأخير أضحى متشابكاً مع حياة أرسلان في مواقفه اللاحقة، والمنعطف الآخر في حياة أرسلان والذي جعله يحتل مكان الصدارة فيما يتعلق بالقضية العربية ويدفعه إلى مقدمة الأحداث هو الثورة السورية بين عامي 1925م-1926م، وقد أتاح له تحركه السياسي في سياق كونه الناطق الرسمي باسم السوريين في أوربا وارتباطه بالمسألة السورية عموماً في عصبة الأمم فرصة لإثبات وطنيته والظفر في استعادة مكانته في الأوساط العربية، خاصة مع توسيع دوره التمثيلي ليسع قضية أخرى إلى جانب القضية السورية، وهي القضية الفلسطينية، حينما أضحى ممثلاً لها في المحافل الدولية.
ولكن اللافت للنظر في سياق تحركاته لأجل القضية العربية أنها اصطدمت بالخلافات والانقسامات داخل المنطقة العربية نفسها، بحيث انعكست على سياسات وتحركات منظمات المنفى، وازدادت كثافة بفعل الطموحات الفردية، وقد تبدى ذلك جلياً في الصراع الداخلي الذي كان قائماً بين أعضاء الهيئة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني، وكانت من العوامل التي ساعدت أيضاً تعميق الشرخ بين مكونات الجالية السورية في المنفى العداء الذي استشرى بين شكيب أرسلان والدكتور عبدالرحمن الشهبندر، والأخير شخصية من أبناء دمشق عارضت سياسات التتريك، داعماً للقضية الهاشمية، وقد تحالف مع جناح ميشيل لطف الله ضمن أعضاء المجلس التنفيذي السوري الفلسطيني، وشرع بتبني موقف سياسي للهاشميين، وعقيدة قومية علمانية، وهو ما يتعارض مع التوجهات الفكرية للأمير.
وفي مرحلة ما بين الحربين العالميتين يقف المؤلف في الفصل الرابع راقماً تحت عنوان: المدافع عن القومية الإسلامية: المشرق العربي، مع جهود أرسلان لتوجيه دفة المقاومة العربية في هذه الحقبة، وتحديداً بعد الثورة السورية، وتمثلت مهمته في تدويل القضايا التي كانت تعاني منها البلاد العربية الإسلامية الرازحة تحت الهيمنة الأوربية، وحشد الرأي العام العربي والإسلامي تأييداً لفكرة التعاون المتبادل القائم على أساس الروابط الإسلامية المشتركة، وإشاعة الشعور بأن السبيل الوحيد لهذه البلاد لكي تنال استقلالها واستعادة نظامها الاجتماعي السليم يتمثل في تبني هذه الفكرة والعمل في سياقها، وقد تركزت جهود أرسلان في تلكم المرحلة على أنشطة أربعة: 1)إبقاء القضية السورية الفلسطينية حية في أروقة عصبة الأمم. 2)تعبئة عرب شمال أفريقيا ضمن بوتقة النضال الإسلامي المشترك المناهض للإمبريالية. 3)التصرف بوصفه مصلحاً دينياً عبر التعليق على أحداث المشهد الإسلامي المعاصر. 4)التفاوض من أجل التحالف مع دول عظمى تساند مواقف العرب المناهضة لكل من بريطانيا وفرنسا.
وأما وسائله في التحرك لتحقيق هذه المهمة وتفعيل هذه الأنشطة، فتتمثل في: 1)مقالاته العربية التي تتراوح ما بين ثمانين ومائة مقالة سنوياً نشرت في دوريات مختلفة في ثلاثينات القرن العشرين. 2)مجلة الأمة العربية الناطقة بالفرنسية، ويحتمل بحسب المؤلف أنها أقرب المطبوعات إلى قلبه. 3)كتبه ومؤلفاته المختلفة في مجالات متعددة: السيرة، الشعر، التعليق الديني، السرد التاريخي. 4)ارتباطه الشخصي بكل التفاعلات التي تحدث في العالم الإسلامي: مؤتمرات، حركات استقلال جديدة. 5)رحلاته وسفرياته، فقد كان مثل الأفغاني يجوب العالم الإسلامي وأوربا مستقطباً مريدين جدداً، أو محذراً ومنبهاً العرب وقادتهم من الأخطار.
وفي الفصل الخامس تحت عنوان: معلم جيل: شمال أفريقيا، يناقش المؤلف دور أرسلان في تأجيج المشاعر الإسلامية في المغرب العربي، حيث يرى أن مفاهيم أرسلان حول الاتحاد الإسلامي الشامل واتصالاته الواسعة وجاذبيته الشخصية زودته بسلك ناظم عابر للزمان والمكان، مضى به من الشرق الأوسط العثماني إلى المغرب، ومن جنيف والقاهرة في حقبة ما بعد الحرب في طريق العودة إلى المغرب، ولا ينبغي استغراب أرسلان على الجيل اللاحق من المغاربة في شمال أفريقيا؛ وذلك لأنه لعب دوراً مهماً في تحويل كثير من آبائهم مما كانوا عليه إلى تبني فكرة الاتحاد الإسلامي، وقد تجلت مواقفه في سياق بلاد المغرب العربي قاطبة.
ومن أبرزها وأوضحها تأثيراً معارضته لمرسوم الظهير البربري الذي أصدرته إدارة الوصاية الفرنسية عام 1930م، ودوره في تأجيج المشاعر الإسلامية ليس فقط في المغرب بل في العالم الإسلامي أجمع، وقد أظهرت قيادته للحملة السلمية في معارضة هذا المرسوم على مستوى الداخل المغربي وخارجه تفضيل أرسلان للعمل المرتكز على مبدأ الجامعة الإسلامية بوصفة نقيضاً للولاءات الوطنية والقومية الأضيق نطاقاً، ولم يكن الاستقلال الوطني بحد ذاته هو الذي حدد اختياره لرموزه، بل أعرب عن اقتناعه في أن المسلمين في العالم أجمع عندما يتعرض دينهم لخطر ما يهبون للرد عليه رداً حازماً، وأهم ملمح وقف عنده المؤلف في ختام الفصل أن ارتباطات أرسلان الشمال أفريقية -وهو الذي أخذه عليه منتقدوه الفرنسيون- لم تكن معزولة عن همومه وبواعث قلقه حيال المشرق العربي، فقد أخذ على عاتقه بصفة شخصية مهمة مد جسور التواصل بين شطري العالم العربي، لكن خلص إلى القول: بينما كان أرسلان يراكم حالات الاستحسان من المغرب والمشرق على حد سواء، فإن مكانته في التاريخ السياسي لكل من المنطقتين مختلفة تماماً، لقد ترأس الوفد السوري الفلسطيني إلى اجتماعات عصبة الأمم لكن لا يمكن أن يطلق عليه لقب الرجل التكتيكي البارع على صعيد حركات الاستقلال المصرية أو السورية، ولكن في المغرب العربي وبخاصة في المغرب، المسحات والإيحاءات الدينية للسياسة وغياب الطوائف المسيحية من المكونات الأصلية للسكان، وتركيبة الشباب المناضلي على وجه العموم توافقت تماماً مع رؤى أرسلان وأهدافه العامة ومع خبراته المتراكمة وبراعته السياسية فأعطته دوراً خاصاً.
المحور الثاني: أبرز البنى الفكرية التي تضمنها مشروع أرسلان الفكري والثقافي: وهذا المحور يسع مضامين الفصل السادس من كتاب كليفلاند الذي عنونه ب: سلامة التقليد، وخصصه لمناقشة فكر أرسلان وثماره العلمية والمنهجية، وفي هذا السياق ينطلق المؤلف من توصيف الحالة الأرسلانية في نتاجها المعرفي أنها جاءت استجابة تكتيكية لمواجهة مجموعة من المواقف الإمبريالية، ولأجلها طرح فكرة إجراء فحص ومعاينة للمشكلات الداخلية للعالم الإسلامي ووصف علاج للعلل التي ابتلي بها المسلمون، وقد استقطبت كتاباته وتعليقاته الإسلامية طيفاً واسعاً من جماهير القراء في العالم الإسلامي وفي غيره، ويأتي في هذا السياق كتابه الأشهر: لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟ الذي وصفه المؤلف أسوة ببقية نتاجه ومقالاته بأنها منتمية إلى التيار التسويغي للإصلاح السلفي.
وفي إطار تقويمه لجهد الأمير يرى أنه بالرغم من كون مشروعه الفكري يتماهي مع منطلقات محمد عبده ورضا، ولكن منهجيته كانت مختلفة عن منهجيتهما، فهو لم يطرح رؤية نقدية في أمور الفقه التقليدية، ولم يسهم في التفسير، ولم يتطرق إلى موضوع مراجعة الأحاديث الشريفة والنظر فيها، وإنه -حسب المؤلف- لمن الإنصاف لأرسلان أن يتوصل المرء إلى استنتاج يفيد بأن أسلوبه كان أقرب إلى أسلوب جمال الدين الأفغاني منه إلى أسلوب محمد عبده، وهو أسلوب أملى عليه عدم تبحره في الدلالات الدينية، وكان افتقاره إلى الإحاطة بالمعرفة العقدية دافعاً له إلى الانخراط في أكثر الأمور ضحالة في معرض الدفاع عن العقيدة، إلا أنه لامس كذلك أكثر القضايا الاجتماعية حساسية وتطرق إليها.
ولذلك عند تعرضه لمعالجة مسألة الانحدار الذي أصاب المسلمين لم يكن أرسلان راغباً في إعداد سلسلة تاريخية متصلة تشير إلى انحدار المسلمين كما لم يكن معنياً بتحليل الأسباب والنتائج المرتكزة إلى أحداث محددة أو المستندة إلى اتجاهات عامة، بل كان معنياً ومتأثراً بأزمة الإسلام القائمة في عهده، وتلك الأزمة هي ما كان يرغب في شرحها وفي شجب مفتعليها بشدة، وكان حكم الأوربيين المباشر لبلاد المسلمين وهيمنتهم عليها أحد تجليات تلك الأزمة.
وبالنسبة لأرسلان كما يرى المؤلف، تحديد المسؤولين عن تخلف العالم الإسلامي من السهولة بمكان، وهم في رأيه: غلاة التقليديين والمتغربون العلمانيون، وقد أسهم أصحاب الفئة الأولى في هذا التخلف عبر تفسيراتهم المغلوط فيها للإسلام، كما أن الفئة الثانية سعت إلى استيراد المناهج الأجنبية التي لا تتناسب مع المجتمعات الإسلامية، فإن كان التمسك بالتقاليد التي أسيء تأويلها قد ضعضع الحيوية المتأصلة في الإسلام، فإن تهديداً أشد وطأة شكله أولئك الذي تخلوا عن التقاليد واعتقدوا أنهم يقودون قافلة التقدم والنجاح حسب قول أرسلان، ولأجل معالجته وجه دعوة من خلال كتبه ومقالاته إلى المجتمع الإسلامي للعمل الذي يمكن وصفه بأخلاقية الجهاد الحديثة التي يجري فيها التأكيد على المسؤولية الفردية لكل مؤمن عبر الاستعانة بالانضباط المستمر وبالعزيمة والإصرار على السير قدماً، وبالفهم الصحيح لأساسيات الإيمان تبعاً لما نصت عليه تعاليم القرآن الكريم.
وأبرز ما من يمكن استخلاصه من قراءة المؤلف لمشروع أرسلان الفكري، يتمثل فيما يأتي:
أولاً: إن أرسلان كان محرضاً أكثر منه منظراً، وكان إسهامه الفكري في الحياة الفكرية في الحقبة الفاصلة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية متساوقاً ومتناغماً مع إسهامه السياسي، وفي إطار حملته الرامية إلى المحافظة على مكونات الأصالة الثقافية الإسلامية اصطدم مع الليبراليين العلمانيين وعارضهم عبر تأكيدع على صحة حججه التي كان يسوقها تدليلاً على الأصالة الثقافية، وجعلهم هدفاً لحملة دعائية إعلانية تسخر استنهاض العواطف، وبالرغم من كون حججه ضعيفة فكرياً كما يراها المؤلف، إلا أنها كانت ذات أسلوب تبعث على الرضا.
ثانياً: كان أرسلان مصلحاً من دون أن يطرح نوعاً من إعادة الصياغة، وحاول أن يوصل إلى الناس فهماً عملياً سليماً للإمكانات التي أتاحها الإسلام دون محاولة الاستكشاف العميق جداً لحدود التنزيل المحتملة، ولذلك كانت ملاحظاته عن الإسلام تنزع نحو تأييد اتخاذ تدابير والقيام بأعمال في العالم المادي أكثر من توجيهها نحو إعادة بلورة العالم الروحي، ولهذا السبب لم يتمكن من الطموح إلى اعتلاء سدة القيادة الفكرية التي انعقدت لمعلمه محمد عبده أو لزميله رشيد رضا، علماً بأن قاعدته الجماهيرية كانت أكثر اتساعاً من قاعدتيهما معاً.
ثالثاً: كانت شخصيته القيادية وراء قدرته على اكتساب مكانة الإرشاد بين الشباب اليافعين الأحدث عهداً، والذي مكنه على الاحتفاظ بمكانته المرموقة بين أقرانه وأكسبه احترام الأوربيين الذين تعاملوا معه مباشرة، ولا تخفى في هذا الإطار قدراته البيانية في الكتابة والخطابة، فضلاً عن كونه ذا شخصية مؤثرة على الصعيد السياسي، جعلته كما ذكر المؤلف إحدى الشخصيات العربية الأكثر نفوذاً وتأثيراً في حقبة ما بين الحربين العالميتين.
المحور الثالث: مواقف الأمير: الإشكاليات والجدل: يتسع هذا المحور لمضامين الفصل السابع الذي جعله تحت عنوان: نحو المحور، وقد عقده للحديث عن علاقة أرسلان بدول المحور في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، وانطلق في تحليل موقفه من توصيفه لحالة الهيمنة المطلقة التي كان يتصف بها الانتداب البريطاني والفرنسي على العالم العربي، مما ولد القناعة الكاملة لدى قادة العرب ونخبهم بتعنت الإمبريالية البريطانية والفرنسية، ولن يسع العربَ في تحقيق أهدافهم إلا المساعدةُ من حلفاء أوربيين قادرين على توظيف الوسائل المختلفة ضد سلطات الاحتلال، ولذلك جاءت مبادرات الانفتاح العربية على ألمانيا، وإلى حد أقل بكثير على إيطاليا، والمؤلف يرى أن السياسة الألمانية على الرغم من بعض الاهتمامات الجزئية بالعالم العربي، إلا أنها اتسمت بعدم الاكتراث، وهذا لا ينسحب على إيطاليا في ظل هيمنة قيادة موسوليني المغامرة والخطيرة التي تسعى إلى تغيير الوضع القائم على طول شواطئ البحر المتوسط والبحر الأحمر.
وبناء على ذلك، عند النظر إلى مواقف أرسلان في تعاملاته مع قوى المحور يلزم لمن أراد تقويمها استحضار هذه الخلفية، ويظهر بحسب المؤلف أن الدافع له في تعاملاته أمران: الأول: جهوده الرامية إلى الضغط على كل من بريطانيا وفرنسا عبر اكتساب حليف للعرب من القوى العظمى، والمقاومة بحسب أرسلان سواء أكانت خلف المتاريس أو حول طاولة المفاوضات لا تحقق النجاح ما لم يصر إلى إمدادها بالأموال والأسلحة والدعم الدبلوماسي من قبل دولة أوربية قوية مثل ألمانيا، وهو في رأيه في صلب تأكيد المصالح المشتركة. والثاني: اعتقاده وإيمانه بأن ألمانيا هي الدولة العظمى الوحيدة التي ليس لها حقاً وصدقاً أطماعٌ إمبريالية مستقبلية في العالم العربي، وقد ضمن مبررات موقفه من ألمانيا في رسالة وجهها إلى أحد معارفه في كرواتيا.
إن إغفال الناظر في موقف أرسلان لهذه المبررات يوقع صاحبه في دائرة الحيرة والارتباك، وهو ما ساقه المؤلف في حالة تقويم إحدى الباحثات الغربيات لأرسلان بعد اطلاعها على السجلات المحفوظة عنه بوازرتي الخارجية الإيطالية والبريطانية، خلصت فيها إلى الإقرار بأنها لم تستطع أن تقرر إن كان أرسلان مجرد عميل يحرض الناس بغرض الإيقاع بهم، أو كان صاحب قضية حقيقية، إلا أن المؤلف بإنصاف الباحث بدد ريبتها بالجزم بأن أرسلان أكثر رشداً واستقامة والتزاماً من أن يكون عميلاً محرضاً، وهذا الموقف المنصف منه لم يكن ليحجب عنه توجيه الانتقاد إليه في موضعين: الأول: في معرض تساؤله عن تمكن أرسلان من استدراج ألمانيا غير المكترثة إلى التحالف، وكبح جماح إيطاليا الطامحة إلى تحقيق مصالحها في العالم العربي والإسلامي، خلص إلى أنه لم يبل بلا حسناً في الحالتين، وبات غارقاً في وضع معقد للغاية. والثاني: الموقف من إيطاليا في حملتها في إثيوبيا، حين قدم أرسلان مزيجاً من الأعذار التي تبرر سياسات إيطاليا مع الإعراب عن استيائه من الغزو، فقد كانت له مطالب من إيطاليا تتعلق بسوريا وفلسطين وطربلس، ويمكن لإيطاليا بحسبه أن تساعد في معالجة المظالم العربية، ولكن لم يرتض المؤلف هذا المسار؛ معللاً أن السياسة الإيطالية لم تختلف في حقيقتها عن السياسة البريطانية والفرنسية، وهذا لا يخفى على من له فطنة سياسية.
وفي سياق متصل برزت في تعاملات أرسلان مع دول المحور إشكالية ملفه المالي، فبالرغم من تأييده لإيطاليا وتبريره لسياساتها، إلا أن ما جرح مشاعره وأغضبه هو اتهامه بتقديم الدعم لإيطاليا مقابل المال، ومرجع الاتهام قائم على أن ما قام به أرسلان من أعمال وجهود لا يمكن أن يتسنى له القيام به بدون معونة مالية، والمؤلف في هذا المقام أنصف أرسلان إلى حد كبير، فقد ساق الحجج والدلائل التي تجعل صفحته المالية خارج دائرة الاتهام، فالسمة البارزة له حسب المؤلف أنه كان يعاني ضائقة مالية، وكانت مديونته ناجمة عن عدم كفاية دخله لتلبية متطلباته الخاصة والعامة، كما أنها عاش حياة متواضعة ومشوبة بشيء من عدم الاكتراث في آن معاً، وبصرف النظر عن ظروفه كان يعيش حياة تليق بسمعته كونه أميراً من عائلة كبيرة القدر والشرف، ولكن لا يستطيع أن يغطي احتياجاته البسيطة فضلاً عن غيرها، واستقامته المالية مع الضائقة التي يعاني منها أذهلت الكثير، ولقد سئل من قبل السلطات السويسرية عن تلقيه أموالاً من أي حكومة من أجل عمله، أجاب قائلاً: “لا، أنا رجل حر، وأرجو أن أبقى كذلك”.
وفي سياق الخاتمة، وقف المؤلف عند محطات متفرقة تأخذ بجوامع سيرة الأمير شكيب أرسلان، ولعل أبرز ما جاء فيها:
أولاً: إن خيار الإسلام السياسي عند أرسلان لم يكن من بيان خيارات متعددة تسعه؛ لأن الإسلام عنده كان هو العقيدة الوحيدة التي عرفها، وبالرغم من نشأته الدرزية إلا أن بعض ملامح انفتاح الأسرة على الإسلام السني، والإرشاد الذي تلقاه من محمد عبده جعله في مقام الدفاع عن الإسلام وقضاياه في واقعه، خاصة في سياق التحولات السياسية الكبرى التي عاصرها.
ثانياً: على الرغم من افتقاره إلى الأدوات السياسية التي تتوفر عليها الدول أو المؤسسات الكبرى التي تدعمها الدول، فقد كان تأثيره كبيراً وملحوظاً، وقد احتكم إلى سليقته السياسية وأعلى شأنها، واستعداده للتواصل مع المختلفين معه فكرياً زاد قوته، وعزز نفوذه وعرضه في الوقت نفسه إلى انتقادات حادة.
ثالثاً: كان أرسلان إنساناً يطغى عليه الحنين إلى استعادة أمجاد الإسلامية الشاملة أكثر من كونه مصلحاً اجتماعياً، وكان مهتماً بالسلامة الثقافية أكثر من اهتمامه بأسباب الفقر المادية.
رابعاً: الانتقادات التي وجهت إلى أرسلان وبقية منظري ما بين الحربين العالميتين من ذوي الأرضية العثمانية تستند إلى أنهم لا يتوفرون على تصورات لصيغ التغيير الاجتماعي، ولا على فهم لاحتياجات الجماهير.
على سبيل التقويم:
الكتاب يعد مثيراً في حقيقته لوجوه متعددة:
منها: عنوانه الذي ألبسه صاحبه خاصية الاستفزاز للقارئ بغض النظر عن مرجعيته وولائه وانتمائه، ومرجع صياغته فيما يظهر لنا تحيزه المعرفي الذي لا يسعه تجاوزه، وليس مطلوباً منه أن يكون مسلماً مدافعاً عن الإسلام، وإنما يسعه أن يقف عند مظاهر الظلم التي وقع فيها المسلمون جراء الاحتلال الأوربي لبلادهم، وقد ظهرت في أثناء الكتاب بعض العبارات التي تعكس نسقه، فقد وصف الإسلام الذي تبنى أرسلان حملة الدفاع عنه في سياقها المغاربي بأنه متشدد، كما أبدى استغرابه من بعض كتاباته المعارضة لفوضى الحرية في الحضارة الغربية المفضية إلى الانحلال وانتهاك منظومة القيم الإسلامية.
ومنها: أسلوبه وصياغته -ونحن نتعامل مع طبعته المترجمة-، فهي تعد بذاتها أنموذجاً يقارب الاستقامة العلمية في التعاطي مع سياق مخالف ومباين بغض النظر عن النتيجة التي وصل إليها.
ومنها: مضامينه التي رسمت خطاً منهجياً للمؤلف وقف بموجبه على الحكم الذي رقمه في كتابه وأظهره عنوانه، فقد وقف المؤلف عند تفاصيل سيرة الأمير من خلال مصادر ومراجع لم يستطع غيره الوقوف عليها، وخاصة ما تعلق بوثائق وسجلات الخارجية البريطانية والفرنسية والألمانية، بل ومقابلاته الشخصية التي أجراها مع ابنته مي، وإحسان الجابري، والحبيب بورقيبة.